رِعَايَةُ الْأَيْتَامِ وَاجِبٌ مُجْتَمَعِيٌّ


 ((رِعَايَةُ الْأَيْتَامِ وَاجِبٌ مُجْتَمَعِيٌّ))

*الْمُسْلِمُونَ جَمِيعًا جَسَدٌ وَاحِدٌ:

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ! لَقَدْ مَثَّلَ النَّبِيُّ ﷺ الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ بِالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَهَذَا هُوَ الْمِثَالُ الصَّحِيحُ لِكُلِّ شَعْبٍ مُؤْمِنٍ، أَنْ يَتَعَاوَنَ أفْرَادُهُ فِي إِقَامَةِ بِنَائِهِ، بِحَيْثُ يَكُونُ الْغَرَضُ تَشْيِيدَ هَذَا الْبِنَاءِ وَتَمَاسَكَهُ وَتَرَاصَّهُ، بِحَيْثُ يُكَمِّلُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَيُقَوِّمُ بَعْضُهُ بَعْضًا، فَلَا إِيمَانَ كَامِلَ مَعَ التَّفَرُّقِ، وَلَا بِنَاءَ مُحْكَمٌ مَعَ التَّفَكُّكِ.

أَرَأَيْتُمْ لَوْ أُخِذَ مِنَ الْبِنَاءِ لَبِنَةٌ؛ أَلَا يَنْقُصُ هَذَا الْبِنَاء؟! فَكَيْفَ إِذَا كَانَتِ اللَّبِنَاتُ مُتَنَاثِرَةً مُتَنَافِرَةً، بَلْ كُلُّ وَاحِدَةٍ تَهْدِمُ الْأُخْرَى وَتُزَلْزِلُهَا؟!!

فَيَا أَيُّهَا النَّاسُ! اجْتَمِعُوا عَلَى الْحَقِّ، وَتَعَاوَنُوا عَلَيْهِ.

قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا» .

وَقَالَ ﷺ: ((مَثَلُ الْمُؤْمِنينَ في تَوَادِّهِمْ وتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ، مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ والْحُمَّى)) .

وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَثَلُ الْمُؤْمِنينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ، مَثَلُ الْجَسَدِ)).

إِذَنْ، الْمُؤْمِنُونَ جَمِيعًا جَسَدٌ وَاحِدٌ.

فَالْمُؤْمِنُونَ يَتَعَاضَدُونَ، يَتَنَاصَرُونَ، يَتَحَابُّونَ، يَتَوَادُّونَ، إِذَا اشْتَكَى عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى.

 

فَالْجَسَدُ الْوَاحِدُ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ، وَلَوْ مِنْ أَصْغَرِ الْأَعْضَاءِ؛ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ؛ فَإِذَا أَوْجَعَكَ أُصْبُعُكَ الْخِنْصَرُ الَّذِي هُوَ مِنْ أَصْغَرِ الْأَعْضَاءِ؛ فَإِنَّ الْجَسَدَ كُلَّهُ يَتَأَلَّمُ، إِذَا أَوْجَعَتْكَ الْأُذُنُ؛ تَأَلَّمَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا أَوْجَعَتْكَ الْعَيْنُ؛ تَأَلَّمَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَغَيْرُ ذَلِكَ.

فَهَذَا الْمَثَلُ الَّذِي ضَرَبَهُ النَّبِيُّ ﷺ مَثَلٌ مُصَوِّرٌ لِلْمَعْنَى، وَمُقَرِّبٌ لَهُ غَايَةَ التَّقْرِيبِ.

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الْإِنْسَانَ مَدَنِيٌّ بِالطَّبْعِ؛ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَحْيَا وَحْدَهُ، الْإِنْسَانُ مَخْلُوقٌ بِفِطْرَةٍ مَغْرُوزَةٍ فِيهِ، هِيَ أَنَّهُ: لَا يُمْكِنُ أَنْ يَحْيَا وَحْدَهُ، لَا أَنْ يَسْتَغْنِيَ عَنْ إِخْوَانِهِ مِنْ بَنِي الْبَشَرِ.

فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الشَّرْعَ الْأَغَرَّ قَدْ حَدَّدَ الْعَلَاقَاتِ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَأَخِيهِ، وَحَدَّدَ الْعَلَاقَةَ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَمُجْتَمَعِهِ، فَإِذَا لَمْ يَعْرِفِ الْإِنْسَانُ دِينَ رَبِّهِ؛ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُؤَدِّيَ حَقَّهُ عَلَيْهِ، وَلا يُمْكِنُ أَنْ يَعْرِفَ وَاجِبَهُ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ جَاهِلًا مُتَخَبِّطًا.

وَالنَّبِيُّ ﷺ رَاعَى حُقُوقَ الْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ كَمَا عَلَّمَهُ اللهُ تَعَالَى.

*وَمِنْ أَهَمِّ الْحُقُوقِ الَّتِي وَصَّى بِهِ اللهُ وَرَسُولُهُ ﷺ الْمُجْتَمَعَ الْمُسْلِمَ حُقُوقُ الْيَتَامَى: فَقَدْ قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيم} [النساء: 127].

إِنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- يُبَيِّنُ لَكُمْ فِي شَأْنِ الْيَتَامَى -ذُكُورًا كَانُوا أَوْ إِنَاثًا- أَنْ تَقُومُوا لِأَجْلِهِمْ وَمَصْلَحَتِهِمْ بِالْعَدْلِ فِي مِيرَاثِهِمْ، وَسَائِرِ أَمْوَالِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ، وَأَنْ تَتَعَاهَدُوهُمْ بِالْعَطْفِ وَالْمَحَبَّةِ، وَالْإِكْرَامِ وَالتَّرْبِيَةِ وَالتَّهْذِيبِ؛ لِأَنَّهُمْ قُوَّةٌ لِلْأُمَّةِ إِنْ صَلَحُوا.

أَمَّا إِذَا لَمْ تَقُومُوا لِمَصْلَحَتِهِمْ، وَتَعْتَنُوا بِحَالِهِمْ؛ فَإِنَّهُمْ يَنْشَئُونَ وَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّاسِ عَدَاوَاتٌ مُسْتَمِرَّةٌ وَنُفُورٌ مُسْتَحْكِمٌ، يَدْفَعُهُمْ إِلَى أَنْ يَكُونُوا عَنَاصِرَ فَسَادٍ وَتَخْرِيبٍ فِي مُجْتَمَعِهِمْ؛ بِسَبَبِ حِرْمَانِهِمْ مِنَ الْمَوَدَّةِ وَالرَّحْمَةِ فِي طُفُولَتِهِمْ.

وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ لِأَنْفُسِكُمْ وَأُمَّتِكُمْ؛ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا عِلْمًا دَقِيقًا، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ، فَيُجَازِيكُمْ عَلَيْهِ.

وَجَعَلَ اللهُ فِي الْغَنَائِمِ حَقًّا لِلْيَتَامَى، قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال: 41].

وَاعْلَمُوا -أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ- أَنَّ الَّذِي ظَفِرْتُمْ بِهِ مِنْ أَمْوَالِ الْكُفَّارِ بِقَهْرٍ وَغَلَبَةٍ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ كَانَ مِنَ الْغَنِيمَةِ، قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا، فَقَدْ ثَبَتَ وَتَقَرَّرَ أَنَّ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهِ لِلْمُقَاتِلِينَ الَّذِينَ حَضَرُوا الْمَعْرَكَةَ، وَأَحْرَزُوا أَمْوَالَ الْكُفَّارِ، وَأَنَّ الْخُمُسَ الْبَاقِيَ يُجَزَّأُ لِخَمْسَةِ أَصْنَافٍ:

الْأَوَّلُ: للهِ وَلِلرَّسُولِ، فَيُجْعَلُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ.

وَالثَّانِي: لِأَقَارِبِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَهُمْ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ.

وَالثَّالِثُ: لِأَطْفَالِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ مَاتَ آبَاؤُهُمْ وَهُمْ فُقَرَاءُ.

وَالرَّابِعُ: لِلْمَسَاكِينِ الْمُتَعَرِّضِينَ لِلْعَطَاءِ، الَّذِينَ يَسْأَلُونَ الصَّدَقَةَ.

وَالْخَامِسُ: لِلْمُسَافِرِ سَفَرًا مُبَاحًا، وَلَيْسَ لَهُ مَا يَقْطَعُ بِهِ مَسَافَةَ سَفَرِهِ.

*وَهَذِهِ صُورَةٌ مِنْ صُوَرِ الْبِرِّ وَالرِّفْقِ الْمُجْتَمَعِيِّ بِالْيَتَامَى، وَثَمَرَاتُهَا؛ فَقَدْ قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [النساء: 7].

وَإِذَا حَضَرَ قِسْمَةَ الْمِيرَاثِ الْقَرَابَةُ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ نَصِيبٌ مَفْرُوضٌ مِنَ الْمِيرَاثِ، أَوْ حَضَرَهَا مَنْ مَاتَ آبَاؤُهُمْ وَهُمْ صِغَارٌ، أَوْ مَنْ لَا مَالَ لَهُمْ، فَأَعْطُوهُمْ مِنَ الْمَالِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ؛ عَلَى سَبِيلِ التَّرْضِيَةِ، وَجَبْرِ الْخَاطِرِ.

وَلَا تَتَبَرَّمُوا وَتَتَضَايَقُوا إِذَا حَضَرَ مَنْ لَيْسَ لَهُ فِي الْمَالِ نَصِيبٌ مَفْرُوضٌ، وَلَا تُسِيئُوا إِلَيْهِمْ بِقَوْلٍ، أَوْ تَجْرَحُوا عِزَّتَهُمْ بِكَلِمَةٍ، وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا حَسَنًا، وَلَا تُتْبِعُوا الْعَطِيَّةَ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى.

وَفِي تَحْقِيقِ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ تَرَابُطٌ اجْتِمَاعِيٌّ عَظِيمٌ، وَتَوْثِيقٌ لِوَشَائِجِ الْمَوَدَّةِ وَالْمَحَبَّةِ بَيْنَ أَعْضَاءِ الْأُسْرَةِ الْوَاحِدَةِ، وَتَعْمِيقٌ لِخُلُقِ الرَّحْمَةِ بِالضُّعَفَاءِ فِي نُفُوسِ الْمُسْلِمِينَ.

  

المصدر:رِعَايَةُ الْأَيْتَامِ وَاجِبٌ دِينِيٌّ وَمُجْتَمَعِيٌّ

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  أَهَمِّيَّةُ اِغْتِنَامِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ
  سُبُلُ صَلَاحِ الْقَلْبِ وَثَمَرَتُهُ
  الدرس الثامن عشر : «البِرُّ»
  تَوَاضُعُ الصَّالِحِينَ وَعَدَمُ الِاغْتِرَارِ بِالنَّفْسِ
  الِاجْتِهَادُ فِي الْعَمَلِ الصَّالِحِ فِي الْعَشْرِ
  تَرْبِيَةُ الطِّفْلِ عَلَى حُبِّ تَعَلُّمِ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّة
  الصِّدْقُ مِنْ صِفَاتِ اللهِ، وَمِنْ صِفَاتِ الْمُرْسَلِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ
  مِنْ حُقُوقِ الطِّفْلِ فِي الْإِسْلَامِ: رِعَايَتُهُ صِحِّيًّا
  فَضْلُ الصِّدْقِ وَذَمُّ الْكَذِبِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ
  ثَمَرَاتُ حُسْنِ الْخُلُقِ
  نَمَاذِجُ دَالَّةٌ عَلَى الْمَعِيَّةِ الْخَاصَّةِ
  حُبُّ الْوَطَنِ غَرِيزَةٌ فِي النُّفُوسِ السَّوِيَّةِ
  أَهْدَافُ الْحَجِّ
  إِيمَانُ الْأُمَّةِ وَوَحْدَتُهَا سَبِيلُ عِزَّتِهَا وَحِمَايَةِ مُقَدَّسَاتِهَا
  مِنَ الثَّمَرَاتِ الْعَظِيمَةِ لِلزَّكَاةِ: تَحْقِيقُ التَّكَافُلِ وَالتَّوَازُنِ الْمُجْتَمَعِيِّ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان