نَصَائِحُ الْنَّبِيِّ الأَمِين لِتُجَّارِ المُسْلِمِين

نَصَائِحُ الْنَّبِيِّ الأَمِين لِتُجَّارِ المُسْلِمِين

«نَصَائِحُ الْنَّبِيِّ الأَمِين لِتُجَّارِ المُسْلِمِين»

جمعٌ وترتيبٌ مِن خُطَبِ الشيخِ العلَّامة:

أبي عبد الله مُحَمَّد بن سَعِيد رَسْلَان -حَفِظَهُ اللهُ-.

إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.

وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.

وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

«الأمانةُ في العملِ»

اللهُ ربُّ العالمين أمرَ بأداءِ الأماناتِ، وأداءُ الأماناتِ يدخلُ فيه كلُّ شيءٍ في الحياةِ، فالعباداتُ أمانةٌ، والخيانةُ فيها أنْ تُنْتَقصَ، فإذا انْتَقَصَ الإنسانُ مِن العبادةِ فهو خائنٌ، والمعاملاتُ أمانةٌ، وما يُستَأْمَنُ عليه المرءُ أَمَانَةٌ، والسِّرُّ أمانةٌ، وكلُّ أمرٍ تعلَّقَ به أمرٌ ونهيٌ في دينِ اللهِ تبارك وتعالى- فهو أمانةٌ، والخيانةُ فيه ألَّا يُؤتَى به على الوجهِ الشرعيِّ المطلوب.

فإذا كان إنسانٌ في عملٍ، فالعملُ الذي استُؤمِنَ عليه أَمَانَةٌ، فإذا خَانَ فيه فهو خائنٌ، وجزاءُ الخائنِ معلومٌ، وكلُّ مَن أُسنِدَ إليه عَمَلٌ؛ فَلَمْ يَأْتِ به على وَجْهِهِ فقَدْ أَكَلَ مِن حَرَامٍ إنْ كان مُتَحَصِّلًا مِن وَرَاءِ ذلك على أَجْرٍ شَاءَ أمْ أبَى-(1).

«ترهيبُ النبيِّ ﷺ مِن الغِشِّ في البيعِ والشراءِ»

لَقَدْ رَهَّبَ النَّبِيُّ ﷺ مِنَ الغِشِّ، وَرَغَّبَ فِي النَّصِيحَةِ فِي البَيْعِ وَغَيْرِهِ.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ؛ فَلَيْسَ مِنَّا، وَمَنْ غَشَّنَا؛ فَلَيْسَ مِنَّا». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ(2) طَعَامٍ، فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا, فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلًا، فَقَالَ: «مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟!»

قَالَ: أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ.

قَالَ: «أَفَلَا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ؟ مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، قَالَ: «المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ، وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ إذا بَاعَ مِنْ أَخِيهِ بَيْعًا فِيهِ عَيْبٌ أَنْ لَا يُبَيِّنَهُ لَهُ». أَخْرَجَهُ أَحْمَد وَالطَّبَرَانِيُّ فِي «الكَبِيرِ»، وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ فِي «صَحِيحِ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ».

 

«تَرْغِيبُ النَّبِيِّ ﷺ فِي السَّمَاحَةِ فِي البَيْعِ وَالشِّرَاءِ»

النَّبِيُّ ﷺ رَغَّبَ فِي السَّمَاحَةِ فِي البَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَحُسْنِ التَّقَاضِي وَالقَضَاءِ:

فَعَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «رَحِمَ اللهُ رَجُلًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ، سَمْحًا إِذَا اشْتَرَى، سَمْحًا إِذَا اقْتَضَى». رَوَاهُ البُخَارِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ وَاللَّفْظُ لَهُ, وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ, وَلَفْظُهُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «غَفَرَ اللهُ لِرَجُلٍ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانَ سَهْلًا إِذَا بَاعَ، سَهْلًا إِذَا اشْتَرَى، سَهْلًا إِذَا اقْتَضَى».

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «مَنْ كَانَ هَيِّنًا لَيِّنًا قَرِيبًا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ». رَوَاهُ الحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ. وَهُوَ صَحِيحٌ لِغَيْرِهِ.

*******

«تَطْفِيفُ المَكَايِيلِ وَالمَوَازِينِ مِنْ كَبَائِرِ الإِثْمِ وَعَظَائِمِ الذُّنُوبِ»

وَمِنْ كَبائِرِ الإِثْمِ، وَعَظَائِمِ الذُّنُوبِ: تَطْفِيفُ المَكَايِيلِ وَالمَوَازِينِ.

وَالتَّطْفِيفُ: البَخْسُ وَالنَّقْصُ؛ فَهُوَ مُطَفِّفٌ، وَالجَمْعُ: مُطَفِّفُونَ.

وَالمَكَايِيلُ: جَمْعُ: مِكْيَالٍ، وَهُوَ وُعَاءُ الكَيْلَ.

وَالكَيْلُ: تَحْدِيدُ مِقْدَارِ الشَّيءِ بِوَاسِطَةِ آلَةٍ مُعَدَّةٍ لِذَلِكَ تُسَمَّى المِكْيَالَ.

وَالمَوَازِينُ: جَمْعُ: مِيزَانٍ، وَهُوَ آلَةُ الوَزْنِ، وَالوَزْنُ: تَقْدِيرُ الشَّيءِ بِوَاسِطَةِ المِيزَانِ.

وَمِنْ نِعَمِ اللهِ عَلَى العِبَادِ وُجُودُ هَذِهِ الأَوْعِيَةِ وَالآلَاتِ الَّتِي تُساعِدُهُمْ عَلَى تَحْدِيدِ مَقَادِيرِ المَوْزُونَاتِ وَالمَكِيلَاتِ، فَيَأْخُذُ الشَّخْصُ مَا يَجِبُ لَهُ تَامًّا، وَيُعْطِي مَا لِغَيْرِهِ عَلَى وَجْهِ التَّمَامِ أَيْضًا.

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: ﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9)﴾ [الرحمن: 7-9].

وَقَالَ ﷺ فِي رِعَايَةِ المَوَازِينِ: «إِذَا وَزَنْتُمْ؛ فَأَرْجِحُوا»(1).

وَأَوْضَحُ آيَةٍ فِي القُرْآنِ المَجِيدِ تَجْعَلُ التَّلاعُبَ فِي المَكَايِيلِ وَالمَوَازِينِ كَبِيرَةً مُوبِقَةً مُهْلِكَةً؛ هِيَ قَوْلُ اللهِ جَلَّ وَعَلَا-: ﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)﴾ [المطففين: 1-6].

وَالوَيْلُ فِي أَحَدِ الأَقْوَالِ: وَادٍ فِي جَهَنَّمَ يَتَهَدَّدُ بِهِ الرَّبُّ -جَلَّ وَعَلَا- أُولَئِكَ الَّذِينَ خَانُوا أَمَانَاتِهِمْ، وَبَاعُوا ذِمَمَهُمْ، وَتَعَدَّوْا عَلَى حُقُوقِ الآخَرِينَ(2).

﴿وَيْلٌ﴾: كلمةُ عذابٍ وعقاب ﴿لِلْمُطَفِّفِينَ﴾: فسَّرَها اللهُ تبارك وتعالى- بأنهم أي: المُطففين- ﴿الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ﴾: أي أَخَذُوا منهم وَفَاءً لهم عَمَّا قِبَلَهُم، يستوفونهُ كاملًا مِن غيرِ نقصٍ، ﴿وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ﴾: أي إذا أَعْطَوْا النَّاسَ حَقَّهُم الذي لهم عليهم بِكَيْلٍ أو وزنٍ ﴿يُخْسِرُونَ﴾: أي يَنْقُصُونَهُم ذلك إمَّا بمكيالٍ وميزانٍ نَاقِصَيْن أو بعدمِ مَلءِ المِكْيَالِ والميزانِ أو بغيرِ ذلك، فهذا سَرَقَةٌ لأموالِ الناسِ وعدمُ إِنْصَافٍ لهم منهم، وإذا كان هذا وعيدًا على الذين يَبْخَسُونَ الناسَ بالمكيالِ والميزانِ، فالذي يأخذُ أموالَهُم قَهْرًا وَسَرَقَةً أَوْلَى بهذا الوعيدِ مِن المُطَفِّفين.

 

ودلَّت الآيةُ الكريمةُ على أنَّ الإنسانَ كما يأخذُ مِن الناسِ الذي له يجبُ عليه أنْ يُعطيَهُم كلَّ ما لهم مِن الأموالِ والمعاملات، بل يدخلُ في عمومِ هذا الحُجَجُ والمقالات، فإنه كما أنَّ المُتَنَاظِرَيْن قَد جَرَت العادةُ أنَّ كلَّ واحدٍ منهما يحرِصُ على ما له مِن الحُجَجِ؛ فَيَجِبُ عليه أيضًا أنْ يُبيِّنَ ما لخَصْمِهِ مِن الحُجةِ التي لا يعلمُهَا، وأنْ يَنْظُرَ في أدلةِ خَصْمِهِ كما ينظرُ في أدلتِهِ هو، وفي هذا المَوْضِعِ يُعْرَفُ إنصافُ الإنسانِ مِن تعصُّبِهِ، واعْتِسَافُهُ وتواضعُهُ مِن كِبرِهِ، وعقلًهُ مِن سفهِهِ نسأل اللهَ التوفيقَ لكل خير-.

ثم تَوَعَّدَ اللهُ جَلَّ وَعَلَا- المُطَفِّفين، وعجَّبَ مِن حالِهِم وإقامتِهِم على ما هم عليه فقال: ﴿أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)﴾: فالذي جرَّأَهُم على التَّطْفِيفِ عَدَمُ إيمانِهِم باليومِ الآخر، وإلَّا فَلَو آمَنُوا به وعَرَفُوا أنهم سَيقومونَ بين يدي الله، فيُحَاسِبُهُم على القليلِ والكَثِيرِ لَأَقْلَعُوا عن ذلك وَتَابُوا منه.

فَبَيَّنَ لنا ربُّنا تبارك وتعالى- في الكتابِ العزيزِ أنَّ الذي يُصِيبُ النَّاسَ ممَّا يَكْرَهُونَهُ مِن الغلاءِ والبَلَاءِ والشَّقَاءِ والفَقْرِ والمُعَانَاة؛ فَإِنَّمَا هو بذنوبِهِم ولا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا، وإذا أَرَادَ النَّاسُ أنْ يَخْرُجُوا مِن هَذَا كُلِّهِ إلى مَا تُحِبُّهُ أَنْفُسُهُم فَعَلَيْهِم أَنْ يَتُوبُوا إلى اللهِ، وأنْ يَسْتَغْفِرُوهُ، وأنْ يَعْمَلُوا بِمَرَاضِيهِ، وأنْ يُقْلِعُوا عن مَسَاخِطِهِ(1).

إِنَّ هَذَا الدَّاءَ الخَطِيرَ إِنَّمَا يَنْشَأُ عَادَةً مِنْ جَشَعِ النَّفْسِ، وَخَرَابِ الضَّمِيرِ، وَقِلَّةِ الخَشْيَةِ مِنَ اللهِ رَبِّ العَالَمِينَ.

وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- يَمُرُّ بِالبَائِعِ، فَيَقُولُ: «اتَّقِ اللهَ، وَأَوْفِ الكَيْلَ وَالوَزْنَ، فَإِنَّ المُطَفِّفِينَ يُوقَفُونَ، حَتَّى إِنَّ العَرَقَ لَيُلْجِمُهُمْ إِلَى أَنْصَافِ آذَانِهِمْ».

 

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- لِأَصْحَابِ الكَيْلِ وَالوَزْنِ: «إِنَّكُمْ قَدْ وُلِّيتُمْ أَمْرًا فِيهِ هَلَكَتِ الأُمَمُ السَّابِقَةُ قَبْلَكُمْ».

قَالَ بَعْضُ الصَّالِحِينَ: «وَيْلٌ ثُمَّ وَيْلٌ لِمَنْ يَبِيعُ بِحَبَّةٍ يُنْقِصُهَا جَنَّةً عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ؛ وَيَشْتَرِي بِحَبَّةٍ يَزِيدُهَا وَادِيًا فِي جَهَنَّمَ يُذِيبُ جِبَالَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا».

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ؛ فَقَالَ: «وَلَمْ يُنْقِصُوا المِكْيَالَ وَالمِيزَانَ إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ، وَشِدَّةِ المَئُونَةِ، وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ»(1).

«ترهيبُ النَّبِيِّ ﷺ مِنَ الِاحْتِكَارِ»

وَقَدْ رَهَّبَ النَّبِيُّ ﷺ مِنَ الِاحْتِكَارِ.

وَالِاحْتِكَارُ: هُوَ شِرَاءُ الشَّيْءِ وَحَبْسُهُ لِيَقِلَّ بَيْنَ النَّاسِ؛ فَيَغْلُوَ سِعْرُهُ، وَيُصِيبَهُمُ بِسَبَبِ ذَلِكَ الضَّرَرُ.

وَالِاحْتِكَارُ حَرَّمَهُ الشَّارِعُ وَنَهَى عَنْهُ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ الجَشَعِ، وَالطَّمَعِ، وَسُوءِ الخُلُقِ، وَالتَّضْيِيقِ عَلَى النَّاسِ.

رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ مَعْمَرٍ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «مَنِ احْتَكَرَ؛ فَهُوَ خَاطِئٌ». أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ, وَفِي رِوَايَةٍ: «لَا يَحْتَكِرُ إِلَّا خَاطِئٌ»، وَالخَاطِئُ: الآثِمُ، وَالمَعْنَى لا يَجْتَرِئُ عَلَى هَذَا الفِعْلِ الشَّنِيعِ إِلَّا مَنِ اعْتَادَ المَعْصِيَةَ.

وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الِاحْتِكَارَ المُحَرَّمَ هُوَ الاحْتِكَارُ الَّذِي تَوَفَّرَ فِيهِ شُرُوطٌ ثَلَاثَةٌ:

1- أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ المُحْتَكَرُ فَاضِلًا عَنْ حَاجَتِهِ وَحَاجَةِ مَنْ يَعُولُهُمْ سَنَةً كَامِلَةً؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَدَّخِرَ الإِنْسانُ نَفَقَتَهُ وَنَفَقَةَ أَهْلِهِ هَذِهِ المُدَّةَ، كَمَا كَانَ يَفْعَلُهُ -أَحْيَانًا- رَسُولُ اللَّهِ ﷺ.

2- وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَدِ انْتَظَرَ الوَقْتَ الذِي تَغْلُو فِيهِ السِّلَعُ لِيَبِيعَ بِالثَّمَنِ الفَاحِشِ لِشِدَّةِ الحَاجَةِ إِلَيْهِ.

3- وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الِاحْتِكَارُ فِي الوَقْتِ الَّذِي يَحْتَاجُ النَّاسُ فِيهِ إِلَى المَوَادِّ المُحْتَكَرَةِ مِنَ الطَّعَامِ، وَالثِّيابِ، وَنَحْوِهَا.

فَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ المَوَادُّ لَدَى عَدَدٍ مِنَ التُّجَّارِ وَلَكِنْ لَا يَحْتَاجُ النَّاسُ إِلَيْهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُعَدُّ احْتِكَارًا، حَيْثُ لَا ضَرَرَ يَقَعُ بِالنَّاسِ.

«مُعَانَاةُ الأُمَّةِ اليَوْم مِن الاحْتِكَارِ وَنَصِيحَةٌ للمُحْتَكِرِينَ»

وَالأُمَّةُ تُعَانِي فِي هَذَا الوَقْتِ مِنْ هَذَا الدَّاءِ الوَبِيلِ الَّذِي حَرَّمَهُ الشَّرْعُ الشَّرِيفُ، وَنَدَّدَ النَّبِيُّ ﷺ بِمَنْ فَعَلَهُ؛ وَهُوَ الِاحْتِكَارُ، فَإِنَّ أَكْثَرَ التُّجَّارِ الَّذِينَ يُتَاجِرُونَ فِي السِّلَعِ الغِذَائِيَّةِ، وَمَا أَشْبَهَ مِمَّا يَحْتَاجُهُ النَّاسُ حَاجَةً مَاسَّةً، يَقُومُونَ بِهَذَا العَمَلِ الشَّنِيعِ، وَيَتَوَفَّرُونَ عَلَى صَنِيعِهِ، مِمَّا يُؤَدِّي بِالأُمَّةِ إِلَى الوُقُوعِ فِي الفَوْضَى، وَالِاضْطِرَابِ فِي النِّظَامِ، وَهَذَا كُلُّهُ إِنَّمَا يُعَجِّلُ بِالوُصُولِ إِلَى غَايَةِ المُؤَامَرَةِ الَّتِي يَأْتَمِرُ بِهَا وَفِيهَا أَعْدَاءُ الإِسْلَامِ.

فَأَمْثَالُ هَؤُلَاءِ يَدْعُوهُمْ جَشَعُهُمْ، وَعَدَمُ حِرْصِهِمْ عَلَى آخِرَتِهِمْ، إِلَى إِنْفَاذِ هَذَا المُخَطَّطِ المَلْعُونِ، الَّذِي يُؤَدِّي فِي النِّهَايَةِ إِلَى دُخُولِ الأُمَّةِ فِي المَأْزِقِ الَّذِي لَا مَخْرَجَ لَهَا مِنْهُ، وَهَذَا كُلُّهُ يَصْنَعُونَهُ لِشَيْءٍ مَوْهُومٍ، فَإِنَّهُ إِذَا وَقَعَتِ الفَوْضَى، أَوْ سَقَطَتِ الدَّوْلَةُ، أَوْ ذَهَبَ النِّظَامُ، فَإِنَّ أَصْحَابَ الأَمْوَالِ لَنْ يَنْتَفِعُوا بِأَمْوَالِهِمْ، وَمَا سَيَكُونَ عِنْدَهُمُ حِينَئِذٍ مِنَ الأَمْوَالِ؛

فَإِنَّهَا لَا تُسَاوِي الوَرَقَ الَّذِي طُبِعَتْ عَلَيْهِ، وَهَذَا يَقْضِي بِهِ العَقْلُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الوَاقِعُ، وَالسَّعِيدُ مَنِ اتَّعَظَ بِغَيْرِهِ.

«إِجْمَاعُ الفُقَهَاءِ عَلَى تَحْرِيمِ الاحْتِكَارِ»

وَقَدْ اتَّفَقَ الفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الِاحْتِكَارَ يَكُونُ فِي حَالِ الضِّيقِ وَالضَّرُورَةِ، لَا فِي وَقْتِ السَّعَةِ؛ وَفِي البَلَدِ الصَّغِيرِ عَادَةً؛ وَمِنْ طَرِيقِ الشِّرَاءِ وَالامْتِنَاعِ عَنِ البَيْعِ مِمَّا يَضُرُّ بِالنَّاسِ؛ لِأَنَّ فِي الحَبْسِ ضَرَرًا بِالمُسْلِمِينَ.

«الِاحْتِكَارُ لِقُوتِ الدَّوَابِّ مُحَرَّمٌ، فَكَيْفَ بِاحْتِكَارِ أَقْوَاتِ المسْلِمِينَ؟!»

فَلْيَتَّقِ اللهَ أَقْوَامٌ لَا يَنْظُرُونَ إِلَى مَآلَاتِ الأُمُورِ، وَلْيَحْرِصُوا عَلَى أَنْ يُرْضُوا اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَلْيَعْلَمُوا أَنَّ كُلَّ لَحْمٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ؛ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ.

وَعَلَيْهِمُ أَنْ يَتَّقُوا اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي دِينِهِمْ، وَفِي إِخْوَانِهِمْ مِنَ المُسْلِمِينَ، وَعَلَيْهِمُ أَنْ يَتَّقُوا اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي الدَّوَابِّ؛ فَإِنَّ الِاحْتِكَارَ لِقُوتِ الدَّوَابِّ وَالبَهَائِمِ مِمَّا حَرَّمَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- -كَمَا مَرَّ-.

 فَإِنَّ هَذَا الِاحْتِكَارَ لِقُوتِ الدَّوَابِّ لَا يَجُوزُ، بَلْ هُوَ مُحَرَّمٌ، فَكَيْفَ بِاحْتِكَارِ أَقْوَاتِ البَشَرِ، أَقْوَاتِ المسْلِمِينَ؟!

عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَّقُوا اللهَ-تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَأَنْ يَفِيئُوا إِلَيْهِ، وَأَنْ يَخْرُجُوا مِنْ مَعَاصِيهِمْ، بِالإِقْبَالِ عَلَى اللهِ-تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَبَذْلِ مَا فِي أَيْدِيهِمْ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ-وَهُوَ عَلَى عَكْسِ مَا يَفْعَلُونَ-: «مَنْ كَانَ عِنْدَهُ فَضْلُ زَادٍ، فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا زَادَ لَهُ، مَنْ كَانَ عِنْدَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ، فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا ظَهْرَ لَهُ، مَنْ كَانَ عِنْدَهُ فَضْلُ ثَوْبٍ، فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا ثَوْبَ لَهُ». فَمَازَالَ يُعَدِّدُ مِنْ أَصْنَافِ الفَضْلِ، حَتَّى ظَنَّ الصَّحَابَةُ أَنَّهُ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ فِي الفَضْلِ؛ يَعْنِي فِي الزِّيَادَةِ عَمَّا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْ ثِيَابٍ أَوْ طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ أَوْ مَرْكُوبٍ أَوْ مَا أَشْبَهَ.

إِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فِي المُوَاسَاةِ بَيْنَ المُسْلِمِينَ، فَكَيْفَ بِهَذَا العَمَلِ الشَّنِيعِ: وَهُوَ احْتِكَارُ مُتَطَلَّبَاتِ المُسْلِمِينَ وَحَبْسُهَا حَتَّى يَغْلُوَ سِعْرُهَا وَثَمَنُهَا مِنْ أَجْلِ أَنْ يَتَكَسَّبُوا بِمُسْتَقْبَلِ بَلَدِهِمُ المُسْلِمِ، حَتَّى يَنْهَارَ وَحَتَّى تَضْمَحِلَّ قُوَى الإِسْلَامِ فِيهِ؟! فَهَذِهِ خِيَانَةٌ عُظْمَى.

وَأُولُو الأَمْرِ لَهُمْ-كَمَا حَدَّدَ الشَّرْعُ- أَنْ يَأْخُذُوا عَلَى أَيْدِي هَؤُلَاءِ-وَلَا يُبَالُونَ- مِنْ أَجْلِ إِعَادَةِ الأَمْرِ إِلَى نِصَابِهِ، مَعَ عَدَمِ ظُلْمِهِمْ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ مَا احْتَكَرُوهُ بِثَمَنِ المِثْلِ، وَلَوْ عَذَّرَهُمْ وَلِيُّ الأَمْرِ بِأَنْ أَخَذَ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ المُحْتَكَرَاتِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ لِيَرُدَّهَا عَلَى المُحْتَاجِينَ؛ فَلَعَلَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ(1).

«احْتِكَارُ العُمْلَةِ والسِّلَعِ وَآثَارُهُ الخَطِيرَة عَلَى المُسْلِمِين»

وممَّا هو فاشٍ بين الناسِ، ويُؤدي إلى تَحقيقِ مُخَطَّطَاتِ ومُؤامَرَاتِ الأعداءِ على هذه الأُمةِ ما يقومُ به كثيرٌ مِن الناسِ مِن تَخْبِئَةِ العُمْلَةِ إذا وَقَعَت في أيديهم؛ لأنَّ الدولةَ تَجْهَدُ ما تَجْهَدُ مِن أَجْلِ توفيرِهَا، فإذا ما وُجِدَت ذَهَبَت في جُبٍّ عميقٍ؛ لأنَّ الناسَ يَأْخَذُونَهَا ليَكْنِزُوهَا مِن أَجْلِ أنْ يُتاجِرُوا فيها بعد، فَتَشْتَدُّ الأَزْمَةُ ولا تَنْفَرِجُ.

وكذلك ما يَفْعَلُهُ كثيرٌ مِن البائعين إلَّا مَن رَحِمَ اللهُ ربُّ العالمين، فإنهم يفتعلونَ بالاحتكارِ الأزْمَات، وتكونُ السِّلَعُ قد وَفَّرَهَا اللهُ تبارك وتعالى- للخَلْقِ في الأرضِ وتكونُ في مُتَنَاولِهِم، فَيَقَعُ التَّلَاعُبُ، وَتَقَعُ الخيانةُ للدينِ؛

 

 

لأنَّ هذا يُؤدي إلى مرورِ ما يُريدُهُ بهذه الأمةِ حتى يستقرَّ على قرارِهِ القبيح؛ لأنَّ الحربَ الآن إنما هي في الاقتصاد، مِن أجلِ إحداثِ المعاناةِ والغلاءِ والمشقةِ بهذا الشعبِ الأمين، فإذا ما لم يُطِق؛ فإنه يَنْتَفِض، وإنما تبدأُ ثورتُهُ بعد ذلك مِن مَعِدَتِهِ.

«العوام إذا وفَّرَ لهم الحاكمُ الخبزَ والزيتَ والسكر قالوا: هو أميرُ المؤمنين!!»

ومعلومٌ أنَّ العَوَامَّ إذا وَفَّرَ لهم الحاكمُ الخبزَ والزيتَ والسكر قالوا: هو أميرُ المؤمنين!! وأمَّا إذا ما شحَّ ذلك قالوا: هو المسيحُ الدَّجَّالُ!! فتبدأُ ثوراتُ هؤلاء لأنهم جهلةٌ لا يعلمون، وإنما يُحرِّكُهُم مِن مَعِدَاتِهِم وَمُعَانَاتِهِم إخوانُ الشياطين، تبدأُ ثَوْرَاتُهُم مِن مَعِدَاتِهِم، لا مِن عقولِهِم ولا مِن قلوبِهِم ولا مِن دينِهِم، ولا حِفَاظًا على كرامتِهِم، ولا غيرِ ذلك ممَّا يدَّعُون.

فَعَلَى كلِّ مَن آتاهُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى- طَرَفًا ممَّا ذَكَرْتُ أنْ يتقيَ الله فيه، لأنه إذا اتقَى اللهَ فيه؛ اتقى اللهَ في دينِهِ، واتق اللهَ في وطنِهِ، حتى لا يسقُط؛ لأنه نسألُ اللهَ أنْ يحميَهُ مِن ذلك وأنْ يَعْصِمَهُ- إذا سَقَطَ هذا الوطنُ فلا قيامَ له بعدُ -نسألُ اللهَ لنا وله السلامةَ والمعافاة-.

على المُسْلمِ أنْ يلتفتَ إلى ما جاء عن ربِّهِ وما وردَ عن نبيِّهِ ﷺ، وأنْ يتقيَ اللهَ تبارك وتعالى- في نفسِهِ، في لحمِهِ ودمِهِ وعظامِهِ، وفي أهلِهِ وفي أبنائِهِ، فكلُّ لحمٍ نبَتَ مِن سُحتٍ فالنارُ أَوْلَى به(1).

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.

 

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ

الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ هُوَ يَتَوَلَّى الصَالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ-, صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَومِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((رغَّبَ النبي ﷺ التُّجَّارَ في الصدقِ،

ورهَّبَهُم مِن الكَذِبِ ومِن الحَلَفِ وإنْ كانوا صادقين))

فقد رغَّبَ النبي ﷺ التُّجَّارَ في الصدقِ، ورهَّبَهُم مِن الكَذِبِ ومِن الحلفِ وإنْ كانوا صادقين، عن أبي سعيدٍ الخُدريِّ رضي الله عنه- عن النبيِّ ﷺ قال: «التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الأَمِينُ مع النَّبيِّينَ والصِّدِّيقِينَ والشُّهَدَاءِ». رواه الترمذيُّ وقال: «حديثٌ حسن»، وقال الألبانيُّ: «صحيحٌ لغيرِهِ»، ورواهُ ابنُ ماجه عن ابنِ عُمَرَ ولفظُهُ، قال رسول الله ﷺ: «التاجرُ الأمينُ الصَّدُوقُ المُسلمُ مع الشهداءِ يومَ القيامة». وهو حسنٌ صحيحٌ.

وعن حكيم بن حِزَام رَضِيَ اللهُ عَنْهَ- أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا الْبَيِّعَانِ وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَتَمَا وَكَذَبَا فَعَسَى أَنْ يَرْبَحَا رِبْحًا وَيُمْحَقَا بَرَكَةَ بَيْعِهِمَا». متفقٌ عليه.

وفي الحديثِ: «اليمينُ الفاجِرَةُ مَنْفَقَةٌ للسِّلْعَةِ مَمْحَقَةٌ للكَسْبِ». رواه البخاريُّ ومسلمٌ.

 

 

وعن إسماعيل بن عُبيد بن رفاعة عن أبيه عن جَدِّهِ أنه خَرَجَ مع رَسُولِ اللهِ ﷺ إلى المُصَلَّى، فَرَأَى النَّاسَ يَتَبَايَعُونَ، فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ التُّجَّارِ»، فَاسْتَجَابُوا لرسولِ اللهِ ﷺ وَرَفَعُوا أَعْنَاقَهُم وَأَبْصَارَهُم إِلَيْهِ، فَقَالَ: «إِنَّ التُّجَّارَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ القِيامَةِ فُجَّارًا إِلَّا مَن اتَّقَى اللهَ وَبَرَّ وَصَدَقَ». أَخْرَجَهُ الترمذيُّ وابنُ مَاجَه وابنُ حِبَّان وهو حديثٌ صَحِيحٌ.

وعن عبد الرحمن بن شْبْلٍ -رضي الله عنه- قالَ: سَمِعْتُ رسول الله ﷺ يقول: «إِنَّ التُّجَّارَ هُم الفُجَّارُ».

قالوا: يَا رَسُول اللهَ؛ أَلَيْسَ قَد أَحَلَّ اللهُ البَيْعَ؟

قالَ: «بَلَى وَلَكِنَّهُم يَحْلِفُونَ فَيَأثَمُونَ ويُحَدِّثُونَ فَيَكْذِبُونَ». أَخْرَجَهُ أحمد والحاكمُ وصَحَّحَهُ وهو كَمَا قَالَ.

وعن أبي ذَرٍّ -رضي اللهُ عنه- عن النبيِّ ﷺ قال: «ثَلَاثَةٌ لَا يَنْظُرُ اللهُ إِلَيْهِم يَوْمَ القِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِم وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ».

قَالَ: فَقَرَأَهَا رسولُ اللهِ ﷺ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.

فَقُلْتُ: خَابُوا وَخَسِرُوا، وَمَن هُم يَا رَسُولَ اللهِ؟

قال: «المُسْبِلُ -يَعْنِي إِزَارَهُ- وَالمَنَّانُ والمُنَفِّقُ -أي: المُرَوِّجُ- سَلْعَتَهُ بِالحَلَفِ الكَاذِبِ».

رَوَاهُ مُسْلِمٌ  في «صَحِيحِهِ».

وفي روايةٍ: «المُسْبِلُ إِزَارَهُ، والمَنَّانُ عَطَاءَهُ، وَالمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالحَلَفِ الكَاذِبِ».

وعن سَلْمَان -رَضِيَ اللهُ عنه- قال: قالَ رسولُ اللهِ ﷺ: «ثَلَاثَةٌ لَا يَنْظُرُ اللهُ إِلَيْهِم يَوْمَ القِيَامَةِ أُشَيْمِط زَانٍ -وَهُو مَن ابْيَضَّ شَعْرُ رَأْسِهِ مِن الكِبَرِ، وَمَعَ ذَلِكَ يَقَعُ في فَاحِشَةِ الزِّنَا- وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ -والعَائِلُ: الفَقِيرُ- وَرَجُلٌ جَعَلَ اللهَ بِضَاعَتَهُ لَا يَشْتَرِي إِلَّا بِيَمِينِهِ وَلَا يَبِيعُ إِلَّا بِيَمِينِهِ».

رَوَاهُ الطبرانيُّ في «الكبير» وفي «الصغير» و«الأوسط» إلَّا أَنَّهُ قَالَ فيهما: «ثَلَاثَةٌ لا يُكَلِّمُهُم اللهُ وَلَا يُزَكِّيهِم وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ».

فَذَكَرَهُ.

وعن أبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عنه- قال: قالَ رسولُ اللهِ ﷺ: «ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُم اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِم وَلَا يُزَكِّيهِم وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ: رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ بِفَلَاةٍ يَمْنَعُهُ ابنَ السَّبِيلِ، وَرَجُلٌ بَايَعَ رَجُلًا بِسِلْعَتِهِ بَعْدَ العَصْرِ فَحَلَفَ بِاللهِ لأَخَذَهَا بِكَذَا وَكَذَا، فَصَدَّقَهُ فَأَخَذَهَا وَهُوَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَرَجُلٌ بَايَعَ إِمَامًا لَا يُبَايعُهُ إِلَّا للدُّنْيَا؛ فَإِنْ أَعْطَاهُ مِنْهَا مَا يُرِيدُ وَفَى لَهُ وإِنْ لَم يُعْطه لَم يَفِ»(1).

وفي روايةٍ نَحْوُهُ وقالَ: «وَرَجُلٌ حَلَفَ عَلَى سِلْعَتِهِ لَقَدْ أُعْطِيَ بِهَا أَكْثَرَ مِمَّا أُعْطِيَ وَهُوَ كَاذِبٌ، وَرَجُلٌ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، وَرَجُلٌ مَنَعَ فَضْلَ مَاءٍ، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: الْيَوْمَ أَمْنَعُكَ فَضْلِي كَمَا مَنَعْتَ فَضْلَ مَا لَمْ تَعْمَلْ يَدَاكَ». مُتَّفَقٌ عَلَيْه.

 

وعنه -رضي الله عنه- قال: قال رسولُ اللهِ ﷺ: «أَرْبَعَةٌ يُبْغِضُهُم اللهُ: البَيَّاعُ الحَلَّافُ، والفَقِيرُ المُخْتَالُ، والشَّيْخُ الزَّانِي، والإِمَامُ الجَائِرُ». أَخْرَجَهُ النَّسائيُّ وابنُ حِبَّان ومُسْلِمٌ بِنَحْوِهِ.

وعن أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- رَفَعَهُ إلى النبيِّ ﷺ قَالَ: «إِنَّ اللهَ يُحِبُّ ثَلَاثَةً ويُبْغِضُ ثَلَاثَةً -فَذَكَرَ الحَدِيثَ إِلَى أَنْ قَالَ: قُلْتُ: فَمَن الثَّلَاثَةُ الذِينَ يُبْغِضُهُم اللهُ؟

قالَ: «المُخْتَالُ الفَخُورُ وَأَنْتُم تَجِدُونَهُ في كِتَابِ اللهِ المُنْزَّلِ ﴿إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ [لقمان: 81]، والبَخِيلُ المَنَّانُ، والتَّاجِرُ أو الباَئِعُ الحَلَّافُ».

أَخْرَجَهُ أبو داود والترمذيُّ والحاكِمُ، وهو حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

وعن أبي سعيد الخُدري -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قالَ: مَرَّ أَعْرَابِيٌّ بِشَاةٍ، فقُلْتُ تَبِيعُهَا بِثَلَاثَةِ دَرَاهِم؟

فَقَالَ: لَا والله، ثُمَّ بَاعَهَا، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لرسُولِ اللهِ ﷺ فَقَالَ: «بَاعَ آخَرَتَهُ بِدُنْيَاهُ».

أَخْرَجَهُ ابنُ حِبَّان بإسنادٍ حَسَنٍ.

وعن وَاثِلَةَ بن الأَسْقَع -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قالَ: كانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَخْرُجُ إِلَيْنَا وَكُنَّا

تُجَّارًا، وَكَانَ يَقُولُ: «يَا مَعْشَرَ التُّجَّارِ؛ إِيَّاكُم والكَذِب».

أَخْرَجَهُ الطبرانيُّ بإسنادٍ صحيحٍ لِغَيْرِهِ.

وعن أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: «الْحَلِفُ مُنَفِّقَةٌ لِلسِّلْعَةِ مُمْحِقَةٌ لِلْبَرَكَةِ».

رَوَاهُ الشَّيْخَان وأبو داود إلَّا أَنَّهُ قَالَ: «ممحقَةٌ للبَرَكَةِ».

وعن قتادة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «إِيَّاكُمْ وَكَثْرَةَ الْحَلِفِ فِي الْبَيْعِ فَإِنَّهُ يُنَفِّقُ ثُمَّ يَمْحَقُ».

أخرجه مسلم في «صحيحه».

المعنى لبعض الأحاديث الأخيرة:

((الذي يحتكرُ السلع، ويُضَيِّقُ على المسلمين؛ يُضَيِّقُ اللهُ تبارك وتعالى- عليه))

حضَّ النبيُّ ﷺ التُّجَّارَ على الصدقِ وعلى الأمانةِ، وحذَّرَهُم مِن الكذبِ والخيانةِ، ومعلومٌ أنَّ البيئةَ والزمانَ الذي نعيش يُمَهِّدَان لِمَا يُسَمَّى بِالغِنَى عن طريقِ أساليبِ تُجَّارِ الحروبِ، ففي مِثلِ هذا الوقتِ وهذه البيئةِ وهذه الأحوال التي قَدَّرَهَا اللهُ تبارك وتعالى- يَغْتَنِي كثيرٌ ممن لا خَلاقَ لهم في الآخرةِ مِن الخيانةِ والغِشِّ والاحتكارِ، يأخذونَ السِّلَعَ ثم يحتكرونَها؛ يعني يُغَيِّبُونَهَا ولا يُظِهرُونَهَا، حتى إذا شَحَّت في الأسواقِ وعلَا ثمنُهَا وغَلَا؛ فإنهم يُخرِجُونَهَا لإحداثِ هذا الغلاءِ الذي ترَوْنَ وتَسْمَعُونَ وَتُعَانُونَ.

قَالَ رَسُولُ اللهِ: «لَا يَحْتَكِرُ إِلَّا خَاطِئ».

فالذي يحتكرُ السلع، ويُضَيِّقُ على المسلمين؛ يُضَيِّقُ اللهُ تبارك وتعالى- عليه، ومهما جمعَ فإنه سيُحَاسَبُ عليه في الآخرة إن لم يُؤاخَذ به في الدنيا؛ مِن مرضٍ يَمْحَقُ ما عنده؛ لأنَّ هذا الذي أخذَ به وإنْ كان مَنْفَقَةً للسلعةِ يعني جَالِبًا لارتفاعِ السعرِ لها- إلَّا أنه مَمْحَقَةٌ للبركةِ، فلا يبقى عنده شيءٌ، فكلُّ هذا ممَّا يُبْهَرَجُ أمامَ العينِ وهو مِن فِعلِ الشيطانِ الرجيمِ.

علينا أنْ نتقي اللهَ في دينِنَا وفي بلدِنا فإنها على شَفَا، ثبَّتَهَا اللهُ وحَفِظَها وحمَاها وهو البرُّ الجوادُ الرحيمُ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.

**********************

صفحة تفريغات خطب الجمعة كاملة للعلَّامة رسلان -حفظهُ اللهُ-.

موقع تفريغات العلامة رسلان -حفظهُ اللهُ-.

www.rslantext.com

موقع تفريغ خطب علماء أهلِ السُّنة.

www.khotabtext.com

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  حَدِيثُ الْقُرْآنِ عَنْ بُغَاةِ الْفِتْنَةِ وَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ
  خِدْمَةُ الْمُجْتَمَعِ بَيْنَ الْعَمَلِ التَّطَوُّعِيِّ وَالْوَاجِبِ الْكِفَائِيِّ وَالْعَيْنِيِّ
  هؤلاء يساندون التكفير والإرهاب
  التَّكَاتُفُ الْوَطَنِيُّ فِي التَّعَامُلِ مَعَ الْأَزْمَاتِ
  التَّضْحِيَةُ مِنْ أَجْلِ الأَوْطَانِ وَمُرَاعَاةُ المَصْلَحَةِ العُلْيَا لِلْأُمَّةِ
  دُرُوسٌ مِنَ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ
  ذِكْرُ اللهِ تَعَالَى وَأَثَرُهُ فِي اسْتِقَامَةِ النَّفْسِ الْبَشَرِيَّةِ
  الْأُسْرَةُ سَكَنٌ وَمَوَدَّةٌ
  التَّعْلِيمُ ضَرُورَةٌ شَرْعِيَّةٌ وَنَصَائِحُ غَالِيَةٌ لِلطُّلُّابِ
  الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان