«المَوْعِظَةُ الحَادِيَةَ عَشْرَةَ»
((رَمَضَانُ شَهْرُ الْأَحْدَاثِ وَالِانْتِصَارَاتِ الْعَظِيمَةِ))
تحميل نسخة PDF
الْحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَقَدْ شَهِدَ شَهْرُ رَمَضَانَ العَدِيدَ مِنَ الأَحْدَاثِ الفَارِقَةِ فِي مَسِيرَةِ التَّارِيخِ الإِنْسَانِيِّ عَامَّةً، وَالإِسْلَامِيِّ خَاصَّةً، وَمِنْ ذَلِكَ:
بَعْثَةُ النَّبِيِّ ﷺ، وَنُزُولُ الْوَحْيِ فِي رَمَضَانَ:
إنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ هُوَ شَهْرُ الْأَحْدَاثِ الْجِسَامِ وَالْانْتِصَارَاتِ الْعِظَامِ، وَمِنْ أَكْبَرِ الْأَحْدَاثِ الَّتِي شَهِدَهَا الْعَالَمُ إِنْ لَمْ يَكُنْ أَكْبَرَهَا: بَدْءُ نُزُولِ الْوَحْيِ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ.
وَقَدْ بَدَأَ ذَلِكَ النُّزُولُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ قَدِ اعْتَادَ فِي رَمَضَانَ مِنْ كُلِّ عَامٍ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى غَارِ حِرَاءٍ بِمَكَّةَ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَتَحَنَّثَ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ، وَكَانَ يَأْخُذُ مَعَهُ ﷺ مَا تَيَسَّرَ مِنْ زَادٍ.
فَأَنْزَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْقُرْآنَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَبَدَأَ الْوَحْيُ الْمَعْصُومُ الَّذِي غَيَّرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهَدْيِهِ الدُّنْيَا كُلَّها، وَأَخْرَجَ بِهِ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، بَدَأَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ [البقرة: 185].
وَ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ﴾ [القدر: 1].
فَهَذَانِ مَوْضِعَانِ دَلَّ فَيهِمَا رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ بَدْءًا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَهَذَا الْحَدَثُ الْفَرِيدُ فِي تَارِيخِ الْبَشَرِيَّةِ كُلِّهَا كَانَ فَارِقًا بَيْنَ عَهْدَيْنِ؛ بَيْنَ مَا قَبْلَ الْوَحْيِ الْمُنَزَّلِ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ وَمَا بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ رِسَالَةَ الرَّسُولِ ﷺ هِيَ آخِرُ رِسَالَاتِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ.
* غَزْوَةُ بَدْرٍ فِي رَمَضَانَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ:
وَفِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ هِجْرَةِ الرَّسُولِ ﷺ: نَمَا إِلَى عِلْمِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ فِي عِيرٍ عَظِيمَةٍ، وَقَافِلَةٍ كَبِيرَةٍ، وَمَالٍ وَفِيرٍ، ورِزْقٍ غَزِيرٍ قَدْ خَرَجَ إِلَى الشَّامِ، فخَرَجَ النّبِيُّ ﷺ أَوْ أَرْسَلَ، فَلَمْ يُدْرِكْ.
خَرَجَ النَّبِيُّ ﷺ لِيَتَعَرَّضَ لِلْعِيرِ ؛ لِيَرُدَّ بَعْضَ ما سُلِبَ مِمَّا نَهَبَتْ قُرَيْشٌ وَاسْتَوْلَتْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تُبْقِ لِأَحَدٍ مِنَ المُسْلِمِينَ شَيْئًا من مالٍ أو متاعٍ؛ حَتَّى قَالَ الرَّسُولُ ﷺ لَمَّا نَزَلَ مَكَّةَ فَاتِحًا، فَلَمْ يَجِدْ مَكَانًا يَنْزِلُ فيهِ، وقَدْ قِيلَ لَهُ: فَلْتَنْزِلْ في دَارِكَ وَدَارِ أَبِيكَ.
فقال ﷺ: «وهَلْ أَبْقَى لَنَا عَقِيلٌ مِنْ دَارٍ؟!».
فَلَمْ يَكُنْ لَهُ بِمَكَّةَ دَارٌ -صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ-، فَنَزَلَ عِنْدَ أُمِّ هَانِئٍ.
وَوَقَعَ ذَلِكَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَكانَتْ مَعرَكَةً حَاسِمَةً فَاصِلَةً فِي تَارِيخِ المُسلِمِينَ، وسُمِّيَتْ بِيَومِ الفُرْقَانِ؛ حَيْثُ فَرَقَتْ بَينَ زَمَنِ الاسْتِضْعَافِ، وَزَمَنِ قُوَّةِ المُسْلِمِينَ، فَرَقَتْ بَينَ الحَقِّ وَالبَاطِلِ، وَلا ضَيرَ فَهِيَ فِي شَهرِ رَمَضانَ، شَهْرِ الفُرْقَانِ.
وَمَنْ هُوَ الَّذِي هُوَ أَسَدُّ دِعَايَةً، وَالَّذِي هُوَ أَقْوَمُ سَبِيلًا؛ أَهُوَ أَمْ رَسُولُ اللهِ ﷺ؟!
نَصَرَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ جُنْدَهُ، وَأَعَزَّ حِزْبَهُ، وَنَصَرَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ المُسْلِمِينَ فِي بَدْرٍ، فَذَبَحُوهُمْ ذَبْحًا، وَأَسَرُوا مِنْهُمْ سَبْعِينَ، وعَادُوا ظَافِرِينَ مُظَفَّرِينَ، وَعَادَتْ قُرَيْشٌ تَنْدِبُهَا نَوَادِبُهَا، وَتَنُوحُ عَلَيْهَا نَوَائِحُهَا، وَتَبْكِي دَمًا، وَأَعَزَّ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ نَبِيَّهُ ﷺ وَالمُسْلِمِينَ مَعَهُ
* فَتْحُ مَكَّةَ وَتَحْطِيمُ الْأَصْنَامِ فِي رَمَضَانَ:
وَمِنَ الأَحْدَاثِ الفَاصِلَةِ فِي تَارِيخِ الإِسْلَامِ وَالمُسْلِمِينَ، وَالْخَلْقِ أَجْمَعِينَ: فَتحُ مَكَّةَ.
مَرَّتِ الْأَيَّامُ فِي طَرِيقِهَا، وَفَتَحَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مَكَّةَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ وَالْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مِنَ السَّنَةِ الثَّامِنَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَدَخَلَ النَّبِيُّ ﷺ مَكَّةَ ظَافِرًا وَمُنْتِصَرًا، وَعَابِدًا للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- خَاشِعًا وَمُنِيبًا، وَطَافَ بِالْبَيْتِ، وَكَانَ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ صَنَمٌ لِقُرَيْشٍ مِنْ عَقِيقٍ أَحْمَرَ، وَقَدْ كُسِرَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى؛ فَجَعَلُوا مَكَانَهَا يَدًا مِنْ ذَهَبٍ، وَكَانَ كَبِيرَ آلِهَتِهِمْ، وَهُوَ هُبَلُ.
فَأَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ بِالْأَصْنَامِ، فَجُمِعَتْ خَارِجَ الْبَيْتِ بَعْدَ أَنْ طَافَ ﷺ وَمَعَهُ رُمْحٌ قَصِيرٌ، فَكَانَ يَطْعَنُ بِرُمْحِهِ ﷺ فِي أَعْيُنِ الْأَصْنَامِ وَفِي أَوْجُهِهَا؛ فَتَخِرُّ تَحْتَ قَدَمَيْهِ ﷺ، وَكَانَ فِي رَمَضَانَ هَذَا الْحَدَثُ الْعَظِيمُ، وَهُوَ تَحْطِيمُ الْأَصْنَامِ.
* حَفْرُ النَّبِيِّ ﷺ الْخَنْدَقَ فِي رَمَضَانَ:
فَفِي رَمَضَانَ مِنَ السَّنَةِ الْخَامِسَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ وَالصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- يَحْفِرُونَ الْخَنْدَقَ؛ اسْتِعَدَادًا لِمَا يَكُونُ مِنْ قُدُومِ قُرَيْشٍ وَأَحْلَافِهَا غَازِيَةً مَدِينَةَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَأَمَّا غَزْوَةُ الْخَنْدَقِ نَفْسُهَا؛ فَقَدْ وَقَعَتْ فِي شَوَّالٍ مِنَ السَّنَةِ عَيْنِهَا.
* فَتْحُ الْأَنْدَلُسِ فِي رَمَضَانَ:
وَفِي السَّنَةِ الْحَادِيَةِ وَالتِّسْعِينَ من هجرة الرسول الأكرم ﷺ: فَتَحَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْأَنْدَلُسَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ طَارِقُ بْنُ زِيَادٍ -رَحِمَهُ اللهُ- مُرْسَلًا مِنْ قِبَلِ مُوسَى بْنِ نُصَيْرٍ، فَفَتَحَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فَتْحَهُ.
* مَوْقِعَتَا مَرْجِ الصُّفَّرِ، وَعَيْنِ جَالُوتَ فِي رَمَضَانَ:
فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، فِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِمَئَةٍ مِنْ هِجْرَةِ الرَّسُولِ ﷺ: كَانَتْ «مَوْقِعَةُ مَرْجِ الصُّفَّر» أَوْ «مَوْقِعَةُ شَقْحَب» الَّتِي كَانَ فِيهَا النَّاصِرُ مُحَمَّدُ بْنُ قَلَاوونٍ، وَالْخَلِيفَةُ الْمُسْتَكْفِي بِاللهِ، وَكَانَ مَعَهُمَا شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ -رَحِمَهُ الله تَعَالَى رَحْمَةً وَاسِعَةً-، فَبَدَّدُوا جُمُوعَ التَّتَارِ، وَمَزَّقُوهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ، وَنَصَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْمُسْلِمِينَ نَصْرًا عَزِيزًا مُؤَزَّرًا.
وَقَبْلَ ذَلِكَ فَتَحَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَتْحًا عَظِيمًا، فِي «عَيْنِ جَالُوتَ» نَصَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْمُسْلِمِينَ عَلَى التَّتَارِ؛ فَانْحَسَرَتْ مَوْجَةُ الْهَمَجِيَّةِ وَالْفَوْضَى عَلَى صَخْرَةِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمَةِ بِجُنْدِ الشَّامِ وَجُنْدِ مِصْرَ، فَبَدَّدُوهُمْ كُلَّ مُبَدَّدٍ، وَشَتَّتُوهُمْ كُلَّ مُشَتَّتٍ، وَمَزَّقُوهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ، وَمَنْ نَجَا مِنَ الْقَتْلِ أُسِرَ، ثُمَّ كَانَ بَعْدُ عَبْدًا ذَلِيلًا، فَحَسَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- تِلْكَ الْمَوْجَةَ، وَكُلُّ ذَلِكَ كَانَ وَاقِعًا فِي رَمَضَانَ تَحْتَ رَايَةِ الْإِسْلَامِ.
لَمْ يُنْصَرِ الْمُسْلِمُونَ قَطُّ إِلَّا تَحْتَ رَايَةِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.
* حَرْبُ الْعَاشِرِ مِنْ رَمَضَانَ، آخِرُ انْتِصَارَاتِ المُسْلِمِينَ:
حَتَى فِي آخِرِ مَا شَهِدَ المُسْلِمُونَ فِي هَذَا العَصْرِ: فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَتِسْعِين وَثَلَاثِ مِئةٍ وَأَلْف مِنْ هِجْرَةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فِي مِثْلِ هَذِهِ الأَيَامِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ فِي العَاشِرِ مِنْهُ: (10 مِنْ رَمَضَان 1393هـ)، وَهُوَ مُوافِقٌ لِلسَّادِسِ مِنَ الشَّهْرِ العَاشِرِ مِنْ سَنَةِ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ وَتِسْعِ مِئةٍ وَأَلْف مِنَ التَّارِيخِ النَّصْرَانيِّ (6/10/1973): لمَّا رُفِعَت رَايَةُ التَّوْحِيدِ، وَعَلَتْ كَلِمَةُ التَّكْبِيرِ؛ نَصَرَ اللهُ رَبُّ العَالمِينَ المُسْلِمِينَ.
وَلَم يُنْصَرُوا إِلَّا بِالإِسْلَامِ العَظِيم، وَلَنْ يُنْصَرَ المُسْلِمُونَ فِي أَيِّ بُقْعَةٍ مِنْ بِقَاعِ الأَرْضِ، وَلا فِي أَيِّ زَمَانٍ مِنَ الأَزْمِنَةِ، وَلنْ تَكُونَ لَهُم شَوْكَةٌ، وَلَنْ تُسمَعَ لهُم كَلِمَةٌ، وَلَنْ تُرْفَعَ لَهُم رَايَةٌ إِلَّا بِالإِسْلَامِ العَظِيمِ، وَبِالتَّوْحِيدِ الكَرِيمِ.
اللَّهُمَّ رُدَّنَا وَالمُسْلِمِينَ جَمِيعًا إِلَى الحَقِّ رَدًّا جَمِيلًا، وَأَحْسِنْ خِتَامَنَا أَجْمَعِينَ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
تحميل نسخة PDF