فَضْلُ يَوْمِ عَرَفَةَ،وَالدُّرُوسُ الْمُسْتَفَادَةُ مِنْ خُطْبَةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ

فَضْلُ يَوْمِ عَرَفَةَ،وَالدُّرُوسُ الْمُسْتَفَادَةُ مِنْ خُطْبَةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ

((فَضْلُ يَوْمِ عَرَفَةَ،وَالدُّرُوسُ الْمُسْتَفَادَةُ مِنْ خُطْبَةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.

وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ, وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((فَضَائِلُ يَوْمِ عَرَفَةَ))

((يَوْمُ عَرَفَةَ يَوْمُ إِكْمَالِ اللهِ لِنَبِيِّهِ وَأُمَّتِهِ الدِّينَ))

فَيَوْمُ عَرَفَةَ هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي أَكْمَلَ اللهُ فِيهِ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ الدِّينَ، وَأَتَمَّ فِيهِ عَلَيْهِمُ النِّعْمَةَ؛ فَفِيهِ نَزَلَ قَوْلُ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة، 3].

وَلَمْ يَنْزِلْ بَعْدَهَا حَلَالٌ وَلَا حَرَامٌ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ عَاشَ بَعْدَهَا وَاحِدًا وَثَمَانِينَ يَوْمًا.

قَالَ الْبَغَوِيُّ: ((فَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ نَعْيَ رَسُولِ اللهِ ﷺ )).

وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ: ((جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؛ إِنَّكُمْ تَقْرَؤُونَ آيَةً فِي كِتَابِكُمْ لَوْ عَلَيْنَا -مَعْشَرَ الْيَهُودِ- نَزَلَتْ؛ لَاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا.

قَالَ: وَأَيُّ آيَةٍ؟

قَالَ: قَوْلُهُ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي}.

فَقَالَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: وَاللهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ الْيَوْمَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَالسَّاعَةَ الَّتِي نَزَلَتْ فِيهَا عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ؛ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ)).

وَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي يَوْمِ عِيدَيْنِ؛ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ، وَيَوْمِ عَرَفَةَ)).

((يَوْمُ عَرَفَةَ يَوْمُ الْعِتْقِ مِنَ النَّارِ وَالْمَغْفِرَةِ لِلسَّيِّئَاتِ))

وَفِي هَذَا الْيَوْمِ يَكْثُرُ عُتَقَاءُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنَ النَّارِ، وَيَجُودُ فِيهِ رَبُّنَا تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَيُبَاهِي بِهِمْ مَلَائِكَتَهُ الْمُقَرَّبِينَ.

رَوَى مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) بِسَنَدِهِ عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمُ الْمَلَائِكَةَ، يَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟)).

((مَا مِنْ يَوْمٍ)): ((مَا)): هِيَ الْحِجَازِيَّةُ الَّتِي تَعْمَلُ عَمَلَ ((لَيْسَ)).

وَ((يَوْمَ)): اسْمُهَا فِي مَحَلِّ رَفْعٍ، وَإِنْ كَانَ لَفْظُهُ مَجْرُورًا، مَجْرُورًا بِـ((مِنْ)) الزَّائِدَةِ الِاسْتِغْرَاقِيَّةِ، وَأَمَّا خَبَرُهَا؛ فَـ((أَكْثَرَ)).

((مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ)): ((مِنْ)): هَذِهِ أَيْضًا زَائِدَةٌ، ((أَنْ يُعْتِقَ)): مُؤَوَّلٌ بِالْمَصْدَرِ فِي مَوْضِعِ التَّمْيِيزِ.

 ((أَنْ يُعْتِقَ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ)): ((مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ)): الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ مُتَعَلِّقَانِ بِـ((أَكْثَرَ)).

((وإِنَّهُ لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمُ الْمَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟)): وَالْمَعْنَى: لَيْسَ يَوْمٌ أَكْثَرَ إِعْتَاقًا فِيهِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ.

*ثُبُوتُ نُزُولِ رَبِّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا نُزُولًا حَقِيقِيًّا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ يَوْمَ عَرَفَةَ:

فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ هَذَا رَضِيَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهَا-: إِثْبَاتُ صِفَةِ النُّزُولِ يَوْمَ عَرَفَةَ، عَلَى مَا يَلِيقُ بِجَلَالِ رَبِّنَا -جَلَّ وَعَلَا-؛ إِذْ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ.

قَالَ أَبُو سَعِيدٍ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ الِإْمَامُ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي كِتَابِهِ الْجَلِيلِ ((الرَّدُّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ)) وَقَدْ أَوْرَدَ جُمْلَةً مِنَ الْأَحَادِيثِ فِي نُزُولِ الرَّبِّ تَعَالَى فِي ثُلُثِ اللَّيْلِ الْآخِرِ، وَفِي يَوْمِ عَرَفَةَ، وَفِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ لِلْحِسَابِ، وَكَذَا لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، وَقَدْ صَحَّحَ ذَلِكَ ابْنُ حِبَّانَ، وَجَزَمَ الْأَلْبَانِيُّ بِثُبُوتِهِ بِاعْتِبَارِ مَجْمُوعِ الْأَحَادِيثِ، وَكَذَا نُزُولُهُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ.

فَذَكَرَ ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ: ((قَاَل أَبُو سَعِيدٍ -وَهِيَ كَانَتْ كُنْيِتَهُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: فَهَذِهِ الأَحَادِيثُ قَدْ جَاءَتْ كُلُّهَا -وَأَكْثَرُ مِنْهَا- فِي نُزُولِ الرَّبِّ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي هَذِهِ الْمَوَاطِنِ، وَعَلَى تَصْدِيقِهَا وَالإِيمَانِ بِهَا أَدْرَكْنَا أَهْلَ الْفِقْهِ وَالْبَصَرِ مِنْ مَشَايِخِنَا، لا يُنْكِرُهَا مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَلا يَمْتَنِعُ مِنْ رِوَايَتِهَا، حَتَّى ظَهَرَتْ هَذِهِ الْعِصَابَةُ يَعْنِي: الْجَهْمِيَّةَ وَالْمُعْتَزِلَةَ- فَعَارَضَتْ آثَارَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِرَدٍّ، وَتَشَمَّرُوا لِدَفْعِهَا بِجِدٍّ، فَقَالُوا: كَيْفَ نُزُولُهُ هَذَا؟

قُلْنَا: لَمْ نُكَلَّفْ مَعْرِفَةَ كَيْفِيَّةِ نُزُولِهِ فِي دُنْيَانَا وَلَا فِي دِينِنَا، وَلا تَعْقِلُهُ قُلُوبُنَا، وَلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ فَنُشَبِّهَ مِنْهُ فِعْلًا أَوْ صِفَةً بِفِعَالِهِمْ وَصِفَتِهِمْ، وَلَكِنْ يَنْزِلُ بِقُدْرَتِهِ، وَلُطْفِ رُبُوبِيَّتِهِ كَيْفَ يَشَاءُ.

فَالْكَيْفُ مِنْهُ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَالإِيمَانُ بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي نُزُولِهِ تَعَالَى وَاجِبٌ، وَلا يُسْأَلُ الرَّبُّ عَمَّا يَفْعَلُ كَيْفَ يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ؛ لأَنَّهُ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ أَنْ يَفْعَلَهُ كَيْفَ يَشَاءُ، وَإِنَّمَا يُقَالُ لِفِعْلِ الْمَخْلُوقِ الضَّعِيفِ الَّذِي لا قُدْرَةَ لَهُ إِلا مَا أَقْدَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ، فَيُقَالُ لَهُ: كَيْفَ يَصْنَعُ؟ وَكَيْفَ قَدَرَ؟!)).

وَأَطَالَ الرَّدَّ عَلَى تِلْكَ الْعِصَابَةِ الَّتِي تُعَطِّلُ الرَّبَّ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَنْ كَمَالَاتِهِ، فَنَفَوْا نُزُولَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.

((وَإِنَّهُ لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمُ الْمَلَائِكَةَ فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟)).

عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((وَقَفَ النَّبِيُّ ﷺ بِعَرَفَاتٍ، وَقَدْ كَادَتِ الشَّمْسُ أَنْ تَؤُوبَ، فَقَالَ: ((يَا بِلَالُ! أَنْصِتْ لِيَ النَّاسَ)).

فَقَامَ بِلَالٌ، فَقَالَ: أَنْصِتُوا لِرَسُولِ اللهِ ﷺ، فَأَنْصَتَ النَّاسُ.

فَقَالَ: ((مَعَاشِرَ النَّاسِ! أَتَانِي جِبْرِيلُ آنِفًا فَأَقْرَأَنِي مِنْ رَبِّي السَّلَامَ، وَقَالَ: إِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- غَفَرَ لِأَهْلِ عَرَفَاتٍ وَأَهْلِ الْمَشْعَرِ، وَضَمِنَ عَنْهُمُ التَّبِعَاتِ)).

فَقَامَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! هَذِا لَنَا خَاصَّةً؟

قَالَ: ((هَذِا لَكُمْ، وَلِمَنْ أَتَى مِنْ بَعْدِكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)).

فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: كَثُرَ خَيْرُ اللهِ وَطَابَ)). وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ لِغَيْرِهِ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ قَالَ: ((إِنَّ اللهَ يُبَاهِي بِأَهْلِ عَرَفَاتٍ أَهْلَ السَّمَاءِ، فَيَقُولُ لَهُمْ: انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي جَاءُونِي شُعْثًا غُبْرًا)). رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَقُولُ: ((إِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يُبَاهِي مَلَائِكَتَهُ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ بِأَهْلِ عَرَفَةَ، فَيَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي شُعْثًا غُبْرًا)). رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي ((الْكَبِيرِ)) وَ((الصَّغِيرِ))، وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمُ الْمَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ -كَمَا مَرَّ-.

وَزَادَ رَزِينٌ فِي ((جَامِعِهِ)) فِيهِ: ((اشْهَدُوا مَلَائِكَتِي! أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ))، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ عِنْدَهُ صَحِيحَةٌ لِغَيْرِهَا.

قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((وَأَمَّا وُقُوفُكَ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ؛ فَإِنَّ اللهَ يَهْبِطُ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، فَيُبَاهِي بِكُمُ الْمَلَائِكَةَ، يَقُولُ: عِبَادِي جَاءُونِي شُعْثًا مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، يَرْجُونَ جَنَّتِي؛ فَلَوْ كَانَتْ ذُنُوبُكُمْ كَعَدَدِ الرَّمْلِ، أَوْ كَقَطْرِ الْمَطَرِ، أَوْ كَزَبَدِ الْبَحْرِ لَغَفَرْتُهَا؛ أَفِيضُوا عِبَادِي مَغْفُورًا لَكُمْ، وَلِمَنْ شَفَعْتُمْ لَهُ)).

وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ حِبَّانَ، قَالَ: ((إِذَا وَقَفَ بِعَرَفَةَ يَعْنِي: الْحَاجَّ- فَإِنَّ اللهَ ( زج) يَنْزِلُ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي شُعْثًا غُبْرًا، اشْهَدُوا أَنِّي غَفَرْتُ لَهُمْ ذُنُوبَهُمْ، وَإِنْ كَانَتْ عَدَدَ قَطْرِ السَّمَاءِ، وَرَمْلِ عَالِجٍ...)) الْحَدِيثَ، رَوَاهُ الْبَزَّارُ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ قَالَ: ((إِنَّ اللهَ يُبَاهِي بِأَهْلِ عَرَفَاتٍ مَلَائِكَةَ السَّمَاءِ، فَيَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي هَؤُلَاءِ؛ جَاءُونِي شُعْثًا غُبْرًا)). رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَهُوَ كَمَا قَالَ.

وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمُ الْمَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَاذَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟)).

قَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي ((شَرْحِهِ عَلَى مُسْلِمٍ)): ((هَذَا الْحَدِيثُ ظَاهِرُ الدَّلَالَةِ فِي فَضْلِ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَهُوَ كَذَلِكَ)).

وَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ: عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ قُرْطٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((إِنَّ أَعْظَمَ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: يَوْمُ النَّحْرِ، ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ))؛ وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي يَلِي يَوْمَ النَّحْرِ؛ لِأَنَّ الْحَجِيجَ يَقَرُّونَ بِمِنًى.

قَالَ عِيسَى: ((قَالَ ثَوْرٌ -هُوَ ابْنُ يَزِيدَ-: وَهُوَ الْيَوْمُ الثَّانِي)).

وَحَدِيثُ ابْنِ قُرْطٍ صَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ))، وَظَاهِرُهُ: أَنَّ يَوْمَ النَّحْرِ وَيَوْمَ الْقَرِّ أَفْضَلُ الْأَيَّامِ، وَبِهِ جَزَمَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- فَقَالَ فِي ((الزَّادِ)): ((فَخَيْرُ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللهِ يَوْمُ النَّحْرِ وَهُوَ يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ كَمَا فِي ((السُّنَنِ)) عَنْهُ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((أَفْضَلُ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللهِ يَوْمُ النَّحْرِ، ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ)).

وَقِيلَ: يَوْمُ عَرَفَةَ أَفْضَلُ مِنْهُ، وَهذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، قَالُوا: لِأَنَّهُ يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، وَصِيَامُهُ يُكَفِّرُ سَنَتَيْنِ، وَمَا مِنْ يَوْمٍ يُعْتِقُ اللهُ فِيهِ الرِّقَابَ أَكْثَرَ مِنْهُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ، وَلِأَنَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَدْنُو فِيهِ مِنْ عِبَادِهِ، ثُمَّ يُبَاهِي مَلَائِكَتَهُ بِأَهْلِ الْمَوْقِفِ)).

قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: ((وَالصَّوَابُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ الدَّالَّ عَلَى ذَلِكَ لَا يُعَارِضُهُ شَيْءٌ يُقَاوِمُهُ، وَالصَّوَابُ أَنَّ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ هُوَ يَوْمُ النَّحْرِ؛ لِقَوْلِهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ} [التوبة: 3].

فَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)): أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعَلِيًّا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَذَّنَا بِذَلِكَ يَوْمَ النَّحْرِ، لَا يَوْمَ عَرَفَةَ.

وَفِي ((سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ)) بِأَصَحِّ إِسْنَادٍ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ يَوْمُ النَّحْرِ)).

وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَيَوْمُ عَرَفَةَ مُقَدِّمَةٌ لِيَوْمِ النَّحْرِ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَإِنَّ فِيهِ يَكُونُ الْوُقُوفُ، وَالتَّضَرُّعُ، وَالتَّوْبَةُ، وَالِابْتِهَالُ، وَالِاسْتِقَالَةُ، ثُمَّ يَوْمُ النَّحْرِ تَكُونُ الْوِفَادَةُ، وَتَكُونُ الزِّيَارَةُ.

وَلِهَذَا سُمِّيَ طَوَافُهُ طَوَافَ الزِّيَارَةِ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ طَهُرُوا مِنْ ذُنُوبِهِمْ يَوْمَ عَرَفَةَ، ثُمَّ أَذِنَ لَهُمْ رَبُّهُمْ يَوْمَ النَّحْرِ فِي زِيَارَتِهِ وَالدُّخُولِ عَلَيْهِ فِي بَيْتِهِ، وَلِهَذَا كَانَ فِيهِ ذَبْحُ الْقَرَابِينِ، وَحَلْقُ الرُّؤُوسِ، وَرَمْيُ الْجِمَارِ، وَمُعْظَمُ أَفْعَالِ الْحَجِّ، وَعَمَلُ يَوْمِ عَرَفَةَ كَالطُّهُورِ وَالِاغْتِسَالِ بَيْنَ يَدَيْ هَذَا الْيَوْمِ -يَعْنِي يَوْمَ النَّحْرِ-)).

((فَضْلُ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ لِغَيْرِ الْحَجِيجِ))

فِي ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ)) عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((ثَلَاثٌ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ؛ فَهَذَا صِيَامُ الدَّهْرِ كُلِّهِ)).

((صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ؛ أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ، وَصِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ؛ أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ)).

وَفِي لَفْظٍ: وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ، فَقَالَﷺ: ((يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ)).

وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ: تَكْفِيرُ الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ.

 وَقَالَ الْجُمْهُورُ: هَذَا خَاصٌّ بِالصَّغَائِرِ، وَالْكَبَائِرُ تُكَفَّرُ بِالتَّوْبَةِ.

وَقَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ بَازٍ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: ((كُلُّ ذَلِكَ مُقَيَّدٌ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ، بِالِاسْتِقَامَةِ عَلَى مَا أَوْجَبَ اللهُ، وَتَرْكِ الْكَبَائِرِ، وَأَنَّ هَذِهِ الْفَضَائِلَ وَهَذِهِ الْأَعْمَالَ مِنْ أَسْبَابِ الْمَغْفِرَةِ مَعَ الْأَسْبَابِ الْأُخْرَى الَّتِي شَرَعَهَا اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَمَعَ السَّلَامَةِ مِنَ الْمَوَانِعِ الَّتِي تَمْنَعُ الْمَغْفِرَةَ، وَذَلِكَ هُوَ الْإِصْرَارُ عَلَى الْكَبَائِرِ، كَمَا قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ}[آل عمران: 135].

فَشَرَطَ فِي هَذَا عَدْمَ الْإِصْرَارِ، وَالْإِصْرَارُ: هُوَ الْإِقَامَةُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَعَدَمُ التَّوْبَةِ مِنْهَا، وَهُوَ مِنْ أَسْبَابِ عَدَمِ الْمَغْفِرَةِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ)).

وَقَالَ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((فَالْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ وَمُسْلِمَةٍ: أَنْ يَحْذَرَ الِاتِّكَالَ عَلَى أَحَادِيثِ التَّرْغِيبِ وَالْوَعْدِ، وَالْإِعْرَاضَ عَنْ أَحَادِيثِ الْوَعِيدِ وَآيَاتِ الْوَعِيدِ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَأْخُذَ بِهَذَا وَهَذَا.

 يَجِبُ أَنْ يَحْذَرَ مِمَّا حَرَّمَهُ اللهُ مِنَ الْمَعَاصِي، وَأَنْ تَكُونَ عَلَى بَالِهِ الْأَحَادِيثُ وَالْآيَاتُ الَّتِي فِيهَا الْوَعِيدُ لِمَنْ تَعَدَّى حُدُودَ اللهِ وَانْتَهَكَ مَحَارِمَهُ، وَمَعَ ذَلِكَ يُحْسِنُ ظَنَّهُ بِرَبِّهِ، وَيَرْجُوهُ، وَيَتَذَكَّرُ وَعْدَهُ بِالْمَغْفِرَةِ وَبِالرَّحْمَةِ لِمَنْ يَعْمَلُ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ، فَيَجْمَعُ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا، بَيْنَ الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ، فَلَا يَقْنَطُ وَلَا يَأْمَنُ.

وَهَذَا هُوَ طَرِيقُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَأَهْلِ الْإِيمَانِ، كَمَا قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا ۖ وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90]، وقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء: 57].

وَهَكَذَا أَهْلُ الْإِيمَانِ مِنْ أَتْبَاعِ الرُّسُلِ، هُمْ عَلَى هَذَا السَّبِيلِ، يُوَحِّدُونَ اللهَ، وَيَخْشَوْنَهُ، وَيُؤَدُّونَ فَرَائِضَهُ، وَيَدَعُونَ مَحَارِمَهُ، وَيَرْجُونَهُ وَيَخَافُونَهُ -جَلَّ وَعَلَا- )). انْتَهَى كَلَامُهُ -رَحِمَهُ اللهُ-.

فَتَكْفِيرُ الذُّنُوبِ بِمِثْلِ هَذِهِ الطَّاعَاتِ لَا يَكُونُ لِلْكَبَائِرِ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ, وَلَا يَكُونُ تَكْفِيرُ الذُّنُوبِ بِمِثْلِ هَذِهِ الطَّاعَاتِ لِحُقُوقِ الْعِبَادِ؛ فَإِنَّهَا لَا بُدَّ أَنْ تُؤَدَّى.

وَلَا يَقَعُ الصَّومُ -كَمَا هُوَ مَعلُومٌ- مِنْ أَحَدٍ بَعْدَ الْمَعْصُومِ ﷺ كَمَا يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ, وَكَمَا يُحِبُّهُ الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ لِنَفْسِهِ أَنْ يَقَعَ, فَيَكُونُ فِيهِ مِنَ التَّقْصِيرِ مَا فِيهِ, وَلَكِنْ يَكُونُ تَكْفِيرُ الذُّنُوبِ عَلَى حَسَبِ مَا أَتَى بِهِ مِنَ اليقِينِ وَالِاحْتِسَابِ، ((إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا)): إِيمَانًا بِالَّذِي شَرَعَ ذَلِكَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ ﷺ كَمَا فِي صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ, وَاحْتِسَابًا عِندَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِلْأَجْرِ عَلَى الْمَشَقَّةِ, وَمُخَالَفَةِ الْعَادَةِ فِي الصِّيَامِ.

وَيَنْبَغِي عَلَى الْإِنسَانِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ مَا صَامَ مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ، وَلَا الْعَمَلَ بِهِ, وَأَنَّ الصِّيَامَ لَيْسَ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ؛ وَإِنَّمَا الصِّيَامُ عَنِ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ, فَإِذَا أَمْسَكَ عَمَّا أَحَلَّهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَهُ, وَأَخَذَ فِي أَثْنَاءِ صِيَامِهِ يَأْتِي بِمَا حُرِّمَ عَلَيْهِ -صَائِمًا وَمُفْطِرًا- مِمَّا جَعَلَهُ اللهُ تَعَالَى حَرَامًا فِي كُلِّ حِينٍ وَآنٍ؛ فَمَا هَذَا بِصَائمٍ!!

يَصُومُ عَنِ الْحَلَالِ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالشَّهْوَةِ وَيُمْسِكُ عَنْ ذَلِكَ؛ وَيَرْتَعُ فِي أَعْرَاضِ النَّاسِ, وَيَشْتُمُ هَذَا, وَيَسُبُّ هَذَا, وَيَأْكُلُ مَالَ هَذَا, وَيَنْفَلِتُ لِسَانُهُ بِمَا لَا يَجْمُلُ وَلَا يَحِلُّ, فَأَيُّ صِائمٍ هَذَا؟!!

وَمَا الَّذِي يُؤَمِّلُهُ مِنْ تَكْفِيرِ ذُنُوبِ سَنَةٍ مَضَتَ أَوْ سَنَةٍ بَقِيَتْ؟!!

إِنَّمَا هَذَا يَأْتِي بِالْوِزْرِ؛ لِأَنَّهُ يَأْتِي فِي الطَّاعَةِ بِمَا يَمْحَقُ ثَوابَهَا مَحْقًا, وَالنَّبِيُّ ﷺ أَرشَدَنَا إِلَى أَنَّ العَبْدَ إِذَا صَامَ؛ فَيَنْبَغِي عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَلَّى بِمَكَارَمِ الْأَخلَاقِ, وَأَنْ يُمْسِكَ عَنِ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ وَمَا دُونَهُمَا, ((وَإنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ شَتَمَهُ فَلْيَقُل: إِنِّي صَائمٌ, إِنِّي صَائمٌ)). فَهَذَا فِي رَمَضَانَ، وَفِي كُلِّ صَومٍ.

فَاعْلَمُوا عِبَادَ اللهِ أَنَّهُ يَنْبَغِي عَلَى الْإِنسَانِ أَنْ يُخَلِّصَ ذَلِكَ مِنْ أَسْرِ نَفْسِهِ, وَمِنْ عَادَاتِهَا، وَمِنَ الْعُرْفِ الَّذِي يَغْلِبُ عَلَيْهَا, وَمِنَ التَّقَالِيدِ الَّتِي تَحْكُمُهَا, وَأَنْ يَرْجِعَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ إِلَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- وَحْدَهُ؛ لِأَنَّ الصِّيَامَ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: ((كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ)).

فَالصَّومُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ خَالِصًا, وَهُوَ يَجْزِيِ عَلَيْهِ بِأَضْعَافٍ مُضَاعَفَةٍ وَبمَا لَا يُعَدُّ وَلَا يُحْصَى؛ شَرِيطَةَ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُ فِي ذَلِكَ مُمْتَثِلًا أَمْرَ اللهِ, مُتَّبِعًا هَدْيَ نَبِيِّهِ ﷺ.

فَلْيَعْزِمِ الْمَرْءُ، وَلْيَنْوِ أَنْ يَصُومَ يَومَ عَرَفَةَ -إِنْ لَمْ يَكُنْ صَائمًا فِي الْعَشْرِ؛ أَنْ يَصُومَ يَوْمَ عَرَفَةَ-.

 وَمَنْ لَمْ يَصُمْ فَيَنْبَغِي عَلَيْهِ أَلَّا يُفَوِّتَ هَذِهِ الْفُرْصَةَ الْعَظِيمَةَ, وَلْيَجْتَهِدْ فِي الدُّعَاءِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ, فِي وَقْتِ النُّزُولِ الْإِلَهِيِّ, وَلْيَسْأَلِ اللهَ الْمَغْفِرَةَ, وَلْيَسْأَلِ اللهَ الرَّحْمَةَ, وَلْيَسْأَلِ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- مَا أَبَاحَهُ مِنَ الْمَسَائِلِ.

لَا يَدْعُو بِإِثْمٍ وَلَا قَطِيعَةِ رَحِمٍ, وَلَا يَعْتَدِي فِي الدُّعَاءِ.

*أَكْثَرُ دُعَاءِ النَّبِيِّ ﷺ بِعَرَفَةَ:

عَلَى الْمُسْلِمِ أن يُقْبِلَ عَلَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-, وَيَأْخُذَ بِذِكْرِ اللهِ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ عِنْدَمَا قَالَ: ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَه, لَهُ المُلكُ وَلَهُ الحَمدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ)), فَهَذَا خَيْرُ مَا يُقَالُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ.

فَقَدْ أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي ((الشُّعَبِ)) بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ الْحُسَيْنِ الْمَرْوَزِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ عَنْ تَفْسِيرِ قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: ((أَكْثَرُ دُعَائِي وَدُعَاءِ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلِي بِعَرَفَةَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ))، وَإِنَّمَا هُوَ ذِكْرٌ لَيْسَ فِيهِ دُعَاءٌ.

قَالَ سُفْيَانُ: سَمِعْتُ حَدِيثَ مَنْصُورٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحَارِثِ، فَهَلْ سَمِعْتَهُ؟

قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ.

قَالَ: ذَاكَ تَفْسِيرُ هَذَا.

ثُمَّ قَالَ: أَتْدَرِي مَا قَالَ أُمَيَّةُ بْنُ الصَّلْتِ حِينَ أَتَى ابْنَ جُدْعَانَ يَطْلُبُ نَائِلَهُ وَمَعْرُوفَهُ؟

قَالَ: قُلْتُ: لَا.

قَالَ: إِنَّمَا أَتَاهُ فَقَالَ:

                    أَأَذْكُرُ حَاجَتِي أَمْ قَدْ كَفَانِي   ***   حَيَاؤُكَ، إِنَّ شِيمَتَكَ الْحَيَاءُ

                    إِذَا أَثْنَى عَلَيْكَ الْمَرْءُ يَوْمًا     ***   كَفَاهُ مِنْ تَعَرُّضِكَ الثَّنَـاءُ

وَهَذَا الْبَيْتُ يُقْرَأُ هَكَذَا أَيْضًا-:

                أَأَذْكُرُ حَاجَتِي أَمْ قَدْ كَفَانِي   ***      حِبَاؤُكَ، إِنَّ شِيمَتَكَ الْحِبَاءُ

                 إِذَا أَثْنَى عَلَيْكَ الْمَرْءُ يَوْمًا    ***     كَفَاهُ مِنْ تَعَرُّضِكَ الثَّنَاءُ

قَالَ سُفْيَانُ: فَهَذَا مَخْلُوقٌ حِينَ يُنْسَبُ إِلَيْهِ الْجُودُ، قِيلَ: يَكْفِينَا مِنْ تَعَرُّضِكَ الثَّنَاءُ عَلَيْكَ؛ حَتَّى تَأْتِيَ عَلَى حَاجَتِنَا؛ فَكَيْفَ بِالْخَالِقِ الْعَظِيمِ؟!))

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((جَمَعَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيْنَ أَفْضَلِ الدُّعَاءِ وَأَفْضَلِ الثَّنَاءِ؛ فَإِنَّ الذِّكْرَ نَوْعَانِ: دُعَاءٌ وَثَنَاءٌ، فَقَالَ: ((أَفْضَلُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَأَفْضَلُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)). وَلَمْ يَقُلْ: أَفْضَلُ مَا قُلْتُ يَوْمَ عَرَفَةَ، ثُمَّ ذَكَرَ هَذَا الْكَلَامَ، وَإِنَّمَا هُوَ أَفْضَلُ مَا قُلْتُ مُطْلَقًا فِي يَوْمِ عَرَفَةَ، وَفِي غَيْرِ يَوْمِ عَرَفَةَ)).

*فَضْلُ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)):

وَ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)): سَبَبٌ لِدُخُولِ الْجَنَّةِ، وَالنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ، وَمُقْتَضٍ لِذَلِكَ، وَلَكِنَّ الْمُقْتَضِي لَا يَعْمَلُ عَمَلَهُ إِلَّا بِاسْتِجْمَاعِ شُرُوطِهِ، وَانْتِفَاءِ مَوَانِعِهِ، فَقَدْ يَتَخَلَّفُ عَنْهُ مُقْتَضَاهُ؛ لِفَوَاتِ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِهِ، أَوْ لِوُجُودِ مَانِعٍ، وَلِهَذَا قِيلَ لِلْحَسَنِ: ((إِنَّ نَاسًا يَقُولُونَ: مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ.

فَقَالَ: مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَأَدَّى حَقَّهَا وَفَرْضَهَا؛ دَخَلَ الْجَنَّةَ)).

وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ لِمَنْ سَأَلَهُ: ((أَلَيْسَ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) مِفْتَاحَ الْجَنَّةِ؟

قَالَ: بَلَى؛ وَلَكِنْ مَا مِنْ مِفْتَاحٍ إِلَّا وَلَهُ أَسْنَانٌ، فَإِنْ جِئْتَ بِمِفْتَاحٍ لَا أَسْنَانَ لَهُ؛ لَمْ يُفْتَحْ لَكَ، وَإِنْ جِئْتَ بِمِفْتَاحِ لَهُ أَسْنَانٌ؛ فُتِحَ لَكَ)).

فَـ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) هِيَ أَعْظَمُ مَا يُقَالُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ، كَمَا قَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ ﷺ.

 وَ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) اشْتَمَلَتْ عَلَى نَفْيٍ وَإِثْبَاتٍ، فَنَفَتِ الْإِلَهِيَّةَ عَنْ كُلِّ مَا سِوَى اللهِ تَعَالَى، فَكُلُّ مَا سِوَاهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ -فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِمْ-؛ فَلَيْسَ بِإِلَهٍ، وَلَا لَهُ مِنَ الْعِبَادَةِ شَيْءٌ.

وَأَثْبَتَتْ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) الْإِلَهِيَّةَ للهِ وَحْدَهُ، بِمَعْنَى: أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَأْلَهُ غَيْرَهُ، أَيْ: لَا يَقْصِدُهُ بِشَيْءٍ مِنَ التَّأَلُّهِ، وَهُوَ تَعَلُّقُ الْقَلْبِ الَّذِي يُوجِبُ قَصْدَهُ بِشَيْءٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ؛ كَالدُّعَاءِ، وَالذَّبْحِ، وَالنَّذْرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.

وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا يَأْلَهُ إِلَّا اللهَ؛ أَيْ: لَا يَعْبُدُ إِلَّا هُوَ، فَمَنْ قَالَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ: ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) عَارِفًا لِمَعْنَاهَا، عَامِلًا بِمُقْتَضَاهَا؛ مِنْ نَفْيِ الشِّرْكِ وَإِثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ للهِ، مَعَ الِاعْتِقَادِ الْجَازِمِ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ ذَلِكَ وَالْعَمَلِ بِهِ.

 فَهَذَا هُوَ الْمُسْلِمُ حَقًّا، فَإِنْ عَمِلِ بِهَا -أي: بـ(لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)-ظَاهِرًا مِنْ غَيْرِ اعْتِقَادٍ فَهُوَ الْمُنَافِقُ، وَإِنْ عَمِلَ بِخِلَافِهَا مِنَ الشِّرْكِ؛ فَهُوَ الْكَافِرُ وَلَوْ قَالَهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُنَافِقِينَ يَعْمَلُونَ بِهَا ظَاهِرًا، وَهُمْ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ؟!!

عَبْدَ اللهِ! عَلَيْكَ أَنْ تُحَقِّقَ تَوْحِيدَكَ؛ فَلَيْسَ عَمَلٌ بِنَافِعِكَ إِذَا لَمْ يَكُنْ تَوْحِيدُكَ مُحَقَّقًا، كَمَا لَوْ أَنَّكَ صَلَّيْتَ بِدُونِ طُهُورٍ؛ فَإِنَّ صَلَاتَكَ لَا تُعَدُّ صَلَاةً فِي مِيزَانِ الشَّرْعِ، وَكَذَا مَهْمَا أَتَيْتَ بِهِ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ تَتَزَلَّفُ بِهِ إِلَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- مَعَ الشِّرْكِ؛ فَإِنَّهُ حَابِطٌ مَرْدُودٌ عَلَى فَاعِلِهِ.

 ((اجْتَهِدُوا فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ، وَفِي غَيْرِهِ))

عَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي ذَلِكَ الْيَومِ, وَفِي كُلِّ حِينٍ وَحَالٍ, وَلَكِنْ فِي هَذَا الْيَومِ خَاصَّةً؛ لِعَظِيمِ الرَّحَمَاتِ الْمُتَنَزَّلَاتِ بِهِ.

فَهَذَا زَمَانُ عِتْقٍ مِنَ النَّارِ:

 فَلْيُعَرِّضِ الْمَرْءُ نَفْسَهُ لِرَحْمَةِ رَبِّهِ؛ بِالْإِقْلَاعِ عَنْ ذُنُوبِهِ وَمَعَاصِيهِ, وَبِالْإِقَامَةِ عَلَى طَاعَتِهِ وَمَحَابِّهِ.

 وَلْيُقْبِلْ عَلَى قَلْبِهِ؛ فَلْيُنَقِّهِ مِنْ غِشِّهِ, وَلْيُخَلِّصْهُ مِنْ وَضَرِهِ, وَلْيَحْمِلْ عَلَى قَلْبِهِ؛ حَتَّى يَسْتَقِيمَ عَلَى أَمْرِ رَبِّه.

 وَلْيَدْعُ اللهَ جَاهِدًا أَنْ يَهْدِيَ قَلْبَهُ, وَأَنْ يَشْرَحَ صَدْرَهُ, وَأَنْ يُصْلِحَ بَالَهُ, وَأَنْ يُدْرِكَ أَمَّةَ مُحَمَّدٍ ﷺ بِرَحْمَةٍ شَامِلَةٍ؛ تَرْفَعُ عَنهَا الْكَرْبَ, وَتَكْشِفُ عَنْهَا الْهَمَّ وَالْغَمَّ.

فَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي هَذَا الْيَوْمِ الْعَظِيمِ فِي الْأَخْذِ بِمَا قَالَهُ النَّبِيُّ الْكَرِيمُ ﷺ وَرَغَّبَ فِيهِ؛ وَهُوَ الصِّيَامُ.

 ثُمَّ يَجْتَهِدُ فِي الدُّعَاءِ خَاصَّةً عَشِيَّةَ يَوْمِ عَرَفَةَ؛ لِيُصَادِفَ وَقْتَ النُّزُولِ الْإِلَهِيِّ مُتَعَرِّضًا لِرَحَمَاتِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-, عَسَى أَنْ يَرْحَمَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.

 ((الدُّرُوسُ الْمُسْتَفَادَةُ مِنْ خُطْبَةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ))

*أَعْظَمُ دَرْسٍ مِنْ خُطْبَةِ الْوَدَاعِ: اضْمِحْلَالُ الشِّرْكِ، وَرَفْعُ رَايَةِ التَّوْحِيدِ:

النَّبِيُّ ﷺ لَمْ يَحُجَّ إِلَّا حَجَّةً وَاحِدَةً، وَقَدْ قَدَّمَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بَيْنَ هَذِهِ الْحَجَّةِ الْعَظِيمَةِ الْأَذَانَ مِنْهُ -جَلَّ وَعَلَا- بِأَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ، وَالْمُؤْمِنُونَ يَبْرَؤُونَ وَيَتَبَرَّؤُونَ مِمَّنْ تَبَرَّأَ مِنْهُمُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-، وَمِمَّنْ بَرِئَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللهِ ﷺ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ فِي تَلْكَ الْحَجَّةِ أَعْلَنَ اضْمِحْلَالَ الشِّرْكِ فِي هَذَا الْوُجُودِ، وَأَعْلَنَ ﷺ رَفْعَ رَايَةِ التَّوْحِيدِ.

وَحَضَّ النَّبِيُّ ﷺ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِالْفِعْلِ وَبِالْقَوْلِ عَلَى اجْتِمَاعِ الْأُمَّةِ، وَحَذَّرَ مِنْ تَفْرِقَةِ صُفُوفِهَا وَأَبْنَائِهَا، فَإِنَّ أَعْظَمَ مَظْهَرٍ يَتَجَلَّى فِيهِ وَحْدَةُ الْمُسْلِمِينَ وَاجْتِمَاعُهُمْ مَا يَكُونُ مِنَ اجْتِمَاعِهِمْ فِي صَعِيدِ عَرَفَاتٍ فِي يَوْمِ عَرَفَاتٍ.

فَهَذَا مَظْهَرٌ عَمَلِيٌّ صَارِخٌ وَدَامِغٌ لِكُلِّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُفَرِّقَ هَذِهِ الْأُمَّةَ، وَأَنْ يُشَتِّتَ جُهُودَ أَبْنَائِهَا.

وَالنَّبِيُّ ﷺ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ دَلَّ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي كَانَ فِيهَا مُوَدِّعًا لِلْأُمَّةِ، وَمُرْسِيًا لِلْأُسُسِ وَالْقَوَاعِدِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي يَكْفُلُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِلْأُمَّةِ -إِنْ تَمَسَّكَتْ بِهَا- عِزَّهَا وَمَجْدَهَا، وَظُهُورَهَا وَارْتِفَاعَهَا.

فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ لِبِلَالٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((اسْتَنْصِتْ لِيَ النَّاسَ)). حَتَّى إِذَا مَا أَنْصَتُوا، وَقَدْ جَعَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنَ الْآيَاتِ فِي ذَلِكَ الْجَمْعِ؛ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يُسْمَعُ صَوْتُهُ فِي الْمَوْقِفِ كُلِّهِ، فَكَانَ يَتَكَلَّمُ فِي مَوْضِعِهِ ﷺ، وَيَسْمَعُهُ كُلُّ مَنْ بِالْمَوْقِفِ.

*وَمِنَ الدُّرُوسِ الْعَظِيمَةِ: حُرْمَةُ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَعْرَاضِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ:

قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((اسْتَنْصِتْ لِيَ النَّاسَ)).

ثُمَّ قَالَ: ((لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ)).

وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ بِالتَّحْرِيشِ بَيْنَكُمْ)).

وَفِي خُطَبِ النَّبِيِّ ﷺ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ، وَفِي يَوْمِ النَّحْرِ، وَفِي ثَانِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ؛ أَعْلَنَ ﷺ أَنَّ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَأَعْرَاضَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ مُحَرَّمَةٌ تَحْرِيمًا أَبَدِيًّا، فَقَالَ ﷺ: ((إِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- قَدْ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ، وَأَعْرَاضَكُمْ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ)).

فَهُوَ تَحْرِيمٌ مُؤَبَّدٌ، لَا يَحِلُّ أَبَدًا لِمُسْلِمٍ دَمُ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ؛ أَنْ يَجْرَحَهُ أَوْ يَقْطَعَ مِنْهُ عُضْوًا، أَوْ أَنْ يُرِيقَ دَمَهُ، إِلَّا بِمَا أَحَلَّهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْ ذَلِكَ.

وَبَيَّنَ أَنَّ الْأَمْوَالَ حَرَامٌ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْ صَاحِبِهَا - كَمَا فِي ((صَحِيحِ سُنَنِ ابْنِ مَاجَه))- فَعَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((اسْمَعُوا مِنِّي تَعِيشُوا؛ أَلَا لَا تَظْلِمُوا، أَلَا لَا تَظْلِمُوا، أَلَا لَا تَظْلِمُوا، أَلَا إِنَّهُ لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ)).

فَحَرَّمَ النَّبِيُّ ﷺ الْغِشَّ، وَحَرَّمَ الِاحْتِكَارَ، وَحَرَّمَ النَّبِيُّ ﷺ السَّرِقَةَ وَالْغَصْبَ، وَحَرَّمَ النَّبِيُّ ﷺ الرِّشْوَةَ وَالْخِيَانَةَ، وَكُلَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِأَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ.

((أَلَا إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا حَتَّى تَلْقَوا رَبَّكُمْ)).

حَرَّمَ النَّبِيُّ ﷺ أَعْرَاضَ الْمُسْلِمِينَ؛ أَنْ يَنْتَهِكَ أَحَدٌ عِرْضَ أَخِيهِ بِكَلِمَةٍ أَوْ بِإِشَارَةٍ أَوْ بِاعْتِدَاءٍ عَلَيْهِ، وَجَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ حُرْمَةَ الْمُسْلِمِ أَعْظَمَ عِنْدَ اللهِ مِنْ حُرْمَةِ الْكَعْبَةِ، فَكَانَ يَقُولُ ﷺ وَهُوَ طَائِفٌ بِالْكَعْبَةِ: ((أَلَا مَا أَعْظَمَكِ! وَمَا أَعْظَمَ حُرْمَتَكِ عِنْدَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-!، وَلَحُرْمَةُ الْمُسْلِمِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى مِنْ حُرْمَتِكِ)).

فَحَرَّمَ النَّبِيُّ ﷺ الدِّمَاءَ وَالْأَمْوَالَ وَالْأَعْرَاضَ، وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ فِي جَمِيعِ الشَّرَائِعِ، فَلَا يَحِلُّ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ إِلَّا بِمَا أَذِنَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِيهِ.

*مِنْ دُرُوسِ خُطْبَةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ: أَنَّ التَّقْوَى مِيزَانُ التَّفَاضُلِ بَيْنَ النَّاسِ عِنْدَ اللهِ:

إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ -فِي ذَلِكَ الْمَوْقِفِ- بَيَّنَ لِلْمُسْلِمِينَ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونُوا عَلَيْهِ مِنَ التَّرَابُطِ وَالتَّعَاوُنِ وَالتَّنَاصُحِ، وَالتَّشَاوُرِ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا فَضْلَ لِأَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ إِلَّا بِالتَّقْوَى: ((فَلَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا عَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا لِأَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى)).

وَالتَّقْوَى هِيَ الْمِيزَانُ الَّذِي بِهِ التَّفَاضُلُ، وَهِيَ فِعْلُ الْمَأْمُورِ وَتَرْكُ الْمَحْظُورِ.

*وَمِنْ دُرُوسِ خُطْبَةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ: أَنَّ صَلَاحَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا فِي الْإِخْلَاصِ للهِ، وَمُنَاصَحَةِ وُلَاةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلُزُومِ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ:

فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ الْأَسَاسَ الَّذِي يَصْلُحُ عَلَيْهِ النَّاسُ؛ حَيْثُ قَالَ ﷺ ((ثَلَاثَةٌ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُؤْمِنٍ)).

 ثُمَّ بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَوَّلَ ذَلِكَ، فَقَالَ: ((إِخْلَاصُ الْعَمَلِ للهِ، وَمُنَاصَحَةُ وُلَاةِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَدَمُ مُفَارَقَةِ جَمَاعَتِهِمْ، أَلَا إِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مَنْ وَرَاءَهُمْ -وَفِي رِوَايَةٍ: وَمِنْ وَرَائِهِمْ-)). قَالَ هَذَا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ ﷺ.

فَبَيَّنَ أَنَّ الْإِخْلَاصَ للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي الْأَعْمَالِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَإِخْلَاصَ الْعُبُودِيَّةِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ، وَصَرْفَ جَمِيعِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْعِبَادَةِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ هُوَ أَوَّلُ مَا يُعْقَدُ عَلَيْهِ الْخِنْصَرُ؛ لِلنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ وَالْفَوْزِ بِالْجَنَّةِ.

إِخْلَاصُ الْقَلْبِ للهِ، ثُمَّ قَالَ ﷺ: ((وَمُنَاصَحَةُ وُلَاةِ الْمُسْلِمِينَ)): لَيْسَ بِالْخُرُوجِ عَلَيْهِمْ وَلَا بِانْتِقَادِهِمْ، وَإِنَّمَا بِمُنَاصَحَتِهِمْ بِالطُّرُقِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي حَدَّدَتْهَا السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ.

 فَإِنَّ هَذَا مَمَّا تَقُومُ بِهِ الدُّنْيَا، وَيَصْلُحُ بِهِ أَمْرُ الدِّينِ؛ حَتَّى لَا تُقْطَعَ السُّبُلُ، وَتُخَرَّبَ الْمَسَاجِدُ، حَتَّى لَا تُنْتَهَكَ الْأَعْرَاضُ، وَتُسْلَبَ الْأَمْوَالُ، حَتَّى لَا يَصِيرَ أَمْرُ النَّاسِ فَوْضَى يُعَزُّ فِيهِ أَهْلُ الْبَاطِلِ، وَيُذَلُّ فِيهِ أَهْلُ الْحَقِّ، وَتَصِيرَ الْأُمُورُ إِلَى مَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ أَيَّامًا يَكْثُرُ فِيهَا الْهَرْجُ)).

قَالُوا: وَمَا الْهَرْجُ يَا رَسُولَ اللهِ؟

قَالَ: ((الْقَتْلُ)).

ثُمَّ بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ فِي الْحَدِيثِ: ((أَنَّهُ سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يَدْرِي الْقَاتِلُ فِيهِ لِمَا قَتَلَ، وَلَا الْمَقْتُولُ فِيهِ لِمَا قُتِلَ))؛ لِأَنَّ أَمْرَ النَّاسِ يَصِيرُ إِلَى الْفَوْضَى، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ أَمْرِ الْهَرْجِ هُوَ لَازِمٌ لِوُقُوعِ الْفَوْضَى وَهُوَ نَتِيجَةٌ عَنْهُ.

قَالَ الرَّسُولُ ﷺ: ((وَلُزُومُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ دَعَوْتَهُمْ تُحِيطُ مَنْ وَرَاءَهُمْ)).

فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ هَذَا الْمَعْنَى بِضَرْبِ هَذَا السُّورِ: ((تُحِيطُ مَنْ وَرَاءَهُمْ))، حَتَّى إِنَّ مَنْ تَخَطَّى هَذَا السِّيَاجَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ.

*وَمِنَ الدُّرُوسِ الْعَظِيمَةِ مِنْ خُطْبَةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ: وَحْدَةُ الْمُسْلِمِينَ:

وَالنَّبِيُّ ﷺ بَيَّنَ -كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ-: ((أَنَّ كُلَّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ؛ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ))، وَأَنَّ ((الْمُسْلِمَ لِلْمُسْلِمِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا)).

وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ ((مَثَلَ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ؛ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى)).

فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ هَذَا الْمَعْنَى الْكَبِيرَ، وَهُوَ مِنْ أَجْلَى مَا يَكُونُ فِي فَرِيضَةِ الْحَجِّ: اجْتَمَاعُ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَخْرَجُوا مَنْدُوبِيهِمْ إِلَى الْحَجِّ؛ لِيَشْهَدُوا الْمَوْسِمَ، فَمَا مِنْ شَارِعٍ، وَلَا مِنْ حَيٍّ، وَلَا مِنْ مَدِينَةٍ، وَلَا مِنْ قَرْيَةٍ، وَلَا دَوْلَةٍ، إِلَّا وَخَرَجَ مِنْهَا مَنْ شَاءَ اللهُ أَنْ يَخْرُجَ؛ حَتَّى يَشْهَدَ الْمَوْسِمَ.

فَهَؤُلَاءِ هُمُ الْمَنْدُوبُونَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ فِي بِقَاعِ الْأَرْضِ وَمَشَارِقِهَا وَمَغَارِبِهَا؛ لِكَيْ يَشْهَدُوا هَذَا الْأَمْرَ الْعَظِيمَ بِوَحْدَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَبِتَوَاضُعِهِمْ لِرَبِّهِمْ وَمَذَلَّتِهِمْ بَيْنَ يَدْيَهِ، وَفِي خُشُوعِهِمْ وَانْكِسَارِهِمْ لَدَيْهِ، فَجَمِيعُهُمْ عَلَى هَيْئَةٍ وَاحِدَةٍ، لَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَهُمْ مَظَاهِرُ الدُّنْيَا عَلَى مَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْحَجُّ الصَّحِيحُ.

*وَمِنْ دُرُوسِ خُطْبَةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ: حَثُّ النَّبِيِّ ﷺ عَلَى الْإِحْسَانِ وَالرَّحْمَةِ بِكُلِّ شَيْءٍ:

إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ بَيَّنَ أَنَّ اللهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَذَكَرَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ الرَّحْمَةَ يَنْبَغِي أَنْ يَأْخُذَ بِهَا الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ، وَأَنْ يَجْعَلَهَا دَيْدَنَهُ، فَقَالَ ﷺ: ((الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ))، وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ ((مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ)).

وَالنَّبِيُّ ﷺ لَمَّا سَأَلَهُ مَنْ سَأَلَهُ أَنَّهُ يَرْحَمُ الشَّاةَ عِنْدَ ذَبْحِهَا، فَقَالَ: ((وَالشَّاةَ إِنْ رَحِمْتَهَا رَحِمَكَ اللهُ))؛ وَلِذَلِكَ يَقُولُ بَعْضُ السَّلَفِ: ((إِنَّ اللهَ لَيَرْحَمُ بِرَحْمَةِ الْعُصْفُورِ))؛ يَعْنِي إِنْ رَحِمْتَهُ رَحِمَكَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَكَانَتْ رَحْمَتُكَ إِيَّاهُ سَبَبًا لِرَحْمَةِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِيَّاكَ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ مَرَّ عَلَى رَجُلٍ وَقَدْ أَضْجَعَ ذَبِيحَتَهُ، وَجَعَلَ قَدَمَهُ عَلَى صِحَافِهَا، وَهُوَ يَسُنُّ مُدْيَتَهُ، وَيَحُدُّ شَفْرَتَهُ، وَهِيَ تَنْظُرُ إِلَيْهِ!! فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَلَا كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ ذَلِكَ، أَتُرِيدُ أَنْ تُمِيتَهَا مَوْتَاتٍ؟)).

 فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تُظْهَرَ الْمُدْيَةُ لِلْحَيَوَانِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ بِذَبْحِهِ، وَالنَّبِيُّ ﷺ يَجْعَلُ ذَلِكَ لِلْحَيَوَانِ الْبَهِيمِ، فَكَيْفَ بَالْإِنْسَانِ الَّذِي كَرَّمَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَأَعْلَى ذِكْرَهُ، وَرَفَعَ شَأْنَهُ، وَجَعَلَهُ حَامِلًا لِمَسْئُولِيَّةِ الرِّسَالَةِ فِي الْأَرْضِ، وَجَعَلَهُ عَابِدًا للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِمَلْكِهِ، مُقْبِلًا عَلَى رَبِّهِ؟!!

((إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ أَحَدُكُمْ ذَبِيحَتَهُ)).

فَلْيَأْتِ أَحَدُكُمْ بِمُدْيَتِهِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي يَنْبَغِي أَلَّا يُحْدِثَ مَزِيدَ أَلَمٍ وَإِيلَامٍ لِلْحَيَوَانِ الْبَهِيمِ.

يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ)): فَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ الْإِحْسَانَ مَكْتُوبٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ -وَكُلُّ شَيْءٍ مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ الْإِحْسَانُ-، وَيَقُولُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: ((أَنَّ اللهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ)): أَيْ لِكُلِّ شَيْءٍ، فَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ مَكْتُوبًا عَلَى مَنْ يُحْسِنُ إِلَى ذَلِكَ الشَّيْءِ.

فَالنَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: ((إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ)): وَالْقِتْلَةُ وَالذِّبْحَةُ اسْمُ هَيْئَةٍ، أَيْ أَنْ تَكُونَ هَيْئَةُ الذَّبْحِ وَقَعَ عَلَيْهَا الْإِحْسَانُ، وَأَنْ تَكُونَ هَيْئَةُ الْقَتْلِ قَدْ وَقَعَ عَلَيْهَا الْإِحْسَانُ.

 ((وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ أَحَدُكُمْ ذَبِيحَتَهُ)).

فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ كَيْفِيَّةَ الْإِحْسَانِ إِلَى الْحَيَوَانِ عِنْدَ ذَبْحِهِ، وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ كَيْفَ يُذْبَحُ.

 فَإِنَّ التَّذْكِيَةَ حَتَّى تَكُونَ قَائِمَةً، وَحَتَّى يَكُونَ الْمَرْءُ جَائِزًا لَهُ أَنْ يَطْعَمَ مِنَ الذَّبِيحَةِ؛ يَنْبَغِي أَنْ تَتَوَافَرَ فِيهَا أُمُورٌ، مِنْهَا:

يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُذَكِّي -أَيْ: الذَّابِحُ- مُسْلِمًا عَاقِلًا.

 وَأَنْ يُسَمِّيَ اسْمَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى ذَبِيحَتِهِ.

 وَأَنْ يَذْبَحَهَا بِحَيْثُ يُنْهِرُ بِالدَّمِ؛ بِحَيْثُ إِنَّهُ يَذْبَحُ فِي الرَّقَبَةِ، فَجَائِزٌ فِي وَسَطِهَا، وَجَائِزٌ فِي أْعَلَاهَا، وَجَائِزٌ فِي أَسْفَلِهَا، بِشَرْطِ أَنْ يَقْطَعَ الْحُلْقُومَ وَالْمَرِيءَ.

 وَأَنْ يُنْهِرَ الدَّمَ مِنَ الْأَوْدَاجِ، فَأَمَّا الْحُلْقُومُ فَهُوَ مَجْرَى النَّفَسِ مِنَ الْحَيَوَانِ إِلَى الرِّئَةِ، وَأَمَّا الْمَرِيءُ فَهُوَ مَجْرَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ مِنَ الْحَيَوَانِ إِلَى الْمَعِدَةِ، وَأَمَّا الْوَدَجَانِ فَعِرْقَانِ غَلِيظَانِ عَلَى جَانِبَيِ الرَّقَبَةِ.

فَالنَّبِيُّ ﷺ بَيَّنَ لَنَا كَيْفِيَّةَ الذَّبْحِ، وَبَيَّنَ الرَّسُولُ ﷺ الْآدَابَ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ يَتَحَلَّى بِهَا الذَّابِحُ؛ لِأَنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- هُوَ الَّذِي أَقْدَرَ الذَّابِحَ عَلَى ذَبِيحَتِهِ، وَلَوْلَا أَنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- أَذِنَ لَنَا فِي ذَلِكَ؛ مَا كَانَ عَلَيْنَا إِلَّا مُحَرَّمًا، وَمَا جَازَ لَنَا أَنْ نَطْعَمَهُ.

*فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: وَضَعَ النَّبِيُّ ﷺ كُلَّ أُمُورِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيْهِ:

وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ أَمْرَ الشِّرْكِ قَدِ اضْمَحَلَّ، وَأَنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَأَوْصَى النَّبِيُّ ﷺ بِالنِّسَاءِ، وَوَضَعَ النَّبِيُّ ﷺ كُلَّ أُمُورِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيْهِ.

فَجَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعًا تَحْتَ قَدَمَيْهِ، فَأَهْدَرَ النَّبِيُّ ﷺ دِمَاءَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَهْدَرَ النّبِيُّ ﷺ رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ قَدِ اسْتَقَرَّ عَلَى قَرَارِهِ بِالشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، تَابِعَةً لِلسُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ فِي الْبَيَانِ وَالتَّوْضِيحِ وَالْإِرْشَادِ.

عِبَادَ اللهِ! هَذَا بَلَاغُ نَبِيِّكُمْ ﷺ فِي خُطْبَةِ الْوَدَاعِ، وَهَذِهِ ظِلَالٌ مُتَمَاوِجَاتٌ فِي حَرِّ هَجِيرِ الْإِنْسَانِيَّةِ لِخُطْبَةِ الْوَدَاعِ الْعَظِيمَةِ.

 وَيَا لَهَذِهِ الْخُطْبَةِ الْعَظِيمَةِ مِنْ ذَاتِ أَفْيَاءٍ وَذَاتِ ظِلَالٍ!

 إِنَّ لَهَا لِظِلًّا ظَلِيلًا، لَوْ فَجِعَتِ الْإِنْسَانِيَّةُ كُلُّهَا، وَلَوْ ذَهَبَتِ الْبَشَرِيَّةُ كُلُّهَا إِلَى فيْءِ ظِلٍّ وَاحِدٍ مِنْ ظِلَالِ هَذِهِ الْخُطْبَةِ الْعَظِيمَةِ؛ لَوَسِعَهَا هَذَا الظِّلُّ الْبَارِدُ مِنْ ذَلِكَ السَّعِيرِ الْمُتَّقِدِ، وَمِنْ هَذَا الْأَتُّونِ الْمُلْتَهِبِ، وَمِنْ هَذَا الْحَرِّ اللَّاغِبِ([1]) فِي صَحَرَاءِ الِانْفِلَاتِ مِنْ قَيْدِ مَنْهَجِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

((لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ))

أَمَا وَالَّذِي حَجَّ الْمُحِبُّونَ بَيْتَهُ          ***     وَلَبَّوْا لَهُ عِنْدَ الْمُهَلِّ وَأَحْرَمُوا

وَقَدْ كَشَفُوا تِلْكَ الرُّؤُوسَ تَوَاضُعا   ***     لِعِزَّةِ مَنْ تَعْنُو الْوُجُوهُ وَتُسْلِمُ

يُهِلُّونَ بِالْبَيْدَاءِ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا       ***    لَكَ الْمُلْكُ وَالْحَمْدُ الَّذِي أَنْتَ تَعْلَمُ

دَعَاهُمْ فَلَبَّوْهُ؛ رِضًا وَمَحَبةً         ***    فَلَمَّا دَعَوْهُ كَانَ أَقْرَبَ مِنْهُــــــمُ

تَرَاهُمْ عَلَى الْأَنْضَاءِ شُعْثًا رُؤُوسُهُمْ *** وَغُبْرًا وَهُمْ فِيهَا أَسَرُّ وَأَنْعَـــمُ

وَقَدْ فَارَقُوا الْأَوْطَانَ وَالْأَهْلَ رَغْبَةً  *** وَلَمْ تُثْنِهِمْ لَذَّاتُهُمْ وَالتَّنَعُّمُ

يَسِيرُونَ مِنْ أَقْطَارِهَا وَفِجَاجِهَا *** رِجَالًا وَرُكْبَانًا وَللهِ أَسْلَمُوا

((رُؤْيَةُ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ))

وَلَمَّا رَأَتْ أَبْصَارُهُمْ بَيْتَهُ الَّذِي *** قُلُوبُ الْوَرَى شَوْقًا إِلَيْهِ تَضَرَّمُ

كَأَنَّهُمْ لَمْ يَنْصَبُوا قَطُّ قَبْلَهُ ***    لِأَنَّ شَقَاهُمْ قَدْ تَرَحَّلَ عَنْهُمُ

فَلِلهِ كَمْ مِنْ عَبْرَةٍ مُهْرَاقَةٍ! *** وَأُخْرَى عَلَى آثَارِهَا لَا تَقَدَّمُ

وَقَدْ شَرِقَتْ عَيْنُ الْمُحِبِّ بِدَمْعِهَا *** فَيَنْظُرُ مِنْ بَيْنِ الدُّمُوعِ وَيُسْجِمُ

إِذَا عَايَنَتْهُ الْعَيْنُ زَالَ ظَلَامُهَا *** وَزَالَ عَنِ الْقَلْبِ الْكَئِيبِ التَّأَلُّمُ

وَلَا يَعْرِفُ الطَّرْفُ الْمُعَايِنُ حُسْنَهُ *** إِلَى أَنْ يَعُودَ الطَّرْفُ وَالشَّوْقُ أَعْظَمُ

وَلَا عَجَبٌ مِنْ ذَا فَحِينَ أَضَافَهُ *** إِلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَنُ؛ فَهْوَ الْمُعَظَّمُ

كَسَاهُ مِنَ الْإجْلَالِ أَعْظَمَ حُلَّةٍ *** عَلَيْهَا طِرَازٌ بِالْمَلَاحَةِ مُعْلِمُ

فَمِنْ أَجْلِ ذَا كُلُّ الْقُلُوبِ تُحِبُّهُ *** وَتَخْضَعُ إِجْلَالًا لَهُ وَتُعَظِّمُ

((الذَّهَابُ إِلَى عَرَفَةَ))

وَرَاحُوا إِلَى التَّعْريفِ يَرْجُونَ رَحْمَةً *** وَمَغْفِرَةً مِمَّنْ يَجُودُ وَيُكْرِمُ

فَلِلهِ ذَاكَ الْمَوْقِفُ الْأَعْظَمُ الَّذِي  *** كَمَوْقِفِ يَوْمِ الْعَرْضِ بَلْ ذَاكَ أَعْظَمُ

وَيَدْنُو بِهِ الْجَبَّارُ جَلَّ جَلَالُهُ *** يُبَاهِي بِهِمْ أَمْلَاكَهُ فَهْوَ أَكْرَمُ

يَقُولُ عِبَادِي قَدْ أَتَوْنِي مَحَبَّةً *** وَإنِّي بِهِمْ بَرٌّ أَجُودُ وَأَرْحَمُ

فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي غَفَرْتُ ذُنُوبَهُمْ *** وَأَعْطَيْتُهُمْ مَا أَمَّلُوهُ وَأُنْعِمُ

فَبُشْرَاكُمُ يَا أَهْلَ ذَا الْمَوْقِفِ الَّذِي *** بِهِ يَغْفِرُ اللهُ الذُّنُوبَ وَيَرْحَمُ

فَكَمْ مِنْ عَتِيقٍ فِيهِ كُمِّلَ عِتْقُهُ! *** وَآخَرُ يَسْتَسْعَى وَرَبُّكَ أَرْحَمُ

وَمَا رُؤِيَ الشَّيْطَانُ أَغْيَظَ فِي الْوَرَى *** وَأَحْقَرَ مِنْهُ عِنْدَهَا وَهْوَ أَلْأَمُ

وَذَاكَ لِأَمْرٍ قَدْ رَآهُ فَغَاظَهُ *** فَأَقْبَلَ يَحْثُو التُّرْبَ غَيْظًا وَيَلْطِمُ

وَقَدْ عَايَنَتْ عَيْنَاهُ مِنْ رَحْمَةٍ أَتَتْ *** وَمَغْفِرَةٍ مِنْ عِنْدِ ذِي الْعَرْشِ تُقْسَمُ

بَنَى مَا بَنَى حَتَّى إِذَا ظَنَّ أَنَّهُ *** تَمَكَّنَ مِنْ بُنْيَانِهِ فَهْوَ مُحْكَمُ

أَتَى اللهُ بُنْيَانًا لَهُ مِنْ أَسَاسِهِ *** فَخَرَّ عَلَيْهِ سَاقِطًا يَتَهَدَّمُ

وَكَمْ قَدْرُ مَا يَعْلُو الْبِنَاءُ وَيَنْتَهِي *** إِذَا كَانَ يَبْنِيهِ وَذُو الْعَرْشِ يَهْدِمُ؟!

نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنَا مِنْ عُتَقَائِهِ مِنَ النَّارِ وَإِخْوَانَنَا مِنَ المُسْلِمِينَ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغارِبِهَا؛ إِنَّهُ هُوَ الْجَوادُ الْكَرِيمُ، وَالْبَرُّ الرَّحِيمُ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ

الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ هُوَ يَتَوَلَّى الصَالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ, صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَومِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((جُمْلَةٌ مِنْ سُنَنِ الْعِيدِ))

فَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((قَدِمَ رَسُولُ اللهِ ﷺ الْمَدِينَةَ، وَلَهُمْ يَوْمَانِ يَلْعَبُونَ فِيهِمَا، فَقَالَ: ((مَا هَذَانِ الْيَوْمَانِ؟)).

قَالُوا: كُنَّا نَلْعَبُ فِيهِمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّ اللهَ قَدْ أَبْدَلَكُمْ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا: يَوْمَ الْأَضْحَى، وَيَوْمَ الْفِطْرِ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

فَهَذَانِ هُمَا عِيدَا الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ، ومِنْ شَعَائِرِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: الْفَرَحُ فِيهِمَا؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَعَلَ هَذَيْنِ الْيَوْمَيْنِ، وَجَعَلَ هَذَيْنِ الْعِيدَيْنِ بِعَقِبِ عِبَادَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ، وَفَرْضَيْنِ جَلِيلَيْنِ مِنْ فُرُوضِ الْإِسْلَامِ الْكَرِيمِ.

 ((هَدْيُ النَّبِيِّ ﷺ فِي صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ))

*صَلَاةُ الْعِيدِ فِي الْمُصَلَّى:

«مِنَ السُّنَّةِ الَّتِي لَا خِلَافَ عَلَيْهَا أَنْ تَكُونَ صَلَاةُ الْعِيدِ فِي الْمُصَلَّى»، وَلَمْ يُصَلِّهَا الرَّسُولُ ﷺ فِي الْمَسْجِدِ قَطُّ، لَا فِي عِيدِ فِطْرٍ وَلَا أَضْحَى، مَعَ أَنَّ مَسْجِدَ النَّبيِّ ﷺ الصَّلَاةُ فِيهِ بِأَلْفِ صَلَاةٍ؛ فَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَخْرُجُ يَوْمَ الفِطْرِ وَالأَضْحَى إِلَى المُصَلَّى، ... » الْحَدِيثَ.

 وَأَيْضًا «كَانَ يَأْمُرُ النِّسَاءَ بِالْخُرُوجِ إِلَى الْمُصَلَّى -جَمِيعَ النِّسَاءِ-»، حَتَّى الْحُيَّضُ يَخْرُجْنَ إِلَى الْمُصَلَّى، يَعْتَزِلْنَ الْمُصَلَّى، يَقِفْنَ فِي آخِرِ الصُّفُوفِ بَعِيدًا، يَشْهَدْنَ الخَيْرَ، وَجَمَاعَةَ المُسْلِمِينَ كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ.

*فَيُخْرَجُ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ؛ لِحَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((خَرَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ يَوْمَ فِطْرٍ أَوْ أَضْحَى، فَصَلَّى ثُمَّ خَطَبَ، ثُمَّ أَتَى النِّسَاءَ فَوَعَظَهُنَّ وَذَكَّرَهُنَّ، وَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

*الْحِكْمَةُ مِنْ صَلَاةِ الْعِيدِ فِي الْمُصَلَّى:

ذَكَرَ الْأَلْبَانِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: أَنَّ صَلَاةَ الْعِيدِ إِنَّمَا تَكُونُ فِي الْمُصَلَّى.

وَقَالَ: ((هَذِهِ السُّنَّةُ -سُنَّةُ صَلَاةِ الْعِيدِ فِي الْمُصَلَّى- لَهَا حِكْمَةٌ عَظِيمَةٌ بَالِغَةٌ: أَنْ يَكُونَ لِلْمُسْلِمِينَ يَوْمَانِ فِي السَّنَةِ يَجْتَمِعُ فِيهِمَا أَهْلُ كُلِّ بَلْدَةٍ رِجَالًا وَنِسَاءً وَصِبْيَانًا، يَتَوَجَّهُونَ إِلَى اللهِ بِقُلُوبِهِمْ، تَجْمَعُهُمْ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ، وَيُصَلُّونَ خَلْفَ إِمَامٍ وَاحِدٍ يُكَبِّرُونَ وَيُهَلِّلُونَ، وَيَدْعُونَ اللهَ مُخْلِصِينَ كَأَنَّهُمْ عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَرِحِينَ مُسْتَبْشِرِينَ بِنِعْمَةِ اللهِ عَلَيْهِمْ، فَيَكُونُ الْعِيدُ عِنْدَهُمْ عِيدًا.

وَقَدْ أَمَرَ الرَّسُولُ ﷺ بِخُرُوجِ النِّسَاءِ لِصَلَاةِ الْعِيدِ مَعَ النَّاسِ، وَلَمْ يَسْتَثْنِ مِنْهُنَّ وَاحِدَةً؛ حَتَّى إِنَّهُ لَمْ يُرَخِّصْ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهَا مَا تَلْبَسُ فِي خُرُوجِهَا، بَلْ أَمَرَ أَنْ تَسْتَعِيرَ ثَوْبًا مِنْ غَيْرِهَا؛ حَتَّى إِنَّهُ أَمَرَ مَنْ كَانَ عِنْدَهُنَّ عُذْرٌ يَمْنَعُهُنَّ مِنَ الصَّلَاةِ بِالْخُرُوجِ إِلَى الْمُصَلَّى؛ لِيَشْهَدْنَ الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ.

وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ ثُمَّ خُلَفَاؤُهُ مِنْ بَعْدِهِ، وَالْأُمَرَاءُ النَّائِبُونَ عَنْهُمْ فِي الْبِلَادِ يُصَلُّونَ بِالنَّاسِ الْعِيدَ، ثُمَّ يَخْطُبُونَهُمْ بِمَا يَعِظُونَهُمْ بِهِ، وَيُعَلِّمُونَهُمْ مِمَّا يَنْفَعُهُمْ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَيَأْمُرُونَهُمْ بِالصَّدَقَةِ فِي ذَلِكَ الْجَمْعِ، فَيَعْطِفُ الْغَنِيُّ عَلَى الْفَقِيرِ، وَيَفْرَحُ الْفَقِيرُ بِمَا يُؤْتِيهِ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فِي هَذَا الْحَفْلِ الْمُبَارَكِ الَّذِي تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ وَالرِّضْوَانُ)).

قَالَ: ((فَعَسَى أَنْ يَسْتَجِيبَ الْمُسْلِمُونَ لِاتِّبَاعِ سُنَّةِ نَبِيِّهِمْ ﷺ، وَلِإِحْيَاءِ شَعَائِرِ دِينِهِمْ الَّذِي هُوَ مَعْقِدُ عِزِّهِمْ وَفَلَاحِهِمْ.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24].

*حُكْمُ صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ:

صَلَاةُ الْعِيدَيْنِ وَاجِبَةٌ؛ لِمُوَاظَبَةِ النَّبِيِّ ﷺ عَلَيْهَا، وَأَمْرِهِ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ أَنْ يَخْرُجُوا إِلَيْهَا.

عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ أَنْ نُخْرِجَهُنَّ فِي الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى -الْعَوَاتِقَ وَالْحُيَّضَ وَذَوَاتِ الْخُدُورِ- فَأَمَّا الْحُيَّضُ؛ فَيَعْتَزِلْنَ الصَّلَاةَ، وَيَشْهَدْنَ الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ، قَالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ! إِحْدَانَا لَا يَكُونُ لَهَا جِلْبَابٌ.

قَالَ: ((لِتُلْبِسْهَا أُخْتُهَا مِنْ جِلْبَابِهَا)).

قَالَ صِدِّيقْ حَسَنْ خَانْ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((قَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ: هَلْ صَلَاةُ الْعِيدِ وَاجِبَةٌ أَوْ لَا؟

وَالْحَقُّ: الْوُجُوبُ؛ لِأَنَّهُ ﷺ مَعَ مُلَازَمَتِهِ لَهَا قَدْ أَمَرَنَا بِالْخُرُوجِ إِلَيْهَا، كَمَا فِي حَدِيثِ أَمْرِهِ لِلنَّاسِ أَنْ يَغْدُوا إِلَى مُصَلَّاهُمْ بَعْدَ أَنْ أَخْبَرَهُ الرَّكْبُ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ، وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ حَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ... وَسَاقَهُ.

 قَالَ: فَالْأَمْرُ بِالْخُرُوجِ يَقْتَضِي الْأَمْرَ بِالصَّلَاةِ لِمَنْ لَا عُذْرَ لَهَا بِفَحْوَى الْخِطَابِ، وَالرِّجَالُ أَوْلَى مِنَ النِّسَاءِ بِذَلِكَ؛ بَلْ ثَبَتَ الْأَمْرُ الْقُرْآنِيُّ بِصَلَاةِ الْعِيدِ كَمَا ذَكَرَهُ أَئِمَّةُ التَّفْسِيرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}[الكوثر: 2]، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: الْمُرَادُ: صَلَاةُ الْعِيدِ.

وَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى وُجُوبِهَا: أَنَّهَا مُسْقِطَةٌ لِلْجُمُعَةِ إِذَا اتَّفَقَتَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ, وَمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ لَا يُسْقِطُ مَا كَانَ وَاجِبًا)).

وَقَالَ: ((وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تَجِبُ صَلَاةُ الْعِيدِ عَلَى كُلِّ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ، وَيُشْتَرَطُ لِصَلَاةِ الْعِيدِ مَا يُشْتَرَطُ لِلْجُمُعَةِ)).

قَالَ الْأَلْبَانِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وُجُوبُ خُرُوجِ النِّسَاءِ إِلَى مُصَلَّى الْعِيدِ)).

عَنْ أُخْتِ عَبْدِ اللهِ بْنِ رَوَاحَةَ الْأَنْصَارِيَّةِ، عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((وَجَبَ الْخُرُوجُ عَلَى كُلِّ ذَاتِ نِطَاقٍ -يَعْنِي: فِي الْعِيدَيْنِ-)).

فَالرِّجَالُ أَوْلَى كَمَا قَالَ صِدِّيق حَسَن خَان -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-.

فَصَلَاةُ الْعِيدِ؛ الْأَدِلَّةُ مُتَظَاهِرَةٌ مُتَضَافِرَةٌ عَلَى وُجُوبِهَا.

*وَفِي يَوْمِ الْعِيدِ يُلْبَسُ الْجَدِيدُ:

فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَلْبَسُ يَوْمَ الْعِيدِ بُرْدَةً حَمْرَاءَ)). أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي ((الْأَوْسَطِ))، وَجَوَّدَهُ أَيْ: جَوَّدَ إِسْنَادَهُ- الْأَلْبَانِيُّ، وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّهُ لَا يُرِيدُ الْأَحْمَرَ الْمُصْمَتَ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَدْ نَهَى عَنْ لُبْسِهِ.

وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لَا يَغْدُو يَوْمَ الْفِطْرِ حَتَّى يَأْكُلَ تَمْرَاتٍ، وَيَأْكُلُهُنَّ وِتْرًا)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِهِ)).

وَعَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لَا يَخْرُجُ يَوْمَ الْفِطْرِ حَتَّى يَأْكُلَ، وَكَانَ لَا يَأْكُلُ يَوْمَ النَّحْرِ حَتَّى يَرْجِعَ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَه، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

*وَيُسْتَحَبُّ مُخَالَفَةُ الطَّرِيقِ يَوْمَ الْعِيدِ، فَيَذْهَبُ فِي طَرِيقٍ، وَيَرْجِعُ فِي آخَرَ:

أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا كَانَ يَوْمُ عِيدٍ؛ خَالَفَ الطَّرِيقَ)).

«سُنَّةُ التَّكْبِيرِ مُنْفَرِدًا فِي الطَّرِيقِ وَالْمُصَلَّى بِصَوْتٍ مُرْتَفِعٍ»

عَلَيْنَا أَنْ نُكَبِّرَ فِي الطَّرِيقِ عِنْدَ الذَّهَابِ إِلَى الْمُصَلَّى بِصَوْتٍ عَالٍ، لَا نَسْتَحِي؛ لِأَنَّهُ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا نَسْتَحِي مِنَ التَّكْبِيرِ.

تُكَبِّرُ بِصَوْتٍ مُرْتَفِعٍ, وَأَنْتَ سَائِرٌ فِي الطَّرِيقِ إِلَى أَنْ تَجْلِسَ فِي الْمُصَلَّى، فَعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَتْ: «كُنَّا نُؤْمَرُ أَنْ نَخْرُجَ يَوْمَ العِيدِ حَتَّى نُخْرِجَ البِكْرَ مِنْ خِدْرِهَا، حَتَّى نُخْرِجَ الحُيَّضَ، فَيَكُنَّ خَلْفَ النَّاسِ، فَيُكَبِّرْنَ بِتَكْبِيرِهِمْ، وَيَدْعُونَ بِدُعَائِهِمْ، يَرْجُونَ بَرَكَةَ ذَلِكَ اليَوْمِ وَطُهْرَتَهُ».

*وَإِذَا دَخَلْتَ الْمُصَلَّى لَا تُصَلِّ؛ لِأَنَّهُ لَا صَلَاةَ فِي الْمُصَلَّى -يَعْنِي قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ-»، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: «أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ خَرَجَ يَوْمَ الفِطْرِ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَمْ يُصَلِّ قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا، وَمَعَهُ بِلَالٌ».

*التَّكْبِيرُ فِي عِيدِ الْأَضْحَى:

وَقَدْ صَحَّ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- التَّكْبِيرُ مِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْفَجْرِ يَوْمَ عَرَفَةَ إِلَى الْعَصْرِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ: «اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، وَللهِ الْحَمْدُ». أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي «تَمَامِ الْمِنَّةِ».

*وَمِنْ صِيَغِ التَّكْبِيرِ الثَّابِتَةِ: «اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ»؛ فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «أَنَّهُ كَانَ يُكَبِّرُ صَلَاةَ الْغَدَاةِ يَوْمَ عَرَفَةَ إِلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ, يَقُولُ: اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ».

وَمِنْ صِيَغِ التَّكْبِيرِ أَيْضًا: «اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، وَللهِ الْحَمْدُ، اللهُ أَكْبَرُ وَأَجَلُّ، اللهُ أَكْبَرُ عَلَى مَا هَدَانَا»( [2]).

فَالتَّكْبِيرُ يَكُونُ بِأَيِّ صِيغَةٍ مِنْ صِيَغِ التَّكْبِيرِ الْوَارِدَةِ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

*التَّحْذِيرُ مِنْ بِدْعَةِ التَّكْبِيرِ الْجَمَاعِيِّ:

«وَإِذَا مَا جَلَسَ الْإِنْسَانُ فِي الْمُصَلَّى عَلَيْهِ أَنْ يُكَبِّرَ وَحْدَهُ»، وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ قَائِدٌ يَأْخُذُ الْمُكَبِّرَ -مُكْبِّرَ الصَّوْتِ- وَيَقُولُ: اللهُ أَكْبَرُ... وَهُمْ يَسِيرُونَ خَلْفَهُ مِثْلَ الْمَايِسْتِرُو مَعَ فِرْقَتِهِ، فَهَذَا غَيْرُ وَارِدٍ، وَلَيْسَ مِنَ السُّنَّةِ!!

 كُلُّ وَاحِدٍ يُكَبِّرُ وَحْدَهُ مَعَ رَبِّهِ وَحْدَهُ-، وَأَمَّا التَّكْبِيرُ عَلَى صُورَةٍ وَاحِدَةٍ، عَلَى نِظَامٍ وَاحِدٍ، فِي نَفَسٍ وَاحِدٍ، بِصَوْتٍ وَاحِدٍ، فَهَذَا بِدْعَةٌ.

النَّاسُ يُعْلِنُونَ التَّكْبِيرَ لَا يَسْتَحُونَ، يُكَبِّرُونَ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فِي الطُّرُقَاتِ، عَلَى الْفُرُشِ، فِي الْبُيُوتِ، وَفِي كُلِّ مَكَانٍ، لَا يَتَوَاطَؤُونَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَثْبُتْ قَطُّ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ مِنْ صُبْحِ يَوْمِ عَرَفَةَ إِلَى عَصْرِ الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ يَأْتُونَ بِالتَّكْبِيرِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ عَلَى صَوْتٍ وَاحِدٍ مَعَ الْجَهْرِ فِي مَسَاجِدِ اللهِ بِعَقِبِ الصَّلَوَاتِ؛ هَذِهِ بِدْعَةٌ، وَالتَّكْبِيرُ الْجَمَاعِيُّ بِدْعَةٌ فِي الطُّرُقَاتِ، فِي الْمَسَاجِدِ، فِي الْمُصَلَّى، وَإِنَّما «يُكَبِّرُ كُلٌّ رَبَّهُ بِنَفْسِهِ وَحْدَهُ، يَرْفَعُ بِذَلِكَ صَوْتَهُ، هَذِهِ هِيَ السُّنَّةُ فِيهِ»، يُكَبِّرُ رَبَّهُ، وَيَشْكُرُ وَيَفْرَحُ فِي يَوْمِ الْعِيدِ؛ بِنِعْمَةِ اللهِ عَلَيْهِ، يَفْرَحُ بِالطَّاعَةِ، وَيَشْكُرُ اللهَ بِهَا.

فَيُكَبِّرُ التَّكْبِيرَ الْمُطْلَقَ فِي كُلِّ وَقْتٍ مِنْ أَوَّلِ ذِي الْحِجَّةِ إِلَى عَصْرِ الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ وَالصِّغَارُ وَالْكِبَارُ فِي الْبُيُوتِ وَالْأَسْوَاقِ وَالْمَسَاجِدِ وَغَيْرِهَا إِلَّا فِي الْأَمَاكِنِ الَّتِي لَيْسَتْ مَحَلًّا لِذِكْرِ اللهِ تَعَالَى.

وَيُكَبَّرُ تَكْبِيرٌ مُقَيَّدٌ عَقِبَ الصَّلَوَاتِ مِنْ فَجْرِ عَرَفَةَ إِلَى عَصْرِ الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ مِنْ غَيْرِ مَا تَوَاطِئٍ وَلَا اجْتِمَاعٍ مُتَعَمَّدٍ عَلَى التَّكْبِيرِ.

((بِتَصَرُّفٍ مِنَ التَّعِلِيقِ عَلَى الشَّرْحِ الْمُمْتِعِ -كِتَابُ الصَّلَاةِ- بَابَ: صَلَاةُ الْعِيدَيْنِ)).

 

((الْفَرَحُ الشَّرْعِيُّ فِي عِيدِ الْمُسْلِمِينَ))

شَرَعَ اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- أَيْضًا الْفَرَحَ فِي أَيَّامٍ هِيَ مِنْ أَعْيَادِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «يَوْمُ النَّحْرِ وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَعْيَادُنَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ».

وَلِذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَصُومَ الْإِنْسَانُ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَهِيَ الحَادِي عَشَرَ، وَالثَّانِيَ عَشَرَ، وَالثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ؛ وَأَمَّا يَوْمُ النَّحْرِ فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ عِيدُ الْمُسْلِمِينَ الْأَكْبَرُ, وَهُوَ بِعَقِبِ أَدَاءِ النُّسُكِ الجَلِيلِ الَّذِي يُيَسِّرُهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِمَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ؛ مِنَّةً مِنْهُ وَعَطَاءً.

وَقَدْ رَخَّصَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِاللَّعِبِ الَّذِي لَا مَعْصِيَةَ فِيهِ يَوْمَ الْعِيدِ:

فَعَنْ عَائِشَةَ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَتْ: ((دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ مِنْ جَوَارِي الْأَنْصَارِ تُغَنِّيَانِ بِمَا تَقَاوَلَتِ الْأَنْصَارُ يَوْمَ بُعَاثٍ -وَهُوَ شِعْرٌ حَمَاسِيٌّ-، قَالَتْ: وَلَيْسَتَا بِمُغَنِّيَتَيْنِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَمَزَامِيرُ الشَّيْطَانِ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللهِ ﷺ؟!! وَذَلِكَ فِي يَوْمِ عِيدٍ)).

وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَتْ عَائِشَةُ: ((دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ ﷺ وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِغِنَاءِ بُعَاثٍ، فَاضْطَجَعَ عَلَى الْفِرَاشِ وَحَوَّلَ وَجْهَهُ، وَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ فَانْتَهَرَنِي, وَقَالَ: مِزْمَارَةُ الشَّيْطَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ؟!! فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ فَقَالَ: ((دَعْهُمَا))، فَلَمَّا غَفَلَ غَمَزْتُهُمَا فَخَرَجَتَا)).

وَفِي حَدِيثِ نُبَيْشَةَ الْهُذَلِيِّ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ))، وَفِيهِ رِوَايَةٌ: وَزَادَ فِيهِ: ((وَذِكْرٍ للهِ -عَزَّ وَجَلَّ- )).

وَتُسْتَحَبُّ التَّهْنِئَةُ بِالْعِيدِ:

فَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، قَالَ: ((كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ ﷺ إِذَا الْتَقَوْا يَوْمَ الْعِيدِ؛ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: ((تَقَبَّلَ اللهُ مِنَّا وَمِنْكُمْ)).

فَهَذَا اللَّهْوُ الْمُرَخَّصُ فِيهِ مُرَخَّصٌ فِيهِ، فَهُوَ لَهْوٌ مُرَخَّصٌ فِيهِ، وَلَيْسَ بِأَيِّ لَهْوٍ، وَأَمَّا أَنْ يُتَوَسَّعَ فِي ذَلِكَ حَتَّى يَصِيرَ الْمَرْءُ إِلَى مَا حَرَّمَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ؛ فَمَا يَلِيقُ بِعَبْدٍ أَنْ يُقَابِلَ نِعْمَةَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَيْهِ بِمِثْلِ هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ.

*تَفْصِيلُ الْقَوْلِ فِي اجْتِمَاعِ الْعِيدِ وَالْجُمُعَةِ:

عِبَادَ اللهِ! إِنَّنَا مِنَ المُحْتَمَلِ-فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ الْقَادِمِ سَيَجْتَمِعُ -بِفَضْلِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ- فِيهِ عِيدَانِ؛ لِنَجْتَهِدْ فِي إِبْلَاغِ إِخْوَانِنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِمَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ الصَّالِحِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ- وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ فِي شَأْنِ الصَّلَاتَيْنِ؛ صَلَاةِ الْعِيدِ وَصَلَاةِ الْجُمُعَةِ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ إِذَا مَا اجْتَمَعَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ عِيدٌ وَجُمُعَةٌ، هَلْ يُجْزِئُ الْعِيدُ عَنِ الْجُمُعَةِ؟

1*فَقَالَ قَوْمٌ: ((يُجْزِئُ الْعِيدُ عَنِ الْجُمُعَةِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ إِلَّا الْعَصْرُ فَقَطْ)).

وَهُوَ مَذْهَبُ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلَيٍّ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ.

وَلَا مُخَالِفَ لَهُمْ مِنَ الْأَصْحَابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، فَهُوَ مَذْهَبُ الْأَصْحَابِ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَسَعِيدٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَكَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ.

وَدَلِيلُ هَذَا الْقَوْلِ مَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ، قَالَ: ((قَدِ اجْتَمَعَ فِي يَوْمِكُمْ هَذَا عِيدَانِ، فَمَنْ شَاءَ أَجْزَأَهُ مِنَ الْجُمُعَةِ، وَإِنَّا مُجَمِّعُونَ)). وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَه، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

فَصَلَّى الْجُمُعَةَ ﷺ، وَرَخَّصَ لِمَنْ شَهِدَ الْعِيدَ أَلَّا يُصَلِّيَ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ فَلْيُصَلِّ.

2*وَقَالَ قَوْمٌ: ((هَذِهِ رُخْصَةٌ لِأَهْلِ الْبَوَادِي الَّذِينَ يَرِدُونَ الْأَمْصَارَ لِلْعِيدِ وَالْجُمُعَةِ)).

وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ(رح2).

وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي ((الْمَوَطَّأِ))، عَنْ عُثْمَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ خَطَبَ فِي يَوْمِ عِيدٍ وَجُمُعَةٍ، فَقَالَ: ((مَنْ أَحَبَّ مِنْ أَهْلِ الْعَالِيَةِ -وَالْعَوَالِي مِنَ الْمَدِينَةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ، وَقِيلَ ثَلَاثَةٌ، وَهَذَا حَدُّ أَدْنَاهَا، وَأَعْلَاهَا ثَمَانِيَةُ أَمْيَالٍ- أَنْ يَنْتَظِرَ الْجُمُعَةَ فَلْيَنْتَظِرْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَرْجِعَ فَلْيَرْجِعْ)).

3*وَقَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: ((إِذَا اجْتَمَعَ عِيدٌ وَجُمُعَةٌ فَالْمُكَلَّفُ مُخَاطَبٌ بِهِمَا جَمِيعًا، الْعِيدُ عَلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ وَالْجُمُعَةُ عَلَى أَنَّهَا فَرْضٌ، وَلَا يَنُوبُ أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ، هَذَا هُوَ الْأَصْلُ إِلَّا أَنْ يَثْبُتَ فِي ذَلِكَ شَرْعٌ يَجِبُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ)).

وَقَدْ ثَبَتَ وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

4*وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: ((تَسْقُطُ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ عَمَّنْ صَلَّى الْعِيدَ إِلَّا الْإِمَامُ)).

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: ((وَإِنِ اتَّفَقَ عِيدٌ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ؛ سَقَطَ حُضُورُ الْجُمُعَةِ عَمَّنْ صَلَّى الْعِيدَ إِلَّا الْإِمَامُ، فَإِنَّهَا لَا تَسْقُطُ عَنْهُ إلَّا أَنْ لَا يَجْتَمِعَ لَهُ مَنْ يُصَلِّي بِهِ الْجُمُعَةَ)).

وَقِيلَ فِي وُجُوبِهَا عَلَى الْإِمَامِ رِوَايَتَانِ.

*وَالرَّاجِحُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ:

أَنَّ الْجُمُعَةَ تَسْقُطُ عَمَّنْ صَلَّى الْعِيدَ فِي جَمَاعَةٍ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ مَا صَحَّ بِهِ الْحَدِيثُ، وَعَلَيْهِ عَمَلُ السَّلَفِ، وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الْإِمَامُ وَالْمَأْمُومُ، فَالرُّخْصَةُ عَامَّةٌ لِلْإِمَامِ وَسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ ﷺ: ((وَإِنَّا مُجَمِّعُونَ)): فَغَايَةُ مَا فِيهِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُمْ بِأَنَّهُ سَيَأْخُذُ بِالْعَزِيمَةِ، وَأَخْذُهُ بِهَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَلَّا رُخْصَةَ فِي حَقِّهِ وَحَقِّ مَنْ تَقُومُ بِهِمُ الْجُمُعَةُ، وَقَدْ تَرَكَهَا ابْنُ الزُّبَيْرِ فِي أَيَّامِ خِلَافَتِهِ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، بَلْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَمَّا أُخْبِرَ بِذَلِكَ: ((أَصَابَ السُّنَّةَ)).

فَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ بِسَنَدِهِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، قَالَ: ((صَلَّى بِنَا ابْنُ الزُّبَيْرِ فِي يَوْمِ عِيدٍ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ أَوَّلَ النَّهَارِ، ثُمَّ رُحْنَا إِلَى الْجُمُعَةِ فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْنَا، فَصَلَّيْنَا وُحْدَانًا -أَيْ صَلَّوُا الظُّهْرَ مُنْفَرِدِينَ؛ لِأَنَّ الْجُمُعَةَ لَا تَصِحُّ إِلَّا فِي جَمَاعَةٍ- وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِالطَّائِفِ، فَلَمَّا قَدِمَ، ذَكَرْنَا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: أَصَابَ السُّنَّةَ)). وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَأْخُذَ بِالرُّخْصَةِ وَيَكْتَفِي بِصَلَاةِ الْعِيدِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَأْخُذَ بِالْعَزِيمَةِ فَلَهُ فِي رَسُولِ اللهِ ﷺ أُسْوَةٌ فِي قَوْلِهِ ﷺ: ((وَإِنَّا مُجَمِّعُونَ)).

أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَه وَالنَّسَائِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَالدَّارِمِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، عَنْ إِيَاسِ بْنِ أَبِي رَمْلَةَ الشَّامِيِّ، قَالَ: ((شَهِدْتُ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ وَهُوَ يَسْأَلُ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ، قَالَ: أَشَهِدْتَ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ عِيدَيْنِ اجْتَمَعَا فِي يَوْمٍ؟

قال: نَعَمْ.

قال: فَكَيْفَ صَنَعَ؟

قال: صَلَّى الْعِيدَ، ثُمَّ رَخَّصَ فِي الْجُمُعَةِ، فَقَالَ: ((مَنْ شَاءَ أَنْ يُصَلِّيَ فَلْيُصَلِّ)). وَالْحَدِيثُ ثَابِتٌ صَحِيحٌ.

وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَطَاءٍ، قَالَ: ((اِجْتَمَعَ يَوْمُ جُمُعَةٍ، وَيَوْمُ فِطْرٍ عَلَى عَهْدِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ: عَيدَانِ اجْتَمَعَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، فَجَمَعَهُمَا جَمِيعًا، فَصَلَّاهُمَا رَكْعَتَيْنِ بُكْرَةً لَمْ يَزِدْ عَلَيْهِمَا حَتَّى صَلَّى الْعَصْرَ)). وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((قَدِ اِجْتَمَعَ فِي يَوْمِكُمْ هَذَا عِيدَانِ، فَمَنْ شَاءَ أَجْزَأَهُ -أَيْ الْعِيدُ- مِنْ الْجُمُعَةِ، وَإِنَّا مُجَمِّعُونَ)).

فَمَذْهَبُ الصَّحَابَةِ -كَمَا تَرَوْنَ- أَنَّ الْجُمُعَةَ يَسْقُطُ فَرْضُهَا، وَتَصِيرُ الصَّلَاةُ بَعْدَ ذَلِكَ لِمَنْ شَاءَ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((مَنْ شَهِدَ أَجْزَأَهُ، وَإِنَّا مُجَمِّعُونَ)).

وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ مُجَمِّعُونَ.

وَمَا أَحْسَبُ أَنَّ الصَّحَابَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- تَرَكُوا النَّبِيَّ ﷺ يُجَمِّعُ وَحْدَهُ، بَلْ صَلَّوْا مَعَهُ، وَلَكِنْ لِنَعْلَمَ الْحُكْمَ؛ لِأَنَّهُ دِينُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَحَتَّى لَا يَتَلَعَّبَ بِنَا أَحَدٌ.

وَكَمَا تَرَى فِي أَمَانَةِ الْعِلْمِ أَدَاءً وَحَمْلًا يَنْبَغِي أَنْ نَقُولَ الرَّأْيَ وَالرَّأْيَ الْمُخَالِفَ، وَأَنْ نَنْظُرَ فِي الْأَقْوَالِ تَرْجِيحًا بِكَلَامِ أَهْلِ الْعِلْمِ الْأَثْبَاتِ، ثُمَّ نَصِيرُ بَعْدُ إِلَى مَا أَثْبَتَهُ وَنَصَرَهُ الدَّلِيلُ.

 ((عِيدُكُمْ السَّعِيدُ بِالتَّطَهُّرِ مِنَ الشِّرْكِ، وَالْبِدَعِ وَالْمَعَاصِي))

عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَجْتَهِدَ؛ لِكَيْ يَكُونَ فِي عِيدٍ حَقًّا وَصِدْقًا، عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي طَهَارَةِ قَلْبِهِ وَنَفْسِهِ، عَلَيْهِ أَنْ يَحْنُوَ عَلَى ضَمِيرِهِ وَدَاخِلَتِهِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُفَتِّشَ فِي أَطْوَاءِ رُوحِهِ وَقَلْبِهِ، مِنْ أَجْلِ أَنْ يَسْتَخْرِجَ الدَّغَلَ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي اسْتِخْرَاجِ الْحِقْدِ وَالْحَسَدِ، وَالْغِلِّ وَالْغِشِّ لِلْمُسْلِمِينَ.

عَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي أَنْ يُخْرِجَ الشِّرْكَ مِنْ قَلْبِهِ، وَالْبِدْعَةَ كَذَلِكَ، وَأَنْ يَضْبِطَ سُلُوكَهُ وَمِنْهَاجَهُ عَلَى مِنْهَاجِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، كَمَا فِي قَوْلِ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْمُزَنِيِّ عِنْدَمَا قَالَ: ((مَا سَبَقَهُمْ أَبُو بَكْرٍ بِكَثِيرِ صَوْمٍ وَلَا صَلَاةٍ، وَلَكِنْ بِشَيْءٍ وَقَرَ فِي قَلْبِهِ)).

فَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي رِعَايَةِ قَلْبِهِ وَحِيَاطَةِ رُوحِهِ، وَفِي التَّفْتِيشِ وَالتَّنْقِيبِ فِي أَطْوَاءِ نَفْسِهِ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَكُونَ جَدِيرًا بِالِانْتِسَابِ إِلَى آدَمَ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَنْحَطُّ يَنْتَسِبُ إِلَى الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، فَهُوَ شَيْطَانِيٌّ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَأَمَّا أَهْلُ الْحَقِّ فَإِنَّهُمْ يَضْبِطُونَ الظَّاهِرَ وَالْبَاطِنَ عَلَى: قَالَ اللهُ، قَالَ رَسُولُهُ ﷺ.

تَوَاسَوْا -عِبَادَ اللهِ-؛ فَإِنَّ نَبِيَّكُمْ ﷺ ذَكَرَ الْفَضْلَ أَيْ: الزِّيَادَةَ مِمَّا عِنْدَهُ-  مِنْ ظَهْرٍ وَثِيَابٍ وَمَتَاعٍ، فَمَا زَالَ يَذْكُرُ مِنْ أَنْوَاعِ الْفَضْلِ حَتَّى قَالَ الرَّاوِي: حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ مِنَّا فِي الْفَضْلِ: ((مَنْ كَانَ عِنْدَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ؛ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا ظَهْرَ لَهُ، مَنْ كَانَ عِنْدَهُ فَضْلُ ثَوْبٍ؛ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا ثَوْبَ لَهُ)).

تَوَاسَوْا -عِبَادَ اللهِ-؛ فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَتَوَادُّونَ، يَتَرَاحَمُونَ.

إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ بَيَّنَ لَكُمْ مَثَلًا مَحْسُوسًا ظَاهِرًا: ((مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى)).

إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ بَيَّنَ اللُّحْمَةَ الْإِيمَانِيَّةَ الَّتِي تَكُونُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، الَّتِي تَكُونُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِﷺ، أَيَحِلُّ لِأَحَدٍ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَبِيتَ لَيْلَةً وَجَارُهُ بِجِوَارِهِ جَائِعٌ وَهُوَ يَعْلَمُ؟!

فَإْنْ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ؛ فَهِيَ أَكْبَرُ وَأَفْظَعُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَفَقَّدَ أَحْوَالَهُ؛ لَعَلِمَ أَهُوَ جَائِعٌ أَمْ لَا؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَتَوَاسُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ؛ بَلْ كَانَ هَذَا التَّوَاسِي قَائِمًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ عِنْدَ أَقْوَامٍ شَرُفَتْ نُفُوسُهُمْ، فَكَانُوا يُحِبُّونَ أَنْ يُعْطُوا كَمَا لَوْ أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ، حُبِّبَ إِلَيْهِمُ الْعَطَاءُ؛ حَتَّى خَافُوا أَلَّا يُؤْجَرُوا عَلَيْهِ، هَؤُلَاءِ سَلَفُنَا: ((لَقَدْ حُبِّبَ إِلَيْنَا الْعَطَاءُ حَتَّى خِفْنَا أَلَّا نُؤْجَرَ عَلَيْهِ)).

قَاتِلُوا شُحَّ النَّفْسِ؛ فَإِنَّهُ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّ الشُّحَّ قَائِمٌ، وَلَكِنَّ الْمُفْلِحَ مَنْ جَعَلَ اللهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شُحِّ قَلْبِهِ وِقَايَةً.

{وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [التغابن: 16]

فَالشُّحُّ قَائِمٌ لَا مَحَالَةَ، لَا يُمْكِنَ أَنْ يَذْهَبَ {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[التغابن: 16]، فَالْمُفْلِحُ مَنْ جَعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شُحِّ نَفْسِهِ وِقَايَةً.

ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ أَنَّهُ ذَبَحَ ذَبِيحَتَهُ، ثُمَّ خَرَجَ، فَلَمَّا عَادَ؛ قَالَ لِعَائِشَةَ: ((مَا فَعَلَتِ الْأُضْحِيَّةُ يَا عَائِشَةُ؟))

فَقَالَتْ: ذَهَبَتْ كُلُّهَا إِلَّا الذِّرَاعَ.

فَقَالَ مُصَحِّحًا: ((بَلْ بَقِيَتْ كُلُّهَا إِلَّا الذِّرَاعَ)).

 فَأَهْدَتْ وَتَصَدَّقَتْ، وَلَمْ تُبْقِ إِلَّا الذِّرَاعَ الْيُمْنَى الْأَمَامِيَّةَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ كَانَ يُحِبُّهَا ﷺ.

فَقَالَتْ: ذَهَبَتْ كُلُّهَا إِلَّا الذِّرَاعَ.

قَالَ: ((بَلْ بَقِيَتْ كُلُّهَا إِلَّا الذِّرَاعَ)): فَمَا أَبْقَيْتِ فَنِيَ، وَمَا تَصَدَّقْتِ وَأَخْرَجْتِ بَقِيَ!!

فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ-، طَهِّرُوا نُفُوسَكُمْ، طَهِّرُوا قُلُوبَكُمْ، طَهِّرُوا أَرْوَاحَكُمْ، دَعُوكُمْ مِنَ الْغِيبَةِ، دَعُوكُمْ مِنَ النَّمِيمَةِ، دَعُوكُمْ مِنَ الْكَذِبِ، دَعُوكُمْ مِنَ الْخِيَانَةِ، دَعُوكُمْ مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْأَعْرَاضِ، أَهَذَا الْتِزَامُكُمْ بِدِينِكُمْ؟!

إِنَّهَا مِنَ الْكَبَائِرِ، أَنْتَ تَغْتَابُ -وَالْغِيبَةُ مِنَ الْكَبَائِرِ- فِي يَوْمِ عَرَفَةَ، وَأَنْتَ صَائِمٌ؛ فَأَيُّ تَكْفِيرٍ لِذُنُوبِكَ يَكُونُ؟!!

تَكْذِبُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ وَأَنْتَ صَائِمٌ؛ فَأَيُّ تَكْفِيرٍ لِذُنُوبِكَ يَكُونُ؟!!

تَنِمُّ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ وَأَنْتَ صَائِمٌ؛ فَأَيُّ تَكْفِيرٍ لِذُنُوبِكَ يَكُونُ؟!!

تَنْظُرُ إِلَى الْمُحَرَّمَاتِ، وَتَسْمَعُ الْخَنَا، وَتَمْضِي فِي السَّيِّئَاتِ، وَتَسْعَى فِي خَرَابِ الْبُيُوتِ؛ فَأَيُّ تَكْفِيرٍ لِذُنُوبِكَ يَكُونُ؟!!

اتَّقِ اللهَ!

 اتَّقِ اللهَ وَحْدَهُ، وَاخْشَ يَوْمًا تَقِفُ فِيهِ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّكَ، وَتُعْرَضُ عَلَيْهِ، وَيُقَرِّرُكَ بِذُنُوبِكَ، أَبِشِمَالِكَ صَحِيفَةُ سَيِّئَاتِكَ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِكَ ؟!

اتَّقِ اللهَ، وَعُدْ إِلَى اللهِ، وَأَصْلِحْ مَا أَفْسَدْتَ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

 

المصدر : فضل يوم عرفة، والدروس المستفادة من خطبة حجة الوداع

 

 

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  الْإِيمَانُ وَآثَارُهُ فِي الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ
  حِمَايَةُ الْأَوْطَانِ بَيْنَ فَرْضِ الْعَيْنِ وَفَرْضِ الْكِفَايَةِ
  إلى أهل المغرب الحبيب
  إِعْمَالُ الْعَقْلِ فِي فَهْمِ النَّصِّ.. الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَدْرَسَتُهُ الْفِقْهِيَّةُ أُنْمُوذَجًا
  الْقُوَّةُ وَالثَّبَاتُ فِي مُوَاجَهَةِ التَّحَدِّيَاتِ
  وَحْدَةُ الْوَطَنِ سَبِيلُ قُوَّتِهِ
  أَفْضَلُ أَيَّامِ الْعَامِ وَدُرُوسٌ مِنْ قِصَّةِ الْخَلِيلِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-
  مُحَاسَبَةُ النَّفْسِ
  تَفْرِيغُ مُحَاضَرَاتِ سِلْسِلَة: «الرَّدُّ عَلَى الْمُلْحِدِينَ»
  تَرْبِيَةُ الْأَوْلَادِ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّة وَحُقُوقُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان