تفريغ مقطع : القول السديد في اجتماع الجمعة والعيد

حكم اجتماع الجمعة والعيد في يوم واحد

وَإِنَّنَا فِي هَذَا اليَوْمِ وَقَدْ اجْتَمَعَ فِيهِ عِيدَان؛ لَنَجْتَهِدْ فِي إِبْلَاغِ إِخْوَانِنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِمَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ الصَّالِحِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ -رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ- وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ فِي شَأْنِ الصَّلَاتَيْنِ؛ صَلَاةِ الْعِيدِ وَصَلَاةِ الْجُمُعَةِ.

وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ إِذَا مَا اجْتَمَعَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ عِيدٌ وَجُمُعَةٌ، هَلْ يُجْزِئُ الْعِيدُ عَنِ الْجُمُعَةِ؟

1- فَقَالَ قَوْمٌ: ((يُجْزِئُ الْعِيدُ عَنِ الْجُمُعَةِ, وَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ إِلَّا الْعَصْرُ فَقَطْ)).

وَهُوَ مَذْهَبُ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلَيٌّ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ.

وَلَا مُخَالِفَ لَهُمْ مِنَ الْأَصْحَابِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِم-، فَهُوَ مَذْهَبُ الْأَصْحَابِ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَسَعِيدٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ, وَكَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ.

وَدَلِيلُ هَذَا الْقَوْلِ مَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالَ: ((قَدْ اجْتَمَعَ فِي يَوْمِكُمْ هَذَا عِيدَانِ، فَمَنْ شَاءَ أَجْزَأَهُ مِنَ الْجُمُعَةِ، وَإِنَّا مُجَمِّعُونَ)). وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَه، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

فَصَلَّى الْجُمُعَةَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ-، وَرَخَّصَ لِمَنْ شَهِدَ الْعِيدَ أَلَّا يُصَلِّيَ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ فَلْيُصَلِّ.

2- وَقَالَ قَوْمٌ: ((هَذِهِ رُخْصَةٌ لِأَهْلِ الْبَوَادِي الَّذِينَ يَرِدُونَ الْأَمْصَارَ لِلْعِيدِ وَالْجُمُعَةِ)).

وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ.

وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي ((الْمَوَطَّأِ))، عَنْ عُثْمَانَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّهُ خَطَبَ فِي يَوْمِ عِيدٍ وَجُمُعَةٍ، فَقَالَ: ((مَنْ أَحَبَّ مِنْ أَهْلِ الْعَالِيَةِ -وَالْعَوَالِي مِنَ الْمَدِينَةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ، وَقِيلَ ثَلَاثَةٌ, وَهَذَا حَدُّ أَدْنَاهَا، وَأَعْلَاهَا ثَمَانِيَةُ أَمْيَالٍ- أَنْ يَنْتَظِرَ الْجُمُعَةَ فَلْيَنْتَظِرْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَرْجِعَ فَلْيَرْجِعْ)).

3- وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: ((إِذَا اجْتَمَعَ عِيدٌ وَجُمُعَةٌ فَالْمُكَلَّفُ مُخَاطَبٌ بِهِمَا جَمِيعًا، الْعِيدُ عَلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ وَالْجُمُعَةُ عَلَى أَنَّهَا فَرْضٌ، وَلَا يَنُوبُ أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ، هَذَا هُوَ الْأَصْلُ إِلَّا أَنْ يَثْبُتَ فِي ذَلِكَ شَرْعٌ يَجِبُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ)).

وَقَدْ ثَبَتَ وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

4- وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: ((تَسْقُطُ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ عَمَّنْ صَلَّى الْعِيدَ إِلَّا الْإِمَامُ)).

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: ((وَإِنْ اتَّفَقَ عِيدٌ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ؛ سَقَطَ حُضُورُ الْجُمُعَةِ عَمَّنْ صَلَّى الْعِيدَ إِلَّا الْإِمَامُ، فَإِنَّهَا لَا تَسْقُطُ عَنْهُ إلَّا أَنْ لَا يَجْتَمِعَ لَهُ مَنْ يُصَلِّي بِهِ الْجُمُعَةَ)).

وَقِيلَ فِي وُجُوبِهَا عَلَى الْإِمَامِ رِوَايَتَانِ.

*وَالرَّاجِحُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ:

أَنَّ الْجُمُعَةَ تَسْقُطُ عَمَّنْ صَلَّى الْعِيدَ فِي جَمَاعَةٍ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ مَا صَحَّ بِهِ الْحَدِيثُ, وَعَلَيْهِ عَمَلُ السَّلَفِ، وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الْإِمَامُ وَالْمَأْمُومُ، فَالرُّخْصَةُ عَامَّةٌ لِلْإِمَامِ وَسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ-: ((وَإِنَّا مُجَمِّعُونَ)): فَغَايَةُ مَا فِيهِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُمْ بِأَنَّهُ سَيَأْخُذُ بِالْعَزِيمَةِ، وَأَخْذُهُ بِهَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَلَّا رُخْصَةً فِي حَقِّهِ وَحَقِّ مَنْ تَقُومُ بِهِمُ الْجُمُعَةُ، وَقَدْ تَرَكَهَا ابْنُ الزُّبَيْرِ فِي أَيَّامِ خِلَافَتِهِ, وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، بَلْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَمَّا أُخْبِرَ بِذَلِكَ: ((أَصَابَ السُّنَّةَ)).

فَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ بِسَنَدِهِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، قَالَ: ((صَلَّى بِنَا ابْنُ الزُّبَيْرِ فِي يَوْمِ عِيدٍ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ أَوَّلَ النَّهَارِ، ثُمَّ رُحْنَا إِلَى الْجُمُعَةِ فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْنَا، فَصَلَّيْنَا وُحْدَانًا -أَيْ صَلَّوْا الظُّهْرَ مُنْفَرِدِينَ؛ لِأَنَّ الْجُمُعَةَ لَا تَصِحُّ إِلَّا فِي جَمَاعَةٍ- وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِالطَّائِفِ، فَلَمَّا قَدِمَ ذَكَرْنَا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: أَصَابَ السُّنَّةَ)). وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَأْخُذَ بِالرُّخْصَةِ وَيَكْتَفِي بِصَلَاةِ الْعِيدِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَأْخُذَ بِالْعَزِيمَةِ فَلَهُ فِي رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أُسْوَةٌ فِي قَوْلِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((وَإِنَّا مُجَمِّعُونَ)).

أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَه وَالنَّسَائِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَالدَّارِمِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، عَنْ إِيَاسِ بْنِ أَبِي رَمْلَةَ الشَّامِيِّ، قَالَ: ((شَهِدْتُ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ وَهُوَ يَسْأَلُ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ، قَالَ: أَشَهِدْتَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عِيدَيْنِ اجْتَمَعَا فِي يَوْمٍ؟

قال: نَعَمْ.

قال: فَكَيْفَ صَنَعَ؟

قال: صَلَّى الْعِيدَ، ثُمَّ رَخَّصَ فِي الْجُمُعَةِ، فَقَالَ: ((مَنْ شَاءَ أَنْ يُصَلِّيَ فَلْيُصَلِّ)). وَالْحَدِيثُ ثَابِتٌ صَحِيحٌ.

وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَطَاءٍ، قَالَ: ((اجْتَمَعَ يَوْمُ جُمُعَةٍ وَيَوْمُ فِطْرٍ عَلَى عَهْدِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ: عَيدَانِ اجْتَمَعَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، فَجَمَعَهُمَا جَمِيعًا، فَصَلَّاهُمَا رَكْعَتَيْنِ بُكْرَةً لَمْ يَزِدْ عَلَيْهِمَا حَتَّى صَلَّى الْعَصْرَ)). وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: ((قَدْ اجْتَمَعَ فِي يَوْمِكُمْ هَذَا عِيدَانِ، فَمَنْ شَاءَ أَجْزَأَهُ -أَيْ الْعِيد- مِنَ الْجُمُعَةِ وَإِنَّا مُجَمِّعُونَ)).

فَمَذْهَبُ الصَّحَابَةِ -كَمَا تَرَوَنَ- أَنَّ الْجُمُعَةَ يَسْقُطُ فَرْضُهَا، وَتَصِيرُ الصَّلَاةُ بَعْدَ ذَلِكَ لِمَنْ شَاءَ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ-: ((مَنْ شَهِدَ أَجْزَأَهُ، وَإِنَّا مُجَمِّعُونَ)).

وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ مُجَمِّعُونَ.

وَمَا أَحْسَبُ أَنَّ الصَّحَابَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم- تَرَكُوا النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- يُجَمِّعُ وَحْدَهُ، بَلْ صَلَّوْا مَعَهُ، وَلَكِنْ لِنَعْلَمَ الْحُكْمَ؛ لِأَنَّهُ دِينُ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ, وَحَتَّى لَا يَتَلَّعْبَ بِنَا أَحَدٌ.

وَكَمَا تَرَى فِي أَمَانَةِ الْعِلْمِ أَدَاءً وَحَمْلًا يَنْبَغِي أَنْ نَقُولَ الرَّأْيَ وَالرَّأْيَ الْمُخَالِف، وَأَنْ نَنْظُرَ فِي الْأَقْوَالِ تَرْجِيحًا بِكَلَامِ أَهْلِ الْعِلْمِ الْأَثْبَاتِ، ثُمَّ نَصِيرُ بَعْدُ إِلَى مَا أَثْبَتَهُ وَنَصَرَهُ الدَّلِيل.

التعليقات


مقاطع قد تعجبك


  أوصلوا هذه الرسالة إلى القرضاويِّ الضال
  الله أحق أن يُستحيا منه
  ((3))...(( هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ))
  رسالة إلى الخونة دُعَاة التقريب بين السُّنَّة وبين الشيعة الأنجاس
  زكاة الفطر حكمها وحكمتها وجنسها ومقدارها ووقت وجوبها ومكان دفعها
  مُرَائِي حتى بعد موته!!
  ((أَحسِن إسلامَك يُحسِن اللهُ إليك))
  تنوع العبادات في ليالي رمضان
  رسالة إلى الفقراء... القاعدة الذهبية للإمام أحمد في مواجهة الفقر
  مصر بين أمس واليوم
  السوريون والسوريات ينتظرون الفتوى بجوازِ أكل الأموات من الأناسيِّ
  حافظوا على أنفسكم وعلى أعراضكم
  سقوط القاهرة... سقوط غرناطة الحديثة
  سَماؤُكِ يا دُنيا خِداعُ سَرابِ
  وصية مهمة جدًا للشباب في بداية العام الدراسي
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان