تفريغ خطبة يَوْمُ عَرَفَةَ

يَوْمُ عَرَفَةَ

((يَوْمُ عَرَفَةَ))

((الْجُمُعَةُ 9 مِنْ ذِي الْحِجَّةِ 1435 هـ / 3-10-2014م))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.

وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ, وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَيَوْمُ عَرَفَةَ هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي أَكْمَلَ اللهُ فِيهِ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ الدِّينَ، وَأَتَمَّ فِيهِ عَلَيْهِمُ النِّعْمَةَ؛ فَفِيهِ نَزَلَ قَوْلُ اللهِ-جَلَّ وَعَلَا-: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة، 3].

وَلَمْ يَنْزِلْ بَعْدَهَا حَلَالٌ وَلَا حَرَامٌ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ عَاشَ بَعْدَهَا وَاحِدًا وَثَمَانِينَ يَوْمًا.

قَالَ الْبَغَوِيُّ: ((فَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ نَعْيَ رَسُولِ اللهِ ﷺ)).

وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ: ((جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّاب-رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؛ إِنَّكُمْ تَقْرَؤُونَ آيَةً فِي كِتَابِكُمْ لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ نَزَلَتْ؛ لَاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا.

قَالَ: وَأَيُّ آيَةٍ؟

قَالَ: قَوْلُهُ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي}.

فَقَالَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: وَاللهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ الْيَوْمَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ عَلَى رَسُولِ اللهِﷺ، وَالسَّاعَةَ الَّتِي نَزَلَتْ فِيهَا عَلَى رَسُولِ اللهِﷺ؛ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ)).

وَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي يَوْمِ عِيدَيْنِ؛ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ، وَيَوْمِ عَرَفَةَ)).

وَفِي هَذَا الْيَوْمِ يَكْثُرُ عُتَقَاءُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنَ النَّارِ، وَيَجُودُ فِيهِ رَبُّنَا تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَيُبَاهِي بِهِمْ مَلَائِكَتَهُ الْمُقَرَّبِينَ.

رَوَى مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) بِسَنَدِهِ عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، أَنَّ النَّبِيَّﷺ قَالَ: ((مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمُ الْمَلَائِكَةَ، يَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟)).

((مَا مِنْ يَوْمٍ))؛ ((مَا)) هِيَ الْحِجَازِيَّةُ الَّتِي تَعْمَلُ عَمَلَ ((لَيْسَ))، وَ((يَوْمَ)) اسْمُهَا فِي مَحَلِّ رَفْعٍ، وَإِنْ كَانَ لَفْظُهُ مَجْرُورًا، مَجْرُورًا بِـ(مِنْ) الزَّائِدَةِ الِاسْتِغْرَاقِيَّةِ، وَأَمَّا خَبَرُهَا؛ فَـ((أَكْثَرَ)).

((مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ))، ((مِنْ)): هَذِهِ أَيْضًا زَائِدَةٌ، ((أَنْ يُعْتِقَ)): مُؤَوَّلٌ بِالْمَصْدَرِ فِي مَوْضِعِ التَّمْيِيزِ ((أَنْ يُعْتِقَ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ))، ((مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ)): الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ مُتَعَلِّقَانِ بِـ((أَكْثَرَ)).

((وإِنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمُ الْمَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟)) وَالْمَعْنَى: لَيْسَ يَوْمٌ أَكْثَرَ إِعْتَاقًا فِيهِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ.

فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ هَذَا رَضِيَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهَا-: إِثْبَاتُ صِفَةِ النُّزُولِ يَوْمَ عَرَفَةَ، عَلَى مَا يَلِيقُ بِجَلَالِ رَبِّنَا -جَلَّ وَعَلَا- إِذْ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ.

قَالَ أَبُو سَعِيدٍ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ الِإْمَامُ -رَحِمَهُ اللهُ-فِي كِتَابِهِ الْجَلِيلِ ((الرَّدُّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ)) وَقَدْ أَوْرَدَ جُمْلَةً مِنَ الْأَحَادِيثِ فِي نُزُولِ الرَّبِّ تَعَالَى فِي ثُلُثِ اللَّيْلِ الْآخِرِ، وَفِي يَوْمِ عَرَفَةَ، وَفِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ لِلْحِسَابِ، وَكَذَا لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، وَقَدْ صَحَّحَ ذَلِكَ ابْنُ حِبَّانَ، وَجَزَمَ الْأَلْبَانِيُّ بِثُبُوتِهِ بِاعْتِبَارِ مَجْمُوعِ الْأَحَادِيثِ، وَكَذَا نُزُولُهُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ.

فَذَكَرَ ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ: ((قَاَل أَبُو سَعِيدٍ -وَهِيَ كَانَتْ كُنْيِتَهُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: فَهَذِهِ الأَحَادِيثُ قَدْ جَاءَتْ كُلُّهَا وَأَكْثَرُ مِنْهَا فِي نُزُولِ الرَّبِّ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-فِي هَذِهِ الْمَوَاطِنِ، وَعَلَى تَصْدِيقِهَا وَالإِيمَانِ بِهَا أَدْرَكْنَا أَهْلَ الْفِقْهِ وَالْبَصَرِ مِنْ مَشَايِخِنَا، لا يُنْكِرُهَا مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَلا يَمْتَنِعُ مِنْ رِوَايَتِهَا، حَتَّى ظَهَرَتْ هَذِهِ الْعِصَابَةُ يَعْنِي: الْجَهْمِيَّةَ وَالْمُعْتَزِلَةَ- فَعَارَضَتْ آثَارَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِرَدٍّ، وَتَشَمَّرُوا لِدَفْعِهَا بِجِدٍّ، فَقَالُوا: كَيْفَ نُزُولُهُ هَذَا؟

قُلْنَا: لَمْ نُكَلَّفْ مَعْرِفَةَ كَيْفِيَّةِ نُزُولِهِ فِي دُنْيَانَا وَلَا فِي دِينِنَا، وَلا تَعْقِلُهُ قُلُوبُنَا، وَلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ فَنُشَبِّهَ مِنْهُ فِعْلًا أَوْ صِفَةً بِفَعَالِهِمْ وَصِفَتِهِمْ، وَلَكِنْ يَنْزِلُ بِقُدْرَتِهِ وَلُطْفِ رُبُوبِيَّتِهِ كَيْفَ يَشَاءُ، فَالْكَيْفُ مِنْهُ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَالإِيمَانُ بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي نُزُولِهِ تَعَالَى وَاجِبٌ، وَلا يُسْأَلُ الرَّبُّ عَمَّا يَفْعَلُ: كَيْفَ يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ، لأَنَّهُ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ أَنْ يَفْعَلَهُ كَيْفَ يَشَاءُ، وَإِنَّمَا يُقَالُ لِفِعْلِ الْمَخْلُوقِ الضَّعِيفِ الَّذِي لا قُدْرَةَ لَهُ إِلا مَا أَقْدَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ، فَيُقَالُ لَهُ: كَيْفَ يَصْنَعُ؟ وَكَيْفَ قَدَرَ؟!)).

وَأَطَالَ الرَّدَّ عَلَى تِلْكَ الْعِصَابَةِ الَّتِي تُعَطِّلُ الرَّبَّ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَنْ كَمَالَاتِهِ، فَنَفَوْا نُزُولَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.

((وَإِنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمُ الْمَلَائِكَةَ فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟)).

عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((وَقَفَ النَّبِيُّ ﷺ بِعَرَفَاتٍ وَقَدْ كَادَتِ الشَّمْسُ أَنْ تَؤُوبَ، فَقَالَ: ((يَا بِلَالُ أَنْصِتْ لِيَ النَّاسَ)).

فَقَامَ بِلَالٌ، فَقَالَ: أَنْصِتُوا لِرَسُولِ اللهِ ﷺ ، فَأَنْصَتَ النَّاسُ.

فَقَالَ: ((مَعَاشِرَ النَّاسِ؛ أَتَانِي جِبْرِيلُ آنِفًا فَأَقْرَأَنِي مِنْ رَبِّي السَّلَامَ، وَقَالَ: إِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- غَفَرَ لِأَهْلِ عَرَفَاتٍ وَأَهْلِ الْمَشْعَرِ، وَضَمِنَ عَنْهُمُ التَّبِعَاتِ)).

فَقَامَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ هَذِا لَنَا خَاصَّةً؟

قَالَ: ((هَذِا لَكُمْ وَلِمَنْ أَتَى مِنْ بَعْدِكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)).

فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: كَثُرَ خَيْرُ اللهِ وَطَابَ)). وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ لِغَيْرِهِ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنْ رَسُولِ اللهِ قَالَ: ((إِنَّ اللهَ يُبَاهِي بِأَهْلِ عَرَفَاتٍ أَهْلَ السَّمَاءِ، فَيَقُولُ لَهُمْ: انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي جَاءُونِي شُعْثًا غُبْرًا)). رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ كَانَ يَقُولُ: ((إِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يُبَاهِي مَلَائِكَتَهُ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ بِأَهْلِ عَرَفَةَ، فَيَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي شُعْثًا غُبْرًا)). رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي ((الْكَبِيرِ)) وَ((الصَّغِيرِ))، وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ  قَالَ: ((مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمُ الْمَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ -كَمَا مَرَّ-.

وَزَادَ رَزِينٌ فِي ((جَامِعِهِ)) فِيهِ: ((اِشْهَدُوا مَلَائِكَتِي أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ))، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ عِنْدَهُ صَحِيحَةٌ لِغَيْرِهَا.

قَالَ رَسُولُ اللهِ : ((وَأَمَّا وُقُوفُكَ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ؛ فَإِنَّ اللهَ يَهْبِطُ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، فَيُبَاهِي بِكُمُ الْمَلَائِكَةَ، يَقُولُ: عِبَادِي جَاءُونِي شُعْثًا مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، يَرْجُونَ جَنَّتِي؛ فَلَوْ كَانَتْ ذُنُوبُكُمْ كَعَدَدِ الرَّمْلِ، أَوْ كَقَطْرِ الْمَطَرِ، أَوْ كَزَبَدِ الْبَحْرِ؛ لَغَفَرْتُهَا، أَفِيضُوا عِبَادِي مَغْفُورًا لَكُمْ، وَلِمَنْ شَفَعْتُمْ لَهُ)).

وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ حِبَّانَ، قَالَ: ((إِذَا وَقَفَ بِعَرَفَةَ يَعْنِي: الْحَاجَّ-؛ فَإِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يَنْزِلُ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي شُعْثًا غُبْرًا، اشْهَدُوا أَنِّي غَفَرْتُ لَهُمْ ذُنُوبَهُمْ وَإِنْ كَانَتْ عَدَدَ قَطْرِ السَّمَاءِ وَرَمْلِ عَالِجٍ.....الْحَدِيثَ)) رَوَاهُ الْبَزَّارُ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنْ رَسُولِ اللهِ  قَالَ: ((إِنَّ اللهَ يُبَاهِي بِأَهْلِ عَرَفَاتٍ مَلَائِكَةَ السَّمَاءِ، فَيَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي هَؤُلَاءِ؛ جَاءُونِي شُعْثًا غُبْرًا)). رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَهُوَ كَمَا قَالَ.

فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ  قَالَ: ((مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمُ الْمَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَاذَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟)).

قَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-  فِي ((شَرْحِهِ عَلَى مُسْلِمٍ)): ((هَذَا الْحَدِيثُ ظَاهِرُ الدَّلَالَةِ فِي فَضْلِ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَهُوَ كَذَلِكَ)).

قَالَ: ((وَلَوْ قَالَ رَجُلٌ: امْرَأَتُهُ طَالِقٌ فِي أَفْضَلِ الْأَيَّامِ؛ فَلِأَصْحَابِنَا يَعْنِي: الشَّافِعِيَّةَ- وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تُطَلَّقُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ : ((خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ))، كَمَا عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي ((الصَّحِيحِ)).

وَأَصَحُّهُمَا -يَعْنِي الْوَجْهَيْنِ-: يَوْمُ عَرَفَةَ؛ لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَيُتَأَوَّلُ حَدِيثُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ عَلَى أَنَّهُ أَفْضَلُ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ)). انْتَهَى كَلَامُ النَّوَوِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ-.

وَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ: عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ قُرْطٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ  قَالَ: ((إِنَّ أَعْظَمَ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- : يَوْمُ النَّحْرِ، ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ))؛ وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي يَلِي يَوْمَ النَّحْرِ؛ لِأَنَّ الْحَجِيجَ يَقَرُّونَ بِمِنًى.

قَالَ عِيسَى: ((قَالَ ثَوْرٌ -هُوَ ابْنُ يَزِيدَ-: وَهُوَ الْيَوْمُ الثَّانِي)).

وَحَدِيثُ ابْنِ قُرْطٍ صَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ))، وَظَاهِرُهُ: أَنَّ يَوْمَ النَّحْرِ وَيَوْمَ الْقَرِّ أَفْضَلُ الْأَيَّامِ، وَبِهِ جَزَمَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- فَقَالَ فِي ((الزَّادِ)): ((فَخَيْرُ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللهِ يَوْمُ النَّحْرِ وَهُوَ يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ كَمَا فِي ((السُّنَنِ)) عَنْهُ ﷺ  أَنَّهُ قَالَ: ((أَفْضَلُ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللهِ يَوْمُ النَّحْرِ، ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ)).

وَقِيلَ: يَوْمُ عَرَفَةَ أَفْضَلُ مِنْهُ، وَهذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ قَالُوا: لِأَنَّهُ يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، وَصِيَامُهُ يُكَفِّرُ سَنَتَيْنِ وَمَا مِنْ يَوْمٍ يُعْتِقُ اللهُ فِيهِ الرِّقَابَ أَكْثَرَ مِنْهُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ، وَلِأَنَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَدْنُو فِيهِ مِنْ عِبَادِهِ، ثُمَّ يُبَاهِي مَلَائِكَتَهُ بِأَهْلِ الْمَوْقِفِ)).

قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: ((وَالصَّوَابُ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ الدَّالَّ عَلَى ذَلِكَ لَا يُعَارِضُهُ شَيْءٌ يُقَاوِمُهُ، وَالصَّوَابُ: أَنَّ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ هُوَ يَوْمُ النَّحْرِ؛ لِقَوْلِهِ -جَلَّ وَعَلَا- : {وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ} [التوبة: 3].

فَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)): أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعَلِيًّا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-  أَذَّنَا بِذَلِكَ يَوْمَ النَّحْرِ، لَا يَوْمَ عَرَفَةَ.

وَفِي ((سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ)) بِأَصَحِّ إِسْنَادٍ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ  قَالَ: ((يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ يَوْمُ النَّحْرِ)).

وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَيَوْمُ عَرَفَةَ مُقَدِّمَةٌ لِيَوْمِ النَّحْرِ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَإِنَّ فِيهِ يَكُونُ الْوُقُوفُ، وَالتَّضَرُّعُ، وَالتَّوْبَةُ، وَالِابْتِهَالُ، وَالِاسْتِقَالَةُ، ثُمَّ يَوْمُ النَّحْرِ تَكُونُ الْوِفَادَةُ وَتَكُونُ الزِّيَارَةُ، وَلِهَذَا سُمِّيَ طَوَافُهُ طَوَافَ الزِّيَارَةِ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ طَهُرُوا مِنْ ذُنُوبِهِمْ يَوْمَ عَرَفَةَ، ثُمَّ أَذِنَ لَهُمْ رَبُّهُمْ يَوْمَ النَّحْرِ فِي زِيَارَتِهِ وَالدُّخُولِ عَلَيْهِ فِي بَيْتِهِ، وَلِهَذَا كَانَ فِيهِ ذَبْحُ الْقَرَابِينَ، وَحَلْقُ الرُّؤُوسِ، وَرَمْيُ الْجِمَارِ، وَمُعْظَمُ أَفْعَالِ الْحَجِّ، وَعَمَلُ يَوْمِ عَرَفَةَ كَالطُّهُورِ وَالِاغْتِسَالِ بَيْنَ يَدَيْ هَذَا الْيَوْمِ -يَعْنِي يَوْمَ النَّحْرِ-)).

وَفِي ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ)) عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ : ((ثَلَاثٌ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ؛ فَهَذَا صِيَامُ الدَّهْرِ كُلِّهِ)).

((صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ؛ أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ، وَصِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ؛ أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ)).

وَفِي لَفْظٍ: وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ، فَقَالَ: ((يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ)).

وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ: تَكْفِيرُ الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: هَذَا خَاصٌّ بِالصَّغَائِرِ، وَالْكَبَائِرُ تُكَفَّرُ بِالتَّوْبَةِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- : ((فَإِنْ لَمْ تَكُنْ صَغَائِرُ؛ كُفِّرَ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ كَبَائِرُ؛ كَانَ زِيَادَةً فِي رَفْعِ الدَّرَجَاتِ)).

وَتَكْفِيرُ صَوْمِ عَرَفَةَ وَعَاشُورَاءَ الذُّنُوبَ لَهُ شُرُوطٌ وَلَهُ مَوَانِعُ:

قَالَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: ((وَكَاغْتِرَارِ بَعْضِهِمْ عَلَى صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَوْ يَوْمِ عَرَفَةَ حَتَّى يَقُولَ بَعْضُهُمْ: يَوْمُ عَاشُورَاءَ يُكَفِّرُ ذُنُوبَ الْعَامِ كُلَّهَا وَيَبْقَى صَوْمُ عَرَفَةَ زِيَادَةً فِي الْأَجْرِ، وَلَمْ يَدْرِ هَذَا الْمُغْتَرُّ أَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ أَعْظَمُ وَأَجَلُّ مِنْ صِيَامِ يَوْمِ عَرَفَةَ وَيَوْمِ عَاشُورَاءَ، وَهِيَ إِنَّمَا تُكَفِّرُ مَا بَيْنَهُمَا إِذَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ، فَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ لَا يَقْوَيَا عَلَى تَكْفِيرِ الصَّغَائِرِ إِلَّا مَعَ انْضِمَامِ تَرْكِ الْكَبَائِرِ إِلَيْهَا، فَيَقْوَى مَجْمُوعُ الْأَمْرَيْنِ عَلَى تَكْفِيرِ الصَّغَائِرِ، فَكَيْفَ يُكَفِّرُ صَوْمُ يَوْمِ تَطَوُّعٍ كُلَّ كَبِيرَةٍ عَمِلَهَا الْعَبْدُ وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَيْهَا غَيْرُ تَائِبٍ مِنْهَا؟!!

فَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ لَا يَقْوَيَانِ عَلَى تَكْفِيرِ الصَّغَائِرِ إِلَّا مَعَ انْضِمَامِ تَرْكِ الْكَبَائِرِ إِلَيْهَا فَيَقْوَى مَجْمُوعُ الْأَمْرَيْنِ عَلَى تَكْفِيرِ الصَّغَائِرِ، فَكَيْفَ يُكَفِّرُ صَوْمُ يَوْمِ تَطَوُّعٍ كُلَّ كَبِيرَةٍ عَمِلَهَا الْعَبْدُ وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَيْهَا غَيْرُ تَائِبٍ مِنْهَا؟!! هَذَا مُحَالٌ.

عَلَى أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ صَوْمُ يَوْمِ عَرَفَةَ وَيَوْمِ عَاشُورَاءَ مُكَفِّرًا لِجَمِيعِ ذُنُوبِ الْعَامِ عَلَى عُمُومِهِ، وَيَكُونُ مِنْ نُصُوصِ الْوَعْدِ الَّتِي لَهَا شُرُوطٌ وَمَوَانِعُ، فَيَكُونُ إِصْرَارُهُ عَلَى الْكَبَائِرِ مَانِعًا مِنَ تَكْفِيرِ ذُنُوبِهِ، فَإِذَا لَمْ يُصِرَّ عَلَى الْكَبَائِرِ لِتُسَاعِدَ الصَّوْمَ، وَكَذَلِكَ مَا يَكُونُ مِنْ عَدَمِ الْإِصْرَارِ، فَيَتَعَاوَنَانِ عَلَى عُمُومِ التَّكْفِيرِ، كَمَا كَانَ رَمَضَانُ وَالصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ مَعَ اجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ مُتَسَاعِدَيْنَ مُتَعَاوِنَيْنَ عَلَى تَكْفِيرِ الصَّغَائِرِ، مَعَ أَنَّهُ-جَلَّ وَعَلَا-  قَدْ قَالَ: {إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31]؛ فَعُلِمَ أَنَّ جَعْلَ الشَّيْءِ سَبَبًا لِتَكْفِيرِ الذُّنُوبِ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَتَسَاعَدَ هُوَ وَسَبَبٌ آخَرُ عَلَى تَكْفِيرِهَا، وَيَكُونُ تَكْفِيرُهَا مَعَ اجْتِمَاعِ السَّبَبَيْنِ أَقْوَى وَأَتَمَّ مِنْهُ مَعَ انْفِرَادِ أَحَدِهِمَا، وَكُلَّمَا قَوِيَتْ أَسْبَابُ تَكْفِيرِ الذُّنُوبِ؛ كَانَ أَقْوَى، وَكَانَ أَتَمَّ وَأَشْمَلَ)). انْتَهَى كَلَامُهُ -رَحِمَهُ اللهُ-.

وَقَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ بَازٍ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: ((كُلُّ ذَلِكَ مُقَيَّدٌ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ، بِالِاسْتِقَامَةِ عَلَى مَا أَوْجَبَ اللهُ، وَتَرْكِ الْكَبَائِرِ، وَأَنَّ هَذِهِ الْفَضَائِلَ وَهَذِهِ الْأَعْمَالَ مِنْ أَسْبَابِ الْمَغْفِرَةِ مَعَ الْأَسْبَابِ الْأُخْرَى الَّتِي شَرَعَهَا اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- ، وَمَعَ السَّلَامَةِ مِنَ الْمَوَانِعِ الَّتِي تَمْنَعُ الْمَغْفِرَةَ، وَذَلِكَ هُوَ الْإِصْرَارُ عَلَى الْكَبَائِرِ، كَمَا قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- : {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ}[آل عمران: 135].

فَشَرَطَ فِي هَذَا عَدْمَ الْإِصْرَارِ، وَالْإِصْرَارُ: هُوَ الْإِقَامَةُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَعَدَمُ التَّوْبَةِ مِنْهَا، وَهُوَ مِنْ أَسْبَابِ عَدَمِ الْمَغْفِرَةِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ)).

وَقَالَ -رَحِمَهُ اللهُ- : ((فَالْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ وَمُسْلِمَةٍ: أَنْ يَحْذَرَ الِاتِّكَالَ عَلَى أَحَادِيثِ التَّرْغِيبِ وَالْوَعْدِ، وَالْإِعْرَاضَ عَنْ أَحَادِيثِ الْوَعِيدِ وَآيَاتِ الْوَعِيدِ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَأْخُذَ بِهَذَا وَهَذَا، يَجِبُ أَنْ يَحْذَرَ مِمَّا حَرَّمَهُ اللهُ مِنَ الْمَعَاصِي، وَأَنْ تَكُونَ عَلَى بَالِهِ الْأَحَادِيثُ وَالْآيَاتُ الَّتِي فِيهَا الْوَعِيدُ لِمَنْ تَعَدَّى حُدُودَ اللهِ وَانْتَهَكَ مَحَارِمَهُ، وَمَعَ ذَلِكَ يُحْسِنُ ظَنَّهُ بِرَبِّهِ، وَيَرْجُوهُ، وَيَتَذَكَّرُ وَعْدَهُ بِالْمَغْفِرَةِ وَبَالرَّحْمَةِ لِمَنْ يَعْمَلُ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ، فَيَجْمَعُ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا، بَيْنَ الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ، فَلَا يَقْنَطُ وَلَا يَأْمَنُ.

وَهَذَا هُوَ طَرِيقُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَأَهْلِ الْإِيمَانِ، كَمَا قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَىٰ وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا ۖ وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90]، وقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {أُولَٰئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء: 57].

وَهَكَذَا أَهْلُ الْإِيمَانِ مِنْ أَتْبَاعِ الرُّسُلِ، هُمْ عَلَى هَذَا السَّبِيلِ، يُوَحِّدُونَ اللهَ، وَيَخْشَوْنَهُ، وَيُؤَدُّونَ فَرَائِضَهُ، وَيَدَعُونَ مَحَارِمَهُ، وَيَرْجُونَهُ وَيَخَافُونَهُ -جَلَّ وَعَلَا- )). انْتَهَى كَلَامُهُ -رَحِمَهُ اللهُ-.

وَقَدْ أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي ((الشُّعَبِ)) بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ الْحُسَيْنِ الْمَرْوَزِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ عَنْ تَفْسِيرِ قَوْلِ النَّبِيِّﷺ : ((أَكْثَرُ دُعَائِي وَدُعَاءِ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلِي بِعَرَفَةَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ))، وَإِنَّمَا هُوَ ذِكْرٌ لَيْسَ فِيهِ دُعَاءٌ.

قَالَ سُفْيَانُ: سَمِعْتُ حَدِيثَ مَنْصُورٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحَارِثِ، فَهَلْ سَمِعْتَهُ؟

قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ.

قَالَ: ذَاكَ تَفْسِيرُ هَذَا.

ثُمَّ قَالَ: أَتْدَرِي مَا قَالَ أُمَيَّةُ بْنُ الصَّلْتِ حِينَ أَتَى ابْنَ جُدْعَانَ يَطْلُبُ نَائِلَهُ وَمَعْرُوفَهُ؟

قَالَ: قُلْتُ: لَا.

قَالَ: إِنَّمَا أَتَاهُ فَقَالَ: أَأَذْكُرُ حَاجَتِي أَمْ قَدْ كَفَانِي   ***   حَيَاؤُكَ، إِنَّ شِيمَتَكَ الْحَيَاءُ

                      إِذَا أَثْنَى عَلَيْكَ الْمَرْءُ يَوْمًا     ***   كَفَاهُ مِنْ تَعَرُّضِكَ الثَّنَـاءُ

وَهَذَا الْبَيْتُ يُقْرَأُ هَكَذَا أَيْضًا:

                أَأَذْكُرُ حَاجَتِي أَمْ قَدْ كَفَانِي   ***      حِبَاؤُكَ، إِنَّ شِيمَتَكَ الْحِبَاءُ

          إِذَا أَثْنَى عَلَيْكَ الْمَرْءُ يَوْمًا    ***     كَفَاهُ مِنْ تَعَرُّضِكَ الثَّنَاءُ

قَالَ سُفْيَانُ: فَهَذَا مَخْلُوقٌ حِينَ يُنْسَبُ إِلَيْهِ الْجُودُ، قِيلَ: يَكْفِينَا مِنْ تَعَرُّضِكَ الثَّنَاءُ عَلَيْكَ حَتَّى تَأْتِيَ عَلَى حَاجَتِنَا؛ فَكَيْفَ بِالْخَالِقِ الْعَظِيمِ؟))

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((جَمَعَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيْنَ أَفْضَلِ الدُّعَاءِ وَأَفْضَلِ الثَّنَاءِ؛ فَإِنَّ الذِّكْرَ نَوْعَانِ: دُعَاءٌ وَثَنَاءٌ، فَقَالَ: ((أَفْضَلُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَأَفْضَلُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)). وَلَمْ يَقُلْ: أَفْضَلُ مَا قُلْتُ يَوْمَ عَرَفَةَ، ثُمَّ ذَكَرَ هَذَا الْكَلَامَ، وَإِنَّمَا هُوَ أَفْضَلُ مَا قُلْتُ مُطْلَقًا فِي يَوْمِ عَرَفَةَ وَفِي غَيْرِ يَوْمِ عَرَفَةَ)).

وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ ظَاهِرُهَا أَنَّهُ مَنْ أَتَى بِالشَّهَادَتَيْنِ حَرُمَ عَلَى النَّارِ كَحَدِيثِ عِتْبَانَ: ((فَإِنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللهِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَكَحَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: ((كَانَ النَّبِيُّ ﷺ وَمُعَاذٌ رَدِيفَهُ عَلَى الرَّحْلِ، فَقَالَ: ((يَا مُعَاذُ)).

قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ.

قَالَ: ((مَا مِنْ عَبْدٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ؛ إِلَّا حَرَّمَهُ اللهُ عَلَى النَّارِ)).

قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ أَلَا أُخْبِرُ بِهَا النَّاسَ فَيَسْتَبْشِرُوا؟

قَالَ: ((إِذَنْ يَتَّكِلُوا))، فَأَخْبَرَ بِهَا مُعَاذٌ عِنْدَ مَوْتِهِ تَأَثُّمًا)) أَخْرَجَاهُ.

وَلِمُسْلِمٍ عَنْ عُبَادَةَ مَرْفُوعًا: ((مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ النَّارَ)).

وَوَرَدَتْ أَحَادِيثُ فِيهَا أَنَّ مَنْ أَتَى بِالشَّهَادَتَيْنِ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَلَيْسَ فِيهَا أَنَّهُ يُحَرَّمُ عَلَى النَّارِ، مِنْهَا:

حَدِيثُ عُبَادَةَ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّهُمْ كَانُوا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فِي غَزْوَةِ تَبُوكٍ....الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: فَقَالَ ﷺ : ((أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ؛ لَا يَلْقَى اللهَ عَبْدٌ بِهِمَا غَيْرَ شَاكٍّ فِيهِمَا إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ)) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَحَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مَرْفُوعًا: ((مَا مِنْ عَبْدٍ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، ثُمَّ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ...)). الْحَدِيثَ.

وَأَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي مَعْنَاهُ: مَا قَالَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ- : ((إِنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ إِنَّمَا هِيَ فِيمَنْ قَالَهَا وَمَاتَ عَلَيْهَا -كَمَا جَاءَتْ مُقَيَّدَةً- وَقَالَهَا خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ مُسْتَيْقِنًا بِهَا قَلْبُهُ غَيْرَ شَاكٍّ فِيهَا، بِصِدْقٍ وَيَقِينٍ، فَإِنَّ حَقِيقَةَ التَّوْحِيدِ انْجِذَابُ الرُّوحِ إِلَى اللهِ جُمْلَةً، فَمَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ؛ لِأَنَّ الْإِخْلَاصَ هُوَ انْجِذَابُ الْقَلْبِ إِلَى اللهِ تَعَالَى بِأَنْ يَتُوبَ مِنَ الذُّنُوبِ تَوْبَةً نَصُوحًا، فَإِذَا مَاتَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ نَالَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ قَدْ تَوَاتَرَتِ الْأَحَادِيثُ بِأَنَّهُ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْخَيْرِ مَا يَزِنُ شَعِيرَةً وَمَا يَزِنُ خَرْدَلَةً وَمَا يَزِنُ ذَرَّةً.

وَتَوَاتَرَتْ بِأَنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، يَدْخُلُ النَّارَ ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْهَا، وَتَوَاتَرَتْ بِأَنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَى النَّارَ أَنْ تَأْكُلَ أَثَرَ السُّجُودِ مِنِ ابْنِ آدَمَ، فَهَؤُلَاءِ كَانُوا يُصَلُّونَ وَيَسْجُدُونَ للهِ، وَتَوَاتَرَتْ بِأَنَّهُ يُحَرَّمُ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَمَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ؛ وَلَكِنْ جَاءَتْ مُقَيَّدَةً بِالْقُيُودِ الثِّقَالِ، وَأَكْثَرُ مَنْ يَقُولُهَا لَا يَعْرِفُ الْإِخْلَاصَ وَلَا الْيَقِينَ، وَمَنْ لَا يَعْرِفُ ذَلِكَ يُخْشَى عَلَيْهِ أَنْ يُفْتَنَ عَنْهَا عِنْدَ الْمَوْتِ، فَيُحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا.

وَأَكْثَرُ مَنْ يَقُولُهَا إِنَّمَا يَقُولُهَا تَقْلِيدًا أَوْ عَادَةً، وَلَمْ يُخَالِطِ الْإِيمَانُ بَشَاشَةَ قَلْبِهِ، وَغَالِبُ مَنْ يُفْتَنُ عِنْدَ الْمَوْتِ وَفِي الْقُبُورِ أَمْثَالُ هَؤُلَاءِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ: ((سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ)). رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَغَيْرُهُ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

وَغَالِبُ أَعْمَالِ هَؤُلَاءِ إِنَّمَا هُوَ تَقْلِيدٌ وَاقْتِدَاءٌ، وَهُمْ أَقْرَبُ النَّاسِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} [الزخرف: 23]، وَحِينَئِذٍ فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ، فَإِنَّهُ إِذَا قَالَهَا بِإِخْلَاصٍ وَيَقِينٍ تَامٍّ لَمْ يَكُنْ فِي هَذِهِ الْحَالِ مُصِرًّا عَلَى ذَنْبٍ أَصْلًا، فَإِنَّ كَمَالَ إِخْلَاصِهِ وَيَقِينِهِ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ اللهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ؛ فَإِذًا لَا يَبْقَى فِي قَلْبِهِ إِرَادَةٌ لِمَا حَرَّمَ اللهُ وَلَا كَرَاهِيَةٌ لِمَا أَمَرَ اللهُ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُحَرَّمُ عَلَى النَّارِ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ ذُنُوبٌ قَبْلَ ذَلِكَ، فَإِنَّ هَذَا الْإِيمَانَ، وَهَذِهِ التَّوْبَةَ، وَهَذَا الْإِخْلَاصَ، وَهَذِهِ الْمَحَبَّةَ، وَهَذَا الْيَقِينَ لَا يَتْرُكُ لَهُ ذَنْبًا إِلَّا يُمْحَى كَمَا يُمْحَى اللَّيْلُ بِالنَّهَارِ.

فَإِذَا قَالَهَا عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ الْمَانِعِ مِنَ الشِّرْكِ الْأَكْبَرِ وَالْأَصْغَرِ، فَهَذَا غَيْرُ مُصِرٍّ عَلَى ذَنْبٍ أَصْلًا فَيُغْفَرُ لَهُ وَيُحَرَّمُ عَلَى النَّارِ، وَإِنْ قَالَهَا عَلَى وَجْهٍ خَلُصَ بِهِ مِنَ الشِّرْكِ الْأَكْبَرِ دُونَ الْأَصْغَرِ وَلَمْ يَأْتِ بَعْدَهَا بِمَا يُنَاقِضُ ذَلِكَ، فَهَذِهِ الْحَسَنَةُ لَا يُقَاوِمُهَا شَيْءٌ مِنَ السَّيِّئَاتِ، فَيَرْجَحُ بِهَا مِيزَانُ الْحَسَنَاتِ، كَمَا فِي حَدِيثِ الْبِطَاقَةِ فَيُحَرَّمُ عَلَى النَّارِ وَلَكِنْ تَنْقُصُ دَرَجَتُهُ فِي الْجَنَّةِ بِقَدْرِ ذُنُوبِهِ.

وَهَذَا بِخِلَافِ مِنْ رَجَحَتْ سَيِّئَاتُهُ عَلَى حَسَنَاتِهِ وَمَاتَ مُصِرًّا عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَسْتَوْجِبُ النَّارَ؛ وَإِنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَخَلُصَ بِهَا مِنَ الشِّرْكِ الْأَكْبَرِ، لَكِنَّهُ لَمْ يَمُتْ عَلَى ذَلِكَ بَلْ أَتَى بَعْدَ ذَلِكَ بِسَيِّئَاتٍ رَجَحَتْ عَلَى حَسَنَةِ تَوْحِيدِهِ، فَإِنَّهُ فِي حَالِ قَوْلِهَا كَانَ مُخْلِصًا لَكِنَّهُ أَتَى بِذُنُوبٍ أَوْهَنَتْ ذَلِكَ التَّوْحِيدَ وَالْإِخْلَاصَ فَأَضْعَفَتْهُ، وَقَوِيَتْ نَارُ الذُّنُوبِ حَتَّى أَحْرَقَتْ ذَلِكِ.

بِخِلَافِ الْمُخْلِصِ الْمُسْتَيْقِنِ فَإِنَّ حَسَنَاتِهِ لَا تَكُونُ إِلَّا رَاجِحَةً عَلَى سَيِّئَاتِهِ وَلَا يَكُونُ مُصِرًّا عَلَى سَيِّئَةٍ، فَإِنْ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَإِنَّمَا يُخَافُ عَلَى الْمُخْلِصِ أَنْ يَأْتِيَ بِسَيِّئَاتٍ رَاجِحَةٍ تُضْعِفُ إِيمَانَهُ، فَلَا يَقُولُهَا بِإِخْلَاصٍ وَيَقِينٍ مَانِعٍ مَنْ جَمِيعِ السَّيِّئَاتِ، وَيُخْشَى عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ الْأَكْبَرِ وَالْأَصْغَرِ.

فَإِنْ سَلِمَ مِنَ الْأَكْبَرِ بَقِيَ مَعَهُ مِنَ الْأَصْغَرِ، فَيُضِيفُ إِلَى ذَلِكَ سَيِّئَاتٍ تَنْضَمُّ إِلَى هَذَا الشِّرْكِ، فَيَرْجَحُ جَانِبُ السَّيِّئَاتِ، فَإِنَّ السَّيِّئَاتِ تُضْعِفُ الْإِيمَانَ وَالْيَقِينَ، فَيَضْعُفُ بِذَلِكَ قَوْلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَيَمْتَنِعُ الْإِخْلَاصُ فِي الْقَلْبِ، فَيَصِيرُ الْمُتَكَلِّمُ بِـ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) كَالْهَاذِي أَوْ النَّائِمِ، أَوْ مَنْ يُحَسِّنُ صَوْتَهُ بِآيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ مِنْ غَيْرِ ذَوْقِ طَعْمٍ وَلَا حَلَاوَةٍ.

فَهَؤُلَاءِ لَمْ يَقُولُوهَا بِكَمَالِ الصِّدْقِ وَالْيَقِينِ، بَلْ يَأْتُونَ بَعْدَهَا بِسَيِّئَاتٍ تُنْقِصُ ذَلِكَ الصِّدْقَ وَالْيَقِينَ، بَلْ يَقُولُونَهَا مِنْ غَيْرِ يَقِينٍ وَصِدْقٍ، وَيَمُوتُونَ عَلَى ذَلِكَ وَلَهُمْ سَيِّئَاتٌ كَثِيرَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةَ، وَإِذَا كَثُرَتِ الذُّنُوبُ ثَقُلَ عَلَى اللِّسَانِ قَوْلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَقَسَا الْقَلْبُ عَنْ قَوْلِهَا، وَكَرِهَ الْعَمَلَ الصَّالِحَ، وَثَقُلَ عَلَيْهِ سَمَاعُ الْقُرْآنِ، وَاسْتَبْشَرَ بِذِكْرِ غَيْرِهِ، وَاطْمَأَنَّ إِلَى الْبَاطِلِ، وَاسْتَحَلَى الرَّفَثَ وَمُخَالَطَةَ أَهْلِ الْغَفْلَةِ، وَكَرِهَ مُخَالَطَةَ أَهْلِ الْحَقِّ.

فَمَثَلُ هَذَا وَمِثْلُهُ إِذَا قَالَهَا قَالَ بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ، وَبِفِيهِ مَا لَا يُصَدِّقُ عَمَلَهُ، كَمَا قَالَ الْحَسَنُ: ((لَيْسَ الْإِيمَانُ بِالتَّحَلِّي وَلَا بِالتَّمَنِّي، وَلَكِنْ مَا وَقَرَ فِي الْقُلُوبِ وَصَدَّقَتْهُ الْأَعْمَالُ))، فَمَنْ قَالَ خَيْرًا وَعَمِلَ خَيْرًا قُبِلَ مِنْهُ، وَمَنْ قَالَ شَرًّا وَعَمِلَ شَرًّا لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ.

وَقَالَ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْمُزَنِيُّ: ((مَا سَبَقَهُمْ أَبُو بَكْرٍ بِكَثْرَةِ صِيَامٍ وَلَا صَلَاةٍ، وَلَكِنْ بِشَيْءٍ وَقَرَ فِي قَلْبِهِ)).

فَمَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يَقُمْ بِمُوجِبِهَا، بَلْ اكْتَسَبَ مَعَ ذَلِكَ ذُنُوبًا وَسَيِّئَاتٍ، وَكَانَ صَادِقًا فِي قَوْلِهَا مُوقِنًا بِهَا، لَكِنَّ ذُنُوبَهُ أَضْعَافُ أَضْعَافِ صِدْقِهِ وَيَقِينِهِ، وَانْضَافَ إِلَى ذَلِكَ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ الْعَمَلِيُّ؛ رَجَحَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ عَلَى هَذِهِ الْحَسَنَةِ، وَمَاتَ مُصِرًّا عَلَى الذُّنُوبِ.

بِخَلَافِ مَنْ يَقُولُهَا بِيَقِينٍ وَصِدْقٍ تَامٍّ، فَإِنَّهُ لَا يَمُوتُ مُصِرًّا عَلَى الذُّنُوبِ، إِمَّا أَلَّا يَكُونَ مُصِرًّا عَلَى سَيِّئَةٍ أَصْلًا أَوْ يَكُونَ تَوْحِيدُهُ الْمُتَضَمِّنُ لِصِدْقِهِ وَيَقِينِهِ رَجَحَ حَسَنَاتِهِ وَرَجَّحَهَا.

وَالَّذِينَ يَدْخُلُونَ النَّارَ مِمَّنْ يَقُولُهَا قَدْ فَاتَهُمْ أَحَدُ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ: إِمَّا أَنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوهَا بِالصِّدْقِ وَالْيَقِينِ التَّامَّيْنِ الْمُنَافِيَيْنِ لِلْسَّيِّئَاتِ، أَوْ لِرُجْحَانِ السَّيِّئَاتِ، أَوْ قَالُوهَا وَاكْتَسَبُوا بَعْدَ ذَلِكَ سَيِّئَاتٍ رَجَحَتْ عَلَى حَسَنَاتِهِمْ، ثُمَّ ضَعُفَ لِذَلِكَ صِدْقُهُمْ وَيَقِينُهُمْ، ثُمَّ لَمْ يَقُولُوهَا بَعْدَ ذَلِكَ بِصِدْقٍ وَيَقِينٍ تَامٍّ؛ لِأَنَّ الذُّنُوبَ قَدْ أَضْعَفَتْ ذَلِكَ الصِّدْقَ وَالْيَقِينَ فِي قُلُوبِهِمْ، فَقَوْلُهَا مِنْ مِثْلِ هَؤُلَاءِ لَا يَقْوَى عَلَى مَحْوِ السَّيِّئَاتِ بَلْ تَرْجَحُ سَيِّئَاتُهُمْ عَلَى حَسَنَاتِهِمْ.

وَحَاصِلُهُ: أَنَّ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) سَبَبٌ لِدُخُولِ الْجَنَّةِ، وَالنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ، وَمُقْتَضٍ لِذَلِكَ، وَلَكِنَّ الْمُقْتَضِي لَا يَعْمَلُ عَمَلَهُ إِلَّا بِاسْتِجْمَاعِ شُرُوطِهِ، وَانْتِفَاءِ مَوَانِعِهِ، فَقَدْ يَتَخَلَّفُ عَنْهُ مُقْتَضَاهُ لِفَوَاتِ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِهِ، أَوْ لِوُجُودِ مَانِعٍ، وَلِهَذَا قِيلَ لِلْحَسَنِ: ((إِنَّ نَاسًا يَقُولُونَ: مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ.

فَقَالَ: مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَأَدَّى حَقَّهَا وَفَرْضَهَا؛ دَخَلَ الْجَنَّةَ)).

وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ لِمَنْ سَأَلَهُ: ((أَلَيْسَ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) مِفْتَاحَ الْجَنَّةِ؟

قَالَ: بَلَى؛ وَلَكِنْ مَا مِنْ مِفْتَاحٍ إِلَّا وَلَهُ أَسْنَانٌ، فَإِنْ جِئْتَ بِمِفْتَاحٍ لَا أَسْنَانَ لَهُ؛ لَمْ يَفْتَحُ لَكَ، وَإِنْ جِئْتَ بِمِفْتَاحِ لَهُ أَسْنَانٌ؛ فُتِحَ لَكَ)).

فَـ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) وَهِيَ أَعْظَمُ مَا يُقَالُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ ﷺ ، فَـ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) اشْتَمَلَتْ عَلَى نَفْيٍ وَإِثْبَاتٍ، فَنَفَتِ الْإِلَهِيَّةَ عَنْ كُلِّ مَا سِوَى اللهِ تَعَالَى، فَكُلُّ مَا سِوَاهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ -فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِمْ-؛ فَلَيْسَ بِإِلَهٍ، وَلَا لَهُ مِنَ الْعِبَادَةِ شَيْءٌ.

وَأَثْبَتَتْ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) الْإِلَهِيَّةَ للهِ وَحْدَهُ، بِمَعْنَى: أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَأْلَهُ غَيْرَهُ، أَيْ: لَا يَقْصِدُهُ بِشَيْءٍ مِنَ التَّأَلُّهِ، وَهُوَ تَعَلُّقُ الْقَلْبِ الَّذِي يُوجِبُ قَصْدَهُ بِشَيْءٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ؛ كَالدُّعَاءِ، وَالذَّبْحِ، وَالنَّذْرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.

وَبِالْجُمْلَةِ؛ فَلَا يَأْلَهُ إِلَّا اللهَ؛ أَيْ: لَا يَعْبُدُ إِلَّا هُوَ، فَمَنْ قَالَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ: ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) عَارِفًا لِمَعْنَاهَا، عَامِلًا بِمُقْتَضَاهَا؛ مِنْ نَفْيِ الشِّرْكِ وَإِثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ للهِ، مَعَ الِاعْتِقَادِ الْجَازِمِ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ ذَلِكَ وَالْعَمَلِ بِهِ؛ فَهَذَا هُوَ الْمُسْلِمُ حَقًّا، فَإِنْ عَمِلِ بِهَا ظَاهِرًا مِنْ غَيْرِ اعْتِقَادٍ فَهُوَ الْمُنَافِقُ، وَإِنْ عَمِلَ بِخِلَافِهَا مِنَ الشِّرْكِ؛ فَهُوَ الْكَافِرُ وَلَوْ قَالَهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُنَافِقِينَ يَعْمَلُونَ بِهَا ظَاهِرًا وَهُمْ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ؟!!

وَالْيَهُودُ يَقُولُونَهَا وَهُمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ، فَلَمْ تَنْفَعْهُمْ، وَكَذَلِكَ مَنِ ارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ بِإِنْكَارِ شَيْءٍ مِنْ لَوَازِمِهَا وَحُقُوقِهَا فَإِنَّهَا لَا تَنْفَعُهُ؛ وَلَوْ قَالَهَا مِائَةَ أَلْفٍ، فَكَذَلِكَ مَنْ يَقُولُهَا مِمَّنْ يَصْرِفُ أَنْوَاعَ الْعِبَادَةِ لِغَيْرِ اللهِ، كَعُبَّادِ الْقُبُورِ وَالْأَصْنَامِ فَلَا تَنْفَعُهُمْ وَلَا يَدْخُلُونَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي جَاءَ فِي فَضْلِهَا، وَمَا أَشْبَهَهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ.

وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ  ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ((وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ)) تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَقُولُهَا وَهُوَ مُشْرِكٌ، كَالْيَهُودِ وَالْمُنَافِقِينَ وَعُبَّادِ الْقُبُورِ، لَمَّا رَأَوْا أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ دَعَا قَوْمَهُ إِلَى قَوْلِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، ظَنُّوا أَنَّهُ إِنَّمَا دَعَاهُمْ إِلَى النُّطْقِ بِهَا فَقَطْ، وَهَذَا جَهْلٌ عَظِيمٌ؛ فَهُوَ ﷺ  إِنَّمَا دَعَاهُمْ إِلَيْهَا لَيَقُولُوهَا وَيَعْمَلُوا بِمَعْنَاهَا، وَيَتْرَكُوا عِبَادَةَ غَيْرِ اللهِ، وَلِهَذَا قَالُوا: {أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ} [الصافات: 36]، وَقَالُوا:{أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَٰهًا وَاحِدًا} [ص: 5] فَلِهَذَا أَبَوْا عَنِ النُّطْقِ بِهَا، وَإِلَّا فَلَوْ قَالُوهَا وَبَقَوْا عَلَى عِبَادَةِ اللَّاتِ وَالْعُزَّى وَمَنَاةٍ؛ لَمْ يَكُونُوا مُسْلِمِينَ، وَلَقَاتَلَهُمْ ﷺ حَتَّى يَخْلَعُوا الْأَنْدَادَ وَيَتْرُكُوا عِبَادَتَهَا، وَيَعْبُدُوا اللهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.

وَهَذَا أَمْرٌ مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، وَأَمَّا عُبَّادُ الْقُبُورِ فَلَمْ يَعْرِفُوا مَعْنَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ، وَلَا عَرَفُوا الْإِلَهِيَّةَ الْمَنْفِيَّةَ عَنْ غَيْرِ اللهِ الثَّابِتَةَ لَهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ بَلْ لَمْ يَعْرِفُوا مِنْ مَعْنَاهَا إِلَّا مَا أَقَرَّ بِهِ الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ، وَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ، مِنْ أَنَّ مَعْنَاهَا: لَا قَادِرَ عَلَى الِاخْتِرَاعِ، أَوْ أَنَّ مَعْنَاهَا: الْإِلَهُ: هُوَ الْغَنِيُّ عَمَّا سِوَاهُ، الْفَقِيرُ إِلَيْهِ كُلُّ مَا عَدَاهُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَهَذَا حَقٌّ وَهُوَ مِنْ لَوَازِمِ الْإِلَهِيَّةِ، وَلَكِنْ لَيْسَ هُوَ الْمُرَادَ بِمَعْنَى ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))، فَإِِنَّ هَذَا الْقَدْرَ قَدْ عَرَفَهُ الْكُفَّارُ، وَأَقَرُّوا بِهِ وَلَمْ يَدَّعُوا فِي آلِهَتِهِمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، بَلْ يُقِرُّونَ بِفَقْرِ آلِهَتِهِمْ، وَحَاجَتِهَا إِلَى اللهِ، وَإِنَّمَا كَانُوا يَعْبُدُونَهُمْ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُمْ وَسَائِطُ وَشُفَعَاءُ عِنْدَ اللهِ فِي تَحْصِيلِ الْمَطَالِبِ، وَنَجَاحِ الْمَآرِبِ، وَإِلَّا فَقَدْ سَلَّمُوا الْخَلْقَ وَالْمُلْكَ وَالرِّزْقَ وَالْإِحْيَاءَ وَالْإِمَاتَةَ، وَالْأَمْرَ كُلَّهُ للهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَقَدْ عَرَفُوا مَعْنَى ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))، وَأَبَوْا عَنِ النُّطْقِ وَالْعَمَلِ بِهَا، فَلَمْ يَنْفَعْهُمْ تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ مَعَ الشِّرْكِ فِي الْإِلَهِيَّةِ، كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا- : {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ} [يوسف: 106].

عَلَيْكَ أَنْ تُحَقِّقَ تَوْحِيدَكَ؛ فَلَيْسَ عَمَلٌ بِنَافِعِكَ إِذَا لَمْ يَكُنْ تَوْحِيدُكَ مُحَقَّقًا، كَمَا لَوْ أَنَّكَ صَلَّيْتَ بِدُونِ طُهُورٍ؛ فَإِنَّ صَلَاتَكَ لَا تُعَدُّ صَلَاةً فِي مِيزَانِ الشَّرْعِ، وَكَذَا مَهْمَا أَتَيْتَ بِهِ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ تَتَزَلَّفُ بِهِ إِلَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- مَعَ الشِّرْكِ؛ فَإِنَّهُ حَابِطٌ مَرْدُودٌ عَلَى فَاعِلِهِ.

نَسْأَلُ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ- أَنْ يَغْفِرَ لَنَا فِي هَذَا الْيَوْمِ، وَأَنْ يَجْعَلَنَا مِنْ عُتَقَائِهِ مِنَ النَّارِ، إِنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ

الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ هُوَ يَتَوَلَّى الصَالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ , صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَومِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَهَلْ هُنَاكَ فَضِيلَةٌ لِاجْتِمَاعِ يَوْمِ عَرَفَةَ وَيَوْمِ الْجُمُعَةِ؟

قَالَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- فِي ((الزَّادِ)): ((الصَّوَابُ: أَنَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَفْضَلُ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ، وَيَوْمُ عَرَفَةَ وَيَوْمُ النَّحْرِ أَفْضَلُ أَيَّامِ الْعَامِ، وَكَذَلِكَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ، وَلَيْلَةُ الْجُمُعَةِ؛ وَلِهَذَا كَانَ لِوَقْفَةِ الْجُمُعَةِ يَوْمَ عَرَفَةَ مَزِيَّةٌ عَلَى سَائِرِ الْأَيَّامِ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ:

أَحَدُهَا: اجْتِمَاعُ الْيَوْمَيْنِ اللَّذَيْنِ هُمَا أَفْضَلُ الْأَيَّامِ.

الثَّانِي: أَنَّهُ الْيَوْمُ الَّذِي فِيهِ سَاعَةٌ مُحَقَّقَةُ الْإِجَابَةِ، وَأَكْثَرُ الْأَقْوَالِ أَنَّهَا آخِرُ سَاعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَأَهْلُ الْمَوْقِفِ كُلُّهُمْ إِذْ ذَاكَ وَاقِفُونَ لِلدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ.

الثَّالِثُ: مَوَافَقَتُهُ لِيَوْمِ وَقْفَةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ اللهَ تَعَالَى اخْتَارَ لِنَبِيِّهِ ﷺ  أَفْضَلَ الْأَوْقَاتِ، وَأَعْدَلَهَا، وَأَجَلَّهَا.

الرَّابِعُ: أَنَّ فِيهِ اجْتِمَاعَ الْخَلَائِقِ مِنْ أَقْطَارِ الْأَرْضِ لِلْخُطْبَةِ وَصَلَاةِ الْجُمُعَةِ، وَيُوَافِقُ ذَلِكَ اجْتِمَاعَ أَهْلِ عَرَفَةَ يَوْمَ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ، فَيَحْصُلُ مِنَ اجْتِمَاعِ الْمُسْلِمِينَ فِي مَسَاجِدِهِمْ وَمَوْقِفِهِمْ مِنَ الدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ مَا لَا يَحْصُلُ فِي يَوْمٍ سِوَاهُ.

الْخَامِسُ: أَنَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ يَوْمُ عِيدٍ، وَيَوْمَ عَرَفَةَ يَوْمُ عِيدٍ لِأَهْلِ عَرَفةَ؛ وَلِذَلِكَ كُرِهَ لِمَنْ بِعَرَفَةَ صَوْمُهُ.

السَّادِسُ: أَنَّهُ مُوَافِقٌ لِيَوْمِ إِكْمَالِ اللهِ تَعَالَى دِينَهُ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِتْمَامِ نِعْمَتِهِ علَيْهِمْ، كَمَا ثَبَتَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي ((الصَّحِيحِ)) عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، قَالَ: ((جَاءَ يَهُودِيٌّ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؛ آيَةٌ تَقْرَؤُونَهَا فِي كِتَابِكُمْ لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ نَزَلَتْ، وَنَعْلَمُ ذَلِكَ الْيَوْمَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ؛ لَاتَّخَذْنَاهُ عِيدًا.

قَالَ: أَيُّ آيَةٍ؟

قَالَ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].

فَقَالَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- : إِنِّي لَأَعْلَمُ الْيَوْمَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ، وَالْمَكَانَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ، نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ بِعَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ وَنَحْنُ وَاقِفُونَ مَعَهُ بِعَرَفَةَ)).

السَّابِعُ مِنَ الْوُجُوهِ: أَنَّهُ مُوَافِقٌ لِيَوْمِ الْجَمْعِ الْأَكْبَرِ وَالْمَوْقِفِ الْأَعْظَمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ فَإِنَّ الْقِيَامَةَ تَقُومُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ .

الثَّامِنُ: أَنَّ الطَّاعَةَ الْوَاقِعَةَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلَيْلَةَ الْجُمُعَةِ أَكْثَرُ مِنْهَا فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ؛ حَتَّى إِنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ الْفُجُورِ يَحْتَرِمُونَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلَيْلَتَهُ، وَيَرَوْنَ أَنَّ مَنْ تَجَرَّأَ فِيهِ عَلَى مَعَاصِي اللهِ-عَزَّ وَجَلَّ- ؛ عَجَّلَ اللهُ عُقُوبَتَهُ وَلَمْ يُمْهِلْهُ، وَهَذَا أَمْرٌ قَدِ اسْتَقَرَّ عِنْدَهُمْ وَعَلِمُوهُ بِالتَّجَارِبِ -هَذَا فِي الْعُصَاةِ عَلَى عَهْدِ الْإِمَامِ ابْنِ الْقَيِّمِ، وَأَمَّا عُصَاةُ زَمَانِنَا فَمُخْتَلِفُونَ!!-؛ وَذَلِكَ لِعِظَمِ الْيَوْمِ وَشَرَفِهِ عِنْدَ اللهِ، وَاخْتِيَارِ اللهِ سُبْحَانَهُ لَهُ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَيَّامِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ لِلْوَقْفَةِ فِيهِ مَزِيَّةً عَلَى غَيْرِهِ.

التَّاسِعُ مِنَ الْوُجُوهِ: أَنَّهُ مُوَافِقٌ لِيَوْمِ الْمَزِيدِ فِي الْجَنَّةِ، وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي يُجْمَعُ فِيهِ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي وَادٍ أَفْيَحَ، وَيُنْصَبُ لَهُمْ مَنَابِرُ مِنْ لُؤْلُؤٍ، وَمَنَابِرُ مِنْ ذَهَبٍ، وَمَنَابِرُ مِنْ زَبَرْجَدٍ وَيَاقُوتٍ عَلَى كُثْبَانِ الْمِسْكِ، فَيَنْظُرُونَ إِلَى رَبِّهِمْ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- ، وَيَتَجَلَّى لَهُمْ فَيَرَوْنَهُ عِيَانًا، وَيَكُونُ أَسْرَعُهُمْ مُوَافَاةً أَعْجَلَهُمْ رَوَاحًا إِلَى الْمَسْجِدِ، وَأَقْرَبُهُمْ مِنْهُ أَقْرَبُهُمْ مِنَ الْإِمَامِ.

فَأَهْلُ الْجَنَّةِ مُشْتَاقُونَ إِلَى يَوْمِ الْمَزِيدِ فِيهَا؛ لِمَا يَنَالُونَ فِيهِ مِنَ الْكَرَامَةِ، وَهُوَ يَوْمُ جُمُعَةٍ، فَإِذَا وَافَقَ يَوْمَ عَرَفَةَ؛ كَانَ لَهُ زِيَادَةُ مَزِيَّةٍ وَاخْتِصَاصٍ وَفَضْلٍ لَيْسَ لِغَيْرِهِ.

الْعَاشِرُ: أَنَّهُ يَدْنُو الرَّبُّ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-  عَشِيَّةَ يَوْمِ عَرَفَةَ مِنْ أَهْلِ الْمَوْقِفِ، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمُ الْمَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: ((مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟ أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ)).

وَتَحْصُلُ مَعَ دُنُوِّهِ مِنْهُمْ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-  سَاعَةُ الْإِجَابَةِ الَّتِي لَا يَرُدُّ فِيهَا سَائِلًا يَسْأَلُ خَيْرًا، فَيَقْرُبُونَ مِنْهُ بِدُعَائِهِ وَالتَّضَرُّعِ إِلَيْهِ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ، وَيَقْرُبُ مِنْهُمْ تَعَالَى نَوْعَيْنِ مِنَ الْقُرْبِ:

أَحَدُهُمَا: قُرْبُ الْإِجَابَةِ الْمُحَقَّقَةِ فِي سَاعَةِ الْإِجَابَةِ.

وَالثَّانِي: قُرْبُهُ الْخَاصُّ مِنْ أَهْلِ عَرَفَةَ، وَمُبَاهَاتُهُ بِهِمْ مَلَائِكَتَهُ، فَتَسْتَشْعِرُ قُلُوبُ أَهْلِ الْإِيمَانِ هَذِهِ الْأُمُورَ، فَتَزْدَادُ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِهَا، وَفَرَحًا، وَسُرُورًا، وَابْتِهَاجًا، وَرَجَاءً لِفَضْلِ رَبِّهَا وَكَرَمِهِ)).

قَالَ: ((فَبِهَذِهِ الْوُجُوهِ وَغَيْرِهَا فُضِّلَتْ وَقْفَةُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ عَلَى غَيْرِهَا، وَأَمَّا مَا اسْتَفَاضَ عَلَى أَلْسِنَةِ الْعَوَامِّ: بِأَنَّهَا تَعْدِلُ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ حَجَّةً؛ فَبَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ ، وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ)). انْتَهَى كَلَامُهُ -رَحِمَهُ اللهُ رَحْمَةً وَاسِعَةً-.

((لَبَّيْكَ اللهم لَبَّيْكَ))

أَمَا وَالَّذِي حَجَّ الْمُحِبُّونَ بَيْتَهُ          ***     وَلَبَّوْا لَهُ عِنْدَ الْمُهَلِّ وَأَحْرَمُوا

وَقَدْ كَشَفُوا تِلْكَ الرُّؤُوسَ تَوَاضُعا   ***     لِعِزَّةِ مَنْ تَعْنُو الْوُجُوهُ وَتُسْلِمُ

يُهِلُّونَ بِالْبَيْدَاءِ لَبَّيْكَ رَبَّنَا       ***    لَكَ الْمُلْكُ وَالْحَمْدُ الَّذِي أَنْتَ تَعْلَمُ

دَعَاهُمْ فَلَبَّوْهُ رِضًا وَمَحَبةً         ***    فَلَمَّا دَعَوْهُ كَانَ أَقْرَبَ مِنْهُــــــمُ

تَرَاهُمْ عَلَى الْأَنْضَاءِ شُعْثًا رُؤُوسُهُمْ *** وَغُبْرًا وَهُمْ فِيهَا أَسَرُّ وَأَنْعَـــمُ

وَقَدْ فَارَقُوا الْأَوْطَانَ وَالْأَهْلَ رَغْبَةً  *** وَلَمْ تُثْنِهِمْ لَذَّاتُهُمْ وَالتَّنَعُّمُ

يَسِيرُونَ مِنْ أَقْطَارِهَا وَفِجَاجِهَا *** رِجَالًا وَرُكْبَانًا وَللهِ أَسْلَمُوا

((رُؤْيَةُ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ))

وَلَمَّا رَأَتْ أَبْصَارُهُمْ بَيْتَهُ الَّذِي *** قُلُوبُ الْوَرَى شَوْقًا إِلَيْهِ تَضَرَّمُ

كَأَنَّهُمْ لَمْ يَنْصَبُوا قَطُّ قَبْلَهُ *** لِأَنَّ شَقَاهُمْ قَدْ تَرَحَّلَ عَنْهُمُ

فَلِلهِ كَمْ مِنْ عَبْرَةٍ مُهْرَاقَةٍ *** وَأُخْرَى عَلَى آثَارِهَا لَا تَقَدَّمُ

وَقَدْ شَرِقَتْ عَيْنُ الْمُحِبِّ بِدَمْعِهَا *** فَيَنْظُرُ مِنْ بَيْنِ الدُّمُوعِ وَيُسْجِمُ

إِذَا عَايَنَتْهُ الْعَيْنُ زَالَ ظَلَامُهَا *** وَزَالَ عَنِ الْقَلْبِ الْكَئِيبِ التَّأَلُّمُ

وَلَا يَعْرِفُ الطَّرْفُ الْمُعَايِنُ حُسْنَهُ *** إِلَى أَنْ يَعُودَ الطَّرْفُ وَالشَّوْقُ أَعْظَمُ

وَلَا عَجَبٌ مِنْ ذَا فَحِينَ أَضَافَهُ *** إِلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَنُ؛ فَهْوَ الْمُعَظَّمُ

كَسَاهُ مِنَ الْإجْلَالِ أَعْظَمَ حُلَّةٍ *** عَلَيْهَا طِرَازٌ بِالْمَلَاحَةِ مُعْلِمُ

فَمِنْ أَجْلِ ذَا كُلُّ الْقُلُوبِ تُحِبُّهُ *** وَتَخْضَعُ إِجْلَالًا لَهُ وَتُعَظِّمُ

((الذَّهَابُ إِلَى عَرَفَةَ))

وَرَاحُوا إِلَى التَّعْريفِ يَرْجُونَ رَحْمَةً *** وَمَغْفِرَةً مِمَّنْ يَجُودُ وَيُكْرِمُ

فَلِلهِ ذَاكَ الْمَوْقِفُ الْأَعْظَمُ الَّذِي  *** كَمَوْقِفِ يَوْمِ الْعَرْضِ بَلْ ذَاكَ أَعْظَمُ

وَيَدْنُو بِهِ الْجَبَّارُ جَلَّ جَلَالُهُ *** يُبَاهِي بِهِمْ أَمْلَاكَهُ فَهْوَ أَكْرَمُ

يَقُولُ عِبَادِي قَدْ أَتَوْنِي مَحَبَّةً *** وَإنِّي بِهِمْ بَرٌّ أَجُودُ وَأَرْحَمُ

فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي غَفَرْتُ ذُنُوبَهُمْ *** وَأَعْطيْتُهُمْ مَا أَمَّلُوهُ وَأُنْعِمُ

فَبُشْرَاكُمُ يَا أَهْلَ ذَا الْمَوْقِفِ الَّذِي *** بِهِ يَغْفِرُ اللهُ الذُّنُوبَ وَيَرْحَمُ

فَكَمْ مِنْ عَتِيقٍ فِيهِ كُمِّلَ عِتْقُهُ *** وَآخَرُ يَسْتَسْعَى وَرَبُّكَ أَرْحَمُ

وَمَا رُؤِيَ الشَّيْطَانُ أَغْيَظَ فِي الْوَرَى *** وَأَحْقَرَ مِنْهُ عِنْدَهَا وَهْوَ أَلْأَمُ

وَذَاكَ لِأَمْرٍ قَدْ رَآهُ فَغَاظَهُ *** فَأَقْبَلَ يَحْثُو التُّرْبَ غَيْظًا وَيَلْطِمُ

وَقَدْ عَايَنَتْ عَيْنَاهُ مِنْ رَحْمَةٍ أَتَتْ *** وَمَغْفِرَةٍ مِنْ عِنْدِ ذِي الْعَرْشِ تُقْسَمُ

بَنَى مَا بَنَى حَتَّى إِذَا ظَنَّ أَنَّهُ *** تَمَكَّنَ مِنْ بُنْيَانِهِ فَهْوَ مُحْكَمُ

أَتَى اللهُ بُنْيَانًا لَهُ مِنْ أَسَاسِهِ *** فَخَرَّ عَلَيْهِ سَاقِطًا يَتَهَدَّمُ

وَكَمْ قَدْرُ مَا يَعْلُو الْبِنَاءُ وَيَنْتَهِي *** إِذَا كَانَ يَبْنِيهِ وَذُو الْعَرْشِ يَهْدِمُ؟!

هَدْيُ النَّبِيِّ ﷺ  فِي صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ

صَلَاةُ الْعِيدَيْنِ وَاجِبَةٌ؛ لِمُوَاظَبَةِ النَّبِيِّ ﷺ  عَلَيْهَا، وَأَمْرِهِ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ أَنْ يَخْرُجُوا إِلَيْهَا.

عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-  قَالَتْ: ((أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ أَنْ نُخْرِجَهُنَّ فِي الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى الْعَوَاتِقَ وَالْحُيَّضَ وَذَوَاتِ الْخُدُورِ، فَأَمَّا الْحُيَّضُ؛ فَيَعْتَزِلْنَ الصَّلَاةَ، وَيَشْهَدْنَ الْخَيْرَ وَدَعْوْةَ الْمُسْلِمِينَ، قَالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ؛ إِحْدَانَا لَا يَكُونُ لَهَا جِلْبَابٌ.

قَالَ: ((لِتُلْبِسْهَا أُخْتُهَا مِنْ جِلْبَابِهَا)).

قَالَ صِدِّيقْ حَسَنْ خَانْ -رَحِمَهُ اللهُ- : ((قَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ: هَلْ صَلَاةُ الْعِيدِ وَاجِبَةٌ أَوْ لَا؟

وَالْحَقُّ: الْوُجُوبُ؛ لِأَنَّهُ ﷺ مَعَ مُلَازَمَتِهِ لَهَا قَدْ أَمَرَنَا بِالْخُرُوجِ إِلَيْهَا، كَمَا فِي حَدِيثِ أَمْرِهِ لِلنَّاسِ أَنْ يَغْدُوا إِلَى مُصَلَّاهُمْ بَعْدَ أَنْ أَخْبَرَهُ الرَّكْبُ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ، وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ حَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ.. وَسَاقَهُ، قَالَ: فَالْأَمْرُ بِالْخُرُوجِ يَقْتَضِي الْأَمْرَ بِالصَّلَاةِ لِمَنْ لَا عُذْرَ لَهَا بِفَحْوَى الْخِطَابِ، وَالرِّجَالُ أَوْلَى مِنَ النِّسَاءِ بِذَلِكَ؛ بَلْ ثَبَتَ الْأَمْرُ الْقُرْآنِيُّ بِصَلَاةِ الْعِيدِ كَمَا ذَكَرَهُ أَئِمَّةُ التَّفْسِيرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}[الكوثر: 2]، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: الْمُرَادُ: صَلَاةُ الْعِيدِ.

وَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى وُجُوبِهَا: أَنَّهَا مُسْقِطَةٌ لِلْجُمُعَةِ إِذَا اتَّفَقَتَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ, وَمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ لَا يُسْقِطُ مَا كَانَ وَاجِبًا)).

وَقَالَ: ((وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تَجِبُ صَلَاةُ الْعِيدِ عَلَى كُلِّ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ، وَيُشْتَرَطُ لِصَلَاةِ الْعِيدِ مَا يُشْتَرَطُ لِلْجُمُعَةِ)).

قَالَ الْأَلْبَانِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- : ((وُجُوبُ خُرُوجِ النِّسَاءِ إِلَى مُصَلَّى الْعِيدِ)).

عَنْ أُخْتِ عَبْدِ اللهِ بْنِ رَوَاحَةَ الْأَنْصَارِيَّةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ  أَنَّهُ قَالَ: ((وَجَبَ الْخُرُوجُ عَلَى كُلِّ ذَاتِ نِطَاقٍ يَعْنِي: فِي الْعِيدَيْنِ-)). فَالرِّجَالُ أَوْلَى كَمَا قَالَ صِدِّيق حَسَن خَان -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-.

فَصَلَاةُ الْعِيدِ؛ الْأَدِلَّةُ مُتَظَاهِرَةٌ مُتَضَافِرَةٌ عَلَى وُجُوبِهَا.

*وَفِي يَوْمِ الْعِيدِ يُلْبَسُ الْجَدِيدُ:

فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-  قَالَ: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ  يَلْبَسُ يَوْمَ الْعِيدِ بُرْدَةً حَمْرَاءَ)). أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي ((الْأَوْسَطِ))، وَجَوَّدَهُ أَيْ: جَوَّدَ إِسْنَادَهُ الْأَلْبَانِيُّ-، وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّهُ لَا يُرِيدُ الْأَحْمَرَ الْمُصْمَتَ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ  قَدْ نَهَى عَنْ لُبْسِهِ.

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ  لَا يَغْدُو يَوْمَ الْفِطْرِ حَتَّى يَأْكُلَ تَمْرَاتٍ، وَيَأْكُلُهُنَّ وِتْرًا)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِهِ)).

وَعَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ  لَا يَخْرُجُ يَوْمَ الْفِطْرِ حَتَّى يَأْكُلَ، وَكَانَ لَا يَأْكُلُ يَوْمَ النَّحْرِ حَتَّى يَرْجِعَ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَه، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

*يُخْرَجُ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانَ؛ لِحَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ.

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ((خَرَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ  يَوْمَ فِطْرٍ أَوْ أَضْحَى، فَصَلَّى ثُمَّ خَطَبَ، ثُمَّ أَتَى النِّسَاءَ فَوَعَظَهُنَّ وَذَكَّرَهُنَّ، وَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

*وَيُسْتَحَبُّ مُخَالَفَةُ الطَّرِيقِ يَوْمَ الْعِيدِ، فَيَذْهَبُ فِي طَرِيقٍ وَيَرْجِعُ فِي آخَرَ:

أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-  قَالَ: ((كَانَ النَّبِيُّ ﷺ  إِذَا كَانَ يَوْمُ عِيدٍ؛ خَالَفَ الطَّرِيقَ)).

*الْحِكْمَةُ مِنْ صَلَاةِ الْعِيدِ فِي الْمُصَلَّى:

وذَكَرَ الْأَلْبَانِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: أَنَّ صَلَاةَ الْعِيدِ إِنَّمَا تَكُونُ فِي الْمُصَلَّى.

وَقَالَ: ((هَذِهِ السُّنَّةُ؛ سُنَّةُ صَلَاةِ الْعِيدِ فِي الْمُصَلَّى لَهَا حِكْمَةٌ عَظِيمَةٌ بَالِغَةٌ: أَنْ يَكُونَ لِلْمُسْلِمِينَ يَوْمَانِ فِي السَّنَةِ يَجْتَمِعُ فِيهِمَا أَهْلُ كُلِّ بَلْدَةٍ رِجَالًا وَنِسَاءً وَصِبْيَانًا، يَتَوَجَّهُونَ إِلَى اللهِ بِقُلُوبِهِمْ تَجْمَعُهُمْ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ وَيُصَلُّونَ خَلْفَ إِمَامٍ وَاحِدٍ يُكَبِّرُونَ وَيُهَلِّلُونَ وَيَدْعُونَ اللهَ مُخْلِصِينَ كَأَنَّهُمْ عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَرِحِينَ مُسْتَبْشِرِينَ بِنِعْمَةِ اللهِ عَلَيْهِمْ فَيَكُونُ الْعِيدُ عِنْدَهُمْ عِيدًا.

وَقَدْ أَمَرَ الرَّسُولُ ﷺ  بِخُرُوجِ النِّسَاءِ لِصَلَاةِ الْعِيدِ مَعَ النَّاسِ وَلَمْ يَسْتَثْنِ مِنْهُنَّ وَاحِدَةً؛ حَتَّى أَنَّهُ لَمْ يُرَخِّصْ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهَا مَا تَلْبَسُ فِي خُرُوجِهَا، بَلْ أَمَرَ أَنْ تَسْتَعِيرَ ثَوْبًا مِنْ غَيْرِهَا؛ حَتَّى إِنَّهُ أَمَرَ مَنْ كَانَ عِنْدَهُنَّ عُذْرٌ يَمْنَعُهُنَّ مِنَ الصَّلَاةِ بِالْخُرُوجِ إِلَى الْمُصَلَّى؛ لِيَشْهَدْنَ الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ.

وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ ثُمَّ خُلَفَاؤُهُ مِنْ بَعْدِهِ وَالْأُمَرَاءُ النَّائِبُونَ عَنْهُمْ فِي الْبِلَادِ يُصَلُّونَ بِالنَّاسِ الْعِيدَ، ثُمَّ يَخْطُبُونَهُمْ بِمَا يَعِظُونَهُمْ بِهِ وَيُعَلِّمُونَهُمْ مِمَّا يَنْفَعُهُمْ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ وَيَأْمُرُونَهُمْ بِالصَّدَقَةِ فِي ذَلِكَ الْجَمْعِ، فَيَعْطِفُ الْغَنِيُّ عَلَى الْفَقِيرِ وَيَفْرَحُ الْفَقِيرُ بِمَا يُؤْتِيهُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فِي هَذَا الْحَفْلِ الْمُبَارَكِ الَّذِي تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ وَالرِّضْوَانُ)).

قَالَ: ((فَعَسَى أَنْ يَسْتَجِيبَ الْمُسْلِمُونَ لِاتِّبَاعِ سُنَّةِ نَبِيِّهِمْ ﷺ  ، وَلِإِحْيَاءِ شَعَائِرِ دِينِهِمْ الَّذِي هُوَ مَعْقِدُ عِزِّهِمْ وَفَلَاحِهِمْ.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24].

وَقَدْ رَخَّصَ رَسُولُ اللهِ  بِاللَّعِبِ الَّذِي لَا مَعْصِيَةَ فِيهِ يَوْمَ الْعِيدِ:

فَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: ((قَدِمَ رَسُولُ اللهِ ﷺ  الْمَدِينَةَ، وَلَهُمْ يَوْمَانِ يَلْعَبُونَ فِيهِمَا، فَقَالَ: ((مَا هَذَانِ الْيَوْمَانِ؟))

قَالُوا: كُنَّا نَلْعَبُ فِيهِمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ : ((إِنَّ اللهَ قَدْ أَبْدَلَكُمْ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا: يَوْمَ الْأَضْحَى، وَيَوْمَ الْفِطْرِ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: ((دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ مِنْ جَوَارِي الْأَنْصَارِ تُغَنِّيَانِ بِمَا تَقَاوَلَتِ الْأَنْصَارُ يَوْمَ بُعَاثٍ -وَهُوَ شِعْرٌ حَمَاسِيٌّ-، قَالَتْ: وَلَيْسَتَا بِمُغَنِّيَتَيْنِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَمَزَامِيرُ الشَّيْطَانِ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللهِ ﷺ ؟ وَذَلِكَ فِي يَوْمٍ عِيدٍ)).

وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَتْ عَائِشَةُ: ((دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ ﷺ  وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِغِنَاءِ بُعَاثٍ، فَاضْطَجَعَ عَلَى الْفِرَاشِ وَحَوَّلَ وَجْهَهُ، وَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ فَانْتَهَرَنِي, وَقَالَ: مِزْمَارَةُ الشَّيْطَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ ؟ فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ فَقَالَ: ((دَعْهُمَا))، فَلَمَّا غَفَلَ غَمَزْتُهُمَا فَخَرَجَتَا)).

وَفِي حَدِيثِ نُبَيْشَةَ الْهُذَلِيِّ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ : ((أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ))، وَفِيهِ رِوَايَةٌ: وَزَادَ فِيهِ: ((وَذِكْرٍ للهِ -عَزَّ وَجَلَّ- )).

وَتُسْتَحَبُّ التَّهْنِئَةُ بِالْعِيدِ:

فَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، قَالَ: ((كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ ﷺ  إِذَا الْتَقَوْا يَوْمَ الْعِيدِ؛ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: ((تَقَبَّلَ اللهُ مِنَّا وَمِنْكُمْ))

وَأَمَّا التَّكْبِيرُ؛ فَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْفَجْرِ يَوْمَ عَرَفَةَ إِلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ.

فَهَذَا اللَّغْوُ الْمُرَخَّصُ فِيهِ مُرَخَّصٌ فِيهِ، فَهُوَ لَهْوٌ مُرَخَّصٌ فِيهِ، وَلَيْسَ بِأَيِّ لَهْوٍ، وَأَمَّا أَنْ يُتَوَسَّعَ فِي ذَلِكَ حَتَّى يَصِيرَ الْمَرْءُ إِلَى مَا حَرَّمَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ؛ فَمَا يَلِيقُ بِعَبْدٍ أَنْ يُقَابِلَ نِعْمَةَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَيْهِ بِمِثْلِ هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ.

وَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَجْتَهِدَ لِكَيْ يَكُونَ فِي عِيدٍ حَقًّا وَصِدْقًا، عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي طَهَارَةِ قَلْبِهِ وَنَفْسِهِ، عَلَيْهِ أَنْ يَحْنُو عَلَى ضَمِيرِهِ وَدَاخِلَتِهِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُفَتِّشَ فِي أَطْوَاءِ رُوحِهِ وَقَلْبِهِ، مِنْ أَجْلِ أَنْ يَسْتَخْرِجَ الدَّغَلَ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي اسْتِخْرَاجِ الْحِقْدِ وَالْحَسَدِ وَالْغِلِّ وَالْغِشِّ لِلْمُسْلِمِينَ.

عَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي أَنْ يُخْرِجَ الشِّرْكَ مِنْ قَلْبِهِ، وَالْبِدْعَةَ كَذَلِكَ، وَأَنْ يَضْبِطَ سُلُوكَهُ وَمِنْهَاجَهُ عَلَى مِنْهَاجِ رَسُولِ اللهِ ، كَمَا مَرَّ فِي قَوْلِ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْمُزَنِيِّ عِنْدَمَا قَالَ: ((مَا سَبَقَهُمْ أَبُو بَكْرٍ بِكَثِيرِ صَوْمٍ وَلَا صَلَاةَ، وَلَكِنْ بِشَيْءٍ وَقَرَ فِي قَلْبِهِ)).

فَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي رِعَايَةِ قَلْبِهِ وَحِيَاطَةِ رُوحِهِ، وَفِي التَّفْتِيشِ وَالتَّنْقِيبِ فِي أَطْوَاءِ نَفْسِهِ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَكُونَ جَدِيرًا بِالِانْتِسَابِ إِلَى آدَمَ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَنْحَطُّ يَنْتَسِبُ إِلَى الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، فَهُوَ شَيْطَانِيٌّ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَأَمَّا أَهْلُ الْحَقِّ فَإِنَّهُمْ يَضْبِطُونَ الظَّاهِرَ وَالْبَاطِنَ عَلَى: قَالَ اللهُ، قَالَ رَسُولُهُ ﷺ.

تَوَاسَوْا -عِبَادَ اللهِ-؛ فَإِنَّ نَبِيَّكُمْ ذَكَرَ الْفَضْلَ أَيْ: الزِّيَادَةَ مِمَّا عِنْدَهُ-  مِنْ ظَهْرٍ وَثِيَابٍ وَمَتَاعٍ، فَمَا زَالَ يَذْكُرُ مِنْ أَنْوَاعِ الْفَضْلِ حَتَّى قَالَ الرَّاوِي: حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ مِنَّا فِي الْفَضْلِ، ((مَنْ كَانَ عِنْدَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ؛ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا ظَهْرَ لَهُ، مَنْ كَانَ عِنْدَهُ فَضْلُ ثَوْبٍ؛ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا ثَوْبَ لَهُ)).

تَوَاسَوْا -عِبَادَ اللهِ-؛ فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَتَوَادُّونَ، يَتَرَاحَمُونَ.

إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ بَيَّنَ لَكُمْ مَثَلًا مَحْسُوسًا ظَاهِرًا: ((مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى)).

إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ بَيَّنَ اللُّحْمَةَ الْإِيمَانِيَّةَ الَّتِي تَكُونُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، الَّتِي تَكُونُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، أَيَحِلُّ لِأَحَدٍ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَبِيتَ لَيْلَةً وَجَارُهُ بِجِوَارِهِ جَائِعٌ وَهُوَ يَعْلَمُ؟!

فإن لم يكن يعلم؛ فهي أكبر وأفظع؛ لأنه لو تفقد أحواله؛ لعلم أهو جائع أم لا، لأن الناس يتواسون فيما بينهم؛ بل كان هذا التواسي قائما في الجاهلية عند أقوام شرفت نفوسهم فكانوا يحبون أن يعطوا كما لو أنهم يأخذون، حبب إليهم العطاء؛ حتى خافوا أن لا يؤجروا عليه، هؤلاء سلفنا: ((لقد حبب إلينا العطاء حتى خفنا ألا نؤجر عليه)).

قَاتِلُوا شُحَّ النَّفْسِ؛ فَإِنَّهُ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّ الشُّحَّ قَائِمٌ، وَلَكِنَّ الْمُفْلِحَ مَنْ جَعَلَ اللهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شُحِّ قَلْبِهِ وِقَايَةً.

{وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [التغابن: 16]

فَالشُّحُّ قَائِمٌ لَا مَحَالَةَ، لَا يُمْكِنَ أَنْ يَذْهَبَ {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[التغابن: 16]، فَالْمُفْلِحُ مَنْ جَعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شُحِّ نَفْسِهِ وِقَايَةً.

ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ  أَنَّهُ ذَبَحَ ذَبِيحَتَهُ، ثُمَّ خَرَجَ، فَلَمَّا عَادَ؛ قَالَ لِعَائِشَةَ: ((مَا فَعَلَتِ الْأُضْحِيَّةُ يَا عَائِشَةُ؟))

فَقَالَتْ: ذَهَبَتْ كُلُّهَا إِلَّا الذِّرَاعَ.

فَقَالَ مُصَحِّحًا: ((بَلْ بَقِيَتْ كُلُّهَا إِلَّا الذِّرَاعَ)).

 فَأَهْدَتْ وَتَصَدَّقَتْ، وَلَمْ تُبْقِ إِلَّا الذِّرَاعَ الْيُمْنَى الْأَمَامِيَّةَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ كَانَ يُحِبُّهَا ﷺ.

فَقَالَتْ: ذَهَبَتْ كُلُّهَا إِلَّا الذِّرَاعَ.

قَالَ: ((بَلْ بَقِيَتْ كُلُّهَا إِلَّا الذِّرَاعَ)).

فَمَا أَبْقَيْتِ فَنِيَ، وَمَا تَصَدَّقْتِ وَأَخْرَجْتِ بَقِيَ.

فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ-، طَهِّرُوا نُفُوسَكُمْ، طَهِّرُوا قُلُوبَكُمْ، طَهِّرُوا أَرْوَاحَكُمْ، دَعُوكُمْ مِنَ الْغِيبَةِ، دَعُوكُمْ مِنَ النَّمِيمَةِ، دَعُوكُمْ مِنَ الْكَذِبِ، دَعُوكُمْ مِنَ الْخِيَانَةِ، دَعُوكُمْ مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْأَعْرَاضِ، أَهَذَا الْتِزَامُكُمْ بِدِينِكُمْ؟!

إِنَّهَا مِنَ الْكَبَائِرِ، أَنْتَ تَغْتَابُ -وَالْغِيبَةُ مِنَ الْكَبَائِرِ- فِي يَوْمِ عَرَفَةَ وَأَنْتَ صَائِمٌ؛ فَأَيُّ تَكْفِيرٍ لِذُنُوبِكَ يَكُونُ؟!!

تَكْذِبُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ وَأَنْتَ صَائِمٌ؛ فَأَيُّ تَكْفِيرٍ لِذُنُوبِكَ يَكُونُ؟!!

تَنِمُّ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ وَأَنْتَ صَائِمٌ؛ فَأَيُّ تَكْفِيرٍ لِذُنُوبِكَ يَكُونُ؟!!

تَنْظُرُ إِلَى الْمُحَرَّمَاتِ، وَتَسْمَعُ الْخَنَا، وَتَمْضِي فِي السَّيِّئَاتِ، وَتَسْعَى فِي خَرَابِ الْبُيُوتِ؛ فَأَيُّ تَكْفِيرٍ لِذُنُوبِكَ يَكُونُ؟!!

اتَّقِ اللهَ، اتَّقَ اللهَ وَحْدَهُ، وَاخْشَ يَوْمًا تَقِفُ فِيهِ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّكَ، وَتُعْرَضُ عَلَيْهِ، وَيُقَرِّرُكَ بِذُنُوبِكَ، أَبِشِمَالِكَ صَحِيفَةُ سَيِّئَاتِكَ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِكَ؟!

اتَّقِ اللهَ، وَعُدْ إِلَى اللهِ، وَأَصْلِحْ مَا أَفْسَدْتَ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  أَفْضَلُ أَيَّامِ الْعَامِ وَدُرُوسٌ مِنْ قِصَّةِ الْخَلِيلِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-
  التَّمَسُّكُ بِالْأَمَلِ وَإِتْقَانِ الْعَمَلِ وَقْتَ الْأَزْمَاتِ
  حُسْنُ الْخَاتِمَةِ
  حِمَايَةُ الْأَوْطَانِ بَيْنَ فَرْضِ الْعَيْنِ وَفَرْضِ الْكِفَايَةِ
  هؤلاء يساندون التكفير والإرهاب
  مَعَالِمُ الرَّحْمَةِ فِي خُطْبَةِ الْوَدَاعِ
  مَنْزِلَةُ الشُّهَدَاءِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَالْمُؤَامَرَةُ عَلَى مِصْرَ الْآنَ!!
  تَضَرُّعٌ وَمُنَاجَاةٌ
  اغْتِنَامُ الْأَوْقَاتِ وَمَخَاطِرُ إِضَاعَتِهَا
  مَخَاطِرُ الطَّلَاقِ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان