كتاب : فَضْلُ الأَشْهُرِ الحُرُمِ وَبِدَعُ شَهْرِ رَجَب وليلة النِّصْفِ مِنْ شَعبان

فَضْلُ الأَشْهُرِ الحُرُمِ وَبِدَعُ شَهْرِ رَجَب وليلة النِّصْفِ مِنْ شَعبان

((تفريغ خطبة: بِدع شهر رجب))

((الجمعة 4 من رجب 1417هـ الموافق 15-11-1996م))

الْخُطْبَةُ الْأُولَى:

إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.

وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.

وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾[آل عِمْرَان:١٠٢].

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّـهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّـهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾[النِّسَاء:١].

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾[الْأَحْزَاب:٧٠-٧١].

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

ثًمَّ أَمَّا بَعْدُ:

فقد أخرجَ البخاريُّ رحمه الله- عن أبي رجاءٍ العُطارديِّ؛ قال: ((كُنَّا نَعْبُدُ الْحَجَرَ، فَإِذَا وَجَدْنَا حَجَرًا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ؛ تَرَكْنَا الأَوَّلَ وَعَبَدْنَاهُ، فَإِذَا لَمْ نَجِدْ حَجَرًا حَثَوْنَا حَثْوَةً مِنْ رَمَادٍ، ثُمَّ جِئْنَا بِشَاةٍ فَحَلَبْنَاهَا عَلَى الرَّمَادِ، ثُمَّ طُفْنَا بِهِ عَابِدِين، وَكُنَّا إِذَا دَخَلَ عَلينَا رَجَب؛ لَم نَدَعُ سَهْمًا فِيهِ حَدِيدَةٌ وَلَا رُمْحًا فِيهِ حَدِيدَةٌ إِلَّا نَزَعْنَاهُا مِنْهُ فَأَلْقَيْنَاهَا، وَكُنَّا نُسَمِّي رَجَبًا مُنْصِلَ الأَسَنَّةِ لأنه تُنزعُ فيه الأسَنَّة؛ لأنه شهرُ اللهِ تبارك وتعالى- الحرام-)).

اللهُ ربُّ العالمين- يصطفي مِن الأزمنةِ ما يشاء، ويصطفي مِن الأمكنةِ ما يشاء، ومن البشرِ ما يشاء، ومِن الملائكةِ ما يشاء يفعلُ ما يشاءُ ويحكمُ ما يريد-.

واللهُ تبارك وتعالى- خَلَقَ السمواتِ والأرضِ بالحقِّ وَكَوَّرَ الليلَ على النهارِ وكَوَّرَ النهارَ على الليل، وقضى في الناسِ أجمعين بما هو حقٌّ وخَير، فجعل اللهُ ربُّ العالمين- نظامًا للعالَمِ يسيرُ عليه من السُّننِ الكونية؛ ومن ذلك: أنَّ اللهَ تباركَ وتعالى- جَعَلَ عِدَّةَ الشهور عنده -أي: عددَ الشهور-:

{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ۚ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ۚ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 36].

اللهُ تبارك وتعالى- جَعَلَ عِدَّةَ الشهورِ عنده في كتابِ اللهِ يوم خَلَقَ السمواتِ والأرض: أي في اللوحِ المحفوظِ في كتابِ المقادير.

جعلَ عدَّةَ الشهور: أي عدد الشهور قائمًا على هذا الذي ذكرهُ اللهُ ربُّ العالمين- في مُحكمِ التنزيل، إلَّا أنَّ اللهَ ربَّ العالمين- الذي يصطفي من الأزمنةِ ما يشاء؛ اختصَ من هذه الأشهر أربعةً جعلَها حُرُمًا، وقد جعلَ اللهُ ربُّ العالمين- هذه الأشهرَ حُرُمًا؛ لا يجوز فيها القتالُ بحالٍ على ما سنعلمُ بأمرِ اللهِ ربِّ العالمين-، بل إنَّ ربَّ العالمين- عَظَّمَ فيها الذُّنوب، فمن أتى في الأشهرِ الحُرُم -التي سيأتي ذِكرُها عن قولِ النبي صلى الله عليه وسلم- مَن أتى في الأشهر الحرم بذنبٍ ضاعف اللهُ -ربُّ العالمين- له العقوبة.

كما أنَّ الله تبارك وتعالى- جعل أمكنةً شريفة، من صلَّى فيها وذَكَر اللهَ ربَّ العالمين- فيها؛ ضاعفَ اللهُ له المَثُوبة كما هو الشأنُ في المسجدِ الحرامِ مِن البلدِ الحرام، كذلك جعلَ اللهُ ربُّ العالمين- الإرادةَ للإلحادِ بظلمٍ في المسجدِ الحرام ذَنْبًا عظيمًا يستوجبُ العذابَ الأليم: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25]

فمُجَرُّد تَوَجُّهِ الإرادةِ إلى الإلحادِ: أي إلى المَيْلِ بالظلمِ في المسجدِ الحرام مستوجبٌ لإذاقةِ العذابِ الأليمِ كما بيَّنَ ربُّنا الرحمنُ الرحيم.

فاللهُ تبارك وتعالى- جعلَ الأشهرَ الحُرُمِ مُعظَّمَةَ القَدْرِ عندَهُ، فمَن اتَّقَى اللهَ ربَّ العالمين- فيها؛ فقد أتى بما أوجبَ اللهُ ربُّ العالمين- عليه، ومَن أتَى فيها بما يَشين وظلمَ فيها نَفْسَهُ كما حذَّرَ مِن ذلك ربُّنا تبارك وتعالى-؛ فإنَّ اللهَ ربَّ العالمين- يُضاعِفُ له العقوبة؛ لأنه ظالمٌ لنفسهِ كما قال اللهُ تبارك وتعالى-: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ۚ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ} [التوبة: 36].

والضميرُ في قوله تعالى: {فِيهِنَّ}: ينصرفُ إِمَّا إلى الأربعةِ الأشهرِ الحُرُمِ التي حرَّمَها الله ربُّ العالمين-، ويكونُ المعنى على ذلك: فلا تظلموا في الأشهرِ الحُرُمِ أنفسَكُم.

أو يتوجه إلى عِدَّةِ الشهورِ المذكورة قبل هذا: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا} ويكونُ الضميرُ عائدًا إلى هذه العِدَّةِ المذكورةِ ويكون ظُلْمُ النَّفْسِ مُحرَّمًا في الأشهرِ الحُرُم وفي غيرِها وهو كذلك، إلَّا أنَّ الذين ذهبوا إلى أنَّ الضمير يعودُ إلى الأشهر الحُرُمِ؛ قالوا: إنما نصَّ عليها اللهُ ربُّ العالمين- لبيان قَدْرِها، ويدلُّ ذلك على أنَّ مَن ظَلمَ نفسَه في الأشهرِ الحُرُمِ بمعصيةٍ للهِ ربِّ العالمين-؛ فقد أَتَى بظُلمٍ عظيم، وعليه فهو مستوجبٌ لعقابٍ أليم نسألُ اللهَ السلامةَ والعافية-.

النبيُّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم- لمَّا حجَّ حجةَ الوداع، وخطب الناسَ في يومِ مِنَى، كان مما قاله النبيُّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ السَّمَواتِ والأرْض، الأشهُرُ الحُرُمُ أَرْبَعَة: ذُو الْقِعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ)).

فجعلَ اللهُ ربُّ العالمين- الأشهرَ الحُرُم ثلاثةً سَرْدًا وواحدًا فَرْدًا، فأَمَّا الحكمةُ في هذا التقسيمِ على هذه الطريقة؛ فالعلماءُ يقولون: إنَّ اللهَ ربَّ العالمين- إنما حَرَّمَ هذه الأشهرَ من أجلِ مناسكِ الحجِّ والعُمرة، فاللهُ ربُّ العالمين- لمَّا جعلَ الحجَّ بمناسكهِ في شهرِ اللهِ تبارك وتعالى- المُحَرَّمِ ((ذي الحِجَّةِ))؛ اللهُ -ربُّ العالمين- جعل قبله شهرًا مُحَرَّمًا وبعدَهُ شَهْرًا مُحَرَّمًا، حتى يأتيَ الناسُ من الآفاقِ قاصدينَ بيتَ اللهِ الحرام آمنينَ على أنفسِهم ورواحلِهم وأزواجِهم وأموالِهم.

ثم إذا ما فَرَغوا مِن مناسكِ الحجِّ في ذي الحِجَّةِ وأرادوا القُفولَ إلى ديارِهم التي منها أتَوا؛ كانت عندهُم من الوقتِ فُسْحَةٌ من أجلِ أن يعودوا إلى ديارِهم في أمنٍ وأمانٍ واطمئنان.

فجعل اللهُ ربُّ العالمين- قبلَ الشهرِ الذي فيه المناسك شهرًا مُحَرَّمًا؛ وهو شهر اللهِ ربِّ العالمين- المُحَرَّمِ: ((ذو القِعْدَةِ))، ثم تأتي المناسكُ بتمامِها وجُملتِها في شهر ((ذي الحِجَّة))، ثم إذا ما فَرَغَ الناسُ مِنْ مناسكِهم، أَمِنوا على أنفسِهم بتحريمِ اللهِ ربِّ العالمين- للقتال؛ بل بظُلْمِ النفسِ في المعاصي، التي تكونُ بين العبدِ وربِّهِ، أَمِنوا على أنفسِهم شهرًا من أجلِ أنْ يعودَ كلٌّ إلى دارهِ آمِنًا على نَفْسِهِ ومَالِهِ.

ثم يأتي شهرُ اللهِ ربِّ العالمين- الفرد: ((رَجَب))، يأتيَ مُفردًا هكذا من أجلِ الزيارةِ والاعتمار، بعيدًا عما فرضَ اللهُ ربُّ العالمين- من أمرِ المناسكِ في شهر ذي الحِجَّة، فإذا  أراد رَجُلٌ أنْ يزورَ بيتَ اللهِ الحرام في خلالِ العام؛ جعلَ اللهُ ربُّ العالمين- له شهرًا في وسطِ العام هو رَجب، بعيدًا عن شهورِ مناسكِ الحجِّ ذَهَابًا وأداءً وإيابًا؛ مِنْ أَجْلِ أنْ يزورَ بيتَ اللهِ الحرام وأنْ يعتمرَ للهِ ربِّ العالمين-.

ولمَّا كان أمرُ العُمرةِ غيرَ أمرِ الحجِّ، جَعَلَ اللهُ ربُّ العالمين- للزيارةِ والاعتمارِ شهرًا واحدًا؛ لأنَّ الإنسانَ يُمكنُ أنْ يأتيَ من أطرافِ الجزيرةِ ويعود في هذه المُدَّة؛ لأنَّ العمرة لا تحتاج زمانًا مرتبطًا بمكانٍ كما هو الشأنُ في مناسك الحج، فيمكن للعبد أن يأتيَ من أطرافِ الجزيرة من أجلِ أنْ يزورَ بيتَ اللهِ الحرام وأنْ يعتمرَ لله ربِّ العالمين-، ثم لا يمكثُ في مكةَ قليلًا ولا كثيرًا، ثم ينقلبُ بعد ذلك إلى أهلهِ آمنًا على مالهِ ونفسهِ وزادهِ وعتادهِ.

جعل اللهُ ربُّ العالمين- الأشهر الحُرُم بهذه الصورة في التقسيم؛ مِن أجلِ حِكمٍ لا يعلمُها إلا اللهُ ربُّ العالمين-؛ منها ما أخبرَنا عنه العلماءُ رحمةُ الله عليهم- فيما مضى ذِكرُه.

اللهُ ربُّ العالمين- بحكمته البالغة عَلِمَ من أمرِ جزيرة العرب ما عَلِم؛ بعِلْمِهِ الذي تنكشف به المعلومات.

فالعالَمُ كلُّه أمام عِلمِ اللهِ  -ربِّ العالمين- مكشوفٌ دفعةً واحدة؛ لا ماضيَ ولا حاضرَ ولا مستقبل؛ بل كلُّه مكشوفٌ لدى اللهِ ربِّ العالمين- معلومٌ لديه كأنه وقعَ عند البشرِ من حيثُ اليقين؛ بل أشَدُّ؛ لأنه اللهُ ربُّ العالمين-.

اللهُ ربُّ العالمين- يعلمُ بسابقِ عِلْمِهِ أنَّ العربَ لن يَكفُّوا عن العصبيةِ والحَميَّةِ والقتال، فلمَّا أنْ أرسلَ اللهُ ربُّ العالمين- إبراهيم عليه السلام-، وأمره برفعِ القواعد من البيت؛ حرَّمَ اللهُ ربُّ العالمين- ما حرَّم من أمرِ هذه الأشهرِ المُحَرَّمة، فهي حُرُمٌ من أيامِ إبراهيم وإسماعيل منذ أذَّنَ إبراهيمُ عليه السلام- في الناسِ بالحَجِّ.

أمَّنَ اللهُ ربُّ العالمين- الطريقَ للحُجَّاج والزائرين والمُعتمرين؛ لأنَّ العربَ كانوا أهلَ عصبيةٍ وأهلَ حَميَّةٍ جاهليةٍ فيما قبل الإسلام، وكانوا يعتمدون على السَّلبِ والنهبِ والسطوِ والغزو،ويأكلون من أرزاقٍ تُدفعُ إليهم عن طريقِ أسنَّةِ الرِّماحِ وشباتِ السيوف، فجعلَ اللهُ ربُّ العالمين- هذه الأشهر مُحَرَّمًا فيها القتال، حتى يتمكن الناس من زيارةِ بيتِ اللهِ الحرام حُجَّاجًا وزائرين ومعتمرين، وحتى تنقطعَ حُجةَ الخَلْقِ أجمعين.

وجَعَلَ اللهُ ربُّ العالمين- من المكانةِ للأشهر الحُرُمِ في قلوبِ العربِ من الجاهليين، الذين كانوا لا يدينونَ بدينٍ صحيح، ولا يتَّبِعونَ في الجُملةِ فطرةً مستقيمة، جعلَ اللهُ ربُّ العالمين- من الفطرةِ في تقديرِ هذه الأشهر أنَّ الرجلَ من العربِ كان يَلْقَى قاتِلَ أبيه وقاتِلَ أخيه في الأشهرِ الحُرُمِ؛ فلا يُهيِّجُهُ ولا يُزعجُهُ ولا يرفعُ إليه نظرًا بحِدَّة؛

لأنَّ اللهَ ربَّ العالمين- حرَّمَ القتالَ في هذه الأشهر، وجعلهُ حرامًا مُحَرَّمًا، فقدَّرَت العربُ ذلك بأمرِ اللهِ رب العالمين- الكونيِّ وبقايا دينِ إبراهيم عليه السلام-، الذي كان الحنيفية السَّمحة ملَّةَ أبينا إبراهيم نسأل اللهَ تبارك وتعالى- أن يُحييَنا عليها، على الإسلامِ دينِ مُحمدٍ صلى الله عليه وسلم- وأن يُميتَنَا عليها وأنْ يحشرنا بين يديه عليها إنه على كلِّ شيءٍ قدير-.

جعلَ اللهُ ربُّ العالمين- الأشهرَ الحُرُم مختصةً في تلك الأشهرِ العِدَّةِ التي ذَكَرَها اللهُ ربُّ العالمين- في محكم التنزيل، فأما عِدَّةُ الشهور التي ذكرَ الله ربُّ العالمين- في محكم التنزيل؛ فتبدأُ بشهرِ الله تبارك وتعالى- ((المُحَرَّم))، ويجمعُ على محارمَ ومحاريم، ثم يأتي مِن بعد المُحَرَّمِ ((صفَر)) ويُجمعُ على أصفار، ثم يأتي ((ربيعٌ الأوَّل)) ويُجمعُ على أرْبِعَاءَ وأرْبِعَة، ثم يأتي ((الثاني))، ثم يأتي ((جُمَادَى الأول)) و((جُمَادَى الثاني))، ويُمكن أن تُؤنَّثَ وتُذَكَّرَ؛ فيُقال: جُمادى الأولى وجُمادى الأول وتُجمعُ على جُماديات، ثم يأتي من بعد ذلك ((رَجَب)) ويُجمعُ على رُجُبٍ وأرجبةٍ وأرجاب -في رجب الأرجابِ أو صَفَرٍ كما قال أبو تمام في قصيدته التي ألقى بين يدي المعتصم في سالف الدهر-، ثم يأتي من بعد: رجب شهرِ اللهِ تبارك وتعالى- الحرام الذي نصَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم- على منقعه في الحديث الذي كان في حجة الوداع في يوم مِنَى؛ فقال: ((ورَجب الذي بين جُمادى وشعبان رجب مُضر-))؛ لأن ((ربيعةَ)) كانت تذهب إلى أن المُحَرِّمَ ليس رجبًا وإنما هو رمضان، فكانت تُطلِق التحريم على رمضان مع إطلاق اللفظِ عليه رَجبًا.

فكانوا يسمون رمضانَ رَجبًا، وأما ((مُضَر))فكانت على أصلِ ما كان عليه إبراهيمُ عليه السلام-، فكانت تُحَرِّمُ رجبًا رجب مُضَر-، الذي بين جُمادى وشعبان؛ ولذلك رفع النبيُّ صلى الله عليه وسلم- عواملَ الإشكال وأزالَ الإلباس، فنَصَّ عليه نصًّا صريحًا، قال: ((ورجبُ مُضَر الذي بين جُمادى وشعبان))، ((شعبان)): الذي يُجمعُ على شعابين وشعبانات، و((رمضانُ)) الذي يُجمعُ على أَرْمِضَةٍ ورمضانات، ثم يأتي من بعد ذلك ((شوال)) ويُجمعُ على شواويل، ثم يأتي من بعد شوال ((ذو القِعدة)) و((ذو الحِجة)) من بعد ذلك ويُجمع كلُّ ذي ((ذو)) بجمعِ ((ذو)) وإبقاءُ مع بعدها على أصله؛ فهي: ذوات القِعدةِ وذواتِ الحِجة.

ثم يأتي أمرٌ بيَّنَهُ اللهُ ربُّ العالمين- في الآية التي تَلَت: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة: 37].

و النَّسِيءُ: من الإنساء وهو التأخير، وإنما هو فعيلٌ على مفعولٍ في أصلِ خِلقتهِ، إلا أنه نُقِلَ من منسوءٍ إلى نسيء للخفةِ في النطق، كما نُقِلَ قتيل من مقتولٍ إلى قتيلٍ للخفةِ في النطق أيضًا، وإنما كان النسيءُ نسيئًا؛ لأنَّ اللهَ ربَّ العالمين- لَمَّا حرَّم الأشهرَ الثلاثةَ سَرْدًا؛ عزَّ على العربِ وشقَّ عليهم أن يَكفُّوا عن المناجذةِ والمناحرة والقتالِ فيما بينهم ثلاثةَ أشهرٍ مُتتابعات.

فما كان من شأنِ رجُلٍ من ((كِنانةَ))، وكانت ((كنانةُ)) ذات دين-قبيلةٌ من قبائلِ العرب تُدْعَى كِنانة، كانت ذات دين-.

جاء منها رجلٌ يُقال له ((القَلَمَّس)) فوقف يومً في أيامِ الحجِّ على حمارٍ له، واتجه صوبَ الحجيج، ثم قال: ((إني لا أُجابُ ولا أُعاب، وقد نسئتُ لكم شهرَ اللهِ المُحَرَّم))،فأَخّرَ بذلك الحُرمةَ إلى صَفَر.

وفي قولِ ابن جرير رحمة الله عليه-: أنَّ أمر النسيء الذي صنع هذا الرجل، والذي صنعه من بعده أبنائه وأحفاده، حتى جاء الإسلام على ((جُنادةَ بن عمروٍ)) من أحفاد ((القَلَمَّسِ)) هذا وهو أولُ من نَسَأ الأشهرَ الحُرُم أي أخَّرَها-.

جاء الإسلامُ على هذا الرجُلِ وهو يقف في موسمِ الحج على حمارٍ له؛ يقول: ((أنا أبو ثُمامة وكانت كُنيته- لا أُجاب ولا أُعاب، وقد أخرت لكم، نسأت لكم شهر الله المُحَرَّم إلى صَفَر)).

فيُحِلُّ شهر الله المُحَرَّم، يُحِلُّه للناس في القتال ويُحَرِّمُ بدلًا منه ما بعده: شهرَ صَفر، فيصبح بذلك صفرُ المُحَرَّم، والمُحَرَّمُ حلالًا، فيُحِلُّ ما حرَّمَ الله ويُحَرِّمُ ما أحلَّ اللهُ ربَّ العالمين-.

في قولِ ابن جريرٍ رحمة الله عليه- أنهم كانوا إذا نسئوا الأشهر الحُرُم أو أنسئوها يعني: أخرُّوا الحُرمةَ فيها-، أبقَوا لا على حُرمةِ الأشهرِ عددًا، وإنما غايروا بعد إبقائها عددًا؛ غايروا في عدةِ الأشهرِ نفسِها، فإنَّ الرجل كان يأتي في شهر الله المُحَرَّم أو في موسم الحج؛ فيقول لهم في ذي الحِجة:

((قد نسأتُ أو أنسأتُ لكم الحُرمةَ من المُحَرَّمِ إلى صَفَر، إذن؛ أصبح ((صَفَرُ المُحَرَّمَ)) وأصبح ((المُحَرَّمُ حلالًا)).

فلذلك يُسمَّى ((المُحرَّمُ)) في لغتهم ((مُحَرَّمٌ الحلال))، و((صَفَر)) يُسمَّى ب((المُحَرَّمِ الحرام))، ثم يأتي ربيعٌ الأول فيسمونه صَفَرًا، ثم تتوالى الأشهرُ بعدُ، فتصبحُ عِدة الأشهر عندهم ثلاثةَ عشرَ شهرًا، لا كما قال اللهُ ربُّ العالمين-، وإنما يواطئون عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ ربُّ العالمين- في الإبقاءِ على عدةِ الأشهرِ الحُرُم دون مواقعِها الزمنيةِ التي بيَّنَها اللهُ ربُّ العالمين-، وفصَّلَها لنا مُحمدٌ صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.

الآن؛ هم يجعلون السَّنَةَ ثلاثةَ عشرَ شهرًا، وتتابعت الأيام؛ فتداخلت الشهور، فأصبحَ ربيعٌ الأول رمضان، وأصبح رمضانٌ رجب، ثم تداخلت الأشهر، فكانوا يحجُّون في غير المواقيتِ بيقين، يحجُّونَ في غيرِ ذي الحِجَّة الذي قصدَهُ اللهُ ربُّ العالمين- بالحجِّ لمَّا جعلَ الأشهرَ الحُرُم بعدةٍ معدودةٍ في أصلِ خِلقةِ السمواتِ والأرض، إلَّا أنَّ اللهَ- ربَّ العالمين- عصم النبيَّ صلى الله عليه وسلم- من ذلك، فرسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم- لمَّا حجَّ في العامِ الذي حجَّ فيه؛ قال لنا: ((إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ السَّمَواتِ والأرْض)).

 

فالمُحَرَّمُ في موضعهِ الذي أرادهُ الله، وذو الحِجَّةِ الذي حجَّ فيه النبيُّ صلى الله عليه وسلم- هو ذو الحِجةِ الذي قصدَهُ اللهُ ربُّ العالمين- بالتحريمِ وبأداءِ المناسك، فعصمَ اللهُ رسولَهُ صلى الله عليه وعلى آله وسلم- مِن كلِّ ما يشوب بأبي هو وأمي صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.

الرسولُ صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بُعِثَ في العربِ وهُم على تحريمِ الأشهر اسمًا لا رَسْمًا، وإطلاقًا وأَخْذًا بقضيةِ النسيء بتبديلٍ وتحريفٍ وتغيير، فأعاد اللهُ ربُّ العالمين- الأمرَ على يدي النبي صلى الله عليه وسلم- إلى نِصابهِ الذي أراده اللهُ ربُّ العالمين-.

فرَجَبُ شهرٌ من أشهرِ اللهِ الحرام، هو مُعظَّمُ القَدْرِ عند اللهِ ربِّ العالمين-، واللهُ ربُّ العالمين- أمَرَنَا في محكمِ التنزيلِ ألا نظلمَ فيه -لأنه من جُملة الأشهر الحُرُم- أنفسَنا، ألا نَظلمَ فيه أنفسَنا: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ} [التوبة: 36]، أي: في الأشهرِ الحُرُمِ على القولِ الراجحِ مما يُرَدُّ إليه الضمير في قولِ اللهِ ربِّ العالمين-: {فِيهِنَّ}.

فرَجَبٌ نَصًّا لا ينبغي لعبدٍ يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخرِ أنْ يظلمَ فيه نَفْسَهُ بمعصيةِ اللهِ- ربِّ العالمين-، فأمَّا أنْ يكونَ ذلك كذلك، فهو ولا مُشاحةَ في هذا الذي قال اللهُ ربُّ العالمين- ولا جدالَ فيه.

وأمَّا أنْ يَثْبُتَ لرَجَبٍ فضيلةٌ فوقَ ما ذكرَ اللهُ ربُّ العالمين- مِن أنه من الأشهرِ الحُرُمِ؛ فدون ذلك خَرْطُ القتاد، لم يَثْبُت في حقِّ رَجَب كفضيلةٍ بصيامِ يومٍ منه مُعَيَّنٍ أو بقيامِ ليلةٍ منه بعَيْنِهَا، لم يَثْبُت في ذلك نصٌّ على الإطلاق.

*وأمَّا قولُ مَن قال رفعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم- ولا يَصِحُّ: ((رجبُ شهرُ الله، وشعبان شهري، ورمضانُ شهر أمتي))، فهو ضعيفٌ لا يَثْبُتُ عن رسولِ الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.

*ثم فيه: ((حديثُ الباهليِّ الذي جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم- ثم غاب عن النبيِّ عامًا صلى الله عليه وسلم-، ثم جاءه بعد عامٍ مُتغيرًا، حتى إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم- أنكرَه.

فقال له: يا رسول الله؛ أنا الباهليُّ الذي جُئتكَ عامَ أوَّل.

فقال: فما غيَّرك.

قال: والله يا رسول الله، منذ تركتُك ما نامت لي عينٌ بليل، ولا طَعمتُ في نهارٍ منذ تركتُك يا رسول الله.

فقال النبيُّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: عذَّبتَ نفسَك، ثم قال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم- في بعضِ ما قال: صُم من الحُرُمِ واترك، صُم من الحُرُمِ واترك، صُم من الحُرُمِ واترك)).

فهو ضعيفٌ لا يَثْبُتُ عن رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.

وأمَّا ما أخرج أحمد رحمة الله عليه- وما أخرج النسائيُّ أيضًا: من أنَّ الرسولَ - صلى الله عليه وسلم- سُألَ: لِمَا تُكثرُ يا رسول الله من الصيامِ في شهر شعبان؟

فقال النبيُّ - صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((هذا شهرٌ بين شهري رجب وشهرِ رمضان، ينساهُ الناسُ وتُرفعُ فيه الأعمالُ إلى اللهِ ربِّ العالمين-، فأنا أحبُّ أن يُرفعَ لي فيه عملٌ وأنا صائم)).

فهذا معنى ما قال النبيُّ - صلى الله عليه وعلى آله وسلم- مما يُمكنُ أنْ يُفهمَ منه ضِمنًا؛ أنَّ هناك فضيلةٌ لشهر رجبَ هذا الذي نحن فيه؛ لأن قولَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم-: إنَّ شهرَ شعبان بين شهر رجب وشهرِ رمضان، ورمضان معلومٌ ما له من الفضيلةِ والفَضْلِ، فلمَّا قرَنَ النبي - صلى الله عليه وسلم- بين شهر رجب وشهر رمضان ونصَّ على نسيانِ الناسِ لشهرِ شعبانَ بينهما؛ اُستنبطَ من ذلك أنَّ لشهرِ رجب فضيلةً عند اللهِ ربِّ العالمين-، وهو كذلك بلا مُشاحة؛ لأنه من أشهرِ اللهِ الحُرُم.

فدَلَّ النبي - صلى الله عليه وسلم- أنَّ العبدَ يُمكن أن يصومَ من أشهرِ اللهِ الحُرُم وأن يَدَع أي: وأنْ يترك-، أمَّا أن يقصدَ شهرًا من أشهرِ اللهِ الحُرُم؛ فيصومَ شهرَ رجب كاملًا، ثم يُتبعهُ شعبان، ثم يُلحقُ بهما رمضان، فليس من هَدْي النبيِّ الهُمام - صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، ومَن قصدَ ذلك على أنه قُربةٌ للهِ ربِّ العالمين-؛ فهو أمرُ بِدعةٍ ابتدَعَهُ في دين اللهِ ربِّ العالمين-،

ما فعلَ النبيُّ ذلك ولا أحدٌ من أصحابهِ - صلى الله عليه وسلم- و-رضي الله عنهم أجمعين-.

أما الصيام في شهرِ رجب: فإذا ما وافق صيامًا لأحدِنا، فإنه لا عليه في ذلك ولا تثريب، كأنْ يكون صائمًا ليومٍ ومُفطرًا لآخر كما هو صيامُ داود، أو يكونَ صائمًا لأيامِ البِيض، أو صائمًا الاثنين والخميس، أو صائمًا لثلاثةِ أيامٍ من كلِّ شهر، فهذا لا شيء فيه؛ بل هو من أعظمِ القُرباتِ إلى اللهِ ربِّ العالمين-؛ لأن العبدَ وافقَ أشهرَ اللهِ الحُرُم بعبادةٍ هي في أصلِها مسنونةٌ مشروعة وهو آخذٌ بها في أشهرِ اللهِ الحُرُم وفي غيرِها كما قال النبيُّ -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، أمَّا أنْ يُثْبِتَ الإنسانُ لرجب فضيلةً فوق ذلك، فإنَّ دون ذلك كما قلنا خرطُ القتاد.

والأحاديثُ الضعيفةُ: يقول بعضُ أهلِ العلمِ رحمة الله عليهم- إنه يُؤخذ بها في فضائل الأعمال، غير أنَّ ذلك ليس على إطلاق، يجب أن يكون محفوفًا بشروطٍ مُفصلةٍ عند علمائنا رحمة الله عليهم-، ومنها:

*ألا يكون الضعف شديدًا، فلا يُعمل بحديثٍ ضعيفٍ لا يُجبر بَيّن الضعف، بل ينبغي أنْ يكون الضعفُ يسيرًا.

 

 

*ثم إذا ما كان الضعفُ يسيرًا، فعليك عندما تأخذُ بحديثٍ ضَعْفُهُ يسير وتعملُ بهذا الحديثِ الضعيف ذي الضعف اليسير، ينبغي عليك عندما تعملُ به ألَّا يستقر في قلبك أنك قد أتيتَ بسُنةٍ من سُننِ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.

*ثم إذا ما رَويتهُ للناس، فعليك أن تُبيَّنَ للناسِ ضعفَه؛ لأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم- يقول: ((مَن حدَّث عنِّي بحديث يُرى أنه كَذِب، فهو أحدُ الكَاذبِيِن، وفي روايةٍ: فهو أحدُ الكاذبَيْن على الجمعِ وعلى التثنية-)).

فهو أحدُ الكاذبِيِن بإطلاق، أو أحدُ الكاذبَيْن: يعني من وضع الحديثَ وكذَبَهُ على الرسول سَلفًا ثم من رواه، فسمَّى النبيُّ صلى الله عليه وسلم- مَن رَوى حديثًا يرى أنه لا يَثبُتُ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم- بالشروطِ التي أسلفنا؛ سمَّاهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم- كذابًا، فكيف بمَنْ عَمِلَ به؟

نسألُ اللهَ السلامةَ والعافية ونسأل اللهَ أنْ يهديَنا والمسلمين أجمعين إلى اتَّباعِ سُنة النبيِّ صلى اللهُ عليه وعلى آله وسلم-.

 

الْخُطْبَةُ الْثَّانية:

الحمدُ لله -ربِّ العالمين-، وأشهدُ أنَّ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو يتولى الصالحين وأشهد أن مُحمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم-

أما بعدُ:

 

فإنَّ مما أحدثَ الناسُ في شهرِ رجب:

*خروجُ النِّسوة في مطلعِهِ أو في الخميسِ الأولِ منه إلى القبورِ جماعاتٍ جماعات، مع المخالفةِ الشنيعة لهَدي الرسولِ -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في هذا الأمرِ الخطير.

فأمَّا زيارةُ القبورِ للنساء في رجب وفي غير رجب:

فهو أمرٌ اختلفَ فيه أهلُ العِلم:

*فقال بعضُهم بتحريمهِ، وحرَّموا على النساءِ أنْ يخرجنَ إلى المقابرِ بكلِّ حال، حرَّموا على الشَّوابِّ وغيرِهن أن يخرجُنَ إلى المقابر لا في رجب ولا في غيرِ رجب، هو عند كثيرٍ من أهلِ العلم: حرامٌ حرامٌ حرام.

*وأما آخرون؛ فقالوا: إنّ زيارة النساء للمقابر مبنيٌّ على التفصيل، فإنْ وقعت زيارةُ المقابرِ من المرأةِ الشَّابةِ التي يُخشَى منها الفتنة أو من المرأةِ العجوزِ الدردبيس الحيزبون وإنْ كانت لا تُخشَى منها فتنة غير أنها تأتي بما يُنافي الشرع عند المقابر من لطْمِ الخدودِ وشقِّ الجيوبِ والدعوةِ بالوَيْلِ والثُّبور والإتيانِ بالشِّركِ الصريحِ أو غيرِ الصريح، فقد نهى العلماءُ عن ذلك في حقِّ كُلٍّ.

 

وقالوا: إذا لم تَكن الفتنةُ طارئةً في زيارةِ المرأةِ غير الشابةِ للقبورِ مع الالتزامِ بالآدابِ الشرعيةِ للزيارة: مِن استئذان الزوجِ أو الوليِّ إنْ كانت غيرَ ذي زوجٍ، ثم خروجِها بعد ذلك على الهيئةِ الشرعيةِ من السَّتْرِ والعِفَّةِ والتَّحَصُّنِ، وفي وقتٍ لا يَتعرضُ لها فيه أحدٌ من أهلِ الفسقِ والزَّيْغِ، ثم لا تأتي هناك إلا بما يُرضي اللهَ ربَّ العالمين-؛ من الاتعاظِ بالموتِ وجلالهِ وسكونهِ وخشوعهِ، وما يجعلهُ اللهُ ربُّ العالمين- في المقابرِ من الأمورِ الشديدةِ التي تُذَكِّرُ بأمرِ الآخرة، إذا كان الأمرُ مَبنيًا على مراعاةِ الآدابِ الشرعيةِ الصحيحةِ؛ فالمرأةُ لها أنْ تخرجَ إلى المقبرةِ زائرةً بتلك الشروط.

إلَّا أنَّ العلماءَ ذهبوا إلى حديثٍ رواهُ أحمد رحمةُ الله عليه- في ((مسنده))، يقول فيه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((لعنَ اللهُ زائرات القبور والمُتخذينَ عليها المساجدَ والسُّرُج)).

بهذا اللفظ ((زائرات)) على اسم الفاعل، إلَّا أنَّ العلماءَ يقولون: إنه بهذا اللفظ ضعيف.

والذي صحَّ إنما هو: ((لعنَ اللهُ زوَّاراتِ القبور)) على المبالغة وكثرةِ التَّردادِ في الزيارة، فيقولُ العلماءُ رحمة الله عليهم-: لعَنَ النبيُّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم- الزوَّارات ولم يلعن الزائرات، فإذا أتت الزيارةُ على النُّدرة من غير تحديدِ موعد؛ لا في طلعةِ رجب ولا في الخميس الأولِ منه ولا في نِصف شعبان ولا في العيد ولا في أولِ رمضان.

وإنما تأتي كما يُقدِّرُ اللهُ ربُّ العالمين- أن تأتيَ؛ لأنها يُمكن أي: الزيارة- أن تكون في كلِّ حينٍ وحال ما التزم الإنسانُ بالشروطِ الشرعيةِ الواردةِ في آدابِ زيارةِ القبور.

إذا جاءت المرأةُ بتلك الشروط، ولم تكن مُكثرةً للتردادِ على المقابرِ، ولم يأت منها ما ينافي الآدابَ الشرعية، وكانت ملتزمةً بآدابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم- التي وضَّحَها لنا في مسألةِ زيارةِ القبور؛ فلا حَرَج، لقولِ النبيِّ -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((كنتُ قد نهيَتكم عن زيارةِ القبور، ألا فزوروها فإنها تُذَكِّرُ الآخرة)).

ومعلومٌ أنَّ أَمْرَ التَّذْكرة تَذكرة الآخرة- مطلوبٌ للرجلِ وللمرأة على السواء، وربما كان في بعض الأحايين مطلوبًا للمرأةِ على وجهِ الكَثْرَة.

وعائشةُ رضوان الله عليها- كما يروي عنها عبد الله بن أبي مُليْكَة؛ قال: لمَّا عادت من زيارةِ القبور، قلتُ: أليس نهَى النبيُّ صلى الله عليه وسلم- عن زيارةِ القبور.

قالت عائشة رضوان الله عليها-: ((بلى؛ كان النبي صلى الله عليه وسلم- نهى عن الزيارةِ ثم رخَّصَ فيها بعدُ)).

تقصدُ حديثه صلى الله عليه وسلم-: ((كنتُ قد نهيَتكم عن زيارةِ القبور، ألا فزوروها فإنها تُذَكِّرُ الآخرة)).

بل إنَّ في الحديثِ أنَّ عائشةَ رضوان الله عليها- قالت للنبي صلى الله عليه وسلم-: يا رسول الله؛ ما أصنعُ إذا أنا زُرتُ القبور، أو ما أقولُ إذا أنا زُرت القبور.

فعَلَّمَها الدعاءَ المشهور صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.

ولو كانت زيارتُها للقبورِ حرامًا؛ ما عَلَّمَها الدعاء ولنَهَاها عن الزيارةِ صراحةً لا ضِمنًا صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.

أيضًا كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم- في المقابرِ في ((البَّقيع))، فمَرَّ على امرأةٍ عند قبرٍ تبكي، فقال لها: ((يا أَمَةَ اللهِ اتقِّ اللهَ واصبري)).

ووجه الدلالة من هذا الحديث: أنَّ الزيارةَ لو كانت حرامًا ممنوعة؛ ما أقرَّها النبيُّ صلى الله عليه وسلم- على الجلوس؛ لأنه ليس في الحديثِ نهيٌ عن بقائهِا عند المقبرة، وإنما نهاها النبيُّ صلى الله عليه وسلم- عن الجَزَع ودعاها وأمرها بالصبر صلى الله عليه وسلم-، فقال: ((يا أَمَةَ اللهِ اتقِّ اللهَ واصبري)).

على الجُملة: فزيارةُ المرأةِ للمقابرِ في غيرِ أوقاتٍ مُعيَّنة، وبالآدابِ الشرعيةِ المرعيةِ، التي بيَّنَها لنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم- لا حَرَجَ فيها.

وأمَّ إذا كانت في أوقاتٍ مخصوصة؛ فهي بدعةٌ قبيحةٌ في دينِ اللهِ ربِّ العالمين-، وإذا كانت كما يفعلُ النسوةُ اليوم، فهي مُحَرَّمَةٌ بيقين، لأن ما يتأتى من الأمور المُحَرَمَّةِ في المقابر من النَّدبِ والصياحِ واللطمِ والاختلاطِ بين الرجالِ والنساء.

وبخاصةٍ أنهنَّ لا يحلو لهن الخروج إلا بغَلَس عندما لا يستبينُ الإنسانُ في فجرِ يومٍ من الأيامِ المُعيَّنة كَفَّهُ؛ يخرُجن حاسراتٍ سافراتٍ مُتبرجات؛ كأنهن قد ذهبن إلى مواعدةِ حبيب، لا إلى زيارةِ قبرٍ حَفَّت به بلايا ورزايا وربما أهوال لا يعلمُها إلا اللهُ ربُّ العالمين-، فلا يُحِدثُ لهن جَزَعًا ولا تذُّكرًا، وإنما هي سياحةٌ داخلية بين المقابر التي أصبحت اليوم كأنها مدينةٌ مِن مدائنِ الملاهي وإنَّا للهِ وإنَّا إليه راجعون-.

على الجُملةِ وخلاصةُ القول عباد الله: فإنه ينبغي علينا أنْ نُعظِّمَ شعائرَ اللهِ ربِّ العالمين-، وشهرُ رجب من شعائرِ اللهِ ربِّ العالمين-؛ لأنه من الأشهرِ الحُرُم، فينبغي على الإنسان ألا يواقعُ فيه منكرًا ولا حرامًا وأن يتقيَ اللهَ ربَّ العالمين- في هذا الشهرِ الكريم، فيلتزمَ الجادَّة ويسيرَ على الصواب خلفَ النبيِّ المُهاب صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.

وعلينا أن نجتهدَ في نفي البدعة عن أنفسِنا وعمن جعلهُ اللهُ ربُّ العالمين- في أعناقِنا وتحت أيديِنا مما جعل اللهُ لنا وَلايةً عليه؛ من زوجةٍ أو أختٍ أو أُمٍّ أو خالةٍ أو بنتٍ أو ما أشبه، فينبغي علينا أنْ نمنعهن مما منعَ منه النبيُّ صلى الله عليه وسلم- ومما منعَ منه اللهُ ربُّ العالمين-، لأنَّ الرجلَ يوم القيامة عندما يرى الرجلَ في النار كان يأمرُ بالمعروفِ وينهى عن المنكر، ثم لا يأتي منه كَفٌّ عن المنكرِ الذي ينهى عنه، ولا يأتي منه فِعْلٌ للمعروفِ الذي يأمرُ به بين الناس، ثم يَدَعُ خاصةَ بيتهِ، وخاصةَ أهلهِ يواقعون الحرامَ تحت سمعهِ وبصرهِ، يلعنهُ اللهُ ربُّ العالمين- كما لعنَ بني إسرائيل؛ إذ كانوا لا يتناهَون عن منكرٍ فعلوه -نسأل الله السلامة والعافية-، والأمرُ أمرُ أعراض، فينبغي على الإنسان إذا لم يكن يفعلُ ذلك ديانةً، فليفعله فحولةً ورجولة.

نسأل اللهَ تبارك وتعالى- أن يُقيمنا على شرعهِ الأغَرِّ حتى نلقاه.

في الحديثِ الثابتِ عن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فيما يرويه عنه الحِبُّ بن الحِبِّ أسامة بن زيد رضي الله عنه وعن أبيه- عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ((يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي النَّارِ، تَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ والأقتابُ: جمعُ قِتْبٍ وهي الأمعاء، فتخرجُ مُندلقةً باندفاعٍ سريعٍ خاطفٍ من مَخرجهِ-، فَيَدُورُ بِهَا كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ حتى إنه يُصبح بعد ذلك ملهاةً ومسلاةً لأهلِ النار-.

فيجتمع عليه أهل النار؛ وقد اندلقت كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم في دلالة لفظٍ نبويٍّ عربيٍّ شريفٍ ماثلٍ مُتفجر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم- لم يقُل تخرج أقتابه، وإنما قال: تندلق أقتابه بما في دلالة جَرْسِ الكلمة؛ فضلًا عن معناها من إيحاءٍ مُوحٍ وظرفٍ شاملٍ مُصوِّر، فتخرج أمعائُهُ من دُبرِه، كلُّ ما في بطنه من مَعيٍّ يخرج من دُبره يدورُ حوله مُفرِّجًا بين قدميه، معتمدًا عليهما لأنه لا يستطيع قيامًا بانتصاب.

يَدُورُ بِأمعائهِ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ، فَيَجْتَمِعُونَ عَليهِ أَهْلُ النَّارِ؛ يَقُولُونَ: يَا فُلَانُ، مَا لَك؟ أَلَستَ كُنْتَ تَأْمُرُنا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنِ الْمُنْكَرِ؟

فيقول: بَلَى، كُنْتُ آمُرُكُم بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ، وَأَنْهَاكم عَنِ الْمُنْكَرِ وَآتيه)).

نسأل الله السلامةَ والعافية، فأحدِثوا لله توبةً عباد الله في هذا الشهر الحرام العظيم، عسى اللهُ ربُّ العالمين- أن يتوبَ علينا، إنه وليُّ ذلك والقادرُ عليه وهو على كلِّ شيءٍ قدير.

اللهم اغفر لنا وارحمنا، اللهم اغفر لنا وارحمنا، اللهم اغفر لنا وارحمنا، اللهم اغفر لنا وارحمنا.

اللهم عافنا واعف عنا، عافنا واعف عنا، عافنا واعف عنا، اللهم عافنا واعف عنا، اللهم عافنا واعف عنا.

اللهم اهدي قلوبنا وأصلِح بالَنا، اللهم اهدي قلوبنا وأصلِح بالَنا.

اللهم أصلح بالنا، اللهم أصلح بالنا، اللهم أصلح بالنا.

اللهم ثَبت أقدامنا، اللهم ثَبت أقدامنا.

اللهم حُطَّ عنا خطايانا، حُطَّ عنا أوزارنا، حُطَّ عنا أوزارنا، اللهم حُطَّ عنا أثقالنا.

حُط عنا خطايانا، حط عنا ذنوبنا، حط عنا أوزارنا، واغفر لنا وارحمنا.

اللهم ثَبت أقدامنا، وبَيِّض وجوهنا، وبَيِّض وجوهنا، وأطلق بالخيرات ألسنتنا.

أطلق بالخيرات ألسنتنا.

اللهم اغفر لنا وارحمنا، اغفر لنا وارحمنا، اغفر لنا وارحمنا.

اللهم اهدي قلوبنا، اهدي قلوبنا، اللهم اهدي قلوبنا، اللهم اهدي قلوبنا،

اللهم اهدي قلوبنا، اللهم اهدي قلوبنا.

اللهم نقنا من خطايانا كما يُنقَّى الثوب الأبيض من الدنس، نقنا من خطايانا كما يُنقى الثوب الأبيض من الدنس.

اللهم اغسلنا من خطايانا بالثلج والماء والبَرَد.

اللهم اغفر لنا وارحمنا، اغفر لنا وارحمنا، اغفر لنا وارحمنا، اغفر لنا وارحمنا،

اللهم اغفر لنا وارحمنا، اللهم اغفر لنا وارحمنا.

اللهم إنك قد رغَّبْتَ عبادك المؤمنين في عِتق الرقاب وجعلتَ عليهم ذلك ولهم قُربةً ومتابًا وأنت أولى بالتفضلِ منا؛ فأعتق رقابنا.

اللهم أعتق رقابنا، اللهم أعتق رقابنا، اللهم أعتق رقابنا، اللهم أعتق رقابنا،

اللهم أعتق رقابنا، اللهم أعتق رقابنا.

اللهم إنك قد رغَّبتنا في العفو عمن ظلمنا وأنت أحق بالتفضل منا وقد ظلمنا أنفسنا؛ فاغفر لنا.

اللهم اغفر لنا، اللهم اغفر لنا، اللهم اغفر لنا، اللهم اغفر لنا، اللهم اغفر لنا، اللهم اغفر لنا.

اللهم ارحمنا، اللهم ارحمنا، اللهم ارحمنا، اللهم ارحمنا، اللهم ارحمنا.

اللهم اغفر لنا وارحمنا، اغفر لنا وارحمنا، وعافنا واعف عنا عافنا، واعف عنا عافنا، واعف عنا وعافنا، اعف عنا عافنا واعف عنا

اللهم عافنا واعف عنا.

اللهم ارزقنا الإخلاص، ارزقنا الإخلاص، اللهم ارزقنا الإخلاص، ارزقنا الإخلاص.

اللهم ارزقنا الإخلاص، اللهم ارزقنا الإخلاص لنظفر بالخلاص.

اللهم ارزقنا الإخلاص لنظفر بالخلاص.

اللهم ارزقنا الإخلاص لنظفر بالخلاص.

اللهم أعتق رقابنا، اللهم أعتق رقابنا، اللهم أعتق رقابنا.

اللهم أعتق رقابنا، اللهم أعتق رقابنا.

اللهم طَهِّرنا.

اللهم اغفر لنا وارحمنا، اغفر لنا وارحمنا.

اللهم ثبت أقدامنا.

يا مقلب القلوب ثَبِّت قلوبنا على دينك.

يا مقلب القلوب ثَبِّت قلوبنا على دينك.

يا مقلب القلوب ثَبِّت قلوبنا على دينك.

يا مقلب القلوب ثَبِّت قلوبنا على دينك.

يا مقلب القلوب ثَبِّت قلوبنا على دينك.

نعوذ بك من أن نضل بعد الهُدى.

نعوذ بك من الضلال.

اللهم إنا نعوذ بك من الحَورِ بعد الكَور.

نعوذ بك من الحَورِ بعد الكَور.

ونعوذ بك من الضلالِ بعد الرشاد.

اللهم خُذ بأيدينا إليك وأَقبِل بقلوبنا عليك.

أَقبِل بقلوبنا عليك.

نشكو إليك قسوةَ قلوبِنا.

نشكو إليك قسوةَ قلوبِنا.

نشكو إليك قسوةَ قلوبِنا.

كأنما خُدَّت من حديد، فاللهم ليِّنها بذِكرك يا رحمن يا رحين

اللهم ليِّن قلوبنا بذِكرك

ليِّن قلوبنا بذِكرك.

ليِّن قلوبنا بذِكرك.

ليِّن قلوبنا بذِكرك.

نشكو إليك قسوةَ قلوبِنا.

نشكو إليك قسوةَ قلوبِنا.

نشكو إليك من الجلابيب بين جوانحنا

اللهم ارزقنا قلبًا خاشعًا، قلبًا خاشعًا، قلبًا خاشعًا، قلبًا خاشعًا، قلبًا خاشعًا، قلبًا خاشعًا، قلبًا خاشعًا، قلبًا خاشعًا، قلبًا خاشعًا، قلبًا خاشعًا، قلبًا خاشعًا،

قلبًا مُنيبًا، قلبًا مُخبتًا، قلبًا متوكلًا، قلبًا مُنيبًا، قلبًا مُخبتًا، قلبًا أواهًا راكعًا.

ونسألك لسانًا ذاكرًا وطرفًا دامعًا.

نشكو إليك قسوةَ أعيننا، جمود طرفنا

نشكو إليك قسوةَ أعيننا.

نشكو إليك قسوةَ أعيننا.

اللهم ارزقنا البكاءَ من خشيتك.

ارزقنا البكاءَ من خشيتك.

واجعله لنا حاجزًا من النار.

اجعله لنا حاجزًا من النار.

اجعله لنا حاجزًا من النار.

اجعله لنا حاجزًا من النار.

نعوذ بك من النار.

نعوذ بك من جهنم، ومن حرِّ جهنم.

نعوذ بك من جهنم.

نعوذ بك من حرِّ جهنم.

اللهم ارحم ضعفنا، ارحم ضعفنا، ارحم ضعفنا، ارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واجبر كسرنا، واجبر كسرنا.

ولُمَّ شعثنا، ولُمَّ شعثنا، ولُمَّ شعثنا.

ورُدَّ غائبنا، ورُدَّ غائبنا، ورُدَّ غائبنا، ورُدَّ غائبنا.

وتُب على عاصينا ومذنبنا، تُب على عاصينا ومذنبنا.

تُب على عاصينا ومذنبنا، تُب على عاصينا ومذنبنا.

اللهم تُب علينا توبة نصوحًا، اللهم تُب علينا توبة نصوحًا.

تُب علينا توبة نصوحًا، لا نُلمَّ بذنبٍ من بعدها حتى نلقى وجهك الكريم.

لا تحرمنا لذَّة النظر إلى وجهك في الجنة.

نعوذ بك من النفاق، نعوذ بك من الرياء، نعوذ بك من السُّمعة.

نعوذ بك من عذاب جهنم ومن عذاب القبر

هوِّن علينا ضمةَ القبر، هوِّن علينا ضمةَ القبر.

وقِنا فتنة القبر وعذاب القبر وعذاب النار.

قِنا فتنة القبر وعذاب القبر وعذاب النار.

نسألك الثبات عند الممات، نسألك الثبات عند الممات، نسألك الثبات عند الممات، نسألك الثبات عند الممات.

اللهم صِلنا ولا تقطعنا، صِلنا ولا تقطعنا، صِلنا ولا تقطعنا، صِلنا ولا تقطعنا، صِلنا ولا تقطعنا.

خُذنا إليك منَّا، واشغلنا بك عنَّا، خُذنا إليك منَّا، خُذنا إليك منَّا.

لا تُذقنا طعم  أنفسنا، لا تُذقنا طعم  أنفسنا، لا تُذقنا طعم  أنفسنا، لا تُذقنا طعم  أنفسنا، لا تُذقنا طعم  أنفسنا.

نسألك لذة النظر إلى وجهك في الجنة، نسألك لذة النظر إلى وجهك في الجنة.

اللهم اغفر لنا وارحمنا، اغفر لنا وارحمنا.

واحرصنا بعينك التي لا تنام وبُركنك الذي يُضام وبقدرتك علينا.

لا نهلك وأنت الرجاء، لا نهلك وأنت الرجاء، لا نهلك وأنت الرجاء.

وصلى الله وسلم على النبي مُحمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.

((جُمْلَة مِنْ بِدَعِ شهرِ رَجَب))

وقد كانوا في الجاهليةِ يُعظِّمون رَجَبًا ويذبحونَ في العشرِ الأوَّلِ منه ذبيحةً يُقال لها ((العَتِيرَة)) أو ((الرَّجَبيَّة))، وفَعَلَ ذلك بعضُ أهلِ الإسلام، ونهاهُم عنه النبيُّ -عليه الصلاة وأزكي السلام، صلى الله عليه وعلى آله وسلم صلاةً وسلامًا دائمين متلازمين إلى يوم الدين-، قال: ((لا فَرَعَ ولا عَتيرة)).
فأما العَتيرةُ: فهي الذبيحةُ التي تُذبحُ في رَجَب.
وأما الفَرَعُ: فما يجعلونهُ من نَتَاجِ الإبلِ وما يكونُ عِنْدَهُم مِن أنعامِهم لأصنامِهم، فنهى عن ذلك نبيُّنا -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.

والعبادات توقيفية: فلا يجوزُ أن يُذبحَ إلَّا على قانونِ الشرع، كما أنَّ اللهَ -جلَّ وعلا- نهانا عن الأكلِ مما لم يُذكر اسمُ اللهِ عليه؛ لأنَّ الذبحَ إنما يكون باسمِ الله؛ لأنه لو لم يأذن لنا ربُّنا -تبارك وتعالى- بذبحِ ذَبائحِنا؛ ما كان لنا أنْ نذبحها، ولِمَ نُعَذِّبُها، ولِمَ نَعتدي عليها؟

لكنْ أحلَّ اللهُ -ربُّ العالمين- ذلك لنا، وأَقْدَرَنا عليه، فنَفعلُهُ باسمِ الله، فإذا لم يُذكر اسمُ اللهِ -تبارك وتعالى- على الذبيحةِ لا يُؤكل منها، فكذلك لا يُذبحُ إلا على قانونِ الشرع، ومَهما ابتدعَ الإنسانُ لنفسهِ بنفسهِ ذبائحَ يذبحُها وقرابينَ يُقَرِّبُها فإنه يكونُ مسيئًا، وقد يكونُ مشركًا إذا قَصَدَ بذلك غَيْرَ وجهِ اللهِ -جلَّ وعلا-.
فالذبحُ لغيرِ اللهِ -ربِّ العالمين- شِركٌ به يُخْرِجُ من المِلَّة.

وأما إذا ما أرادَ أنْ يَذبحَ في رَجَب تَـنَسُّكًا وتَقَرُّبًا؛ فقد أساءَ ولم يُحْسِن، أما الذَّبْحُ الذي لا يكونُ عبادةً مقصودةً -أي يقصدُ العبدُ الإتيانَ بها في رَجَب تَقَرُّبًا بالذبحِ في رَجَب للهِ -جلَّ وعلا- فهذا لا شيء فيه، إذا فَعَلَهُ لا لذلك؛ فلا شيءَ عليه ولا تثريب، والذي نَهَى عنه الرسولُ -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: أنْ يُقصدَ الزمانَ بالذَّبحِ فيه تَقَرُّبًا للهِ -ربِّ العالمين- باعتقادِ أنَّ ذلكَ مِن القُرُبَاتِ لَدُن ربِّنا العزيز الرحيم، فقال -صلى الله عليه وسلم-: ((لا فَرَعَ ولا عَتيرة)). والحديث في ((الصحيحين)).
والَمنْهِيُّ عنه ((عتيرةُ رَجَب))؛ لا الذبحُ فيه بإطلاق، فليَذْبَح في رَجَب مَنْ شاءَ الذبحَ لا عتيرةً ولا تَقَرُّبًا بالذبحِ فيه للهِ -تبارك وتعالى-، وإنما يذبحُ اتفاقًا بقَدَرِ اللهِ -ربِّ العالمين- إكرامًا لضَيْفٍ أو بَيْعًا لِلَحْمٍ أو إدراكًا لِمَا هُنالك مِن الأنعامِ قبل أنْ يموتَ حَتْفَ أنفهِ، إلى غيرِ ذلك مِن تلك الأمور.

وأمَّا أنَّ يَقصدَ رَجَبًا بالذبحِ فيه وأنْ يجعلَ ذلك في العَشرِْ الأوَّلِ خاصةً كَفِعْلِ أهلِ الجاهلية؛ فهذا ما نهى عنه الرسولُ -صلى الله عليه وسلم-.

*فلم يَصِحَّ فيه تخصيصُ الذبحِ فيه بشيءٍ قَط.

*ولم يَصِحَّ في فضلِ صومِ رَجَب بخصوصهِ شيءٌ عن النبيِّ -صلى الله عليه وآله وسلم- ولا عن أصحابهِ.
وما ذكروا من فضلِ الصيامِ فيه وما ذكروا من فضلِ صيامهِ؛ فأحاديثٌ موضوعةٌ مكذوبةٌ على رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وآله وسلم- وأُخَرُ ضَعيفات،

ولم يَصِحَّ أنه كان يَسْرُدُ الثلاثةَ الأشهر -أعني شعبانَ مع رَجَب ورَمَضَانَ- صيامًا؛ لم يَفعل ذلك رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-، والعَوَّامُ يَخصُّونَ رَجَبًا بالصومِ، والعَوَّامُ يَسْرُدُونَ الأشهرَ الثلاثةِ سَرْدًا بصومٍ، وكلُّ ذلك لم يفعلهُ الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- ولا أصحابُهُ، ولو كان خَيْرًا لسبقونَا إليه -صلى الله وسلم وبارك عليه- و-رضي اللهُ عن أصحابهِ أجمعين-.

*فليسَ للصومِ فيه من فَضْلٍ زائد، والعَوَّامُ يَحسَبُونَ ذلك سُنَّةً وليس بِسُنَّةٍ، بل إنَّ تخصيصَهُ بالصيامِ بِدعة.

وقد صَحَّ أنَّ عُمرَ -رضي الله عنه- كان يضربُ أيديَ النَّاسِ في رَجَب ليضعوا أيديَهم في الطعامِ في رَجَب، ويقول: ((لا تُشَبِّهُوهُ بِرَمضان)).
فكان يضربُ أيدي الناسِ ليضعوا أيديَهم في طعامِهم ويقول: ((لا تُشَبِّهُوهُ بِرَمضان)) -رضي الله عنه-.

*وأما إنَّ صامَ بعضَهُ وأفطرَ بعضَهُ؛ فلا كراهةَ في ذلك.
ولا ينبغي تخصيصَ الأوقاتِ بعباداتٍ لم يَخُصَّهَا الشرعُ به، بل جميعُ أفعالِ البِرِّ مُرْسَلَةٌ في جميعِ الأزمانِ؛ ليس لبعضِها على بعضٍ فَضْل إلا ما فَضَّلَ الشرع، كما قرَّرَ العلماءُ ومنهم ابن أبي شامة -رَحِمَهم اللهُ جميعًا-؛ أعني علماءُنا مِن أهلِ السُّنَّةِ على مِنهاجِ النبوة -رَحِمَهم اللهُ ورضي عنهم-.

فليس لنا أن نبتدعَ تحديدًا بوقتٍ ولا تخصيصًا بأمر، وإنما الزمانُ والمكانُ والجِنسُ والسَّببُ والكَمُّ والكَيْفُ.

كلُّ ذلك محكومٌ بالشرعِ مِن أجلِ تحقيقِ الاتِّبَاعِ للنبيِّ -صلى الله عليه وآله وسلم-، فمَنْ خالفَ في واحدٍ من ذلك؛ فقد ابتدعَ في دينِ اللهِ -ربِّ العالمين- ما لم يأذن به اللهُ وما لم يَشْرَعُهُ على لسانِ رسولهِ -صلى الله عليه وآله وسلم-.

*و((صلاةُ الرَّغائبِ)) مُبْتَدَعةٌ مَصنوعة:

وهي التي تكونُ في ليلةِ أوَّلِ جُمُعَةٍ مِن شهرِ رَجَب.

فهذه الصلاةُ إنما هي حادثةٌ مُتأخرة، والأحاديثُ التي كُذِبَ على النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- فيها وبشأنِها ليس شيءٌ منها في دواوينِ أهلِ السُّنَّةِ ممن تَقَدَّمَ من أهلِ السُّنةِ المُدَوِّنينَ للسُّنَّةِ -رحمةُ اللهِ عليهم-؛ لأنَّ هذه الأحاديثُ التي كُذِبَ فيها على المُختارِ -صلى الله عليه وسلم- حادثةٌ مُتأخرة.

*وكذلك قَصْدُ زيارةِ القبورِ في أوَّلِ خميسٍ من شهرِ رَجَب وفي أوَّلِ يومٍ منه بَعْدَ صلاةِ الصُّبْحِ: مما يفعلهُ النساءُ مِن فارغاتِ العقولِ والقلوبِ مِن أنوارِ الإيمانِ والاتِّباعِ للرسول، وكذلك يفعلهُ كثيرٌ مِن الرجالِ ويَحسَبونَ ذلك قُرْبَةً عند الكبيرِ المُتعال، وما هي إلا بِدعةٌ ابتدعَها لهم شياطينُهم من شياطينِ الإنسِ والجِنِّ وليس ذلك في شيءٍ من أَثَرٍ يُرْجَعُ إليه، ولو كان خيرًا لسبقونا إليه.

*ومنه ما يفعلهُ كثيرٌ من المسلمين مما أطبقوا عليه في ((ليلةِ السابعِ والعشرينَ من شهرِ رجب)) يزعمون، بل يعتقدون أنَّ ((الإسراء والمعراج)) قد وقع في تلك الليلة ويجزمون بذلك، ولم يَكُن شيءٌ من ذلك في ذلك، والله المستعان.

وقد أخطأَ من جَزَمَ به كما قرَّرَ علماؤنا عليهم الرحمة، ولكنهم يجعلونه دينًا مُتَّبَعًا وسُنَّةً يَؤمُّونَها يتقربون بها إلى الله بزَعْمِهم، ثم يزرفونَ الدموعَ أو دمعةً أو دمعتين على الأقصى السَّليب، ثم يُنْسَى ذلك من آخرِ الليلِ -واللهُ المستعانُ وإليه المُشتكى-.

ومعلومٌ أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم-: ما قام المُقتضي لفِعْلِهِ على عهدِهِ وانتفى المانعُ من فِعْلِهِ على عهدهِ ولم يَفْعَلُهُ؛ فَتَرْكُهُ سُنَّة وفِعْلُهُ بِدعة وهي ((السُّنَّة التَّرْكيَّة))، فالنبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يُتَّبَعُ في فِعْلِهِ وقولهِ، كما يُتَّبَعُ في تَرْكِهِ.

فهنالك ما يقال له: ((السُّنَّة التَّرْكيَّة)): ما قام المُقتضي لفِعْلِهِ وانتفَى المانعُ من فِعْلِهِ ومع ذلك لم يَفْعَلُهُ الرسولُ -صلى الله عليه وسلم-؛ فَفِعْلُهُ بِدعة وَتَرْكُهُ سُنَّة، كما تَرَكَ الأذانَ والإقامةَ وقولِ الصلاةِ جامعة في صلاتي العيدين, وكان ذلك بالمُصَلَّى في مُصَلَّى العيد بظاهرِ مدينةِ الرسولِ -صلى الله عليه وسلم-، وليس لها وقتٌ يُحَدَّدُ تحديدًا كالصلواتِ المكتوبات، فالحاجةُ داعيةٌ والمقتضي قائمٌ، وليس هُنالك من مانعٍ، ومع ذلك تَرَكَ ذلك رسولُ الله، فالتَّرْكُ سُنَّةٌ والفِعْلُ بِدعةٌ والمؤتسِي برسولهِ -صلى الله عليه وسلم- المُوَفَّقُ.

والله المستعان .

رابط المقطع على موقع ((يوتيوب)) على الشبكة العنكبوتية.

https://www.youtube.com/watch?v=3IAxPDC1eqw

((خطبة: ما صح في ليلة النصف من شعبان))

((الجمعة 10 من شعبان 1425هـ الموافق 24-9-2004م))

الخطبةُ الأُولى

إِنَّ الْحَمْدَ لِلّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ, وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾[آل عمران: 102].

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾[النساء: 1].

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا*يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾[الأحزاب: 70-71].

أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ، وَكُلَّ ضَلاَلَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

فعن جماعةٍ مِنَ الأصحابِ - رضوان الله عليهم جميعًا - مِنْ طُرُقٍ شَتَّى يَشُدُّ بعضُها بعضًا: عن أبي بكرٍ وأبي هريرةً و عبدِ اللهِ بن عمرو وأبي ثعلبةَ الخُشَنِي ومعاذِ بن جبل وعوفِ بن مالكٍ وعائشةَ - رضوان الله عليهم جميعًا - عن النبيِّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «يَطَّلِعُ اللهُ تبارك وتعالى إلى خلقِهِ ليلةَ النِّصفِ مِنْ شعبان فيغفرُ لجميعِ خلقِهِ إلا لمشركٍ أو مُشاحن». وهذا الحديثُ حديثٌ صحيحٌ بمجموعِ طُرُقِهِ لا شكَ في ذلك ولا ريبَ فيه.

فأمَّا طريقُ عائشةَ - رضوان الله عليها - فقد أخرجَهُ الترمذي وابنُ ماجه في قصةٍ في آخرها ذكرت ما ذكرَ الرسولُ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «إنَّ الله يغفر في ليلةِ النصفِ من شعبان لأكثرَ من عددِ شعرِ غنم كَلْب». وكلب: قبيلة مغنمةٌ كثيرةُ الأغنام, فذكرت عائشة ما نسبت إلى الرسولِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم من قولٍ في آخرِ قصةٍ تجدُها في المصادرِ المذكورةِ إلا أنَّه حديثٌ ضعيف؛ لأنَّ فيه حجاج بن أرطئة وهو مدلسٌ معروفٌ وقد عنعنه, وأمَّا طريقُ أبي ثعلبةَ الخُشَنِي فإنَّه أخرجه البيهقي في ((الشُّعَب)) بإسنادٍ حسن عنه عن الرسولِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنَّه قال: «يَطَّلِعُ اللهُ - جَلَّت قدرتُهُ - إلى خلقِهِ في ليلةِ النصفِ من شعبان, فيغفرُ للمؤمنينَ, ويُملي للكفرينَ, ويدعُ - أي:  يترك - أهلَ الحقدِ بحقدِهِم حتى يدعُوهُ». ومن طريقٍ أخرى أخرجها الطبراني في ((المعجم الكبير)) بإسنادٍ حسن مثلُهُ.

وأنت إذا ما نظرتَ إلى ما صَحَّ في ليلةِ النِّصفِ مِنْ شعبان وجدتَّ النبيَّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم يُقررُ: «أنَّ اللهَ - جَلَّت قدرتُهُ - يَطَّلِعُ إلى خلقِهِ في ليلة النصف فيغفرُ للمؤمنين, ويُملي للكافرين, ويدعُ أهلَ الحقدِ بحقدِهِم حتى يدعُوهُ».

وفي الحديث الذي تكاثرت طُرُقُهُ حتى صارت به إلى جَادَّةِ الصِّحَةِ - بلا ريبٍ ولا شك -: «يَطَّلِعُ اللهُ تبارك وتعالى إلى خلقِهِ في ليلةِ النصفِ من شعبان فيغفرُ لجميعِ خلقِهِ إلا لمُشركٍ أو مُشاحن». والحديثان كما ترى يكادان ينطبقان معنى, يغفرُ اللهُ ربُّ العالمين لجميع خلقِهِ إلا لمشركٍ أو مُشاحن, فيغفر للمؤمنين, ويدعُ - بالإِمْلَاءِ - الكافرينَ فيما هم عليه من كفرٍ وشرك, ويدعُ أهلَ الحقدِ بحقدهم حتى يدعوه.

ففي ((صحيح مسلم)) أنَّ الله جَلَّتْ قدرتُهُ - كما روى أبو هريرةَ عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم - يُفَتِّحُ أبوابَ الجنةِ في كل اثنين وخميس, فيغفرُ اللهُ ربُّ العالمين للمؤمنين إلا رجلًا كانت بينه وبين أخِيهِ شحناءُ - كانت بينه وبين أخيه بغضاءُ - فيقول اللهُ جَلَّ وعَلَا: أَنْظِرَا - أي: أَجِّلَا, أي: دَعَا, أي اتركا - هذين حتى يصطلِحَا. فلا ينعمانِ بالغفرانِ الذي يلحقُ غيرَ المشاحنين في كل اثنين وخميس, إذ تُفَتَّحُ أبواب الجنة, وإذ تَهُبُّ نسماتُ نفحاتِ, رحماتِ اللهِ ربِّ العالمين.

 

إنَّ العلماءَ - رحمةُ الله عليهم - يصيرونَ في جملتِهِم إلى ما رواه ابنُ أبي شامةَ عن أبي بكر بن العربي المالكي - رحمةُ الله عليه - سواءٌ في ((العارضة)) أو في ((الأحكام)) يقول: إنَّه لم يصح في ليلة النصف من شعبان حديثٌ يساوي سَمَاعَهُ. يقولُ: إنَّه لم يصح في ليلةِ النصفِ من شعبان حديثٌ يساوي سماعه.

وأمَّا الشيخُ الإمامُ - رحمه الله - فإنَّه في ((السلسلة الصحيحة)) بعد ما تَتَبَّعَ مستقرئًا طُرُقَ الحديثِ فأربت على ثماني طُرُق, نظرَ فيها وبحثَ فيها مستقصيًا مستقرئًا حتى خَلُصَ في المنتهى إلى قولِهِ - رحمه الله -: ومِنْ هذا الاستقصاءِ نعلمُ أنَّ الذين قالوا من أهلِ العلمِ بأنَّه لم يصح في ليلةِ النصفِ حديثٌ إنَّما أوتوا من عدمِ بذلِ الجهد في استقصاءِ الطُرُقِ وتَتَبُّعِهَا كما ترى فيما بين يدَيك. فهذا ما قاله - رحمه الله -.

وعليه فإنَّ الصَّنْعَةَ الحديثيةَ تقضي في المنتهى بأنَّه صحَّ في ليلةِ النصفِ أحاديث منها: ما هو مذكورٌ بطُرُقِهِ عن جملةٍ من الأصحابِ: «أنَّ الله جَلَّتْ قدرتُهُ يَطَّلِعُ ليلةَ النصفِ إلى خَلْقِهِ, فيغفرُ لجميعِ خَلْقِهِ إلا لمشركٍ أو مُشاحن». ثم ما قالَهُ أبو ثعلبةَ يرفعُهُ إلي النبيِّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «أنَّ الله جَلَّتْ قدرتُهُ يَطَّلِعُ إلى خَلْقِهِ في ليلةِ النصف من شعبان فيغفرُ للمؤمنينَ, ويُملي للكافرينَ, ويدعُ أهلَ الحقدِ بحقدِهِم حتى يدعُوهُ». ولكنَّ الحديثَ الذي أخرجَهُ ابنُ ماجه في سننِهِ عن عليٍّ - رضوان الله عليه - يرفعُهُ إلى النبيِّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنَّ اللهَ جَلَّتْ قدرتُهُ عَلَّمَهُ - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - من لدنه علمًا فهو يبلغُهُ لا يكتمُهُ, وإنَّما يؤديه أداءً للأمانةِ ونُصحًا للأمَّةِ فيقول: «إذا كانت ليلةُ النصفِ من شعبان فقوموا ليلَهَا, وصوموا نهارَهَا». فهذا حديثٌ موضوع, في سندِهِ ابن أبي سَبْرَةَ, قال فيه الإمامان أحمدُ وابنُ معينٍ - رحمهما الله جلَّ وعَلَا -: كان يضعُ الحديث - يعني: ابن أبي سَبْرَةَ -. فكان يكذبُ على النبيِّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ويضعُ الأحاديثَ, وهذا حديثٌ مكذوبٌ موضوعٌ لا يصحُّ بشيءٍ من وجوهِ الصِّحَةِ, بل إنَّه لا يقعدُ عن مرتبةِ الضعفِ إذ يتنزلُ إلى مرتبةِ الوضعِ والكذبِ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم.

فإذن؛ ليس معنى أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم دَلَّنَا على أنَّ ليلةَ النصفِ ليلةٌ شريفةٌ يعطي فيها اللهُ ربُّ العالمينَ من قبساتِ أنوارِ رَحَمَاتِهِ خَلْقَهُ, وأنَّ اللهَ تبارك وتعالى لا يُفيضُ هذا العطاءَ على المشركينَ ولا على المشاحنين, وإنما جمعَهُمَا في قرنٍ, ويا بؤسَ ما جُمِع, وقد جعلَ اللهُ ربُّ العالمين المشركَ مع المشاحنِ في خندقٍ واحدٍ, فلا يغفرُ اللهُ ربُّ العالمين في ليلةِ النصفِ - مع عمومِ المغفرةِ لجميعِ أهلِ الأرضِ - لا يغفرُ لمشركٍ ولا لمشاحن, مَنْ عندَهُ البغضاءُ في قلبِهِ, ومَنْ انطوى صدرُهُ على الغِلِّ والحقدِ والحسدِ فهذا بِمَبْعَدَةٍ عن المغفرةِ.

وفي ((صحيح سنن ابنِ ماجه)) عن عبدِ الله بن عمرو - رضي الله عنهما -: «قيل للنبيِّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: من أفضلُ الناس؟ فقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: كلُّ مَخْمُومِ القلبِ صدوقِ اللسانِ - كلُّ مخمومِ القلب صدوق اللسان هذا أفضلُ الناس -, فقالوا: يا رسولَ اللهِ صدوق اللسان عرفناه, فما مخمومُ القلب؟ قال النبيُّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: هو التَّقِيُّ النَّقِيُّ الذي لا إثمَ فيه ولا بغي ولا غِلَّ فيه ولا حسد».

فأفضلُ الأعمالِ عند اللهِ ربِّ العالمين وأفضلُ الخلقِ عند اللهِ جلَّ وعلا سلامةُ الصدرِ ومَنْ كان عن الغِلِّ والحسدِ مُنَزَّهًا, ومِنْ ذلك مُبَرَّئًا, وأمَّا مَنْ انطوى قلبُهُ على شيءٍ من ذلكَ فهو بِمَبْعَدَةٍ من المغفرةِ في ليلةِ النصفِ من شعبان مع عمومِ المغفرةِ لأهلِ الأرضِ, إلا للمشركِ الذي يشركُ باللهِ ربِّ العالمين مَعَهُ غَيرَهُ فإنَّ ذلك لا يُغْفَرُ بحالٍ من الأحوالِ لا دنيا ولا آخرة, إذا ما ماتَ على ذلكَ ولم يَتُبْ منه مُنِيبًا مُوَحِّدًا, وكذلك الذي انطوى قلبُهُ على الشحناءِ, على البغضاء, على الغِلِّ, على الحسد, فهذا متروكٌ مُهْمَلٌ, وهذا بِمَبْعَدَةٍ أنْ ينالَهُ شيءٌ مِنْ عمومِ المغفرةِ التي تتنزلُ على الخَلْقِ في ليلةِ النصفِ من شعبان.

هذا ما صحَّ في هذه الليلةِ لا ما يذهبُ إليه الشيعةُ, ولا ما يتقصى على آثارِهِم فيه قَصًّا المتصوفةُ, إذ يجتمعونَ في المساجدِ في ليلةِ النصفِ في صلاةِ  المغربِ, يقومُ قائمُهُم بعدَ الصلاةِ يُصَلُّونَ ما يُسَمَّى بصلاةِ الرَّغَائِبِ! وهي في ليلةِ النصف! وفي أولِ رَجَب! وهي صلاةٌ أَلْفِيَّةٌ لمن استطاعها منهم وكان في بدعتِهِ جَلْدًا وعليها مُقِيمًا, ويُصَلُّونَ مِئَةَ ركعةٍ, كلُّ ركعةٍ تُصَلَّى بسورةِ الإخلاص عَشْرًا عَشْرًا فهذه ألفٌ فهي صلاةٌ ألفية, لم يَتَّبِعْهَا ولم يأخذ بها ولم يفعلْهَا خيرُ البَرِيَّةِ ولا أحدٌ من أصحابِهِ رضوان الله عليهم, وإنَّما هي عملٌ مُحْدَثٌ مُبْتَدَعٌ! ويا الله! العجب كيف يُتَقَرَّبُ إلى اللهِ ربِّ العالمين بما لم يَشْرَع؟!

وكيف يُتَقَرَّبُ إلى اللهِ ربِّ العالمينَ بالضلالةِ؟!

وهذا نبيُّكم صلى الله عليه وعلى آله وسلم صَحَّ عنه قولُهُ: «كُلُّ بدعةٍ ضلالة, وكُلُّ ضلالةٍ في النارِ». فلم يستثنِ من ذلك شيئًا صلى الله عليه وعلى آله وسلم, وإنَّما جَمَعَ ذلك إلى ذلك فهو حَصَبُ النارِ - نسألُ اللهَ السلامةَ والعافيةَ -.

وأخرج الطُّرْطُوشِيُّ - رحمه الله - في كتاب ((الحوادث والبدع)) أنَّه سَمِعَ من أبي محمدٍ المقدسي رحمه الله - الإمام - قال: إنَّ أولَ ما أُحدثت صلاةُ الرَّغَائِبِ التي تُصلَّى في أول رَجَب وفي النصفِ من شعبان أول ما أحدثت في أول سنةِ أربعٍ وثمانيينَ وأربعمائةٍ من هجرةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم, - قال - قَدِمَ علينا ببيتِ المقدسِ رَجُلٌ يُقال له (ابنُ أبي الحمراء) فدخلَ المسجدَ الأقصى, وكانَ حسنَ الصوتِ؛ فصلَّى بعدَ صلاةِ المغربِ فائتمَ به رجلٌ وأَحْرَمَ بعد ذلك وراءَهُ  ثانٍ, فما فرغَ مِنَ الصلاةِ حتى كانت جماعةً عظيمة, ثم جاءَ مِنَ السَّنَةِ التي تلت فصلَّى كما صلَّى في السَّنَةِ الفائِتَةِ, ثم استطابت عندنا في بيتِ المقدسِ تلكَ الصلاةِ, يُصَلِّيهَا النَّاسُ في مساجدِهِم, ويصلونها في دُورِهِم وفي بيوتِهِم. فهذا أول العهد بإحداثِ تلك البدعة في القرنِ الخامسِ من هجرةِ النبيِّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم, وبعد القرونِ الثلاثةِ المُفَضَّلَةِ, وما لم يكن يومئذٍ دِينًا فلنْ يكونَ في يومٍ مِنَ الأيامِ دِينًا.

 

 

وأمَّا الدعاءُ الذي يُنسبُ إلى عبدِ اللهِ بن مسعودٍ - رضي الله عنه وأرضاه - فهو منه بريءٌ, وهو منه بَرَاء, وعبدُ اللهِ أَجَلُّ وأعظمُ عند اللهِ ربِّ العالمينَ مِنْ أنْ يتورطَ - ولا أحدٌ مِنَ الأصحابِ رضوان الله عليهم - في الافتئاتِ على الشَّرْعِ الأَغَرِّ وفي الإتيانِ بالإِحْدَاثِ في دِينِ اللهِ ربِّ العالمينَ وبإلصاقِ شيءٍ بِدِينِ محمدٍ الأمين صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

وما خانَ أمينٌ قط, ولكن ائتُمِنَ غيرُ أمينٍ فخَان, ولا يُؤتَى النَّاسُ قط مِنْ قِبَلِ علمائِهِم وإنَّما يُسْتَفْتَى غيرُ عالمٍ فَيُفْتِي بالخطأ - لا بالصوابِ - وحينئذٍ يُؤتَى النَّاسُ كذلك كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم في حديثِ عبدِ اللهِ ابن عمرو الذي أخرجَهُ الشيخان: «إنَّ اللهَ لا يقبضُ العِلْمَ انتزاعًا ينتزعُهُ مِنَ النَّاسِ, وإنَّما يقبضُ العِلْمَ بِقَبْضِ العُلماءِ, حتى إذا لم يُبْقِ عالمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رؤوسًا جُهَّالًا فَسُئِلُوا, فَأَفْتَوا بغيرِ عِلْمٍ, فَضَلُّوا وأَضَلُّوا».

هذا الدعاءُ الذي يأخذُ به النَّاسُ في ليلةِ النصفِ من شعبان, يحسبونَ تَبَعًا للشيعةِ وللضُّلَالِ ممن حادوا عن صراطِ محمدٍ صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنَّ ليلةَ النصفِ من شعبان هي التي أنزلَ اللهُ ربُّ العالمينَ فيها قوله: ﴿حم*وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ﴾[الدخان :1- 2], ثم يقولُ ربُّنا تبارك وتعالى ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ*فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾[الدخان :3- 4], فيظنُّ الظَّانُّ أنَّ هذه الليلةَ المباركةَ هي ليلةُ النصفِ من شعبان, وليس كذلك؛ لأنَّ اللهَ ربَّ العالمينَ لمَّا ذَكَرَ القرآنَ العظيمَ بعدما ذَكَرَ ما ذَكَرَ مِنَ الحروفِ المُقَطَّعَةِ تَحَدِّيًا للعربِ بهذا القرآنِ العظيم.

وهم أربابُ الفصاحةِ وأُولُوا البيان, ثم بَيَّنَ اللهُ ربُّ العالمينَ أنَّ هذا القرآنَ العظيمَ إنما تكلمَ اللهُ ربُّ العالمينَ به من هذه الحروف التي عندكم مَعْشَرَ البُلَغَاءِ وأهلَ الفصاحة, اللهُ ربُّ العالمينَ جَعَلَ هذا القرآن, اللهُ ربُّ العالمينَ أنزلَ هذا القرآن, اللهُ ربُّ العالمينَ تَكَلَّمَ بهذا القرآنِ العظيم هكذا, ويتحداكم به وعندكم أَبْجَدِيَّتُكُم, فإنْ كنتم صادقينَ حقًّا فلتُقْبِلُوا عليها ولْتَقْبَلُوا التَّحَدِّي, ولْتَأْتُوا بِمِثْلِ أقصرِ سورةِ منه.

ثم ذكرَ القرآنَ العظيمَ - الكتابَ المبين -, ثم قالَ ربُّنا جَلَّ وعَلَا: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ﴾, فعادَ الضميرُ إلى القرآنِ المذكورِ, إلى الكتابِ المبينِ, إلى الذِّكْرِ الحكيم, ثم قالَ ربُّنا جَلَّتْ قدرتُهُ: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾[القدر : 1], ولم يأتِ ربُّنا تبارك وتعالى هاهنا بهذه الكِنَايَةِ ذَاكِرًا قَبْلَهَا ما تعودُ عليه ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾[القدر : 1], فالضميرُ في ﴿أَنزَلْنَاهُ﴾ ضميرُ النَّصبِ, ضميرُ المفعولية لا ضميرُ الفاعليةِ ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ﴾, ربُّنا جَلَّ وعَلَا ﴿أَنزَلْنَاهُ﴾ أي: القرآنَ العظيم, هذا القرآنُ العظيمُ ضميرُهُ هاهنا ضميرُ النَّصبِ, هاهنا ضميرُ المفعوليةِ, في قولِهِ تعالى: ﴿أَنزَلْنَاهُ﴾ على أيِّ شيءٍ يعودُ وليس هنالك من مذكورٍ قبلَهُ يعودُ إليه ويرجعُ عليه؟ وإنَّما جعلَ اللهُ ربُّ العالمينَ ذلك كذلك, وجَعَلَ اللهُ ربُّ العالمينَ هذا الذي يُعَادُ عليه - وهو القرآنُ العظيمُ - مُسْتَغْنِيًا عن الذِّكْرِ لِشُهْرَتِهِ, ومُسْتَغْنِيًا عن الذِّكْرِ لِذِكْرِهِ وعَظَمَتِهِ, فقال ربُّنا جَلَّ وعَلَا - إذ لا يَلْتَبِسُ ذلك على فَهْمِ أحدٍ, ولا يدخلُ ذلك بِاللَّبْسِ على عقلِ أحدٍ -: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ﴾, ويسمعُ السَّامِعُ فَيَفْهَمُ أنَّ المَعْنِيَّ هاهنا بالإِنْزَالِ هو القرآنُ العظيم ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ*وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ*لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ*تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ*سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾[القدر : 1-5], فهذه الليلةُ ليلةٌ ذاتُ قَدْرٍ, ذاتُ شَرَفٍ, أو هي ليلةٌ ذاتُ تقديرٍ؛ إذ القَدْرُ هو التقديرُ كما قال ربُّنا جَلَّ وعَلَا في مطلعِ سورةِ الدُّخَان: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ*فِيهَا﴾ - أي: في تلك الليلةِ المباركةِ - ﴿يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾[الدخان : 3-4].

إذ جَعَلَ اللهُ ربُّ العالمينَ التقديرَ الأزليَّ - التقدير الأزلي - الذي كَتَبَ اللهُ ربُّ العالمينَ فيه مقاديرَ الخلائِقِ قبلَ أنْ يَخْلُقَ اللهُ ربُّ العالمينَ السماواتِ والأرض بخمسينَ ألفَ سنةٍ, كما في الحديثِ الصحيحِ: «إذ خَلَقَ اللهُ ربُّ العالمينَ أولَ ما خَلَقَ القَلَمَ, فقال له: اكتب. قال: ما أكتب أي ربِّ؟ قال: اكتبْ مقاديرَ الأشياءِ إلى يومِ القيامةِ», فجرَى القلمُ بما هو كائنٌ بما سبقَ في عِلْمِ اللهِ ربِّ العالمينَ, وعِلْمُ اللهِ جَلَّ وعَلَا سابقٌ لا سائقٌ, لا يستلزمُ الجَبْرَ ولا يكونُ له لازمًا وإنَّما هو صفةُ انكشافٍ, فكَتَبَ القَلَمُ ما هو كائنٌ قبل خَلْقِ السماواتِ والأرض بخمسينَ ألفَ سَنَةٍ, ثم جَاءَ بعد ذلك التقديرُ الحَوْلِيُّ بعد التقديرِ العُمُرِيِّ الأول والتقديرِ العُمُرِيِّ الثاني, ثم أتى بعد ذلك التقديرُ اليومي, وفي هذا الذي ترى من هذا التقديرِ الحَوْلِيِّ يقولُ اللهُ جَلَّ وعَلَا في كتابِهِ العظيم: ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾[الدخان : 4], يعني: في ليلةِ القدرِ في ليلةٍ ذاتِ قدرٍ وشرفٍ, وفيها يصيرُ من كان خاملًا أرادَ اللهُ ربُّ العالمينَ له الرِّفْعَةَ, وأرادَ اللهُ ربُّ العالمينَ له العِزَّةَ, وأرادَ اللهُ ربُّ العالمينَ به العطاءَ والحبورَ.

فهذا يصيرُ ذا قدرٍ من بعدِ ضَعَتِهِ ومن بعد تَنَزُّلِهِ, وفيها يتزوجُ الخَلْقُ ما يتزوجون بينها ثم يُولدُ لهم, وإنَّ الواحدَ منهم قد نَزَلَ الإذنَ بقبضِ رُوحِهِ في تلك الليلةِ فلا يدورُ الحولُ حتى يكون ما يكون, وما يحجُّ من حَاجٍّ ولا يعتمرُ من معتمرٍ إلا وكُلُّ ذلك يجعلُهُ ربُّ العالمينَ في النسخةِ الحوليةِ التي تتنزل بها الملائكةُ المُكَرَّمُونَ من اللوحِ المحفوظِ, ثم ﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾[الرحمن : 29], تقديرٌ يومي ويُبدي ربُّك جَلَّ وعَلَا في كونِهِ ما يشاءُ وهو على كلِّ شيءٍ قدير.

في التقديرِ العُمُرِيِّ الأول الذي يحدثُ مرةً واحدةً في العُمُرِ - وقد حدث -, إذ حدثَ في عالم الذَّرِّ ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾[الأعراف : 172], فاللهُ ربُّ العالمينَ أشهدنا في عالم الذرِّ على أنفسِنَا فهذا هو التقدير العُمُري الأول.

و أما التقدير العُمُري الثاني ففي جوفِ الرَّحِمَ بعد أربعينَ في أربعين في أربعين, فيأتي المَلَكُ ويكتبُ ما شاءَ اللهُ ربُّ العالمينَ, ثم في هذا التقديرِ السنويِّ يذهب كثيرٌ من الخَلْقِ جَهْلًا - وربما لا قصدَ فيه, وإنَّما هو من سوءِ تَلَقِّي العلم والاضطرابِ فيه - يذهبونَ إلى أنَّ ذلك إنَّما يكونُ في ليلةِ النصفِ من شعبان, وإنَّما هو في الحقيقةِ في ليلةِ القدرِ من رمضان ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ﴾ - أي: القرآنَ العظيم - ﴿فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ﴾[الدخان : 3],

﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾[القدر : 1], ثم ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾[الدخان : 4] من أمرِ هذا التقديرِ.

فيقفُ الواقفُ في مسجدٍ من مساجدِ المسلمينَ يُقْبِلُ على اللهِ ربِّ العالمينَ - بِزَعْمِهِ! -: اللهمَّ! يا ذا المنِّ و لا يمن عليه, ويا ذا الفضل! ولا يُتَفَضَّلُ عليه إن كنت قد كتبتني عندك في أمِّ الكتابِ شَقِيًّا أو مطرودًا أو محرومًا فامحُ ذلك وأثبت غيره!!

إلى غير ذلك مما يتشدقونَ به وليس كذلك.

وإنَّما الليلة التي يُفْرَقُ فيها كلُّ أمرٍ حكيمٍ هي ليلةُ القدرِ ليلةُ التقدير, فلم يصحَّ في ليلةِ النصفِ من شعبان إلا عمومُ المغفرةِ لأهلِ الأرضِ خَلَا ما كان مشركًا أو كان مُشَاحِنًا؛ لأنَّ اللهَ ربَّ العالمينَ لا يحبُّ إلا من كان صدوقَ اللسانِ مخمومَ القلبِ لا إثمَ فيه ولا بغيَ ولا غِلَّ فيه ولا حسدَ؛ لأنَّ الدِّينَ ما أتى إلا من أَجْلِ أنْ يُغَيِّرَ النَّاسَ, فإذا كان الإنسانُ عاجزًا بالدِّينِ عن التغييرِ فأيُّ شيءٍ أفادَهُ الدِّينُ إذن؟!

إنَّما وظيفةُ الدِّينِ في الحياةِ أنْ يُغَيِّرَ المرءُ مما هو عليه من ضلالٍ وانحرافٍ وسوءِ سيرةٍ وسوءِ طَوِيَّةٍ وسوءِ قصدٍ, يُغَيِّرَهُ الدِّينُ إلى ما يحبُّهُ اللهُ ربُّ العالمينَ ويرضَاهُ باطنًا وظاهرًا.

فإذا كانَ عاجزًا عن التغييرِ فقل لي بربِّكَ فأيَّ شيءٍ أفادَهُ دِيْنُ اللهِ ربِّ العالمين؟!

وبأيِّ شيءٍ مِنْ دِيْنِ اللهِ ربِّ العالمينَ استفادَ وانتفعَ؟!

وإنَّما هو بِمَبْعَدَةٍ من هذا كُلِّهِ!!

وأمَّا أصحابُ محمدٍ صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقد كانت أهواؤُهم الغَرَزِيَّةُ الطبيعيةُ التي هي مركوزةٌ في طبائعِهِم لا يستطيعُ الواحدُ معها حِيْلَةً, ولا يستطيعُ لها دفعًا, وإنَّما يسيرُ على مقتضاها مِنْ غيرِ ما تثريبٍ عليه ولا لومٍ لفعلِهِ, ومِنْ غيرِ أنْ يكونَ مُوآخذًا على شيءٍ يأتي به مما جرت به جِبِلَّتُهُ في أمرِ مطعومٍ ومشروبٍ وما أشبه مما جعلَهُ اللهُ ربُّ العالمينَ حلالًا في دنيا اللهِ جَلَّ وعَلَا, بل يضربُ اللهُ ربُّ العالمينَ المثلَ فيه بمحمدٍ صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذ قُدِّمَ له ضِبَابٌ - جمعُ (ضَبٌ) وهو حيوان جبلي معقدُ الذَّنَبِ - فَقُدِّمَ إليه ذلك على مائدتِهِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم, فلمَّا هَمَّ بأنْ يهويَ إلى ذلك آخذًا به قالتْ واحدةٌ من أمهاتِ المؤمنينَ مِنْ داخلٍ - وكان معه بعضُ الأصحابِ رضوان الله عليهم جميعًا قد تَحَلَّقُوا حولَ طعامِ نبيِّهِم صلى الله عليه وعلى آله وسلم - فأتى الصوتُ: ألا تخبرونَ النبيَّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم بما هو آكل؟ فقال: وما هو؟ قالوا: هذه ضِبَابٌ يا رسولَ الله, فرفعَ النبيُّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم يَدَهُ وتَنَحَّى جانبًا, كان خالدٌ - رضوان الله عليه - عند خالتِهِ في بيتِ النبيِّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: حرامٌ هو يا رسول الله؟ فقال: لا, ولكنه طعامٌ لم أجده بديارِ قومي فأجدُ نفسي تَعَافُهُ - فأجدُ نفسي تكرهه؛ لأني لم أعتد عليه ولم أتعود على النظرِ إلى مثلِهِ فضلًا عن الإقبالِ عليه طَاعِمًا وآكلًا -, وحينئذٍ لمَّا أخبرَ الرسولُ صلى الله عليه وعلى آله وسلم من لا يعافُهُ بأنَّه إنَّمَا امتنعَ عنه لا مِنْ أَجْلِ الحُرْمَةِ وإنَّمَا مِنْ أَجْلِ الطَّبْعِ والجِبِلَّةِ وأنَّه يَعَافُهُ - لا أكثر - أهوى إليه خالدٌ - رضوان الله عليه - فأكلَهُ رَضِيَ اللهُ ربُّ العالمينَ عنه وعن الصحابةِ أجمعينَ.

إذن؛ أمرُ الجِبِلَّةِ أمرٌ مقررٌ محترمٌ في الشرعِ, ومع ذلك تجدُ أصحابَ نبيِّنَا صلى الله عليه وعلى آله وسلم تستقيمُ غرائزُهُم تستقيمُ جِبِلَّاتُهُم على جِبِلَّةِ محمدٍ, وهي أعدلُ فطرةٍ قضاها ربُّ العالمينَ خَلْقًا قطُّ - صلى الله عليه وعلى آله وسلم -.

وهذا أنسٌ - رضوان الله عليه يقول: لم أكن أحبُّ الدُّبَّاءَ. وإنما كان يعافُهَا ويكرهُهَا, وإذا ما طُبِخَتْ في بيتِ أمِّ سُلَيْمٍ - وهي أمُّ أنس - ربما لم يقرب البيتَ حتى تذهبَ رائحتُهَا طُرًّا, ومع ذلك يقول: ولكني لما رأيتُ النبيَّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم يحبُّهَا ويتتبعُهَا في جوانبِ الصَّحْفَةِ في جوانب القَصْعَةِ - كان النبيُّ يحبُّ الدُّبَّاءَ ويتتبعُهَا صلى الله عليه وعلى آله وسلم في جوانبِ القصعةِ - قال: لما رأيتُ ذلك من النبيِّ صلي الله عليه و على آله وسلم وعلمتُهُ صِرْتُ أحبُّهَا, فهي من أحبِّ الأكلِ إليَّ, من أحبِّ الطعامِ إليَّ.

فانظر كيف استقامت الفطرةُ هاهنا على الفطرةِ السَّوِيَّةِ المستقيمةِ أعدلِ فطرةٍ قط وهي فطرةُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم مِنْ غيرِ أنْ يكونَ هناكَ شيءٌ مِنْ إلزامٍ, ومِنْ غيرِ أنْ يكونَ ذلك مُتَقَرَّبًا به في الحقيقةِ إلى اللهِ ربِّ العالمينَ, وإنَّمَا هي المحبةُ.

وإنَّمَا هي المحبةُ تتغلغلُ في ثَنَايَا ذراتِ خلايا البدنِ حتى يستقيمَ الأمرُ على أمرِ المحبوبِ الأكبرِ وعلى أمرِ المُحَبِّ الأعظمِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم, وحينئذٍ تقتربُ فطرةٌ مِنْ فطرةٍ, وتستقيمُ قدمٌ على قدمٍ, وحينئذٍ تستقيمُ الجَادَّةُ ليلُها كنهارِهَا لا يَزِيغُ عنها ولا يَضِلُّ عنها إلا هالكٌ.

فالنبيُّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم كانَ أصحابُهُ رضوان الله عليهم أكرمَ الخَلْقِ عندَ اللهِ ربِّ العالمينَ بعدَ الأنبياءِ والمرسلينَ, كان الصحابةُ يتأثرونَ محمدًا صلى الله عليه وعلى آله وسلم, ويتتبعونَ أحوالَهُ ظاهرةً وباطنةً صلى الله عليه وعلى آله وسلم ورضي اللهُ ربُّ العالمينَ عنهم.

فلا تصدق أبدًا أنَّ واحدًا مِنْ أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم يمكنُ أنْ يخالفَ النبيَّ عامِدًا, ولا تصدق أبدًا - فهو أبعدُ عن التصديقِ وأوغلُ في الخيالِ وفي أوديةِ الوَهَمِ - لا تصدق أبدًا أنَّ واحدًا مِنْ أصحابِ محمدٍ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ألصقَ بالدِّينِ ما ليسَ فيه أو اقتصَّ مُنْقِصًا مِنَ الدِّينِ ما هو فيه فذلك كذلك - أي: الزيادةُ في الدِّينِ و الحذف منه حذوَ النعلِ بالنعلِ -.

وأصحابُ النبيِّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم أكرمُ وأعلى كعبًا وأنقى صدرًا وأصفحُ عندَ اللهِ ربِّ العالمينَ عن كُلِّ دَنِيَّةٍ لا يقربونها أبدًا, اللهُ ربُّ العالمينَ اختارَهُم لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم, تركوا ما تركَ, وأخذوا بما أخذَ, وتكلموا بما قال, وأَدَّوا الأمانةَ, ونصحوا الأمَّةَ, فرضوانُ اللهِ عليهم أجمعين.

أسألُ اللهَ جَلَّتْ قدرتُهُ وتقدست أسماؤُهُ أنْ يَحْشُرَنَا في زُمْرَةِ نبيِّنَا محمدٍ صلى الله عليه وعلى آله وسلم إنَّه على كُلِّ شيءٍ قديرٌ.

الخطبةُ الثانية

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ هُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ صلاةَ وسلامًا دائمينِ متلازمينِ إلى يومِ الدِّينِ.

أمَّا بعدُ:

فقد أخرجَ أبو داودَ والنَّسَائي وغيرُهُمَا عن الحِبِّ ابن الحِبِّ أسامةَ بن زيدٍ رضي الله عنه وعن أبيه وعن أُمِّهِ أمِّ أيمنَ حاضنةِ رسولِ الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم, وأيمن هو أخو أسامةَ لِأُمِّهِ رضي الله عنه وعن أُمِّهِ وعن أبيه قال: «قلتُ للنبيِّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ما لي أراكَ تصومُ في شهرِ شعبانَ ما لا تصومُ في غيرِهِ من الشهورِ - يعني خَلَا رمضان -؟ فقال النبيُّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: هذا شهرٌ يَغْفُلُ عنه أكثرُ النَّاسِ بينَ رجبٍ ورمضانَ, تُرفعُ فيه الأعمالُ إلى اللهِ جَلَّ وعَلَا؛ فأنا أحبُّ أنْ يُرْفَعَ عملي فيه وأنا صائمٌ».

هذا حديثٌ صحيحٌ ثابتٌ يوضحُ فيه النبيُّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنَّ الأعمالَ تُرفعُ الرفعَ السنويَّ, تُرفعُ الأعمالُ رفعًا يوميًّا كما هو معلوم إذ يتعاقبونَ فيكم بالليلِ والنهارِ ملائكةٌ كما أخبرَ الرسولُ صلى الله عليه وسلم في صلاةِ الصبحِ وفي صلاةِ العصرِ, تُرفعُ الأعمالُ إلى اللهِ ربِّ العالمينَ هكذا يوميًّا, ثم تُعرضُ على اللهِ ربِّ العالمينَ كما مَرَّ في حديثِ مسلمٍ وغيرِهِ أنَّها تُعرضُ على اللهِ ربِّ العالمينَ, ويغفرُ اللهُ ربُّ العالمينَ إلا لمشركٍ ورَجُلٍ كانت بينَهُ وبينَ أخيهِ شحناء فيقولُ اللهُ جَلَّ وعَلَا: أَجِّلَا هذين - أَنْظِرَا هذين - حتى يَصْطَلِحَا, فهذا عرضٌ أسبوعيٌّ في كُلِّ يوم اثنين وخَميس.

ثُمَّ يأتي العَرْضُ السَّنَوِيُّ على ربِّ العِزَّةِ بأعمالِ خَلْقِهِ - جَلَّ وعَلَا - في شهرِ شعبان كما أخبرَ خليلُ الرَّحمنِ محمدٌ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: هذا شهرٌ يَغْفُلُ عنه أكثرُ النَّاسِ إذ إنَّه يقعُ بينَ رجبٍ, وهو شهرٌ مِنَ الأشهرِ الحُرُمِ, والعربُ كانت حتى في جاهليتِهَا تقدسُ وتحترمُ الأشهرَ الحُرُم - فكيف واللهُ ربُّ العالمينَ نَصَّ على أنَّها حُرُمٌ بِحُرْمَةِ اللهِ ربِّ العالمينَ إلى أنْ يَرِثَ اللهُ الأرضَ ومَنْ عليها؟! -, فالعربُ كانت تُقَدِّسُهُ في الجاهليةِ, والمسلمونَ أشدُّ معرفةً لقدرِ الأشهرِ الحُرُمِ في هذا الإسلامِ العظيمِ, فالنَّاسُ يعرفونَ قَدْرَ شَهْرِ رجب, وأمَّا شهرُ رمضان فإنَّه شهرُ القرآنِ, وشهرُ القيامِ والذكرِ, وشهرُ الصيامِ, وهو شهرٌ معلومُ الفضيلةِ عند النَّاسِ كافةً, وأمَّا هذا الشهرُ شهرُ شعبان - وما سُمِّيَ شعبانَ إلا لأنَّهُم كانوا يتشعبونَ فيه في أمرِ الغزوِ إذ يخرجونَ مِنَ الشهرِ الحَرَامِ متعطشينَ إلى سفكِ الدماءِ كما كانَ الشأنُ في الجاهليةِ؛ فسُمِّيَ شعبان لهذا الأمرِ الذي مَرَّ ذِكْرُهُ - فيقولُ نبيُّنا صلى الله عليه وعلى آله وسلم: إنَّ هذا الشهرَ يقعُ بينَ شهرين معلومي القدرِ, معروفي الفضلِ عند النَّاسِ كافةً, وعليه فيغفُلُ عنه أكثرُ النَّاسِ, ثم إنَّه تُعْرَضُ فيه الأعمالُ وتُرْفَعُ, وأنا أحبُّ أنْ يُرفعَ عملي وأنا صائمٌ, هذا كلامُهُ صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

وإذا كانَ عملُهُ صلى الله عليه وعلى آله وسلم هو العملُ الذي تتشرفُ به الإنسانيةُ, وتفخرُ به البشريةُ, والذي لا تجدُ فيه هَنَةً مِنَ الهَنَاتِ, ولا تجدُ فيه - حاشا لله - سقطةً مِنَ السَّقْطَاتِ, ومَعَ ذلكَ يُحِبُّ مع كمالِ تمامِ عملِهِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنْ يرفعَ هذا العملُ العظيمُ إلى اللهِ ربِّ العالمينَ وهو صائمٌ - صلى الله عليه وعلى آله وسلم -.

في حالةٍ مِنْ حالاتِ شرفِ النَّفسِ معلومة لكل من كان صائمًا بالحقيقةِ, لكل مَنْ صامَ قلبُهُ وصامت جوارحُهُ تَبَعًا فصامَ تَصَوُّرُهُ وصامَ فكرُهُ وصامَ يقينُهُ عن الوقوعِ في كلِّ ما يُغْضِبُ اللهَ جَلَّ وعَلَا, لكل مَنْ كان صائمًا يعلمُ حالةَ شرفِ النَّفسِ التي تكونُ عليها النَّفسُ وشرفِ الروحِ عندما تكونُ موصولةً باللهِ ربِّ العالمينَ قاطعةً حاسمةً لمادةِ اللَّذةِ التي تجري في العروقِ بالشهواتِ لكي تصفوَ النفسُ مقتربةً من ربِّ الأرضِ والسماواتِ.

يُحِبُّ نبيُّكم صلى الله عليه وعلى آله وسلم مَعَ كمالِ تمامِ عملِهِ أنْ يُعِرَضَ عملُهُ على اللهِ ربِّ العالمينَ وهو صائمٌ, فكيف بِمَنْ عملُهُ بجوارِ عملِ نبيِّهِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم كَحَبَّةٍ من رَمْلٍ في صحراءَ متراميةِ الأطرافِ لا يبلغُ الطرفُ مَدَاهَا, ولا تنتهي القدمُ إلى مُنْتَهَاهَا؟

فكيف بِمَنْ عملُهُ بجوارِ عملِ نبيِّهِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم كقطرةٍ في بحرٍ أو أقل؟

كيف والنِّسْبَةُ هاهنا غيرُ معقولةٍ ولا مفهومةٍ؟!

كيف لا يُحِبُّ المرءُ ولا يحرصُ الإنسانُ أنْ يُعْرَضَ عملُهُ في هذا الشهرِ على اللهِ ربِّ العالمينَ وهو صائمٌ كما كانَ الشأنُ عند نبيِّهِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم؟

ونعودُ لما بدأنا به مِنْ أمرِ أحاديثِ نبيِّنَا صلى الله عليه وعلى آله وسلم التي صَحَّتْ في ليلةِ النصفِ من شعبان, فإنَّ العبادةَ العظيمةَ في ليلةِ النِّصفِ لم يأتِ بها أثرٌ مِنْ كتابٍ ولا مِنْ سُنَّةٍ, ولا مِنْ هَدْيِّ صاحبٍ ولا إجماعِ أُمَّةٍ, ولم يأتِ بها شيءٌ مِنَ الآثارِ ولو كانتْ ضعيفةً منقوصةً أنها تُخَصُّ بقيامٍ, أو أنَّها تُخَصُّ بعبادةٍ بِعَيْنِهَا دونَ ما يفعلُ الإنسانُ في سائرِ ليالِيهِ إنْ كانت تلكَ عادتُهُ, وإنْ كانَ كذلك دَأْبُهُ وكذلك يسيرُ مع اللهِ ربِّ العالمينَ باحثًا عن مَرْضَاةِ رَبِّهِ جَلَّ وعَلَا, فإن كانَ كذلكَ فلا بأسَ.

وأيضًا ليلةُ النِّصفِ مِنْ شعبان هكذا تَخْصِيصُهَا بالقيامِ شيءٌ لم يأتِ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم ولا عن أحدٍ من أصحابِهِ رضوان الله عليهم أجمعينَ.

وأمَّا صيامُ النِّصفِ فإنْ كانَ تَخْصِيصًا لِتَوَهُّمِ مزيدِ فضلٍ فهذا ابتداعٌ في دِينِ اللهِ ربِّ العالمينَ لم يأتِ به أَثَرٌ مِنْ كِتَابٍ ولا مِنْ سُنَّةٍ ولا مِنْ فعلِ صاحبٍ ولا إجماعِ أُمَّةٍ, وأمَّا إنْ كانَ يصومُ الخامسَ عَشَر مِنْ شهرِ شعبان على أنَّه مِنَ الأيامِ الغُرِّ البِيضِ فهذه بِذَاتِهَا قد وَرَدَ فيها النَّصُّ الصحيحُ, وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم حريصًا على أنْ يصومَ الأيامَ البِيض, فإنْ وَقَعَ هذا اليومُ في عادةِ مَنْ يصومُ الأيامَ الغُرَّ البِيضَ مِنْ كُلِّ شهرٍ هجريٍّ مباركٍ فهذا كذلك, وإلا فقد وَقَعَ في ابتداعٍ؛ إذ يحسبُ متوهمًا أنَّ النبيَّ حَضَّ على ذلك, وقد مَرَّ ذِكْرُ حالِ الحديثِ إذ هو حديثٌ مكذوبٌ على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إذا كانت ليلةُ النِّصفِ مِنْ شعبان فقوموا ليلَهَا, وصومُوا نهارَهَا». هذا كَذِبٌ مصنوعٌ مُخْتَلَقٌ موضوعٌ على نبيِّنَا محمدٍ صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

وأمَّا ما هنالك مِنَ العبادةِ فقد وضَّحَهَا الحديثُ العظيمُ: «إلا لمشركٍ أو مشاحن».

وإذن؛ فإنَّ العبادةَ الجليلةَ التي يحرصُ عليها المرءُ في ليلةِ النصفِ وفي كُلِّ ليالِي العامِ - بل في كُلِّ لحظةٍ من لحظاتِ العُمُرِ الذي أعطَاهُ اللهُ ربُّ العالمينَ هبةً لعبدٍ مِنْ عبادِهِ في دنياه - يحرصُ الإنسانُ على أنْ يكونَ مُبَرَّءًا مِنَ الشركِ مُنَزَّهًا عنه؛ لأنَّ اللهَ جَلَّتْ قدرتُهُ قد مضتْ مشيئتُهُ بأنْ لا يغفرَ أنْ يُشْرَكَ به, فلا يغفرُ اللهُ ربُّ العالمينَ من هذا الدِّيوَانِ شيئًا ولو كانَ يسيرًا - ولا يسيرَ فيه على الإطلاقِ -, إلا أنَّ المرءَ ينبغي أنْ يكونَ حريصًا في ليلةِ النصفِ مِنْ شعبان على أنْ يكونَ طاهرَ الجَنَانِ مُبَرَّأَ الأركانِ مِنْ أنْ يكونَ واقعًا فيما يغضبُ العزيزَ الدَّيَّانَ, بل يكونُ باحثًا عن مرضاةِ الرحيمِ الرحمنِ, على المرءِ أنْ يكونَ مجتهدًا في الخَلَاصِ مِنَ الشركِ ظاهرًا وباطنًا بتصفيةِ القلبِ مما يَعْلَقُ به من الشوائبِ وما يجرُّ إليه الشركُ مِنْ تلك المادةِ القذرةِ بالحَمْئَةِ المسنونةِ من تلك الشحناءِ بالبغضاءِ بالغِلِّ بالحسدِ.

ويا لله! هل تجدُ أحدًا من المسلمينَ نقيَّ الفطرةِ سَوِيَّ الطَّوِيَّةِ يمكنُ أنْ ينطويَ باطنُهُ على مثلِ هذا القَذَرِ لأحدٍ من المسلمين؟!

«ولا يؤمنُ أحدُكُم حتى يُحِبَّ لأخيهِ ما يُحِبُّ لنفسِهِ» كما قالَ الرسولُ صلى الله عليه وعلى آله وسلم, لا يؤمنُ أحدُكُم إيمانًا صحيحًا كاملًا مُعْتَبَرًا في ميزانِ اللهِ ربِّ العالمينَ مقبولًا عندَ اللهِ ربِّ العالمينَ حتى يُحِبَّ لأخيهِ ما يُحِبُّ لنفسِهِ, فكيف بتلك المادةِ القذرةِ مِنَ الشحناءِ, مِنَ الحقدِ, مِنَ الغِلِّ, مِنَ الحسدِ, مِنَ البغضاءِ, تنطوي عليها نَفْسٌ مشوهةٌ حتى يَتَشَوَّهَ الظاهرُ تَبَعًا؟!

ويا لله! والله لو كُشِفَ الحجابُ لرأيتَ هناك نُفُوسًا وراءَ تلكَ المادةِ العظميةِ الجلديةِ اللحميةِ نُفُوسًا سَبُعِيَّةً ونُفُوسًا كَلْبِيَّةً, إلى غيرِ ذلك مِنْ أجناسِ الحيواناتِ, كُلٌّ على حسبِ ما صارَ إليهِ مِنْ تلكَ الميزاتِ التي تميزتْ بها تلك الحيوانات, فنسألُ اللهَ أنْ يُطَهِّرَنَا مِنَ المَعَائِبِ ظاهرًا وباطنًا إنَّهُ على كُلِّ شيءٍ قديرٌ.

العبادةُ العظيمةُ - عبادَ اللهِ! - في هذه الليلةِ إنَّما هي بتخليةِ القلبِ للهِ ربِّ العالمينَ مُبَرَّءًا مِنْ كُلِّ عيبٍ, مُنَزَّهًا مِنْ كُلِّ شركٍ, مُوَحِدًا ربَّهُ جَلَّ وعَلَا توحيدًا صحيحًا بالانطراحِ بينَ يديهِ, وبالانطراحِ على عتباتِ رَحَمَاتِهِ راجيًا ما عندَهُ مِنَ الفضلِ, خائفًا مما لديهِ مِنَ العقابِ والعذابِ أنْ ينزلَ بساحتِهِ, راجيًا وخائفًا, مقبلًا لا مُدْبِرًا, متقصيًا أثرَ نبيِّهِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ظاهرًا وباطنًا, بعيدًا عن كُلِّ حقدٍ وغشٍ وحسدٍ, مُنَقِّيًا لذاتِهِ مِنْ داخلِهَا, مخمومَ القلبِ كما قال رسولُ الربِّ محمدٍ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «أفضلُ النَّاسِ مَنْ كانَ صدوقَ اللسانِ مخمومَ القلبِ, الذي لا ينطوي على إثمٍ ولا بغي, التقيُّ النقيُّ الذي لا إثمَ فيه ولا بغي, ولا غِلَّ فيه ولا حقدَ ولا حسدَ».

هذا حديثٌ ثابتٌ عن نبيِّكم صلى الله عليه وعلى آله وسلم يوضحُ أفضلَ النَّاسِ عند اللهِ وأكرمَ النَّاسِ في ميزانِ اللهِ ربِّ العالمينَ مَنْ هَذَّبَ النَّفْسَ وصَفَّاهَا, وَرَقَّ القَلْبَ وأعلاهُ على منهجِ اللهِ ربِّ العالمينَ كتابًا وسُنَّةً, وأمَّا مَنْ دَسَّاهَا فقد خابَ كما قَرَّرَ ربُّنا جَلَّ وعَلَا في كتابِهِ العظيمِ.

على المرءِ أنْ يُصْلِحَ ما أفسدَهُ, وعلى الإنسانِ أنْ يَصِلَ ما قطعَهُ, وعلى المرءِ أنْ يكونَ مُتَوَقِّيًا حَذِرًا, فإنَّ التقوى كما بَيَّنَ أُبَيٌّ - رضوان الله عليه - للفاروقِ عمرَ - رضي الله عنه وأرضاه - إذ يسألُهُ وهو الفاروقُ الذي أتَاهُ اللهُ ربُّ العالمينَ ما آتاهُ مِنَ الخيرِ والفضلِ والعطاءِ الجزيلِ, الذي يقولُ فيهِ النبيُّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم إنَّه مِنَ المُحَدَّثِينَ, مِنْ أصحابِ الإلهامِ, كانَ يتنزلُ القرآنُ على ما يَرَى في كثيرٍ مِنَ المواضعِ كما هو معلومُ - رضوان الله عليه وعلى الصحابةِ أجمعينَ -, لا يستنكفُ أنْ يسألَ إذا لم يعلم عن الأمرِ الذي لا يعلمُهُ مَنْ يَعْلَمُهُ, فيقولُ: يا أُبَي! ما التقوى؟ فيقولُ: يا أميرَ المؤمنينَ: أمَا سِرْتَ في طريقٍ ذِي شوكٍ؟ قالَ: بلى. قال: ما صَنَعْتَ؟ قال: شَمَّرْتُ واجتهدتُ. قال: فتلكَ التقوى.

فانظر إلى هذا الصحابيِّ الجليلِ - الذي هو أَقْرَأُ أُمَّةِ محمدٍ صلى الله عليه وعلى آله وسلم - كيفَ نَوَّرَ اللهُ ربُّ العالمينَ بَصِيرَتَهُ, وألقَى اللهُ ربُّ العالمينَ النُّورَ على لسانِهِ, وحَمَلَ عمرَ - رضوان الله عليه - حَمَلَهُ من وادِي المعاني إلى وادي المبانِي, وأخذَ بيدِهِ - رضوان الله عليهِمَا - إلى وسيلةٍ توضيحيةٍ تعليميةٍ ظاهرةٍ بأمرٍ حسيٍّ معلومٍ مُشَاهَدٍ - بل هو مُجَرَّبٌ -؛

لأنَّهُ سألَهُ عمَّا يصنعُ عندما يسيرُ في طريقٍ ذي شوكٍ, فَقَرَّرَهُ بدءًا: أمَا سِرْتَ في طريقٍ ذي شوكٍ؟ فعادت في المَخِيلَةِ الذهنيةِ العُمَرِيَّةَ وقائعُ مرتْ - وهي كثيرةٌ -, إذ كان يرعَى الغنمَ للخَطَّابِ, وكان الخَطَّابُ غليظَ الطبعِ جدًّا؛ فكان يضرِبُهُ ويُجِيعُهُ ويؤذيهِ كما أخبرَ هو عن أبيهِ بَعْدُ - رضوان الله عليه -, وكان يُدْعَى (عُمَيْرًا), كان يُدْعَى (عُمَيْرًا) فَسُمِّيَ عُمَر - رضوان الله عليه -, كان مُتَوَقِّيًا, واللهُ ربُّ العالمينَ شهيدٌ على ذلكَ خبيرٌ به, إذ كانَ يَخْطبُ يومًا ومُسترسلًا في خَطَابَتِهِ كما ينبغي أنْ يكونَ لسانُ الفاروقِ - رضوان الله عليه -, ثم فجأةً حَادَ عن النهجِ الذي كانَ فيه سالكًا, وحادَ عن القصدِ الذي كانَ إليهِ قاصدًا, ثم أخذَ يقولُ مخاطبًا نفسَهُ: يا ابن الخَطَّابِ! لقد كنتَ وَضِيعًا فَرَفَعَكَ اللهُ, وكنتَ ذَلِيلًا فَأَعَزَّكَ اللهُ, وكنتَ تُدْعَى (عُمَيْرًا) فأصبحتَ تُسَمَّى (عُمَر), وكنتَ, وكنتَ, وكنتَ...., حتى صِرْتَ أميرًا للمؤمنينَ. ثمَّ عاد إلى وَصْلِ ما انقَطَعَ من خُطْبَتِهِ, فلمَّا فَرَغَ أَقْبَلَ عليه صحبُهُ فقالوا: سمعنَا منكَ اليومَ حديثًا عجبًا, فأيُّ شيءٍ هذا؟! قال: إنِّي قد أعجبتني نفسِي في حالِ خَطَابَتِي فأردتُ أنْ أُؤدِّبَهَا, وأنْ أُلْزِمَهَا حَدَّهَا, وأنْ أُعَرِّفَهَا قَدْرَهَا - رضوان الله عليه -.

ومع ذلك وهو مُعَلِّمُ التقوى الخبيرُ بمسالكِهَا, النَّبِيهُ لجميعِ مَزَالِقِهَا, الحريصُ على تَتَبُّعِ كُلِّ ما أتى فيها يسألُ أُبَي - رضوان الله عليه -: ما التقوى يا أُبَيُّ؟ فيأخذُ أُبَيٌّ يدَاهُ إلى جَادَّةِ المعلومِ المُشاهدِ المُجَرَّبِ: أمَا سِرْتَ في طريقٍ ذي شوكٍ وأنتَ ترعى للخَطَّابِ أغنامَهُ, وأنتَ سائرٌ في سبيلِ اللهِ ربِّ العالمينَ مجاهدًا.

وأنتَ تَعُسُّو بالليلِ تتفقدُ أحوالَ الرَّعِيَّةِ التي جعلَهَا اللهُ ربُّ العالمينَ مُعَلَّقَةً بخيطِ رقبتِكَ, أمَا سِرْتَ في طريق ذي شوكٍ؟ قال: بلى. قال: مَا صنعتَ؟ قال - في لَفْتَةٍ عُمَرِيَّةٍ ذكيةٍ مختصرةٍ مِنْ غيرِ ما إسهابٍ ولا تعويلٍ على كلامٍ لا يُفيد قالَ -: شَمَّرْتُ واجتهدتُ.

وانظر إليه مُشَمِّرًا وقد بانتْ ساقُهُ - رضوان الله عليه -, وقد أخذَ بِحُجْزَةِ إِزَارِهِ له رافعًا, ثم هو مجتهدٌ يجعلُ الخَطْوَ رفيقًا, ويجعلُ الأناةَ رائدًا, ويجعلُ التمهلَ سائقًا, وينزلُ على أطرافِ الأصابعِ يُمَكِّنُ لرجلِهِ لقدمِهِ شيئًا مِنْ بعدِ شيءٍ يَتَوَقَّى, فإذا ما أحسَّ بأولِ أثرٍ مِنْ ألمٍ تَوَقَّى عن الألمِ رافعًا, يقولُ: فتلكَ التقوى يا أميرَ المؤمنينَ.

وهذا دربُ الحياةِ مليءٌ بأشواكِهَا, مليءٌ بأشواكِ الحياةِ في التعاملِ مع الخَلْقِ, في التعاملِ مَعَ الخَلْقِ المُفْضِي حتمًا إلى شحناءَ لا يحبُّهَا اللهُ ربُّ العالمينَ ولا يرضَاهَا, إلى أحقادٍ وأحسادٍ, إلى همومٍ و غُمومٍ, إلى ظلمٍ وطغيانٍ وعُدْوَانٍ, وكذا التعاملُ مَعَ البشرِ, كما قالَ الشاعرُ الأولُ:

عَوَى الذئبُ فَاسْتَأْنَسْتُ بالذئبِ إذ عَوَى*** وَصَوَّتَ إنسانٌ فكدتُّ أطيرُ

هكذا, هكذا في دربِ الحياةِ في أشواكِهَا, فعلى المرءِ أنْ يكونَ مُتَوَقِّيًا, وأنْ يُعْطِيَ كَلَّ ذي حقٍّ حَقَّهُ, وأنْ يأخذَ بزمامِ القلبِ بيدٍ مِنْ حديدٍ حتى يُقِيمَهُ على صراطِ ربِّنَا الحميدِ حتى لا يَزِلَّ ولا يَضِلَّ, وحتى لا يأخذَ الهَوَى بزمامِ قلبِهِ فيُطَوَّحَ به في مَطَارِحَ لا تليقُ بمؤمنٍ أبدًا فضلًا عن أنْ يكونَ محسنًا, فضلًا عن أنْ يكونَ للغفرانِ راجيًا.

فهذا هذا - عبادَ اللهِ! -, فليلةُ النصفِ فيها هذا الفضلُ, فيها عمومُ المغفرةِ إلا لمشركٍ أو مشاحنٍ.

فاللهمَّ! طَهِّرَنَا وبَرِّئْنَا من الشركِ ظاهرًا وباطنًا.

اللهمَّ! طهرنَا مَنَ الشحناءِ ظاهرًا وباطنًا.

اللهمَّ! أحسنْ أحوالَنَا, وأخلص نياتِنَا.

اللهمَّ! أحسن أحوالَنَا, أحسن أحوالَنَا, وحَسِّنْ أعمالَنَا, وأخلص نياتِنَا لوجهِكَ الكريمِ يا ربَّ العالمينَ! ويا أرحمَ الراحمينَ! ويا أكرمَ الأكرمينَ.

اللهمَّ! أَحْيِنَا ما عَلِمْتَ الحياةَ خيرًا لَنَا, وتَوَفَّنَا إذا كانت الوفاةُ خيرًا لَنَا.

اللهمَّ! أَحْيِنَا ما عَلِمْتَ الحياةَ خيرًا لَنَا, وتَوَفَّنَا إذا كانت الوفاةُ خيرًا لَنَا.

اللهمَّ! أَحْسِنْ خاتمَتَنَا - يا ربَّ العالمينَ! -.

اللهمَّ! إِنَّا نعوذُ بِكَ أنْ يَتَخَبَّطْنَا الشيطانُ عندَ الموتِ, نعوذُ بِكَ أنْ يَتَخَبَّطْنَا الشيطانُ عندَ الموتِ.

اللهمَّ! طَهِّرْ قلوبَنَا, طَهِّرْ قلوبَنَا.

اللهمَّ! طَهِّرْ قلوبَنَا, طَهِّرْ قلوبَنَا, بَلِّغْنَا مِمَّا يُرْضِيكَ آمالَنَا, بَلِّغْنَا مِمَّا يُرْضِيكَ آمالَنَا.

اللهمَّ! ثَبِّتْ أقدامَنَا, واهْدِ قلوبَنَا, اهْدِ قلوبَنَا, اهْدِ قلوبَنَا.

اللهمَّ! اسْلُلْ سَخِيمَةَ قلوبِنَا, اسْلُلْ سَخِيمَةَ قلوبِنَا.

اللهمَّ! اسْلُلْ حقدَ قلوبِنَا, اسْلُلْ حسدَ قلوبِنَا, اسْلُلْ غِلَّ قلوبِنَا.

اللهمَّ! اغفرْ لَنَا ولإخوانِنَا الذينَ سبقونَا بالإيمانِ, ولا تجعلْ في قلوبِنَا غِلًّا للذينَ آمنُوا.

اللهمَّ! لا تجعلْ في قلوبِنَا غِلًّا للذينَ آمنُوا. اللهمَّ! لا تجعلْ في قلوبِنَا غِلًّا للذينَ آمنُوا.

اللهمَّ! خُذْ بأيدِينَا إليكَ, وأَقْبِلْ بقلوبِنَا عليكَ.

اللهمَّ! يا ربَّ العالمينَ! ويا أرحمَ الراحمينَ! ويا أكرمَ الأكرمينَ! ويا ذَا القوةِ المتين! اللهمَّ! أَدْرِكْ أُمَّةَ نبيِّكَ صلى الله عليه وعلى آله وسلم. اللهمَّ! أَلِّفْ بينَ قلوبِ أبنائِهَا, أَلِّفْ بينَ قلوبِ أبنائِهَا.

اللهمَّ اجمعْ شملَ المسلمينَ, اجمعْ شملَ المسلمينَ, وَحِّدْ صفوفَ المسلمينَ.

اللهمَّ اسْتُرْ عوراتِ المسلمينَ, وآمِنْ روعَاتِ المسلمينَ. اللهمَّ! آمِنْ روعَاتِ المسلمينَ.

اللهمَّ! احْقِنْ دماءَ المسلمينَ. اللهمَّ! سَلِّمْ وطنَنَا وجميعَ أوطانِ المسلمينَ, سَلِّمْ وطنَنَا وجميعَ أوطانِ المسلمينَ, وطَهِّرْ أرضَ المسلمينَ - يا ربَّ العالمينَ! - مِنْ كُلِّ غَازٍ معتدٍ أثيمٍ.

يا أكرمَ الأكرمينَ! ويا أرحمَ الراحمينَ! ويا ذَا القوةِ المتين! أَلِّفْ بينَ قلوبِ المسلمينَ حُكَّامًا ومحكومينَ, واجْمَع الجميعَ على طاعتِكَ - يا ربَّ العالمينَ! -.

اللهمَّ! خُذْ بأيدِينَا إليكَ, وأَقْبِلْ بقلوبِنَا عليكَ. اللهمَّ! احْرُسْنَا بعينِكَ التي لا تنامُ, وبِرُكْنِكَ الذي لا يُضَامُ, وبقدرتِكَ علينَا, لا نَهْلِكُ وأنتَ رَجَاؤُنَا.

اللهمَّ! اخْتِمْ لَنَا بِخَاتِمَةِ السَّعَادَةِ أجمعينَ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ، وَأَقِمِ الصَّلاَةَ.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

((لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، يَغْفِرُ اللهُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلَّا لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ))

من خطبة: ((بين الحياة والموت))

((الجمعة 11 من شعبان 1428هـ الموافق 24-8-2007م))

إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.

وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.

وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾[آل عِمْرَان:١٠٢].

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّـهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّـهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾[النِّسَاء:١].

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾[الْأَحْزَاب:٧٠-٧١].

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، يَغْفِرُ اللهُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلَّا لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ))

كَيْفَ يَصْلُحُ الْقَلْبُ؟

يَصْلُحُ الْقَلْبُ بِالْخُلُوصِ مِنَ الشِّرْكِ، وَالْبِدْعَةِ، وَالْحِقْدِ، وَمَذْمُومِ الْخِصَالِ.. هَذَا صَلَاحُ الْقَلْبِ.

وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ رَتَّبَ الْجَزَاءَ عَلَى الشَّرْطِ: «إِذَا صَلَحَتْ؛ صَلَحَ»، «أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً»: قِطْعَةٌ مِنَ اللَّحْمِ بِمِقْدَارِ مَا يُمْضَغُ -صَغِيرَةٌ هِيَ-، «إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ؛ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ»، هُنَا جَزَاءٌ قَدْ رُتِّبَ عَلَى شَرْطِهِ؛ فَلَا صَلَاحَ إِلَّا بِصَلَاحٍ، لَا صَلَاحَ لِلْجَسَدِ لَا صَلَاحَ لِلْحَيَاةِ إِلَّا بِصَلَاحِ الْقَلْبِ -كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّـهِ-، وَإِذَا فَسَدَ الْقَلْبُ فَسَدَ الْجَسَدُ وَفَسَدَتِ الْحَيَاةُ.

كَيْفَ صَلَاحُ الْقَلْبِ -إِذَنْ-؟

بِخُلُوصِهِ مِنَ الشِّرْكِ، وَخُلُوصِهِ مِنَ الْبِدْعَةِ، وَخُلُوصِهِ مِنَ الْحِقْدِ وَمَذْمُومِ الْخِصَالِ.

النَّبِيُّ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ رَتَّبَ الْغُفْرَانَ عَلَى هَذِهِ الْخِصَالِ فِي حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ -وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ- أَنَّهُ «إِذَا كَانَ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ اطَّلَعَ اللَّـهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ إِلَى خَلْقِهِ، فَيَغْفِرُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَيُمْلِي لِلْكَافِرِينَ، وَيَدَعُ أَهْلَ الْحِقْدِ بِحِقْدِهِمْ حَتَّى يَدَعُوهُ»، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْمَرْوِيِّ عَنْ جُمْلَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّـهِ عَلَيْهِمْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «يَطَّلِعُ اللَّـهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى خِلْقِهِ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلَّا لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ».

فَهَذِهِ هِيَ الْخِصَالُ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ يَبْرَأَ مِنْهَا الْقَلْبُ لِيَتَحَصَّلَ عَلَى الْغُفْرَانِ، قَبْلَ دُنُوِّ النِّهَايَةِ الَّتِي لَا تُعْلَمُ، الَّتِي تَقُولُ الشَّوَاهِدُ إِنَّهَا دَانِيَةٌ -وَإِنْ غَفَلَ عَنْ دُنُوِّهَا الْغَافِلُونَ-، الَّتِي تَقُولُ الظَّوَاهِرُ إِنَّهَا قَرِيبَةٌ -وَإِنِ اسْتَبْعَدَتْهَا الظُّنُونُ وَاسْتَبْعَدَتْهَا الْأَوْهَامُ-.

قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَ النِّهَايَةُ، مَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَحَصَّلَ عَلَى الْغُفْرَانِ فَدُونَهُ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّـهِ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ.

إِنَّ اللَّـهَ جَلَّ وَعَلَا لَا يَغْفِرُ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِينَ، لَا يَغْفِرُ إِلَّا لِلْمُوَحِّدِينَ، لَا يَغْفِرُ إِلَّا لِأَصْحَابِ طَهَارَةِ الْقَلْبِ وَنَقَاءِ الرُّوحِ وَصَفَاءِ النُّفُوسِ.

أَمَّا الَّذِينَ يَتَلَوَّثُونَ بِالْأَحْقَادِ وَالْأَحْسَادِ، أَمَّا الَّذِينَ تَجْرِي فِي عُرُوقِهِمْ تِلْكَ الْأُمُورُ مِنْ مَذْمُومِ الْخِصَالِ - فَهُمْ عَنِ الْغُفْرَانِ بِمَبْعَدَةٍ.

يَقُولُ رَسُولُ اللَّـهِ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ: «فَيَغْفِرُ لِلْمُؤْمِنِينَ...»، «فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلَّا لِمُشْرِكٍ...»؛ فَالْمُشْرِكُ لَا يُغْفَرُ لَهُ، الْمُؤْمِنُ يُغْفَرُ لَهُ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ.

«فَيَغْفِرُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَيُمْلِي لِلْكَافِرِينَ، وَيَدَعُ أَهْلَ الْحِقْدِ بِحِقْدِهِمْ حَتَّى يَدَعُوهُ»، «فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلَّا لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ»، مَذْمُومِ الْخِصَالِ، وَرَدِيءِ الصِّفَاتِ، مِنَ الْأَخْلَاقِ الْكَلْبِيَّةِ وَالْأَخْلَاقِ السَّبُعِيَّةِ الَّتِي تَتَوَثَّبُ فِي النُّفُوسِ الْبَشَرِيَّةِ، وَالَّتِي لَوْ كُشِفَ الْغِطَاءُ لَأَبْصَرَتْ بَصَائِرُ الْبَصَائِرِ عَنْ أَمْرٍ عَجِيبٍ؛ فَمَا بَيْنَ كَلْبٍ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ يُكَشِّرُ عَنْ أَنْيَابِهِ، وَمَا بَيْنَ سَبُعٍ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ قَدْ تَوَثَّبَ لِلِانْقِضَاضِ عَلَى فَرِيسَةٍ يَهْتَبِلُ الْفُرْصَةَ لِلِانْقِضَاضِ عَلَيْهَا، بِأَخْلَاقٍ كَلْبِيَّةٍ، وَأَخْلَاقٍ سَبُعِيَّةٍ، وَأَخْلَاقٍ خِنْزِيرِيَّةٍ.

وَأَمَّا الْأَخْلَاقُ النَّبَوِيَّةُ الْمُصَطَفَوِيَّةُ فَلَا تَكُونُ إِلَّا لِلْأَفْذَاذِ مِنَ الْأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ -اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْهُمْ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ-.

«فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلَّا لِمُشْرِكٍ»؛ فَلَا بُدَّ لِمَنْ أَرَادَ الْغُفْرَانَ أَنْ يَتَخَلَّى عَنِ الشِّرْكِ، وَأَنْ يَحْذَرَهُ، وَأَنْ يُجَانِبَهُ، وَأَنْ يُحَادَّهُ، وَأَنْ يُشَاقَّهُ -ظَاهِرًا وَبَاطِنًا-.

«أَوْ مُشَاحِنٍ»؛ لِأَنَّ اللَّـهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ لَا يُحِبُّ الشَّحْنَاءَ، إِنَّ اللَّـهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فِيمَا أَخْبَرُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ عَمَّا يُحِبُّهُ مِنْ خِصَالِ بَنِي آدَمَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّـهَ جَلَّ وَعَلَا يُحِبُّ مَعَالِيَ الْخِصَالِ -يُحِبُّ مَعَالِيَ الْأَخْلَاقِ- وَيَكْرَهُ سَفْسَافَهَا».

تَدْرِي مَا سَفْسَافُهَا؟

قَدْ تَنْزَلِقُ فِي ذَلِكَ قَدَمُكَ، بِتِلْكَ الشَّبَكَةِ الْمَلْعُونَةِ، مِنْ تِلْكَ الشَّبَكَةِ الَّتِي تُنْصَبُ لَكَ لِتَدْخُلَ فِي فِخَاخِهَا، هِيَ شَبَكَةٌ كَشَبَكَةِ الْعَنْكَبُوتِ، تَأْتِي الذُّبَابَةُ مُؤَمِّلَةً، فَإِذَا مَا وَقَعَتْ لَا تَسْتَطِيعُ فَكَاكًا.

نَعَمْ! قَدْ تَنْزَلِقُ الْقَدَمُ، فَمَا يَزَالُ يَجُرُّكَ خُلُقٌ ذَمِيمٌ، لِيُوَرِطَّكَ فِي خُلِقٍ ذَمِيمٍ، لِيُقِيمَكَ عَلَى خُلُقٍ ذَمِيمٍ، لِيَنْحَدِرَ بِكَ عَنْ خُلُقٍ ذَمِيمٍ، وَلَا تَسْتَطِيعُ مِنْ ذَلِكَ فَكَاكًا، وَلَا عَنْهُ انْصِرَافًا، وَلَا مِنْهُ خَلَاصًا، وَيَزَالُ الْمَرْءُ فِي تِلْكَ الدَّوَّامَةِ الْمَلْعُونَةِ مِنْ حَطِيطِ وَسَافِلِ الْخِصَالِ، لَا يَسْتَطِيعُ وَإِنَّهُ لَيُؤَمِّلُ، لَا يَسْتَطِيعُ وَإِنَّهُ لَيَرْجُو، لَا يَسْتَطِيعُ وَإِنَّهُ لَيُحَاوِلُ؛ لِأَنَّهُ فَقَدَ الطَّرِيقَ، وَمَنْ فَقَدَ الطَّرِيقَ وَأَضَلَّهُ الطَّرِيقُ فَلَيْسَ عَلَى طَرِيقٍ؛ وَإِنَّمَا هُوَ حَائِرٌ تَائِهٌ فِي الْمَتَاهَةِ لَا يُفِيقُ، وَإِنَّمَا عَلَى الْآخِرَةِ يُفِيقُ.

وَيْحَ ابْنَ آدَمَ؛ مَا أَغْفَلَهُ!

وَيْحَ ابْنَ آدَمَ! وَهُوَ مُعَلَّقٌ بَيْنَ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ بِنَفَسٍ يَتَرَدَّدُ وَقَدْ مَالَتْ كِفَّةُ الْمَوْتِ.

وَيْحَ ابْنَ آدَمَ! وَإِنَّهُ لَعَلَى مِثْلِ الْجَمْرِ يَتَلَدَّدُ؛ لِأَنَّهُ يَهْتَبِلُ الْفُرْصَةَ لِاقْتِنَاصِ لَذَّةٍ، وَالتَّوَثُّبِ لِلْحُصُولِ عَلَى شَهْوَةٍ، وَلَا يَعْلَمُ أَنَّهُ عَلَى مَنْطِقِ الذُّبَابِ, الْمِسْكِينُ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ عَلَى مَنْطِقِ الذُّبَابِ؛ يَقِفُ عَلَى حَافَةِ الْإِنَاءِ فِيهِ الْعَسَلُ يَقُولُ: مَنْ يُوَصِّلُنِي إِلَيْهِ وَلَهُ دِرْهَمَانِ؟!.. فَإِذَا وَقَعَ فِيهِ قَالَ: مَنْ يُخْرِجُنِي مِنْهُ وَلَهُ أَرْبَعَةٌ؟!!

فَيَا أَصْحَابَ الْمَنْطِقِ الذُّبَابِيِّ! حَنَانَيْكُمْ، دُونَكُمُ الطَّرِيقَ، دَلَّكُمْ عَلَيْهِ مَنْ هُوَ بِكُمْ شَفِيقٌ، وَبِكُمْ رَحِيمٌ رَفِيقٌ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّـهَ عَزَّ وَجَلَّ يُحِبُّ مَعَالِيَ الْأَخْلَاقِ وَيَكْرَهُ سَفْسَافَهَا»، السَّفْسَافُ كَالْعَسَلِ فِي ظَاهِرِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِيهِ فَهُوَ كَالذُّبَابِ فِي ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ، لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَخَلَّصَ مِنْهُ وَلَا أَنْ يَنْفَكَّ عَنْهُ.

فَحَذَارِ، فَحَذَارِ، فَحَذَارِ أَنْ تَتَوَرَّطَ فِي ذَلِكَ؛ فَإِنَّ الْعُمُرَ قَصِيرٌ.

كُنْ عَلَى عَقِيدَةٍ صَحِيحَةٍ، كَمَا قَالَ الرَّسُولُ: «فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلَّا لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ»، «وَيَدَعُ أَهْلَ الْحِقْدِ بِحِقْدِهِمْ حَتَى يَدَعُوهُ»؛ فَعَلَيْكَ أَنْ تَتَخَلَّصَ فِي عُبُودِيَّةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ: مِنَ الشِّرْكِ، وَمِنَ الْبِدْعَةِ، وَمِنَ الْحِقْدِ خَاصَّةً -فَإِنَّهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ-: «وَيَدَعُ -يَتْرُكُ- أَهْلَ الْحِقْدِ بِحِقْدِهِمْ حَتَّى يَدَعُوهُ».

الْحِقْدُ مَا هُوَ؟

الْإِنْسَانُ إِذَا مَا اسْتُغْضِبَ فَلَمْ يَغْضَبْ فَهُوَ حِمَارٌ -كَمَا قَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ-، وَلَكِنْ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ فَيَجْعَلُ غَضَبَهُ عَلَى مِقْيَاسِ الشَّرْعِ نَافِذًا، وَيَجْعَلُ أَثَرَهُ بِمِقْيَاسِ الشَّرْعِ فَاعِلًا، الَّذِي يَكُونُ كَذَلِكَ هُوَ الرَّجُلُ حَقًّا.

«لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرْعَةِ...» يَعْنِي: الَّذِي يَصْرَعُ النَّاسَ وَلَا يَصْرَعُونَهُ؛ «وَإِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ»، فَهَذَا هُوَ الشَّدِيدُ حَقًّا.

فَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا لَا يَتَمَاسَكُ، مُتَهَالِكَ الْبُنْيَانِ، تَنْخَرُ فِي جَسَدِهِ الْأَمْرَاضُ، نَعَمْ! تَأْكُلُ حِينًا كَبِدَهُ حَتَّى لَا تَدَعَ فِيهِ خَلِيَّةً فَاعِلَةً لَا يَسْتَقِيمُ بِعَمَلِهَا حَيَاةٌ، وَيَعْدُو أَحْيَانًا عَلَى قَلْبِهِ فَيَأكُلُهُ أَكْلًا حَتَّى لَا يَدَعَ فِيهِ شَيْئًا، وَلَا يَصِحُّ حِينَئِذٍ -فِيهِ- أَنْ يُقَالَ: الْقَلْبُ الَّذِي لَا يَحْمِلُنِي لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ أَحْمِلَهُ، الْقَلْبُ الَّذِي لَا يَحْمِلُنِي لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ أَحْمِلَهُ؛ فَلْيَذْهَبْ مَزْجَرَ الْكَلْبِ، الْقَلْبُ الَّذِي لَا يَحْمِلُنِي لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ أَحْمِلَهُ.

 النَّاسُ لَا تَحْيَا بِالْأَجْسَادِ؛ تَحْيَا بِالْقُلُوبِ، بِالْأَرْوَاحِ، وَإِنْ كَانَتْ هُنَالِكَ مُعَلَّقَةً بَيْنَ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ بِنَفَسٍ يَتَرَدَّدُ، بِنَفَسٍ يَتَرَدَّدُ، لَا يَأْتِي مِنْ دَاخِلٍ؛ وَإِنَّمَا يُفْرَضُ عَلَى الرِّئَتَيْنِ فَرْضًا، يُفْرَضُ فَرْضًا، يُفْرَضُ فَرْضًا، بِنَفَسٍ يَتَرَدَّدُ.

نَعَمْ! النَّاسُ تَحْيَا بِالْقُلُوبِ، بِالْأَرْوَاحِ، بِرَصِيدِ الرُّوحِ وَالْقَلْبِ، تَحْيَا فِي الْحَيَاةِ لَا بِشَبَقٍ يَحْيَا بِهِ الْمَرْءُ فِي كَثْرَةِ صِفَاتٍ كَأَنَّهُ عُصْفُورٌ، وَلَا بِتَحَمُّلٍ يَمْضِي بِهِ الْمَرْءُ فِي الْحَيَاةِ كَأَنَّهُ الْبَغْلُ أَوِ الْجَمَلُ.

لَا؛ وَإِنَّمَا هِيَ الْأَرْوَاحُ وَحَيَاةُ الْقُلُوبِ، بِرَصِيدٍ يَحْيَا بِهِ الْمَرْءُ، يَبْذُلُ بِهِ الْمَرْءُ، بِكَلِمَةٍ صَالِحَةٍ، وَعَمَلٍ مُطْمَئِنٍّ عَلَى قَرَارٍ، بِعَقِيدَةٍ ثَابِتَةٍ، فَإِذَا جَاءَ الْمَوْتُ جَاءَتِ الشَّهَادَةُ -إِنْ شَاءَ اللَّـهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ-، وَالْأَمْرُ بَعْدُ بِيَدِ اللـَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ، يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ، وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمُنْتَهى، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ.

فَاللَّهُمَّ مُنَّ بِحُسْنِ الْخَاتِمَةِ، مُنَّ بِحُسْنِ الْخَاتِمَةِ، مُنَّ بِحُسْنِ الْخَاتِمَةِ؛ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

يَكْرَهُ السَّفَاسِفَ، وَهَذَا الْحِقْدُ مَا هُوَ؟

الْغَضَبُ إِنْ لَمْ يَسْتَطِعِ الْمَرْءُ لَهُ إِنْفَاذًا، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مُخْرِجًا؛ كُظِمَ -لَا دِينًا؛ وَإِنَّمَا عَجْزًا-؛ يَصِيرُ حِقْدًا، يَسْتَثْقِلُ بِهِ الْمَرْءُ الْمَحْقُودَ عَلَيْهِ -يَسْتَثْقِلُهُ-، يَكْرَهُ النِّعْمَةَ الْوَاصِلَةَ إِلَيْهِ، يَتَمَنَّى لَهُ الْهَلَاكَ، وَيَكْرَهُ لَهُ الْخَيْرُ، يَحْقِدُ عَلَيْهِ، كَالْجَمَلِ إِذَا أَنْفَذَ غَضَبَهُ مِنْ بَعْدِ كَظْمِهِ -وَكَانَ قَبْلُ كَظِيمًا-، فَإِذَا أُطْلِقَ -فَإِذَا أُطْلِقَ- فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يُنْفِذُ غَضَبَهُ حِقْدًا مَسْمُومًا.

يُقَالُ فِي الْمَثَلِ: فُلَانٌ أَحْقَدُ مِنْ جَمَلٍ، أَحْقَدُ مِنْ جَمَلٍ؛ فَيُنْفِذُ حِقْدَهُ بِغَيْرِ وَعْيٍ، حِقْدٌ مَجْنُونٌ.

يَقُولُ الْمَأْمُونُ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَيَدَعُ أَهْلَ الْحِقْدِ بِحِقْدِهِمْ حَتَّى يَدَعُوهُ»، نَعَمْ! لَيْسُوا أَهْلًا لِلْمَغْفِرَةِ، لَيْسُوا أَهْلًا لِلِاطِّلَاعِ عَلَيْهِمْ؛ «يَطَّلِعُ اللَّـهُ إِلَى خَلْقِهِ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلَّا لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ».

وَفِي الْحَدِيثِ حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ: «إِنَّ اللَّـهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا كَانَ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ اطَّلَعِ إِلَى خَلْقِهِ، فَيْغَفِرُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَيُمْلِي لِلْكَافِرِينَ، وَيَدَعُ أَهْلَ الْحِقْدِ».

يَطَّلِعُ وَيَتْرُكُ، يَتْرُكُ أَهْلَ الْحِقْدِ، مَحَلٌّ نَجِسٌ بِقَلْبٍ نَجِسٍ حَوَى زِبَالَةَ الصِّفَاتِ وَقُمَامَةَ الْعَادَاتِ, وَأَتَى بِأَحَطِّ دَرَكَاتِ الْأَخْلَاقِ وَالْخِصَالِ وَالشِّيَاةِ.

هَذَا إِنَّمَا تَؤُمُّهُ كُلُّ الْحَشَرَاتِ الْحَيَّاتِ وَالنَّافِقَاتِ، هَذَا إِذَا مَا تَحُطُّ عَلَيْهِ الْهَوَامُّ الْبَغِيضَاتُ، هَذَا لَيْسَ أَهْلًا لِنُزُولِ الرَّحَمَاتِ، هَذَا مَاذَا يَكُونُ؟

هَذَا لَوْ قُلْنَا: إِنَّهُ لَيْسَ شَيْئًا.. لَكُنَّا قَدْ مَدَحْنَاهُ، كَلَّا وَاللَّـهِ! إِنَّكَ إِنْ قُلْتَ: إِنَّهُ لَيْسَ شَيْئًا.. تَكُونُ قَدْ مَدَحْتَهُ، لَا! هَذَا أَحَطُّ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْتَمِعَ فِيهِ وَصْفٌ مُزْرٍ يَكُونُ بِهِ حَقِيقةً.

نَعَم! هَذَا قَلْبٌ؟!

لَا؛ هَذَا قَلِيبٌ، لَا؛ بَلْ هَذَا كَنِيفٌ!

لَيْسَ قَلْبًا، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ قَلْبٌ؛ تَذُمُّ الْقُلُوبَ, إِنْ قُلْتَ: إِنَّهُ قَلْبٌ.. فَقَدْ ذَمَمْتَ الْقُلُوبَ -قُلُوبَ الْأَحْيَاءِ-، تَنْبِضُ بِالْحَيَاةِ، بِالْحَيَاةِ الْحَقَّةِ، تَسْتَمِدُّ الْحَيَاةَ بِقُدْرَةِ مُحْيِي الْمَوْتَى، يُحِيهَا اللَّـهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِقُدْرَتِهِ، بِإِحْيَائِهِ إِيَّاهَا، هَذِهِ الْقُلُوبُ تَكُونُ لَهَا هَاجِيًا وِبِهَا مُزْرِيًا إِنْ قُلْتَ: هَذَا الْقَلْبُ قَلْبٌ.. بَلْ هُوَ كَنِيفٌ، بَلْ هُوَ أَحَطُّ مَنْ ذَلِكَ؛ إِذِ الرَّجِيعُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لَهُ فَائِدَةٌ عَلَى نَحْوٍ مِنَ الْأَنْحَاءِ، إِمَّا بِذَاتِهِ -غِذَاءً لِلْهَوَامِّ وَالْحَشَرَاتِ-، وَإِمَّا بِالِاسْتِحَالَةِ -عِنْدَمَا يَصِيرُ شَيْئًا آخَرَ-، وَأَمَّا هَذَا فَهَذَا مَاذَا؟!

«فَيَدَعُ أَهْلَ الْحِقْدِ بِحِقْدِهِمْ حَتَّى يَدَعُوهُ».

أَيَّتُهَا الْقُلُوبُ الشَّارِدَةُ وَالْأَرْوَاحُ النَّافِرَةُ! إِلَى أَيْنَ؟ إِلَى أَيْنَ؟!

إِنَّ الْعَبْدَ مُعَلَّقٌ بَيْنَ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ بِنَفَسٍ يِتَرَدَّدُ، وَقَدْ يُفْرَضُ عَلَيْهِ، يُفْرَضُ عَلَيْهِ فَرْضًا؛ فَلَا يَنْبُعُ مِنْهُ نَبْعًا، وَإِنَّمَا يُفْرَضُ عَلَيْهِ فَرْضًا.

وَاللَّـهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ هُوَ مُحْيِي الْمَوْتَى، عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، يَحُيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ، قَادِرٌ -هَوُ- وَقَدِيرٌ وَمُقْتَدِرٌ عَلَى أَنْ يَمُنَّ بِالْحَيَاةِ عَلَى الْجَسَدِ الَّذِي يُشَارِفُ أَنْ يُفَارِقَ الْحَيَاةَ، إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَهُوَ -سُبْحَانَهُ- لَا يَقْطَعُ رَجَاءَ الْمُرْتَجِينَ، لَا يَقْطَعُ رَجَاءَ مَنْ يَرْتَجِيهِ؛ فَيَا رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَيَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَيَا ذَا الْقُوَّةِ الْمَتِينُ، لَا تَقْطَعْ رَجَاءَ عِبَادِكَ فِيكَ؛ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

وَصَلَّى اللَّـهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ. 

 

 الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ هُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ الصَّفْحَ وَالتَّسَامُحَ وَالصَّبْرَ وَالْوَفَاءَ وَالْبَذْلَ -كُلُّ أُولَئِكَ- خِصَالٌ مَحْمُودَةٌ وَشِيَاةٌ مَرْمُوقَةٌ، كُلُّ أُولَئِكَ غَايَاتٌ تَتَقَطَّعُ دُونَ بُلُوغِهَا الْأَعْنَاقُ.

قَدْ يَعْلَمُ الْمَرْءُ فِي نَفْسِهِ خَلَلًا بِاخْتِلَالِ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الْخَيْرِ فِيهِ، نَعَمْ! بِاخْتِلَالِ صِفَةٍ يَضَعُ الْيَدَ عَلَيْهَا عِنْدَ تَفْتِيشِهِ فِي أَطْوَاءِ قَلْبِهِ وَمَطَاوِيهِ، فيَضَعُ الْيَدَ عَلَيْهَا هُنَا، هُنَا خَلَلٌ يَحْتَاجُ إِصْلَاحًا، وَلَا يُصْلِحُ الْقُلُوبَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَهَا. هُنَا, هَذَا الْخَلَلُ قَدْ يَلْتَهِمُ الْحَيَاةَ وَلَا يُصْلَحُ، قَدْ يُمْضِي الْمَرْءُ عُمْرَهُ فِي إِصْلَاحِ خَلَلٍ وَاحِدٍ فِي مَنْظُومَةِ الْأَخْلَاقِ.

وَهِيَ مَنْظُومَةٌ مُتَكَامِلَةٌ؛ فَإِنَّ الْقِيَمَ لَا تَتَبَعَّضُ، وَالْأَخْلَاقُ لَا تَتَجَزَّأُ، نَعَمْ لَا عَلَى اعْتِبَارِ الْمَجْمُوعِ وَلَا عَلَى اعْتِبَارِ الْأَزْمَانِ وَالْحَالَاتِ.

الْقِيَمُ لَا تَتَبَعَّضُ، الْأَخْلَاقُ لَا تَتَجَزَّأُ، لَا عَلَى اعْتِبَارِ الْمَجْمُوعِ بِمَعْنَى أَنَّ الْعَبْدَ يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ وَفِيًّا وَهُوَ خَائِنٌ، يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ مُخْلِصًا وَهُوَ غَدَّارٌ، يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ بَذُولًا وَهُوَ شَحِيحٌ بَخِيلٌ، يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ مُحَصِّلًا لِخُلِقٍ فَاقِدًا لِبَقِيَّةِ الْأَخْلَاقِ، لَا تَتَجَزَّأُ الْقِيَمُ، كُلٌّ فَاعِلٌ بِحَيَاةٍ، فَإِذَا مَا تَجَزَّآ صَارَا كَائِنًا مُشَوَّهًا لَا يَمُتُّ بِصِلَةٍ إِلَى الْأَخْلَاقِ.

الْقِيَمُ لَا تَتَجَزَّأُ، وَالْأَخْلَاقُ لَا تَتَبَعَّضُ، لَا بِاعْتِبَارِ الْمَجْمُوعِ وَلَا بِاعْتِبَارِ الْحَالاِتِ، يَعْنِي: تَأَتِي الْفُرْصَةُ السَّانِحَةُ لِلْخِيَانَةِ وَالْمَرْءُ عَلَى خُلُقِ الْوَفَاءِ، فَيُنَحِّيهِ جَانِبًا وَيُوَاقِعُ الْخِيَانَةَ، ثُمَّ يَرْتَدِي لَبُوسَ الْوَفَاءِ!

لَا؛ لَا بِاعْتِبَارِ الْحَالَاتِ وَلَا بِاعْتِبَارِ الْأَزْمَانِ: أَنْ يَكُونَ أُسْبُوعًا وَفِيًّا وَأُسْبُوعًا عَلَى الْغَدْرِ مُقِيمًا، أَنْ يَكُونَ أُسْبُوعًا مُخْلِصًا وَأُسْبُوعًا عَلَى الشِّرْكِ وَالْكُفْرَانِ قَائِمٌ وَدَائِمٌ وَمُقِيمٌ!

لَا تَتَبَعَّضُ لَا عَلَى اعْتِبَارِ الْمَجْمُوعِ وَلَا عَلَى اعْتِبَارِ الْأَزْمَانِ وَالْحَالَاتِ.

فَإِذَا نَظَرْتَ إِلَى سَيِّدِ الْكَائِنَاتِ وَجَدْتَ الْأَخْلَاقَ كُلَّهَا مَجْمُوعَةً بِجَمْعِهَا مِنْ جَمِيعِ أَقْطَارِهَا فِي مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وَمَجَالُ الْعَظَمَةِ فِيهِ جَعَلَتْ أَقْطَابَ الْقَائِمِينَ عَلَى عَظَمَتِهِ بِمُفْرَدِهَا مُنْحَازَةً إِلَيْهِ دَائِرَةً فِي فَلَكِهِ وَحَوْلَهُ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَتَجِدُ عُمَرَ، بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ، مَعَ عُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَطَلْحَةَ، وَالزُّبَيْرِ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَسَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، تَجِدُ الصَّحَابَةَ مِمَّنْ شَهِدَ الْعَقَبَةَ، وَمِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا، وَمِمَّنْ شَهِدَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ، تَجِدُ الصَّحَابَةَ مِمَّن كَانَ سَابِقًا إِلَى دِينِ اللَّـهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِيهِ أَوَّلًا، تَجِدُ الصَّحَابَةَ رِضْوَانُ اللَّـهِ عَلَيْهِمْ تَجِدُ كُلًّا فِيهِ مِنْ مَجَالِ الْعَظَمَةِ مَا قَدْ تَفَرَّدَ بِهِ؛ فَهَذَا أَبُو بَكْرٍ نَمُوذَجٌ قَائِمٌ بِذَاتِهِ، وَهَذَا عُمَرُ نَمُوذَجٌ قَائِمٌ بِذَاتِهِ، وَهَذَا عُثْمَانُ نَمُوذَجٌ قَائِمٌ بِذَاتِهِ، وَهَذَا عَلِيٌّ.. وَهَكَذَا، فِي كُلٍّ مِنْ هَؤُلَاءِ عَظَمَةٌ مُتَفَرِّدَةٌ وَقَعَتْ عَلَى مَا يُوَازِيها لَا مَا يُسَاوِيها، وَلَا مَا يُمَاثِلُهَا، وَلَا مَا يُنَاظِرُهَا فِي رَسُولِ اللَّـهِ، فَاجْتَمَعَ هَذَا كُلُّهُ فِيهِ؛ فَأَيُّ كَمَالٍ؟!

وَالْمَرْءُ يُحَاوِلُ إِذَا وَضَعَ يَدَهُ عَلَى مَوْطِنِ الْخَلَلِ فِيهِ -فِي قَلْبِهِ-، فِي قَلْبِهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَالَ: «إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ» دَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُهْتَمَّ بِالْقَلْبِ فَوْقَ الِاهْتِمَامِ بِالْجَسَدِ: أَنْ يُفَتَّشَ فِيهِ، وَأَنْ يُبْحَثَ فِي أَحْوَالِهِ وَتَقَلُّبَاتِهِ؛ حَتَّى يَسْتَطِيعَ الْإِنْسَانُ أَنْ يَعْلَمَ أَيْنَ الْخَلَلُ، وَحَتَّى يَدْرِيَ مِنْ أَيْنَ يَبْدَأُ الْإِصْلَاحَ فِي الْقَلْبِ الَّذِي تَدَاعَى -أَوْ أَوْشَكَ عَلَى التَّدَاعِي-، فِي الْقَلْبِ الَّذِي تَصَدَّعَ فَشَارَفَ التَّهَالُكَ مُتَهَدِّمًا؛ حَتَّى يَسْتَطِيعَ الْإِنْسَانُ أَنْ يَعْلَمَ أَيْنَ هُوَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ.

النَّبِيُّ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّ ذَلِكَ مَجْمُوعٌ فِيهِ -صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ فَأَيُّ عَظَمَةٍ؟!

لَا يُمْكِنُ أَنْ تَتَصَوَّرَهُ، إِنْ شِئْتَ الْكَمَالَ فِي كُلِّ خَصْلَةٍ مَحْمُودَةٍ عَلَى أَتَمِّ مَا تَكُونُ فِي بَشَرٍ فَهِيَ عَلَى رَسُولِ اللَّـهِ قَائِمَةٌ مَاثِلَةٌ بَائِنَةٌ ظَاهِرَةٌ -بَاِئَنةٌ مِنَ الظُّهُورِ، لَا مِنَ الْبَيْنِ وَالْبُعْدِ وَإِنَّمَا مِنَ الظُّهُورِ؛ فَقَدْ بَانَتْ فِيهِ لَا مِنْهُ وَلَا عَنْهُ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.

إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدُلُّنَا عَلَى عِبَادَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ: إِيمَانٌ بِاللَّـهِ رَبِّ العَالَمِينَ، خُلُوصٌ مِنَ الشِّرْكِ: مِنْ شِرْكِ الْمُعْتَقَدِ، مِنْ شِرْكِ الضَّمِيرِ، مِنْ شِرْكِ الْقَلْبِ، مِنْ شِرْكِ اللِّسَانِ، مِنْ شِرْكِ الْجَوَارِحِ، خُلُوصٌ مِنَ الشِّرْكِ جُمْلَةً ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَإِلَّا فَلَا غُفْرَانَ.

«فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلَّا لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ»، «يَغْفِرُ لِلْمُؤْمِنِينَ»، تَحْقِيقُ الْإِيمَانِ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ تَحْقِيقُ التَّوْحِيدِ، الْخُلُوصُ وَالْبَرَاءَةُ مِنَ الشِّرْكِ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ هُوَ الشَّيْءُ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُعْقَدَ عَلَيْهِ الْخِنْصَرُ أَوَّلَ مَا يُعْقَدُ عِنْدَ عَدِّ الْخِصَالِ وَعِنْدَ السَّيْرِ إِلَى الْكَرِيمِ الْمُتَعَالِ، فَهَذَا أَوَّلًا.

هَذِهِ الْعِبَادَةُ تَسْتَتْبِعُ حَتْمًا طَهَارَةَ الْقَلْبِ مِنَ الْحِقْدِ؛ إِذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْتَمِعَ الْمَاءُ وَالنَّارُ فِي يَدٍ، لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَصَوَّرَ الْمَرْءُ الْمَاءَ وَالنَّارَ قَدِ اجْتَمَعَا فِي يَدٍ، لَا يُمْكِنُ لِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ، وَكَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْتَمِعَ الطُّهْرُ وَالنَّجَاسَةُ فِي مَحَلٍّ، لَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْتَمِعَ النُّورُ وَالظَّلَامُ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ، لَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْتَمِعَ الْحِقْدُ وَالْإِيمَانُ فِي قَلْبٍ، لَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْتَمِعَ التَّوْحِيدُ وَالشِّرْكُ فِي قَلْبٍ أَبَدًا.

«وَيَدَعُ أَهْلَ الْحِقْدِ بِحِقْدِهِمْ حَتَّى يَدَعُوهُ» وَقَدِ اطَّلَعَ اللَّـهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ إِلَى خَلْقِهِ، وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ بِجَانِبٍ وَبِمَبْعَدَةٍ؛ فَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَلْتَفِتَ إِلَى هَذَا الْأَمْرِ، أَنْ يَخْرُجَ مِنْ حَيِّزِ التَّهْرِيجِ، ﴿وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ﴾[ص: 88].

نَعَمْ! ﴿وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ﴾؛ فَالْمَوْتُ أَقْرَبُ لِأَحَدِكُمْ مِنْ شَرَاكِ نَعْلِهِ.

نَعَمْ! إِنَّ الْمَوْتَ قَدْ تَبْقَى لَهُ أَنْفَاسٌ مَعْدُودَةٌ، وَكَمْ مِنْ صَحِيحٍ مَاتَ، وَكَمْ مِنْ عَلِيلٍ بَرَأَ وَشُفِيَ، كَمْ مِنْ صَحِيحٍ هَلَكَ، وَكَمْ مِنْ عَلِيلٍ نَجَا، وَلَا يَعْلَمُ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ إِلَّا اللَّـهُ.

فَاللَّهُمَّ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَيَا أَكْرَمَ الْأَكْرَمِينَ، وَيَا ذَا الْقُوَّةِ الْمَتِينُ، مُصَلِّينَ وَمُسَلِّمِينَ عَلَى سَيِّدِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ: نَسْأَلُكَ -يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ- أَنْ تَشْفِيَنَا، وَأَنْ تَشْفِيَ مَرْضَانَا، وَأَنْ تَشْفِيَ مَرْضَى الْمُسْلِمِينَ.

اللَّهُمَّ عَافِنَا وَعَافِ مَرْضَانَا وَعَافِ مَرْضَى الْمُسْلِمِينَ.

اللَّهُمَّ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ, وَيَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ, وَيَا ذَا الْقُوَّةِ الْمَتِينُ: أَبْرِئْ مَنْ مَرِضَ مِنَّا، وَأَبْرِئْ مَنْ مَرِضَ مِنْ إِخْوَانِنَا، اللَّهُمَّ أَبْرِئْهُ، وَعَافِهِ، وَاعْفُ عَنْهُ -يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ-، اللَّهُمَّ عَافِنَا وَعَافِ مَرْضَى الْمُسْلِمِينَ، عَافِنَا وَعَافِ مَرْضَانَا وَعَافِ مَرْضَى الْمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ عَافِنَا وَعَافِ مَرْضَانَا وَعَافِ مَرْضَى الْمُسْلِمِينَ، وَأَحْسِنْ خِتَامَنَا، أَحْسِنْ خِتَامَنَا، أَحْسِنْ خِتَامَنَا، وَاجْعَلْ آخِرَ كَلَامِنَا مِنَ الدُّنْيَا «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ»؛ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

وَصَلَّى اللَّـهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ.

الفهرس

 

خطبة: بِدع شهر رجب............................................1

جُملة مِن بِدع شهر رجب.........................................30

خطبة: ما صح في ليلة النصف من شعبان......................35

لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، يَغْفِرُ اللهُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلَّا لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ

من خطبة: ((بين الحياة والموت))................................62

 

***


  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان