تفريغ خطبة نبيُّنا محمد صلى الله عليه وسلم

نبيُّنا محمد صلى الله عليه وسلم

((نَبيُّنَا مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم))

فضيلة الشيخ العلَّامة: محمد سعيد رسلان

((5 من ذي القعدة 1433 هـ،  الموافق 21- 09 -2012 م))

إنَّ الحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِالله مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عِمْرَان:١٠٢].

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللـهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النِّسَاء:١].

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأَحْزَاب:٧٠-٧١].

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الحَدِيثِ كِتَابُ اللـهِ، وَخَيْرَ الهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

فمِن رحمةِ اللهِ -تبارك وتعالى- بعبادِهِ أنْ أرسلَ فيهم رُسلَهُ يُبَشِّرُونَ ويُنْذِرُونَ، كلما ذهبَ نَبيٌّ خَلَفَهُ نَبيٌّ، حتى خَتَمَهُم بِنَبيِّ الرحمةِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-.

وقد امْتَنَّ اللهُ -تبارك وتعالى- على الثَّقَليْن برسالتِهِ -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، قال اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ﴾ [النحل: 36].

ولقد اختارَ منهم سَيِّدُهُم وَإِمَامُهُم فَجَعَلَهُ خَاتَمَ النَّبيين، وهو صَفْوَةُ المُرْسَلِينَ، وَاخْتَصَّهُ اللهُ تعالى بخصائصَ وَمَزَايَا لم يَشْرَكْهُ فيها أحدٌ مِن المُرْسَلين، وَاخْتَصَّ اللهُ تعالى أُمَّتَهُ بخصائصَ ليست لغيرِهَا مِن الأُمَمِ السالِفَةِ.

ومِن المزايا التي امتازَ بها -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- على غيرِهِ مِن المُرْسَلين -صلواتُ الله وسلامُهُ عليه وعليهِم أجمعين- أنْ بَعَثَهُ اللهُ -تبارك وتعالى- إلى الأسودِ والأحمر، بل إلى الجِنِّ والإنْسِ جَميعًا، كَمَا قالَ -جَلَّ وَعَلَا- عَن الجِنِّ الذينَ استمعوا لقراءتِهِ -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ثُمَّ وَلَّوْا إلى قومِهِم مُنْذِرِينَ ﴿يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [الأحقاف: 31-32].

وقال -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، في الحديثِ المتفقِ على صحتِهِ-: «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ مِنْ الأنْبِيَاءِ قَبْلِي»، فَذَكَرَ مِن بينِهَا: «وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً»، وفي ذلك يقول ربُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾ [سبأ: 28]، ويقول سبحانه: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾ [الأعراف: 158].

وقد أوضحَ النبيُّ -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ذلك كما في الحديثِ الذي رواه مسلمٌ في ((صحيحه)) مِن روايةِ أبي هريرة -رضي الله عنه-، قال: قال رسولُ الله -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ يَهُودِيٌّ، وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ».

قالَ سعيدُ بن جُبيْر -رَحِمَهُ اللهُ-: مِصْدَاقُ ذلك في كتابِ الله -جل وعلا- في قوله سبحانه: ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ﴾ [هود: 17].

وقولُ النبي -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ»، يعني: أُمَّةَ الدعوة؛ لأن اللهَ -تبارك وتعالى- أرسلَهُ -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- إلى الإنسِ والجِنِّ جميعًا في مُطْلَق الزمان ومطلق المكان، لا نبيَّ بعدَهُ.

فكل مَن على وجهِ الأرض منذ بِعثتِهِ -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- مِن: الأبيضِ والأحمرِ والأسودِ والأصفرِ والإنسِ والجنِّ كلُّهم أُمَّةُ رسول الله -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، هم أُمَّةُ الدعوة، يدعوهم جميعًا، وكلُّهم مكلفٌ بالامتثال لأمرِه، والإيمانِ به، واتباعِ شريعتِهِ، فَمَن لم يفعل ذلك فهو في النَّارِ كما قالَ النبيُّ المختار -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-.

فأمةُ الدعوة تشملُ كل مَن على وجهِ الأرضِ منذ بِعثتِهِ إلى القيامةِ، فاليهودُ والنَّصارى والبوذيونَ والمُلحدونَ والذين يَعبدونَ النجوم مِن الصابئةِ وغيرِهِم، كلُّ هؤلاء أمةُ رسولِ الله، يدعوهم إلى دينِ الله، ومَن لم يُؤمن به فهو مِن أهلِ النارِ كما قالَ النبيُّ المختار -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ يَهُودِيٌّ، وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ».

﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ﴾ [هود: 17].

ولا شك أنَّ أعظمَ نعمةٍ أنعمَ اللهُ بها على أهلِ الأرضِ هي إرسالُ النبيِّ الكريم مُحمد -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- الذي أكملَ اللهُ به الدِّين، وجعلَهُ حُجَّةً على الناسِ أجمعين.

وقد أخبر اللهُ -جل وعلا- في كتابِهِ العزيز عن إبراهيم وابنِهِ إسماعيل أنهما دَعَوَا الله تعالى لأهل الحَرَم وهما يَبنيان البيتَ بأدعيةٍ منها: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ [البقرة: 129].

وقد أجابَ اللهُ تعالى دعاءَهُمَا، فَبَعَثَ في الأميين وفي غيرِهِم محمدًا -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أرسلَهُ بِالهُدَى ودينِ الحَقِّ ليُظهرَهُ على الدينِ كلِّهِ، وتلك النعمةُ العُظمى، والمِنَّةُ الكبرى، نَوَّهَ اللهُ -تبارك وتعالى- بها في آياتٍ كثيرةٍ مِن كتابِهِ المجيدِ، فقالَ تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ * ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ﴾ [الجمعة: 2-4].

ومنها قولُه تعالى: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [آل عمران: 164].

ومنها قولُه تعالى: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ * فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ﴾ [البقرة: 151-152].

ومنها قولُه تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة: 128].

وإنما كانَ إرسالُهُ -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- إلى الناسِ أَعْظَمَ مِنَّةٍ امتنَّ اللهُ بها على عبادِهِ؛ لأنَّ في ذلك تخليصَ مَنْ وَفَّقَهُ اللهُ وهدَاهُ مِن العذابِ السَّرْمَدِيِّ؛ بسببِ الإيمانِ باللهِ ورسولِهِ -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، والابتعادِ عن الشركِ الذي لا يغفرُهُ اللهُ، كما قالَ -جَلَّ وعلا-: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء﴾[النساء: 48]، وقال تعالى: ﴿إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾ [المائدة: 72].

ولا يعرفُ قيمةَ الرسالةِ إلَّا مَن عرفَ حالَ العَالَم قبلَ محمدٍ -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، وكان -كَمَا أخبرَ هو، صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- في أَمْرٍ مَرِيجٍ، وفي ليلٍ مِن الشرك غَاسق، قال -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّ اللهَ اطَّلَعَ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ».. في الدَّيَّارَاتِ والصَّوامِع والبِيَع، وأولئك كانوا ينتظرون مَقْدَمَ الرسول -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، وكانت الأرضُ قد أطبقت على الكُفر، وغَصَّت بالشرْك، ومَاجَت بالظلمِ، وتَلَاطَمَت بين جَنَبَاتِهَا أَمْوَاهُ الجَوْرِ حتى جاءَ الرسولُ -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-.

فأخرجَ اللهُ به الناسَ مِن الظُّلماتِ إلى النورِ، أخرجهم من الضلالات -ضلالات الفِكْرِ والاعتقادِ-؛ إذ كانوا يقدِّسون الأحجارَ والأشجارَ ويعبدونَ النجومَ والأبقارَ، وكانوا يُشركون باللهِ -جل وعلا-، وقد ترسختْ في قلوبِهِم وأرواحِهِم خرافاتٌ وخزعبلاتٌ جعلتِ الفكرَ مقيدًا، وجعلتِ القلوبَ بالأغلالِ مُوثَقَة، حتى جاء الرسولُ -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-.

فَحَرَّرَ اللهُ به العقولَ، وأطلقَ القلوبَ من أسرها حتى عادت إلى ربِّهَا؛ لتعودَ البشريةُ إلى الفطرة التي فطرَ اللهُ الناسَ عليها، «إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي كُلَّهُمْ حُنَفَاءَ، فَاجْتَالَتْهُمْ الشَّيَاطِينُ».

فجاءَ النبي -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بالرسالة الخَاتِمَةِ فيها النورُ والهُدَى، وفيها العفافُ والعِفَّةُ، وكانَ الناسُ قَبْلَ ذلك كالحُمُرِ يتسافدون، تختلطُ أنسابُهُم، ولا يُراعونَ في أَحَدٍ عِرْضًا ولا حُرْمَةً، يأكلُ القويُّ الضعيفَ، يأكلونَ المَيْتَةَ، ويَأدِونَ البَنَات، ويَجُورُونَ وَيَظْلِمُونَ، وأعظمُ مِن ذلك كلِّهِ أنهم كانوا باللهِ يَكْفُرُونَ، وكانوا بالإلهِ الحقِّ يُشركون، فأخرجَهُم اللهُ -تبارك وتعالى- من هذه الظُّلُمَاتِ المُتكاثفاتِ كلِّها بِمَقْدَمِ الرسولِ -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-.

وتعالى- من هذه الظلمات المتكاثفات كلِّها بمقدم الرسول -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-.

نَبيُّنَا مُحَمَّدٌ مِن هاشِمِ

إلى الذبِيحِ دُونَ شَكٍّ يَنْتَمي

أَرْسلَهُ اللهُ إِلَيْنَا مُرْشِدَا

وَرَحْمَةً لِلعَالَمِينَ وَهُدَى

مولِدُهُ بمَكَّةَ المُطَهَّرَهْ

هجْرَتُهُ لطَيْبَةَ المُنَوَّرَهْ

بَعْدَ أرْبَعِينَ بَدَأ الوَحْيُ بِهِ

ثُمَّ دَعَا إلَى سَبيل رَبِّهِ

عَشرَ سنِينَ أيُّهَا النَّاس اعْبُدُوا

رَبًّا تَعَالى شَأْنُهُ وَوَحِّدُوا

وَكَانَ قَبْلَ ذَاكّ فِي غَارِ حِرَا

يَخْلُو بِذِكْر رَبِّهِ عَنِ الوَرى

وَبَعْدَ خَمْسِينَ منَ الأَعْوامِ

مضَتْ لِعُمْرِ سيِّدِ الأَنَامِ

أَسْرَى بهِ الله إلَيْهِ في الظُّلَمْ

وَفَرَضَ الخَمْسَ عَلَيْهِ وحَتَمْ

وَبَعْدَ أعْوَامٍ ثَلاَثَةٍ مَضَتْ

مِنْ بَعْدِ مِعْراجِ النَّبيِّ وانقَضَتْ

أُوذِنَ بالهِجْرَةِ نَحْوَ يَثْرِبَا

مَع كُلِّ مُسْلِمٍ لَهُ قَدْ صَحِبا

وَبَعْدَهَا كُلِّفَ بِالقِتَالِ

لِشِيعَةِ الكُفْرَانِ والضَّلاَلِ

حتى أتَوْا لِلدِّينِ مُنْقَادِينَا

وَدَخَلُوا فِي السّلْمِ مُذْعِنِينَا

وَبَعدَ أنْ قَدْ بَلَّغَ الرِّسَالَهْ

واسْتَنقَذَ الخَلْقَ مِنَ الجَهَالَهْ

وأكمَلَ اللهُ بِهِ الإسْلاَمَا

وقَام دِينُ الحَقِّ واسْتَقَامَا

قَبَضَهُ الله العَلِيُّ الأَعْلَى

سبْحانَهُ إلى الرَّفِيقِ الأَعْلَى

نَشْهَدُ بِالحَقِّ بِلاَ ارْتِيابِ

بِأَنَّهُ المُرْسَلُ بِالكِتَابِ

وَأنَّهُ بَلَّغَ مَا قَدْ اُرْسِلاَ

بِهِ وَكُلُّ ما إِلَيْهِ اُنْزِلاَ

وَكُلُّ مَنْ مِن بَعْدِهِ قَدِ ادَّعى

نُبُوَّةً فَكَاذِبٌ فِيمَا ادَّعى

فَهْوَ خِتَامُ الرُّسْل بِاتِّفَاقِ

وأفضَلُ الخَلْقِ علَى الإطلاَق

صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ.

نَبيِّنُا محمدٌ -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- حقٌّ، وبِعْثَتُهُ حَقٌّ، قالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: ﴿كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَاللهُ لَا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [آل عمران: 86].

قال الإمام مسلمٌ -رحمه الله-: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ بَرَّادٍ الأَشْعَرِيُّ، وَأَبُو كُرَيْبٍ -وَاللفْظُ لِأَبِي كُرَيْبٍ- قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّ مَثَلِي وَمَثَلَ مَا بَعَثَنِيَ اللهُ بِهِ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَتَى قَوْمَهُ، فَقَالَ: يَا قَوْمِ إِنِّي رَأَيْتُ الجَيْشَ بِعَيْنَيَّ، وَإِنِّي أَنَا النَّذِيرُ العُرْيَانُ، فَالنَّجَاءَ، النَّجَاءَ، فَأَطَاعَهُ طَائِفَةٌ مِنْ قَوْمِهِ، فَأَدْلَجُوا فَانْطَلَقُوا عَلَى مُهْلَتِهِمْ، وَكَذَّبَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ فَأَصْبَحُوا مَكَانَهُمْ، فَصَبَّحَهُمُ الجَيْشُ فَأَهْلَكَهُمْ وَاجْتَاحَهُمْ، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ أَطَاعَنِي وَاتَّبَعَ مَا جِئْتُ بِهِ، وَمَثَلُ مَنْ عَصَانِي وَكَذَّبَ مَا جِئْتُ بِهِ مِنَ الحَقِّ».

مَن أَطَاعَهُ نَجَا، ومَن عَصَاهُ هَلَكَ، «كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى».

قِيلَ: وَمَنْ يَأْبَى يَا رَسُولَ اللهِ؟

قَالَ: «مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى».

فَدَخَلَ النَّارَ؛ لأنَّ مَن أَبَى دَخَلَ النَّارَ.

قالَ الإمامُ أحمدٌ -رَحِمَهُ اللهُ-: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قال: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ، عَنْ عَلِيٍّ -رَضِي اللهُ عنه-، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدٌ حَتَّى يُؤْمِنَ بِأَرْبَعٍ: حَتَّى يَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلا اللهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ بَعَثَنِي بِالحَقِّ، وَحَتَّى يُؤْمِنَ بِالبَعْثِ بَعْدَ المَوْتِ، وَحَتَّى يُؤْمِنَ بِالقَدَرِ». وَرَوَاهُ الترمذيُّ، وابنُ مَاجَه، والحاكِم، وابنُ أبي عاصمٍ، وهو حديثٌ صحيحٌ، صّحَّحّهُ في ((صحيحِ الجامع)).

النبيُّ -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أرسلَهُ اللهُ -رَبُّ العَالَمِينَ- بالرسالةِ الخَاتمة التي عَرَفَ النَّاسُ بِهَا رَبَّهُم -تبارك وتعالى-، فَعَبَدُوهُ وَوَحَّدُوهُ، وانسلَخُوا مِن الشِّرْكِ والكُفْرِ، واستقاموا على الصراطِ المُستقيمِ.

لولا أنَّ اللهَ -تبارك وتعالى- مَنَّ على البَشَرِ بهذه الرسالةِ؛ لكانوا أَحَطَّ مِن الحيوانات، لا يُرَاعُونَ عِرْضًا، ولا يَحْرِصُونَ على شَرَفٍ، ولاستُلِبَت مِنْهُم الأموالُ، وأُزهِقَت مِنْهُم الأرواحُ؛ لأنَّ شَمْسَ الرسالةِ لولا أَنَّهَا أَشْرَقَت على العالَم لكان في ظلماتِ الشركِ إلى يومِ القيامة، والناسُ إلى شمسِ الرسالة، وإلى النورِ الذي جَعَلَهُ اللهُ -تبارك وتعالى- وحيًا معصومًا.. الناسُ إلى ذلك أحوجُ منهم إلى الطعامِ والشرابِ والنَّفَسِ.

وإذا ما كُسِفَت شمسُ الرسالةِ عن مَوْضِعٍ؛ حَلَّ فيه الخرابُ والبَوارُ والدَّمَارُ واستشرى فيه الفسادُ، لو أنَّ الناسَ أطاعوا الرسولَ -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ظاهرًا وباطنًا ما وُجِدَ في الدنيا شرٌّ قَطُّ، وإنَّمَا يُوجَد الشَّرُّ في المَكَانِ على قَدْرِ مُخَالفةِ النبي -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-.

الناسُ أحوجُ إلى الرسالةِ منهم إلى الطعامِ والشَّرَابِ -بل إلى النَّفَسِ-؛ لأنَّ الجسدَ إذا حُرِمَ النَّفَسَ مَاتَ، وأمَّا القلبُ فإذا مَا حُرِمَ الرسالةَ هَلَكَ، وهلاكُ القلوبِ هَلَاكُ الآخرةِ وضياعُهَا، وهذا أكبرُ وأعظمُ مِن هلاكِ الأبدانِ وضياعِ الدنيا.

نّبيُّنَا -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يُحَبُّ مِن جميعِ المَنَاحِي، يُحَبُّ النَّبيُّ -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- مِن جميعِ الوسائلِ التي تُفْضِي إلى حُبِّ الإنسان.

فإنَّ المرءَ يُحَبُّ لفضائلِهِ الذاتيةِ مِن: الشجاعةِ والحِلم والكَرَمِ إلى غيرِ ذلك مِن فضائلِ نَفْسِهِ وفضائلِ ذاتِهِ.

ويُحب أيضًا لأَجْلِ أَنَّهُ يَكُونُ حَسَنَ الطَّلْعَةِ، بَهِيَّ الصُّورةِ، قد اسْتَقَامَت خِلْقَتُهُ واعْتَدَلَت فِطْرَتُهُ.

ويُحّبُّ أيضًا لأجلِ ما يَصِلُ إلى المُحِبِّ مِن فَضْلِهِ ويتعدى إليه مِن خيرِهِ.

فهذه ثلاثُ جِهَاتٍ يُحَبُّ منها المرءُ، وكلُّهَا مُستوفاةٌ في رسولِ اللهِ -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-.

فَأمَّا جَمَالُ صُورتِهِ، وأما بَهِيُّ طلعتِهِ: فَقَد كان الأصحابُ -رضوان الله عليهم- ينظر الواحدُ منهم إلى القمرِ ليلةَ التِّمِّ، وينظرُ إلى وجهِ الرسولِ، فَلَهُوَ أَبْهَى وأجمل مِن البدرِ ليلةَ التِّمِّ -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، أكملَ اللهُ خلقته، وعَدَلَ اللهُ -رب العالمين- صورتَهُ، وجعلَهُ في أبهى وأجمل ما يكون.

قالت له عائشة:

خُلِقْتَ مُبَرَّءً مِن كلِّ عَيْبٍ   ***   كَأَنَّمَا قد  خُلِقْتَ كَمَا تَشَاءُ

تتمثلُ ببيتِ الشاعرِ القديم، ولَعَمْرُ اللهِ لو أنه -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لو خُلِقَ كما يشاءُ ما كان على الهيئةِ التي خلقَهُ الله عليها، فاختيارُ اللهِ له أكملُ مِن اختيارِهِ لنَفْسِهِ -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فهو يُحَبُّ مِن هذه الصورة.

كان الواحدُ مِن الكفار ربما قال قبل أنْ يدخلَ في دينِ اللهِ -ربِّ العالمين- العزيز الغفار «فلما نظرتُ في وجهِهِ عَلِمْتُ أنَّ وجهَهُ ليس بوجهِ كذاب»، صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ.

لَو لَم تَكُن فِيهِ آيَاتٌ مُبَيِّنَةٌ   ***   لَكَانَ مَظْهَرُهُ يُنْبِيكَ بِالخَبَرِ

فَيُحَبُّ مِن هذه الجهةِ، ويُحَبُّ مِن جهةٍ أُخرى: ما كان عليه مِن فضائل النَّفْسِ الكاملة، فهو الإنسانُ الكاملُ -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- تكاملت فيه مجتمعةً خصالُ الخيرِ كلها -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-؛ فأمَّا حِلْمُهُ فحدِّث عن البحرِ ولا حرج، وأمَّا كرمُهُ فهو أجودُ -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالخيرِ مِن الريحِ المُرسَلةِ، وأمَّا شجاعتُهُ فدونها شجاعةُ الليوث والسِّبَاع، وأين هذه منه -صلى الله وسلم وبارك عليه-؟!، إلى غيرِ ذلك مِن فضائلِهِ، فَيُحَبُّ مِن هذه الجهة.

وأمَّا الذي وَصَلَ إلينا مِن الخيرِ عن طريقِهِ، فكلُّ ما نحن فيه من خيرٍ إنما وصل إلينا عن طريقه -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ما فينا من شيءٍ له قيمة إلا وقد أتانا مِن طريقِهِ، يبلِّغُهُ عن رَبِّهِ، ويأتي به قائمًا في الحياةِ شاهدًا؛ ليقطعَ اللهُ به الأعذار، فهو محبوبٌ مِن كلِّ جانبٍ -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-.

ونحبُّهُ لأنَّ اللهَ -جَلَّ وعلا- يُقَدِّمُهُ ويُحِبُّهُ، فَنُحِبُّهُ لحُبِّ اللهِ إيَّاهُ؛ لأن الذي يُحَبُّ لذاتِهِ هو الله، ورسولُ اللهِ نُحِبُّهُ لأنَّ اللهَ يُحِبُّهُ -صلى الله وسلم وبارك عليه-.

وله علينا تَبَعًا حقوق، منها: نُصرتُهُ، وتوقيرُهُ، وتعزيرُهُ، واحترامُهُ، كما قال -جَلَّ وعلا-: ﴿لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ﴾ [الفتح: 9]، وقال -جل وعلا-: ﴿فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ﴾ [الأعراف: 157].

(التعزيرُ) -كما قال شيخُ الإسلام-: «اسمٌ جامعٌ لنَصرِهِ وتأييدِهِ ومَنْعِهِ مِن كلِّ ما يُؤذِيه».

تُعَزِّرُوهُ: تَنْصُرُوهُ، تُؤيدوهُ، تمنعوه مِن كلِّ ما يؤذيه، أي تمنعوا عنه كلَّ ما يؤذيه مِن قولٍ أو فِعْلٍ.

وأمَّا (التوقيرُ): فمعناه التعظيمُ، والإجلال، والتفخيمُ -كما قال ابنُ جرير رَحِمَهُ الله-.

تعظيمُ النبيِّ -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وإجلالُهُ وتوقيرُهُ شعبةٌ مِن أَجَلِّ وأعظمِ شُعَبِ الإيمان، ولها مظاهر، منها:

*تحريمُ التقديمِ بين يديْهِ بالكلام حتى يأذنَ -عليه الصلاة وأزكى السلام-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ﴾ [الحجرات: 1].

*مِن مظاهرِ تعظيمِهِ وتوقيرِهِ: تحريمُ رَفْعِ الصوتِ فوق صوتِ النبي -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، وألا يُجهَرَ له بالكلام كما يَجْهَرُ الرَّجُلُ للرجُلِ، وهذا مِن تمامِ الأدبِ وكمالِ أدبِ الخطاب مع النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ [الحجرات: 2].

وقد شَدَّدَ الفاروقُ عُمر النكيرَ على رَجُليْن رَفَعَا صَوْتيْهِمَا في مسجدِ رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ السَّائِبُ بْنِ يَزِيدَ: ((كُنْتُ قَائِمًا فِي المَسْجِدِ فَحَصَبَنِي رَجُلٌ بِحَصَاةٍ فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ، فَإِذَا هُوَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ، فَقَالَ: اذْهَبْ فَأْتِنِي بِهَذَيْنِ.

قَالَ: فَجِئْتُهُ بِهِمَا؟

فَقَالَ: مَنْ أَنْتُمَا -أَوْ مِنْ أَيْنَ أَنْتُمَا-؟

قَالَا: مِنْ أَهْلِ الطَّائِفِ.

قَالَ: لَوْ كُنْتُمَا مِنْ أَهْلِ البَلَدِ لَأَوْجَعْتُكُمَا -يعني: ضربًا-، تَرْفَعَانِ أَصْوَاتَكُمَا فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

قال السائبُ: منكِرًا عليهما)). أخرجه البخاريُّ في ((صحيحِهِ)).

إنَّ اللهَ -جَلَّ وعلا- ذَمَّ الذين يُنادونَهُ مِن وراءِ الحُجُرَاتِ فَوَصَفَهُم بأنَّ أكثرَهُم لا يعلمون، بأنَّ أكثرَهُم لا يعقلون، بأنَّ أكثرَهُم لا يفقهون، ثُمَّ أَرْشَدَ إلى الأدبِ في ذلك معه، فقَاَلَ -جَلَّ جلالُهُ-: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ﴾ [الحجرات: 5].

النبيُّ الكريمُ -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- تُطَالَبُ الأُمَّةُ بتعظيمِهِ حيًّا، وبتعظيمِهِ بعد مماتِهِ -صلى الله عليه وسلم- تعظيمًا: بالقلبِ، وتعظيمًا باللسانِ، وتعظيمًا بالجوارحِ -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-.

*فأمَّا تعظيمُهُ بالقلبِ: فباعتقادِ كَوْنِهِ عَبْدًا رسولاً -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، وبتقديمِ مَحَبَّتِهِ على محبةِ النَّفْسِ والمالِ والوالدِ والولدِ والأهلِ والنَّاسِ أجمعين، واسْتِشْعَارِ عظمتِهِ، وجلالِ قدرتِهِ، وعظيمِ شأنِهِ، واستحضارِ مَحَاسنِهِ، مع كلِّ المعاني الجالِبَةِ لمَحَبَّتِهِ وتوقيرِهِ وإجلالِهِ -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-.

*وتعظيمُهُ باللسانِ: بالثناءِ عليه -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِن غيرِ غلوٍّ ولا تقصيرٍ، وإِنَّمَا يُثْنَى عليه بِمَا هو أَهْلُهُ، وَهُوَ أَهْلٌ لكلٍّ خَيْرٍ.

وَمِن أعظمِ مظاهرِ الثناءِ عليه: الصلاةُ والسلامُ عليه -صلى الله وسلم وبارك عليه- ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56].

فالصلاةُ مِنَّا عليه -صلى الله عليه وسلم- مِن أفضلِ القُرُبَاتِ وأَجَلِّ الطاعاتِ، نَتَقَرَّبُ بها إلى اللهِ -جَلَّ وعلا-، وهي مِن الثناءِ عليه، ومِن تعظيمِهِ على الوَجْهِ المشروعِ الواردِ في الشريعةِ المُطَهَّرَةِ.

*وَأَمَّا تعظيمُهُ -صلى الله عليه وسلم- بالجوارحِ: فبالعملِ بشريعتِهِ، والتَّأسِّي بِسُنَّتِهِ، والأخذِ بأوامرِهِ، واجتنابِ نواهيهِ، مع تحكيمِ الشريعةِ في الأمورِ كلِّهَا: صَغِيرِهَا وكَبِيرِهَا، دَقِيقِهَا وجَلِيلِهَا، والرِّضَا بِحُكْمِهِ، والتسليمِ لأَمْرِهِ، وعدمِ الحَرَجِ مِن قَضَائِهِ الذي يَقْضِي به، مع السَّعي في إظهارِ دينِهِ، ونُصْرَةِ مَا جاءَ به، وتبليغِ رسالتِهِ للنَّاسِ، ودعوةِ النَّاسِ إلى لزومِ سُنَّتِهِ، والاهتداءِ بِهَدْيِهِ، واقتفاءِ أَثَرِهِ -صلى الله وسلم وباركَ عليه-، مع الذَّبِ عنه، والدفاعِ عن سُنَّتِهِ، بل والذَّبِ عن حَمَلَةِ سُنَّةِ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- مِن الصَّحْبِ الكرام -عليهم الرضوان- ومَن سارَ على طريقتِم فاسْتَنَّ بِهَدْيِهِم وَسَلَكَ سبيلَهُم.

*وكذلك تعظيمُهُ بالجوارحِ: بتعليمِ النَّاسِ سُنَّتَهُ مع تَعَلُّمِهَا والعملِ بها والموالاةِ والمُعاداةِ فيه وفيها -صلى الله عليه وسلم-، مع اجتنابِ كلِّ ما نَهَى عنه والتوبةِ والاستغفارِ عن كلِّ تقصيرٍ حصلَ أو خَلَلٍ وَقَعَ.

قالَ الإمامُ العَلَّامةُ ابنُ القيمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: «إنَّ طاعةَ اللهِ -عَزَّ وجَلَّ- ورسولِهِ، وتحكيمَ اللهِ ورسولِه هو سببُ السعادةِ عَاجِلاً وآجِلاً، ومَن تَدَبَّرَ العَالَم والشرورَ الواقعةَ فيه عَلِمَ أنَّ كلَّ شَرٍّ في العَالَم سَبَبُهُ مُخالفةُ الرسولِ والخروجُ عن طاعتِهِ -صلى الله عليه وسلم-، وكلُّ خيرٍ في العَالَمِ فإنه بسببِ طاعةِ الرسولِ، وكذلك شرورُ الآخرةِ وآلامُهَا وعذابُهَا ونَكَالُهَا إنما هو مِن مُوجِبَاتِ مخالفةِ الرسولِ ومُقتضياتِهَا، فَعَادَ شَرُّ الدنيا والآخرة إلى مُخَالَفَةِ الرسولِ وما يترتبُ عليه، فلو أنَّ الناسَ أطاعوا الرسولَ حَقَّ طاعتِهِ لم يَكُن في الأرضِ شَرٌّ قط، ولأن طاعتَهُ هي الحِصْنُ الذي مَن دَخَلَهُ كان مِن الآمنين، والكَهْفُ الذي مَن لَجَأَ إليه كان مَن النَّاجين، فَعُلِمَ أنَّ شرورَ الدنيا والآخرة إنَّمَا هو الجهلُ بِمَا جاءَ به الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- والخروجُ عنه.

وهذا برهانٌ قاطعٌ على أنه لا نَجَاةَ للعبدِ ولا سعادةَ إلَّا بالاجتهادِ في معرفةِ ما جَاءَ به الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- عِلْمًا والقِيَامِ به عَمَلًا».

كثيرٌ مِن المسلمين لا يَعْرِفُونَ رسولَ الله!!

صحيحٌ.. كثيرٌ مِن المُسلمينَ لا يَعْرِفُونَ الرسولَ حَقَّ المَعرفةِ، وأكثرُ الذين يُعَرِّفُونَهُم بالرسولِ لا يَعْرِفُونَهُ حقَّ المعرفة؛ لأنهم ما عَلِمُوا حقيقةَ الدِّينِ الذي جاءَ به الرسولُ -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-.

للهِ حقٌّ وللرسولِ حَقٌّ، فلا تجعلُ الحَقيْن حَقًّا واحدًا، وآتِ اللهَ حَقَّهُ بِتوحيدِهِ، ولا تَخْلِط؛ فَإنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- عبدُ اللهِ ورسولُهُ.

فَقَومٌ غَلَوْا؛ فَأَنْزَلُوهُ فوقَ منزلتِهِ، وجَعَلُوا فيه ألوهيةً وربوبيةً، وهو مِن ذلك بَرَاء، بأبي هو وأمي ونَفْسِي -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، قال: «لاَ تُطْرُونِي، كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى المَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ، وَإِنَّمَا قُولُوا: عَبْدُ اللهِ، وَرَسُولُهُ».

إنَّمَا أنا عبدُ اللهِ ورسولُهُ -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، فهو أعظمُ وأكملُ وأَجْلَى مَنْ تَحَقَّقَ فيه وَصْفُ العبوديةِ، فهو العَبْدُ للهِ حَقًّا والعَابِدُ -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، خيرُ مَن حَقَّقَ العبوديةَ للهِ رسولُ اللهِ -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-.

وقومٌ جَفَوْا؛ فَلَم يَعْرِفُوا له قَدْرًا، ولم يُرَاعُوا له حُرْمَةً.

إنَّ المُسلمينَ عنوان الشريعةِ، والعَالَمُ كلُّهُ إذا نَظَرَ إلى المسلمين فَوَجَدَهُم فيما هُم فيه مِمَّا تَوَرَّطُوا فيه بسببِ مُخَالَفَةِ رسولِ اللهِ -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، قالَ عَوَامُّهُم -وكلُّهُم عَوَام!!- ولكنَّهُم أفسدوا عليهم فطرتَهُم، وَهُم أَبْعَدُ ما يكونونَ عن معرفةِ ما يدورُ في الحقيقةِ في هذا العَالَمِ، وإنما شَغَلُوهُم كالتروسِ في الآلات، لا يَفْرُغُ الواحدُ منهم إلَّا في عُطلتِهِ؛ لكي يُقْضِّيَهَا في مَلَذَّتِهِ وتحصيلِ شَهْوَتِهِ، وأمَّا ما عدا ذلك فكالحمارِ يدورُ بالرَّحَى، ولا وقتَ عندَهُ.

أكثرُ الأمريكيين مِن الشَّعْبِ الأمريكيِّ نَفْسِهِ لا يعرفُ أين تَقَعُ ليبيا ولا مِصر؟!!، ولا ما يدورُ على الحقيقةِ فيهما، وإنما خَدَعُوهُم، وزَيَّفُوا لهم الحقائق، وعَرَضُوا عليهم حَالَنَا، فَصَدَّقَ حَالُنَا مَا وَصَلَ إليهم مِن مَقَالِهِم، فقالوا: لو كان في دينِهِم خيرٌ ما كانوا هكذا، ومَن عَرَفَ منهم الدينَ على حقيقتِهِ مُتجردًا مُنْصِفًا أقرَّ وأَذْعَنَ بأنه (لا إله إلا الله محمدٌ رسولُ الله) -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-.

إنَّ النبيَّ -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قد خَصَّهُ اللهُ -ربُّ العالمين- بخصائص، أخذَ العَهْدَ له -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- على جميعِ الأنبياءِ والمُرْسَلينَ أنهم إذا ظَهَرَ في عَصْرِ الواحدِ منهم تَبِعَهُ، والرسولُ -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، يقول: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي».

هو المَتْبُوعُ حقًّا -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، لو بُعِثَ وَهُم أحياءٌ -أو أَحَدٌ منهم- فإنه يَجِبُ عليهم أنْ يُؤمنوا به ويَتَّبِعُوهُ ويَنْصروهُ، أُخِذَ العَهْدُ عليهم على ذلك ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ [آل عمران: 81].

عن عليٍّ -رضي الله عنه-، قال: «ما بَعَثَ اللهُ نبيًّا مِن الأنبياءِ إلَّا أَخَذَ عليه المِيثاق: لَئِن بُعِثَ مُحَمَّدٌ وهو حيٌّ ليؤمننَّ به وليَنصُرَنَّهُ»، وَأَمَرَهُ أنْ يأخذَ الميثاقَ على أُمَّتِهِ لئن بُعِثَ مُحَمَّدٌ وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنَّه».

ماذا تريدُ بعدَ هذا؟!!

الأنبياءُ كلُّهُم والمُرْسَلُونَ له تَبَعُ؛ فهو إمامُهُم، الإمامُ الأعظم الذي إذا لو وُجِدَ في أي عصرٍ وُجِد؛ لكانَ الواجبَ أنْ يُطاع، ولكان الواجبَ أنْ يُقَدَّمَ على الأنبياء؛ لذلك كان إمامَهُم ليلةَ الإسراء.

وعند أهلِ الكتابِ عِلْمٌ تامٌ بهذا الأمر، يعرفون مَبْعَثَهُ، ومكانَ هجرتِهِ، وَوَرَدَ وَصْفُهُ الشريف في كُتُبِهِم، يعرفونَهُ كما يعرفونَ أبناءَهُم، فالرَّجُلُ يعرف ابنَهُ، ولو كان في وَسَطِ ألوفٍ مُؤلَّفَةٍ مِن أبناءِ غيرِهِ، يَسْتَدِلُّ عليه، يعرفونَ رسولَ اللهِ كما يعرفونَ أبناءَهُم، ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ﴾، والضميرُ يعودُ إلى النبيِّ.

﴿يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 146]، ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ﴾ [الأعراف: 157].

وَصْفُهُ في التوراةِ والإنجيلِ -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، وقد سُئِلَ ابن عمرو -رضي الله عنهما- عن وَصْفِ النبيِّ، قال: أَجَلْ، وَاللهِ إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِي التَّوْرَاةِ بِبَعْضِ صِفَتِهِ فِي القُرْآنِ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا﴾ [الأحزاب: 45]، في التوراة: وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ، أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي، سَمَّيْتُكَ المتَوَكِّلَ لَيْسَ بِفَظٍّ وَلاَ غَلِيظٍ، وَلاَ سَخَّابٍ فِي الأَسْوَاقِ، وَلاَ يَدْفَعُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ، وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ المِلَّةَ العَوْجَاءَ، بِأَنْ يَقُولُوا: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَيَفْتَحُ بِهَا أَعْيُنًا عُمْيًا، وَآذَانًا صُمًّا، وَقُلُوبًا غُلْفًا». أخرجه البخاري في الصحيح.

هذه صِفَتُهُ في التوراة.

وهو أكثرُ الأنبياءِ تَبَعًا -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، «مَا مِنَ نَبِيٍّ مِنْ الأَنْبِيَاءِ إِلَّا أُعْطِيَ مِنْ الآيَاتِ مَا عَلَى مِثْلِهِ آمَنَ البَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللهُ إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ القِيَامَةِ».

قال -صلى الله عليه وسلم-: «أَنَا أَكْثَرُ الأَنْبِيَاءِ تَبَعًا يَوْمَ القِيَامَةِ». أخرجه مسلمٌ.

وأخرجَ عن النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: «لَمْ يُصَدَّقْ نَبِيٌّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ مَا صُدِّقْتُ، وَإِنَّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ نَبِيًّا مَا يُصَدِّقُهُ مِنْ أُمَّتِهِ إِلَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ».

وقد عُرِضَت عليه الأممُ فَرَأَى سَوَادًا عظيمًا هو أعظمُ ما يكونُ مِن الأسْوِدَة، ومعهم سبعونَ أَلْفًا يدخلونَ الجنةَ بغيرِ حسابٍ -كما في ((الصحيحين))-، وقالَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: «أَتَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الجَنَّةِ».

قُلْنَا: نَعَمْ.

قَالَ: «أَتَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الجَنَّةِ».

قُلْنَا: نَعَمْ.

قَالَ: «أَتَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا شَطْرَ أَهْلِ الجَنَّةِ» -أي: نصفَ أهلِ الجنة-.

قُلْنَا: نَعَمْ.

قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا نِصْفَ أَهْلِ الجَنَّةِ». والحديث في ((الصحيحين)).

النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يدخلُ مِن أَتْبَاعِهِ الجَنَّةَ نِصْفُ أهلِ الجنةِ، وسائرُ الأنبياءِ أتباعُهُم في النِّصْفِ، فَمَن يُدْرِك هذا النبيَّ الكريمَ العظيمَ في مَقَامِهِ عند رَبِّهِ؟!! -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، وقد نَفَعَ اللهُ به النَّفْعَ العام، وأحيَا به مِن المَوَات.

وتَأَمَّل.. نِصْفُ أهلِ الجنَّةِ مِن أتباعِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-!!، وكانت دعوتُهُ ثلاثةً وعشرينَ عَامًا، ثُمَّ قُبِضَ إلى رَبِّهِ، منذ بُعِثَ إلى أنْ قُبِضَ مَرَّ مِن الزمانِ ثلاثةٌ وعشرونَ عامًا ويدخلُ الجَنَّةَ مِن أُمَّتِهِ نِصْفُ أهلِ الجَنَّةِ!!

نوحٌ -عليه السلام- ظَلَّ يدعو قومَهُ ألفَ سنة إلَّا خمسين عامًا، قال تعالى: ﴿وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ﴾ [هود: 40].

تَأَمَّل في هذه المُدَّةِ الطويلةِ مع مَن آمَنَ، وفي تلك المُدَّةِ القصيرةِ مع مَن آمَنَ، لِتَرَى كيف باركَ اللهُ في دعوةِ نَبيِّهِ وخليلِهِ وصَفيِّهِ وكليمِهِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-.

والنبيُّ -صلى الله عليه وسلم- في المِعْرَاجِ لَمَّا جَاوَزَ موسى صُعُدًا بَكَى، فَقِيلَ: ما يُبكيكَ وأنتَ الكليم؟

قال أَبْكِي لأنَّ غُلامًا بُعِثَ بعدي يدخلُ الجنةَ مِن أمتِهِ أكثرُ مِمَّن يدخلُهَا مِن أُمَّتِي!! والحديثُ في ((الصحيحين)).

والنبيُّ -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- غَفَرَ اللهُ له ما تَقَدَّمَ مِن ذنبِهِ ومَا تَأَخَّرَ، وكان يحيا في الحياةِ وهو يعلمُ يقينًا أنَّ اللهَ غَفَرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذنبِهِ وما تَأَخَّرَ.

وهو -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- في القيامةِ صَاحِبُ المَقَامِ المحمودِ -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، صَاحِبُ الشفاعةِ العُظْمَى، كلُّ الأنبياءِ يومَ القيامةِ يقولُ قائِلُهُم: نَفْسِي نَفْسِي إلَّا مُحَمَّد -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، يقولُ: أُمَّتِي أُمَّتِي.

كلُّهُم، أعني: أُولِي العزمِ مِن الرُّسُلِ: نوحٌ وإبراهيم وموسى وعيسى، فهؤلاء الأربعة مِن أُولِي العزمِ مع أبيِهِم آدم يَقْصدُهُم الخلائقُ في القيامة؛ ليَشْفَعُوا عند ربِّنَا؛ ليبدأَ في فَصْلِ القضيةِ بين الخَلْقِ في المَوقفِ، فكلُّهُم يَذْكُرُ شيئًا إلَّا عيسى، وكلُّهُم يُرْشِدُ إلى مَن بَعْدَهُ، وكلٌّ يقولُ: لا أسألُ اليومَ إلَّا نَفْسِي حتى تَصِلَ إلى مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- فيقول: أنا لها، أنا لها -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-.

أسألُ اللهَ -تبارك وتعالى- أنْ يجعلَنَا مِمَّن يَتَمَسَّكُ بسُنَّتِهِ، ويعرفُ له قَدْرَهُ، ويُعَظِّمُهُ، ويُعَزِّرُهُ، ويُوَقِّرُهُ، ويُؤمِنُ به كمالَ الإيمانِ وتمامَ الإيمان، وصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ على نَبيِّنَا مُحَمَّدٍ، وعلى آلِهِ وأصحابِهِ أجمعين.

الخُطْبَةُ الثَّانيةُ:

الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ هُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ:

*فَمِن مظاهرِ تعظيمِ اللهِ لِنَبيِّهِ وتوقيرِهِ له: أنْ أَقْسَمَ بحياتِهِ، قال تعالى: ﴿لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ [الحجر: 72]، وهذا دليلٌ على شَرَفِ حياتِهِ -صلى الله عليه وسلم-.

وللهِ -جَلَّ وعلا- أنْ يُقْسِمَ بِمَا شاءَ مِن خَلْقِهِ، أَمَّا نحنُ فلا نُقْسِمُ إلَّا به، ((ومَن أَقْسَمَ بغيرِ اللهِ فَقَد أَشْرَكَ))، وفي روايةٍ: ((فَقَد كَفَرَ))، وفي روايةٍ: ((فَقَد أَشْرَكَ وَكَفَرَ)).

*مِن تعظيمِ اللهِ وتوقيرِهِ لنبيِّهِ -صلى الله عليه وسلم-: أنه نادَاهُ بأحَبِّ الألقابِ وأَسْنَى الأوصافِ، وليس في القرآنِ كلِّهِ نِدَاءٌ للنبيِّ باسمِهِ، ليس فيه يَا أحمد، ولا يا مُحَمَّد، وإنما في القرآنِ مِن فاتحتِهِ إلى خَاتمتِهِ: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ﴾ ، ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ﴾.

ومَن دُونَهُ مِن الأنبياءِ والمُرسَلين يُنادَوْن بأسمائِهِم:

﴿قُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ﴾ [البقرة: 35].

﴿يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ﴾ [المائدة: 110].

﴿يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللهُ﴾ [القصص: 30].

﴿يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ﴾ [هود: 48].

﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ﴾ [ص: 26].

﴿وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا﴾ [الصافات: 104-105].

﴿يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ﴾[هود: 81].

﴿يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ﴾[مريم: 7].

﴿يَا يَحْيَى خُذِ الكِتَابَ﴾[مريم: 12].

إلا الرسول، فلا يُنادَى إلا بـ ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ﴾ ، ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ﴾.

قال الإمامُ الصَّرْصَرِيّ:

وَدَعَا الإِلَهُ الرُّسْلَ كُلٌّ بِاسْمِهِ  ***   وَدَعَاكَ وَحْدَكَ بِالرَّسُولِ وبِالنَّبيِّ

صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ.

وهذا كلُّهُ يُرْشِدُنَا لِمَا يَجِبُ عَلَيْنَا نَحْوَهُ -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، ﴿لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [النور: 63].

﴿قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ﴾، قال: تدري ما الفتنة؟

قال: الشِّرْكُ أو الكُفْرُ.

﴿أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾: بِحَدٍّ في الدنيا أو بعذابٍ في الآخرة، كلُّ ذلك بَسَبَبِ مُخَالَفَةِ رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-.

وقد نَهَانَا رَبُّنَا -تبارك وتعالى- في هذه الآيةِ أنْ نقولَ: يا مُحَمَّد، يا أبا القاسم، وإنَّمَا نقولُ: يا رسولَ اللهِ، يا نَبيَّ الله، هذا مَتَى؟

إذا كان في حَيَاتِهِ -صلى الله عليه وسلم-، مَنَعَهُم مِن نِدَائِهِ باسمِهِ -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-.

كَمَا نَهَاهُم عَن رَفْعِ الصَّوتِ فوقَ صَوْتِهِ، وعن التقديمِ بين يديْهِ -صلى الله وسلم وبارَكَ عليه-، بَل إنهُ أَمَرَهُم إذا أَرَادُوا مُنَاجَاتَهُ أنْ يُقَدِّمُوا بين يَدي نَجْوَاهُم صَدَقَة، ثم نَسَخَ ذلك -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-.

وقد وَهَبَ اللهُ نبيَّهُ -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- مِن الآياتِ المُعجزاتِ فوقَ مَا آتَى جميعَ الأنبياءِ، فَمَا مِن مُعجزةٍ لِنَبيٍّ إلَّا وَآتَى اللهُ نَبيَّهُ مُحَمَّدًا أَعْظَمَ منها وَأَبْقَى.

والمعجزةُ الخالدةُ الباقيةُ المُتْحَدَّى بها في كلِّ عصرٍ وجيلٍ وزمانٍ هي القرآنُ المجيدُ الذي أعجزَ الجنَّ والإنْسَ، وإعجازُهُ قائِمٌ بينَ النَّاسِ أبدًا، يَتَحَدَّى اللهُ رَبُّ العَالَمِين الخَلْقَ إِنْسًا وَجِنًّا أنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ أَقْصَرِ سورةٍ فيه، مع ما آتَاهُ مِن الآياتِ البَيِّنَاتِ المَادياتِ الظَّاهِرَاتِ.

إذا كان اللهُ -جَلَّ وعَلَا- قد آتَى سُليمان -عليه السلام- آيةَ الرِّيحِ غُدُوُّهَا شَهرٌ ورَواحُهَا شهرٌ، فإنَّ اللهَ -جَلَّ وعلا- أَسْرَى بِنَبيِّهِ مِن المَسجدِ الحرامِ إلى المَسجدِ الأَقْصَى، ثُمَّ عُرِجَ به إلى السماءِ السابعةِ إلى سِدْرَةِ المُنْتَهَى، ثُمَّ تَقَدَّمَ -صلى الله عليه وسلم- حتى كلَّمَ رَبَّهُ وَكَلَّمَهُ، ثُمَّ رَجَعَ وفِرَاشُهُ مَا زَالَ دَافِئًا بَعْدُ، فَمَا آيةُ الرِّيحِ بجوارِ هذه؟!!

إذا كان اللهُ -جَلَّ وعلا- قد جَعَلَ لِمُوسى آيةً: أنْ ضَرَبَ الحَجَرَ بِعَصَاهُ، فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا، فإنَّ الحجارةَ وإنَّ الأرضَ مَظِنَّةَ أنْ تَنْبَجِسَ وتَنْبَثِقَ مِنْهَا المياه!!، وأمَّا اللحمُ الحَيُّ، فهل يُخْرِجُ اللَّحْمُ الحيُّ مَاءً؟!! وَمَعَ ذلك فَقَد أَنْبَعَ اللهُ المَاءَ مِن بين أصابعِ رسولِ اللهِ -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-.

مَا مِن مُعجزةٍ أُوتِيَهَا نَبيٌّ مِن الأنبياءِ إلَّا آتَى اللهُ نَبيَّهُ مُحَمَّدًا فَوْقَهَا وأَعْظَمَ مِنْهَا.

إذا كان اللهُ -جَلَّ وعلا- قد أَحْيَا على يَدي عيسى -عليه السلام- بَعْضَ المَوْتَى، فإنَّ اللهَ تعالى أَحْيَا على يَدي مُحَمَّدٍ مَا لا يُحْصَى عَدًّا مِن البَشَرِ كانوا في مَواتِ الكُفْرِ ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا﴾ [الأنعام: 122].

كان مَيْتًا في ظُلُمَاتِ الكُفْرِ، فَأحياهُ اللهُ بِنُورِ الإيمانِ، فكم مِن مَيْتٍ أحيَاهُ اللهُ على يَدي رسولِ اللهِ، لا يُحْصِي عَدَدَهُم إلَّا اللهُ، فأين تِلْكَ مِن هذه؟!!

لا نَعِرَفُ قَدْرَهُ؛ لأنَّنَا لم نُحْكِم شَرْعَهُ، وَفَصَلْنَا بينَ العِلْمِ والعملِ؛ فَصَارَ عِلْمُنَا به مَتَاعًا وَتَرَفًا وتَزْجِيَةً للأوقاتِ في الفَرَاغَاتِ!! وأمَّا أنْ يتحولَ ذلك إلى عَمَلٍ وحياةٍ فنحنُ أَبْعَدُ ما نكونُ عن ذلك، نسألُ اللهَ أنْ يهديَنَا أجمعين.

النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- آتَاهُ اللهُ -تبارك وتعالى- في معجزةِ رَدِّ البصرِ أعظمَ مِمَّا أُوتِيَ عيسى -عليه السلام-؛ فَإِنَّ عيسى أَبْرَأَ اللهُ الأَكْمَهَ على يَديْهِ، وَأَمَّا النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- فإنَّ عَيْنَ قتادة لَمَّا أصابَهَا السَّهْمُ فَأَخْرَجَهَا السَّهْمُ مِن مَحْجِرِهَا، رَدَّهَا النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-.

قالَ قتادة: فَعَادَت أَصَحَّ عَينيِّ.

وَتَفَلَ في عينيِّ عليٍّ -رضوانُ الله عليه- فَبَرِأَ مِمَّا كان به مِن الرَّمَدِ، صلى الله وسلم وباركَ على نَبيِّهِ، وَصَفيِّهِ وَنَجيِّهِ، وَخَلِيلِهِ وكليمِهِ، نَبيِّنَا مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-.

إنَّ رسولَ اللهِ -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- سَيِّدُ وَلَدِ آدَم، ويتحققُ ذلك على وَجْهِهِ يومَ القيامة؛ لأنَّ الدنيا فيها ادِّعَاءٌ كثيرٌ، ومَا أكثرَ الذين يَرَى الواحدُ فيهم دَعْوَاهُ إمَّا قَوْلاً وإمَّا فِعْلاً وإمَّا قَوْلاً وَفِعْلاً أنه مِن طِينَةٍ سِوَى طِينَةِ البَشَرِ، بَل رُبَّمُا وُجِدَت مَن حَالُهُ وَمَقَالُهُ يَدُلَّانِكَ على أنه يعتقدُ أنه ليسَ مِن طينةٍ أَصْلاً!!، ولا يصيرُ إلى تُرَابٍ، فالدنيا مَحِلُّ ادِّعَاءٍ عَرِيضٍ، فَخَلُصَت له يومَ القيامة.

«أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ»، فَمَنْ يُنَازِعُ؟!!

صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، «وَأَوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ القَبْرُ، وَأَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ وَأَوَّلُ آَخِذٍ بِحَلَقِ الجَنَّةِ حتى يكونَ أولُ داخلٍ لها».

لا يُسْمَحُ لأَحَدٍ أَنْ يَدْخَلَ الجَنَّةَ قَبْلَ رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-.

يَضْحَكُونَ عَلَيْكُم، يقولونَ لَكُم: تُؤمِنُونَ بِالغَيْبياتِ؟! هذا كلُّهُ غَيْبٌ، يقولونَ لَكُم ذلك، مع أنهم لا يتحركون إلَّا بالغَيْبياتِ!!

القومُ في الغَرْبِ ليس كما استقرَّ في أوهامِكُم، الأمريكيونَ مَتَديِّنُونَ في جُملةٍ عظيمةٍ منهم، والذيَن يَغْشَوْنَ الكنائس منهم كثيرون، وهؤلاء مِن المُحَافِظِينَ الجُدُد -في الجُمْلَةِ، أي: مِن المَسيحيينَ الصهيونيين- يُؤمِنُونَ بِالعَهْدِ القديمِ والعَهْدِ الجديد، والعهدُ القديمُ جُلُّهُ خُرَافَات!! وأكثرُهُ بَذَاءَات!!، وَهُم يُؤمِنُونَ به!!، يُؤمِنُونَ بِمَا وَرَدَ فيه مِن تِلكَ الأساطير التي تجعلُ الرَّبَّ الإلهَ العظيمَ الذي ليس كَمِثْلِهِ شيء، يُصَارِعُ النَّاسَ!! ويُكْسَرُ عَظْمُ ساقِ مُصَارِعِهِ، فَيُسِرُّهَا هذا المَهزومُ في نَفْسِهِ لِرَبِّهِ لـ(يَهْوَه)!!

ويجعلونَهُ لا يعلمُ ما يدورُ في كَوْنِهِ، يَسْأَلُ -كما في العهدِ القديمِ-: أين أنتَ يا آدم؟ وكان قد اخْتَبَأَ لَمَّا أكلَ الشجرةَ وَأَكَلَتْ زَوْجُهُ وَرَأَى بعضَ الأشجارِ لَمَّا بَدَت سَوْءاتُهُمَا، فَبَحَثَ عنهما الربُّ الإلهُ، وكان يَتَمَشَّى في الجنةِ، فلم يَجِدهُمَا!!،

فَقَالَ: أين أنتَ يا آدم؟

قال: ها آنَذَا يَا رَب.

قال: وَلِمَ تَخْتَبِأ؟ أَأَكَلْتَ مِن الشَّجَرَةِ؟!!

أَلَم يَكُن يَعْلَم قَبْلُ مَا دَارَ؟!!! أيُّ شيءٍ هذا؟!!

هذه مِن الحَقَائِق!!، وما عندنَا مِن المُسْلَّمَاتِ المَنقولةِ بالتَّوَاتُرِ جَمْعًا عن جَمْعٍ يُؤْمَنُ ألَّا يَتواطأ جَمْعُهُم على كَذِبٍ أَبَدًا، تَوَاتُر.. حتى إنَّ الغَرْبَ يقولُ قائِلُهُم: لا يُمْكِنُ إنكارُ نسبةِ القرآنِ إلى مُحَمَّدٍ، لا يُمْكِنُ، أُمَمٌ نَقَلَت عن أُمَمٍ، ولكنَّهُم يقولون: هو مِن تأليفِهِ، فَيَقِفُونَ بالقرآنِ عندَهُ.

مَا نُقِلَ إليْنَا بِالعِلْمِ المُستطيرِ ليس عند أَهْلِ الأرضِ مِثْلُهُ، أسانديهُم إلى كُتُبِهِم التي يَدَّعُونَ قُدسيَّتَهَا أسانيدُ مقطوعة!!، لا تدري مَن قال؟ ولا مَن كَتَبَ؟ حتى إنَّ موسى -عليه السلام- يحكي في التوراة التي قالوا إنها نُزِّلَت عليه، يَحْكِي للناسِ كيف كان في التَّابوتِ بعدَ أنْ ماتَ!! يحكي ذلك طَبْعًا وهو حيٌّ!! أَمْ حَكَاهُ بَعْدَ موتِهِ؟!!

وأَمَّا نحنُ فَعِلْمُنَا عِلْمٌ يَحْتَرِمُ العَقْلَ، له أسانيد، مَا عندنَا خُرَافَات، مَا عندنا أوهام، عِلْمُنَا منقولٌ: ((قال: حَدَّثَنَا فلان، قال: حدَّثَنَا))، وتَخْضَعُ عمليةُ التحديثِ هذه بِنَقْلِ الروايةِ لضوابطِ أَقْسَى مِن القَسْوَةِ وأَمْتَنِ مِن الحديدِ في العِلْمِ المُستطيرِ، عِلْمِ المُصطلحِ والجَرْحِ والتعديلِ مع النَّظَرِ في الحديثِ سَنَدًا وَمَتْنًا.

وَأَمَّا غَيْرُنَا فإنَّ المَسِيحَ -كما في العهدِ الجديدِ- لَمَّا غَابَ عنه زُوكَا؛ قالَ: أين أنت يا زوكا؟!!! صلى اللهُ على نَبيِّنَا وَسَلَّم تَسْلِيمًا كثيرًا.

النبيُّ -صلى الله عليه وآله وسلم- عندما يَذْهَبُ النَّاسَ في المَوْقِفِ، والعَرَقُ يَذْهَبُ في الأرضِ على قَدْرِ ما هُم عليه مِن الحَالِ والفِعَالِ، فَمِنْهُم مَن عَرَقُهُ -بَعْدَ أنْ يَذْهَبَ العَرَقُ في الأرضِ سبعينَ ذِرَاعًا- مِنْهُمْ مَنْ عَرَقُهُ إِلَى كَعْبَيْهِ -والكعبُ: العظمُ الناتِئُ، أي: البارِزُ في جانبِ الرِّجْلِ-، وَمِنْهُمْ مَنْ  عَرَقُهُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ عَرَقُهُ إِلَى حِقْوَيْهِ -أي: إلى وَسَطِهِ-، وَمِنْهُمْ مَنْ عَرَقُهُ إِلَى كَتِفَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ عَرَقُهُ إِلَى أُذُنَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ العَرَقُ إلجَامًا.

الناسُ في هذا الكَرْبِ الكَارِبِ، وقد دَنَت الشَّمْسُ مِن الرءوسِ يَذهبونَ إلى آدم، فَيُحِيلُهُم إلى نوح، فَيُحِيلُهُم إلى إبراهيم، فَيُحِيلُهُم إلى موسى، فَيُحِيلُهُم إلى عيسى، فَيُحِيلُهُم إلى مُحَمَّدٍ: ((أنا لَهَا، أنا لَهَا))، يَسْجُدُ عند العَرْشِ، ويُلْهَمُ مَحَامِدَ لا يَعْلَمُهَا في حالِ حياتِهِ، يقول: ((لا أَعْلَمُهَا الآن))، حَتَّى يقولَ له رَبُّهُ: ((يا مُحَمَّد، ارْفَعْ رَأْسَكَ، وقلْ يُسمع لكَ، واشفعْ تُشفَّع)).

فَيَشْفَعُ لأَهْلِ المَوقفِ شَفَاعَةً عَامَّةً للمُسْلِمِ والكافرِ والمُؤمنِ والكافرِ، يَشْفَعُ شَفَاعَةً عَامةً في أنْ يَبْدَأَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ في فَصْلِ القَضيةِ بين البَشَرِ.

لَهَا وَحْدهُ.. هذه الشفاعةُ: المَقَامُ المَحْمُود، والشفاعةُ العُظْمَى ليْسَت إلَّا لواحدٍ هو رسولُ اللهِ -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، وَلِوَاءُ الحَمْدِ بِيَدِهِ، آدم فَمَن دُونَهُ تَحْتَ لوائِهِ يومَ القيامة -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-.

أَوَّلُ مَن يجوزُ على الصِّرَاطِ بِأُمَّتِهِ: رسولُ اللهِ -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-.

يا أيُّهَا الناسُ لقد عَلِمَ العُقلاء مِن الكُفَّارِ قَدِيمًا قَدْرَ رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، هذا هِرَقْل -كَمَا في ((الصحيحين))- يسألُ أبا سُفيان أسئلةً -ولم يَكُن أبو سُفيان قد أَسْلَم بَعْدُ-، ثُمَّ شَرَحَ له، قال: سَأَلْتُكَ عَنْ نَسَبِهِ فَذَكَرْتَ أَنَّهُ فِيكُمْ ذُو نَسَبٍ، فَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي نَسَبِ قَوْمِهَا.

وَسَألتُكَ: هَلْ قَالَ أَحَدٌ مِنْكُمْ هَذَا القَوْلَ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا، فَقُلْتُ: لَوْ كَانَ أَحَدٌ قَالَ هَذَا القَوْلَ قَبْلَهُ؛ لَقُلْتُ: رَجُلٌ يَأْتَسِي بِقَوْلٍ قِيلَ قَبْلَهُ.

وَسَألتُكَ: هَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا، قُلْتُ: فَلَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مَلِكٌ؛ قُلْتُ: رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ أَبِيهِ.

وَسَألتُكَ: هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا، فَقَدْ أَعْرِفُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَذَرَ الكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى اللهِ.

وَسَألتُكَ: أَشْرَافُ النَّاسِ اتَّبَعُوهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ فَذَكَرْتَ أَنَّ ضُعَفَاءَهُمُ اتَّبَعُوهُ وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ.

وَسَألتُكَ: أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ؟ فَذَكَرْتَ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ، وَكَذَلِكَ أَمْرُ الإِيمَانِ حَتَّى يَتِمَّ.

وَسَألتُكَ: أَيَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا، وَكَذَلِكَ الإِيمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ القُلُوبِ.

وَسَألتُكَ: هَلْ يَغْدِرُ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لَا تَغْدِرُ. وَسَألتُكَ: بِمَ يَأْمُرُكُمْ؟ فَذَكَرْتَ أَنَّهُ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللهَ، وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَيَنْهَاكُمْ عَن عِبَادَةِ الأوْثَانِ، وَيَأْمُرُكُمْ بِالصَّلاةِ، وَالصِّدْقِ، وَالعَفَافِ.

قال هرقل: فَإِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا، فَسَيَمْلِكُ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ، وَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ، وَلَمْ أَكُن أَظُنُّ أَنَّهُ مِنْكُمْ، فَلُو أنِّي أَعْلَمُ أَنِّي أَخْلُصَ إِلَيْهِ، لَتَجَشَّمْتُ لِقَاءَهُ، وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ، لَغَسَلْتُ عَنْ قَدَمِهِ -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-.

فعقلاءُ القومِ قديمًا -وكان ذا عِلْمٍ بِالكِتَابِ-، عُقَلَاءُ القَوْمِ عَرَفُوا أَنَّهُ هو المَبْعُوثُ في آخرِ الزمانِ -صلى الله وسلم وبارك عليه-، وكذلك يَعْلَمُ كثيرٌ مِن أولئك القوم أنه هو، أنه النبيُّ الذي لا نَبيَّ بَعْدَهُ -صلى الله عليه وسلم-، ﴿الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ﴾ [الأعراف: 157]، لَكِنَّ الحِقْدَ أَكَلَ قُلُوبَهُم، ولَكِنَّ الحَسَدَ يَنْهَشُ في أكبادِهِم.

 

لا يَسلَمُ القَلبُ مِن غِلٍّ أَلَمَّ بِهِ

         يَنقى الأَدِيمُ وَيَبقى مَوضِعُ الحَلَمِ

 

وَالحِقدُ كَالنَّارِ إِن أَخفَيتَهُ ظَهَرَت

          مِنهُ عَلائِمُ فَوقَ الوَجهِ كَالحُمَمِ

 

لا يُبصِرُ الحَقَّ مَن جَهْلٌ أَحاطَ بِهِ

          وَكَيفَ يُبصِرُ نُورَ الحَقِّ وَهوَ عَمِ

 

كُلُّ امرِئٍ وَاجِدٌ ما قَدَّمَت يَدُهُ

          إِذا اِستَوى قائِمًا مِن هُوَّةِ الأَدَمِ

 

وَالخَيرُ وَالشَّرُّ في الدُّنيا مُكافَأَةٌ

          وَالنَّفْسُ مَسؤولَةٌ عَن كُلِّ مُجتَرَمِ

 

فَلا يَنَم ظَالِمٌ عَمّا جَنَت يَدُهُ

          عَلى العِبادِ فَعَينُ اللهِ لَم تَنَمِ

 

مَن أَنكَرَ الضَّيمَ لَم يَأنَس بِصُحبَتِهِ

          وَمَن أَحاطَت بِهِ الأَهوالُ لَم يُقِمِ

 

مَن أَضمَرَ السُّوءَ جازاهُ الإِلَهُ بِهِ

          وَمَن رَعى البَغيَ لَم يَسلَم مِنَ النِقَمِ

 

مَن يَركَبِ الغَيَّ لا يَحمَد عَواقِبَهُ

          وَمَن يُطِع قَلبُهُ أَمرَ الهَوى يَهِمِ

 

يا  حائِرَ اللُّبِّ هَذا الحَقُّ فَامضِ لَهُ

          تَسلَم  وَهَذا سَبِيلُ الرُّشدِ فَاِستَقِمِ

 

لا يَصرَعَنَّكَ وَهمٌ بِتَّ تَرقُبُهُ

          إِنَّ  التَّوَهُّمَ حَتفُ العاجِزِ الوَخِمِ

 

يا  مالِكَ المُلكِ هَب لِي مِنكَ مَغفِرَةً

          تَمحُو ذُنُوبي غَداةَ الخَوفِ وَالنَّدَمِ

 

وَامْنُن عَلَيَّ بِلُطفٍ مِنكَ يَعصِمُني

          زَيغَ  النُّهى يَومَ أَخذِ المَوتِ بِالكَظَمِ

 

لَم  أَدعُ غَيرَكَ فِيما نابَني فَقِني

          شَرَّ  العَواقِبِ وَاِحفَظنِي مِنَ التُّهَمِ

 

حاشا لِراجيكَ أَن يَخشى العِثارَ وَما

          بَعدَ  الرَّجاءِ سِوى التَّوفيقِ لِلسَّلَمِ

 

فَامنُن عَلى عَبدِكَ العانِي بِمَغفِرَةٍ

          تَمحُو  خَطاياهُ في بَدءٍ وَمُختَتَمِ

واللهَ تعالى أسألُ أنْ يُوَفِّقَنَا لمَعرفةِ قَدْرِ نَبيِّهِ، والإيمانِ به كما ينبغي أنْ نُؤمِنَ به، ونسألهُ تعالى أنْ يملأ قَلْبَنَا بِمَحَبَّتِهِ، والإيمانِ به، وتوقيرِهِ، وتعظيمِهِ، وأنْ يرزقَنَا اتِّبَاعَهُ ظاهرًا وبَاطِنًا، وأنْ يَمُنَّ علَيْنَا بِقُوَّةِ الدِّفَاعِ عنه: بِاللسانِ، والجَنَانِ، واليَدِ، والرُّمْحِ، والسِّنَانِ، إنهُ تعالى على كلِّ شيءٍ قدير، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ على نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وعلى آلِهِ وأصحابِهِ أَجْمَعِينَ.

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  عِنَايَةُ الْإِسْلَامِ بِالنَّشْءِ
  الْحَمْدُ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ
  تَرْبِيَةُ الْأَوْلَادِ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّة وَحُقُوقُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ
  مفتاح دعوة المرسلين
  شعار الفاتيكان .. النجاسة من الإيمان !!
  المخرج من الفتن
  طَلَاقَةُ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ فِي الْعَطَاءِ وَالْمَنْعِ
  الزَّكَاةُ وَالصَّدَقَاتُ وَدَوْرُهُمَا فِي التَّنْمِيَةِ الْمُجْتَمَعِيَّةِ
  التَّحْذِيرُ مِنَ الْغَفْلَةِ وَالْبَغْتَةِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ
  ((اغْتِنَامُ عَهْدِ الشَّبَابِ فِي بِنَاءِ الذَّاتِ)) -إِتْقَانُ الْعِبَادَةِ وَإِتْقَانُ الْعَمَلِ-
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان