((حسْنُ الْعِشْرَةِ وَحِفْظُهَا))
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((حُسْنُ الْعِشْرَةِ وَحِفْظُهَا خُلُقٌ فَاضِلٌ نَبِيلٌ))
فَإِنَّ حُسْنَ الْعِشْرَةِ وَحِفْظَهَا مِنَ الْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ وَالْقِيَمِ النَّبِيلَةِ الَّتِي دَعَا إِلَيْهَا دِينُنَا الْحَنِيفُ، وَذَلِكَ دَأْبُ النُّبَلَاءِ الطَّيِّبِينَ الْأَوْفِيَاءِ الصَّادِقِينَ، حَيْثُ يَقُولُ الْحَقُّ -سُبْحَانَهُ-: {وَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195].
((أَمَرَ اللهُ بِالْإِحْسَانِ عُمُومًا فَقَالَ: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، وَهَذَا يَشْمَلُ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْإِحْسَانِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُقَيِّدْهُ بِشَيْءٍ دُونَ شَيْءٍ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الْإِحْسَانُ بِالْمَالِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الْإِحْسَانُ بِالْجَاهِ بِالشَّفَاعَاتِ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْإِحْسَانُ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَتَعْلِيمِ الْعِلْمِ النَّافِعِ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ قَضَاءُ حَوَائِجِ النَّاسِ؛ مِنْ تَفْرِيجِ كُرُبَاتِهِمْ، وَإِزَالَةِ شِدَّاتِهِمْ، وَعِيَادَةِ مَرْضَاهُمْ، وَتَشْيِيعِ جَنَائِزِهِمْ، وَإِرْشَادِ ضَالِّهِمْ، وَإِعَانَةِ مَنْ يَعْمَلُ عَمَلًا، وَالْعَمَلِ لِمَنْ لَا يُحْسِنُ الْعَمَلَ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مِنَ الْإِحْسَانِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وَيَدْخُلُ فِي الْإِحْسَانِ -أَيْضًا- الْإِحْسَانُ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ -تَعَالَى-، وَهُوَ كَمَا ذَكَرَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ)).
فَمَنِ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ كَانَ مِنَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}، وَكَانَ اللَّهُ مَعَهُ يُسَدِّدُهُ وَيُرْشِدُهُ وَيُعِينُهُ عَلَى كُلِّ أُمُورِهِ)).
وَيَقُولُ -سُبْحَانَهُ-: {وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237].
((رَغَّبَ اللهُ فِي الْعَفْوِ، وَأَنَّ مَنْ عَفَا كَانَ أَقْرَبَ لِتَقْوَاهُ؛ لِكَوْنِهِ إِحْسَانًا مُوجِبًا لِشَرْحِ الصَّدْرِ، وَلِكَوْنِ الْإِنْسَانِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُهْمِلَ نَفْسَهُ مِنَ الْإِحْسَانِ وَالْمَعْرُوفِ، وَيَنْسَى الْفَضْلَ الَّذِي هُوَ أَعْلَى دَرَجَاتِ الْمُعَامَلَةِ؛ لِأَنَّ مُعَامَلَةَ النَّاسِ فِيمَا بَيْنَهُمْ عَلَى دَرَجَتَيْنِ: إِمَّا عَدْلٌ وَإِنْصَافٌ وَاجِبٌ، وَهُوَ: أَخْذُ الْوَاجِبِ، وَإِعْطَاءُ الْوَاجِبِ، وَإِمَّا فَضْلٌ وَإِحْسَانٌ، وَهُوَ إِعْطَاءُ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَالتَّسَامُحُ فِي الْحُقُوقِ، وَالْغَضُّ مِمَّا فِي النَّفْسِ، فَلَا يَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَنْسَى هَذِهِ الدَّرَجَةَ، وَلَوْ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، وَخُصُوصًا لِمَنْ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ مُعَامَلَةٌ أَوْ مُخَالَطَةٌ، فَإِنَّ اللَّهَ مُجَازٍ الْمُحْسِنِينَ بِالْفَضْلِ وَالْكَرَمِ)).
وَيَقُولُ -جَلَّ وَعَلَا-: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 60].
((هَلْ جَزَاءُ مَنْ أَحْسَنَ فِي عِبَادَةِ الْخَالِقِ وَنَفْعِ عَبِيدِهِ إِلَّا أَنْ يُحْسَنَ إِلَيْهِ بِالثَّوَابِ الْجَزِيلِ، وَالْفَوْزِ الْكَبِيرِ، وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، وَالْعَيْشِ السَّلِيمِ)).
وَيَقُولُ نَبِيُّنَا ﷺ: ((وَمَنْ أَتَى إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُونَهُ فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَرَوْا أَنَّكُمْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ)).
عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ مَكْتُوبٌ فِي الإِنْجِيلِ: لَا فَظٌّ، وَلَا غَلِيظٌ، وَلَا صَخَّابٌ بِالْأَسْوَاقِ، وَلَا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ مِثْلَهَا، بَلْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ)). أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ، وَابْنُ عَسَاكِرَ، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ)).
وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا».
فِي الصَّفْحِ وَالْعَفْوِ وَالْحِلْمِ مِنَ الْحَلَاوَةِ وَالطُّمَأْنِينَةِ وَالسَّكِينَةِ، وَشَرَفِ النَّفْسِ، وَعِزِّهَا وَرِفْعَتِهَا عَنْ تَشَفِّيهَا بِالِانْتِقَامِ مَا لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهُ فِي الْمُقَابَلَةِ وَالِانْتِقَامِ.
وَقَالَ اللهُ -تَعَالَى-: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199].
فَإِحْسَانُ التَّعَامُلِ مَعَ الْخَلْقِ هُوَ امْتِثَالٌ لِأَمْرِ الرَّبِّ، وَامْتِثَالٌ لِأَمْرِ النَّبِيِّ الْأَكْرَمِ ﷺ: «وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ».
((خَالِقِ النَّاسَ)): مِنَ الْمُفَاعَلَةِ بَيْنَكَ وَبَيْنَ النَّاسِ؛ يَعْنِي: فَلْتَكُنْ أَخْلَاقُكَ الْمَبْذُولَةُ إِلَيْهِمْ حَسَنَةً.
((خَالِقِ النَّاسَ)): فَهُوَ فِعْلُ أَمْرٍ، «وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ».
فَهُوَ امْتِثَالٌ لِأَمْرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَامْتِثَالٌ لِأَمْرِ النَّبِيِّ الْأَمِينِ ﷺ.
وَيَجْعَلُهُ النَّبِيُّ ﷺ مُؤَدِّيًا إِلَى مَبْلَغٍ لَا يُرْتَقَى مُرْتَقَاهُ إِلَّا بِشِقِّ النَّفْسِ وَبَذْلِ الْمَجْهُودِ؛ «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَبْلُغُ بِحُسْنِ الْخُلُقِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ».
وَقَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159].
«أَيْ: بِرَحْمَةِ اللهِ لَكَ وَلِأَصْحَابِكَ؛ مَنَّ اللهُ عَلَيْكَ أَنْ ألَنْتَ لَهُمْ جَانِبَكَ، وَخَفَضْتَ لَهُمْ جَنَاحَكَ، وَتَرَقَّقْتَ عَلَيْهِمْ، وَحَسَّنْتَ لَهُمْ خُلُقَكَ، فَاجْتَمَعُوا عَلَيْكَ وَأَحَبُّوكَ، وَامْتَثَلُوا أَمْرَكَ.
{وَلَوْ كُنتَ فَظًّا}؛ أَيْ: سَيِّءَ الْخُلُقِ، {غَلِيظَ الْقَلْبِ}؛ أَيْ: قَاسِيَهُ، {لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}؛ لِأَنَّ هَذَا يُنَفِّرُهُمْ وَيُبَغِّضُهُمْ لِمَنْ قَامَ بِهِ هَذَا الْخُلُقُ السَّيِّءُ.
فَالْأَخْلَاقُ الْحَسَنَةُ مِنَ الْمُقَدَّمِ فِي الدِّينِ تَجْذِبُ النَّاسَ إِلَى دِينِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَتُرَغِّبُهُمْ فِيهِ، مَعَ مَا لِصَاحِبِهِ مِنَ الْمَدْحِ وَالثَّوَابِ الْخَاصِّ.
وَالْأَخْلَاقُ السَّيِّئَةُ مِنَ الْمُقَدَّمِ فِي الدِّينِ تُنَفِّرُ النَّاسَ عَنِ الدِّينِ، وَتُبَغِّضُهُمْ إِلَيْهِ، مَعَ مَا لِصَاحِبِهَا مِنَ الذَّمِّ وَالْعِقَابِ الْخَاصِّ، فَهَذَا الرَّسُولُ الْمَعْصُومُ يَقُولُ اللهُ لَهُ مَا يَقُولُ، فَكَيْفَ بِغَيْرِهِ؟!!
أَلَيْسَ مِنْ أَوْجَبِ الْوَاجِبَاتِ، وَأَهَمِّ الْمُهِمَّاتِ الِاقْتِدَاءُ بِأَخْلَاقِهِ الْكَرِيمَةِ، وَمُعَامَلَةُ النَّاسِ بِمَا يُعَامِلُهُمْ بِهِ ﷺ؛ مِنَ اللِّينِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ وَالتَّأْلِيفِ؛ امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللهِ، وَجَذْبًا لِعِبَادِ اللهِ لِدِينِ اللهِ؟!
ثُمَّ أَمَرَهُ اللهُ -تَعَالَى- بِأَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ مَا صَدَرَ مِنْهُمْ مِنَ التَّقْصِيرِ فِي حَقِّهِ ﷺ، وَيَسْتَغْفِرَ لَهُمْ مِنَ التَّقْصِيرِ فِي حَقِّ اللهِ؛ فَيَجْمَعَ بَيْنَ الْعَفْوِ وَالْإِحْسَانِ.
{وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}؛ أَيْ: فِي الْأُمُورِ الَّتِي تَحْتَاجُ إِلَى اسْتِشَارَةٍ وَنَظَرٍ وَفِكْرٍ؛ فَإِنَّ فِي الِاسْتِشَارَةِ مِنَ الْفَوَائِدِ وَالْمَصَالِحِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ مَا لَا يُمْكِنُ حَصْرُهُ» .
وَقَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنفَالِ قُلِ الْأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [الأنفال: 1].
«وَهَذِهِ الْآيَاتُ -يَعْنِي هَذِهِ الْآيَةَ وَمَا تَلَاهَا فِي صَدْرِ السُّورَةِ- إِنَّمَا نَزَلَتْ في قِصَّةِ ((بَدْرٍ)) فِي أَوَّلِ غَنِيمَةٍ كَبِيرَةٍ غَنِمَهَا الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَحَصَلَ بَيْنَ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ فِيهَا نِزَاعٌ، فَسَأَلُوا رَسُولَ اللهِ ﷺ عَنْهَا، فَأَنْزَلَ اللهُ -تَعَالَى- قَوْلَهُ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنفَالِ}؛ كَيْفَ تُقْسَمُ، وَعَلَى مَنْ تُقْسَمُ؟
{قُلِ الْأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ}؛ قُل لَهُمْ: الْأَنْفَالُ لِلهِ وَرَسُولِهِ، يَضَعَانِهَا حَيْثُ شَاءَا، فَلَا اعْتِرَاضَ لَكُمْ عَلَى حُكْمِ اللهِ وَرَسُولِهِ، بَلْ عَلَيْكُمْ إِذَا حَكَمَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَنْ تَرْضَوْا بِحُكْمِهِمَا، وَتُسَلِّمُوا الْأَمْرَ لَهُمَا، وَذَلِكَ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ}؛ بِامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ، وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ.
{وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ}: أَصْلِحُوا مَا بَيْنَكُمْ مِنَ التَّشَاحُنِ، وَالتَّقَاطُعِ، وَالتَّدَابُرِ؛ بِالتَّوَادُدِ، وَالتَّحَابِّ، وَالتَّوَاصُلِ، فَبِذَلِكَ تَجْتَمِعُ كَلِمَتُكُمْ، وَيَزُولُ مَا يَحْصُلُ -بِسَبَبِ التَّقَاطُعِ- مِنَ التَّخَاصُمِ وَالتَّشَاجُرِ وَالتَّنَازُعِ.
وَيَدْخُلُ فِي إِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ: تَحْسِينُ الْخُلُقِ لَهُمْ، وَالْعَفْوُ عَنِ الْمُسِيئِينَ مِنْهُمْ، فَإِنَّهُ -بِذَلِكَ- يَزُولُ كَثِيرٌ مِمَّا يَكُونُ فِي الْقُلُوبِ مِنَ الْبَغْضَاءِ وَالتَّدَابُرِ.
وَالْأَمْرُ الْجَامِعُ لِذَلِكَ قَوْلُهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}، فَإِنَّ الْإِيمَانَ يَدْعُو إِلَى طَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ، كَمَا أَنَّ مَنْ لَمْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَلَيْسَ بِمُؤْمِنٍ، وَمَنْ نَقَصَتْ طَاعَتُهُ لِلهِ وَرَسُولِهِ؛ فَذَلِكَ لِنَقْصٍ فِي إِيمَانِهِ» .
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا} [الإسراء: 53].
«وَهَذَا مِنْ لُطْفِهِ -تَعَالَى- بِعِبَادِهِ حَيْثُ أَمَرَهُمْ بِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ وَالْأَقْوَالِ الْمُوجِبَةِ لِلسَّعَادَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
فَقَالَ -جَلَّ مِنْ قَائِلٍ-: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}؛ وَهَذَا أَمْرٌ بِكُلِّ كَلَامٍ يُقَرِّبُ إِلَى اللهِ مِنْ قِرَاءَةٍ وَذِكْرٍ وَعِلْمٍ وَأَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ وَنَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ، وَكَلَامٍ حَسَنٍ لَطِيفٍ مَعَ الْخَلْقِ عَلَى اخْتِلَافِ مَرَاتِبِهِمْ وَمَنَازِلِهِمْ، وَأَنَّهُ إِذَا دَارَ الْأَمْرُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ حَسَنَيْنِ؛ فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِإِيثَارِ أَحْسَنِهِمَا إِنْ لَمْ يُمْكِنِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا.
وَالْقَوْلُ الْحَسَنُ دَاعٍ لِكُلِّ خُلُقٍ جَمِيلٍ وَعَمَلٍ صَالِحٍ، فَإِنَّ مَنْ مَلَكَ لِسَانَهُ مَلَكَ جَمِيعَ أَمْرِهِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ}؛ أَيْ: يَسْعَى بَيْنَ الْعِبَادِ بِمَا يُفْسِدُ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَدُنْيَاهُمْ، فَدَوَاءُ هَذَا أَلَّا يُطِيعُوهُ فِي الْأَقْوَالِ غَيْرِ الْحَسَنَةِ الَّتِي يَدْعُوهُمْ إِلَيْهَا، وَأَنْ يَلِينُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ؛ لِيَنْقَمِعَ الشَّيْطَانُ الَّذِي يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ؛ فَإِنَّهُ عَدُوُّهُمُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يُحَارِبوهُ، فَإِنَّهُ يَدْعُوهُمْ {لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ}.
وَأَمَّا إِخْوَانُهُمُ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا بَيْنَهُمْ فَإِنَّهُمْ.. وَإِنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَسَعَى فِي الْعَدَاوَةِ؛ فَإِنَّ الْحَزْمَ كُلَّ الْحَزْمِ السَّعْيُ فِي صَدِّ عَدُوِّهِمْ، وَأَنْ يَقْمَعُوا أَنْفُسَهُمُ الْأَمَّارَةَ بِالسُّوءِ الَّتِي يَدْخُلُ الشَّيْطَانُ مِنْ قِبَلِهَا، فَبِذَلِكَ يُطِيعُونَ رَبَّهُمْ، ويَسْتَقِيمُ أَمْرُهُمْ، ويُهْدَوْنَ لِرُشْدِهِمْ».
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} [المؤمنون: 96].
«وَهَذَا مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ الَّتِي أَمَرَ اللهُ رَسُولَهُ بِهَا؛ فَقَالَ: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ}؛ أَيْ: إِذَا أَسَاءَ إِلَيْكَ أَعْدَاؤُكَ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ فَلَا تُقَابِلْهُمْ بِالْإِسَاءَةِ، مَعَ أَنَّهُ يَجُوزُ مُعَاقَبَةُ الْمُسِيءِ بِمِثْلِ إسَاءَتِهِ، وَلَكِنِ ادْفَعْ إِسَاءَتَهُمْ إِلَيْكَ بِالْإِحْسَانِ مِنْكَ إِلَيْهِمْ، فَإِنَّ ذَلِكَ فَضْلٌ مِنْكَ عَلَى الْمُسِيءِ.
وَمِنْ مَصَالِحِ ذَلِكَ أَنَّهُ تَخِفُّ الْإِسَاءَةُ عَنْكَ فِي الْحَالِ وَفِي الِاسْتِقْبَالِ، وَأَنَّهُ أَدْعَى لِجَلْبِ الْمُسِيءِ إِلَى الْحَقِّ، وَأَقْرَبُ إِلَى نَدَمِهِ وَأَسَفِهِ، وَرُجُوعِهِ بِالتَّوْبَةِ عَمَّا فَعَلَ، وَيَتَّصِفُ الْعَافِي بِصِفَةِ الْإِحْسَانِ، وَيَقْهَرُ بِذَلِكَ عَدُوَّهُ الشَّيْطَانَ، وَيَسْتَوْجِبُ الثَّوَابَ مِنَ الرَّبِّ.
قَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}.
وَقَالَ تَعَالَى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا}؛ أَيْ: وَمَا يُوَفَّقُ لِهَذَا الْخُلُقِ الْجَمِيلِ {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}.
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 34-35].
«قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ}؛ أَيْ: لَا يَسْتَوِي فِعْلُ الْحَسَنَاتِ وَالطَّاعَاتِ لِأَجْلِ رِضَا رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ، وَلَا فِعْلُ السَّيِّئَاتِ وَالْمَعَاصِي الَّتِي تُسْخِطُهُ وَلَا تُرْضِيهِ.
وَلَا يَسْتَوِي الْإِحْسَانُ إِلَى الْخَلْقِ، وَلَا الْإِسَاءَةُ إِلَيْهِمْ، لَا فِي ذَاتِهَا، وَلَا فِي وَصْفِهَا، وَلَا فِي جَزَائِهَا: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ}.
ثُمَّ أَمَرَ بِإِحْسَانٍ خَاصٍّ، لَهُ مَوْقِعٌ كَبِيرٌ، وَهُوَ الْإِحْسَانُ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ؛ فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}؛ أَيْ: فَإِذَا أَسَاءَ إِلَيْكَ مُسِيءٌ مِنَ الْخَلْقِ -خُصُوصًا مَنْ لَهُ حَقٌّ كَبِيرٌ عَلَيْكَ؛ كَالْأَقَارِبِ، وَالْأَصْحَابِ، وَنَحْوِهِمْ- إِسَاءَةً بِالْقَوْلِ أَوْ بِالْفِعْلِ، فَقَابِلْهُ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ، فَإِنْ قَطَعَكَ فَصِلْهُ، وَإِنْ ظَلَمَكَ فَاعْفُ عَنْهُ، وَإِنْ تَكَلَّمَ فِيكَ غَائِبًا أَوْ حَاضِرًا فَلَا تُقَابِلْهُ، بَلِ اعْفُ عَنْهُ، وَعَامِلْهُ بِالْقَوْلِ اللَّيِّنِ، وَإِنْ هَجَرَكَ وَتَرَكَ خِطَابَكَ فَطَيِّبْ لَهُ كَلَامَكَ، وَابْذُلْ لَهُ سَلَامَكَ.
فَإِذَا قَابَلْتَ الْإِسَاءَةَ بِالْإِحْسَانِ؛ حَصلَ فَائِدَةٌ عَظِيمَةٌ: {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}؛ أَيْ: كَأَنَّهُ قَرِيبٌ شَفِيقٌ.
{وَمَا يُلَقَّاهَا}؛ أَيْ: وَمَا يُوَفَّقُ لِهَذِهِ الْخَصْلَةِ الْحَمِيدَةِ {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا} نُفُوسَهُمْ عَلَى مَا تَكْرَهُ، وَأَجْبَرُوهَا عَلَى مَا يُحِبُّهُ اللهُ، فَإِنَّ النُّفُوسَ مَجْبُولَةٌ عَلَى مُقَابَلَةِ الْمُسِيءِ بِإِسَاءَتِهِ، وَعَدَمِ الْعَفْوِ عَنْهُ، فَكَيْفَ بِالْإِحْسَانِ؟!!
فَإِذَا صَبَّرَ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ، وَامْتَثَلَ أَمْرَ رَبِّهِ، وَعَرَفَ جَزِيلَ الثَّوَابِ، وَعَلِمَ أَنَّ مُقَابَلَتَهُ لِلْمُسِيءِ بِجِنْسِ عَمَلِهِ لَا يُفِيدُهُ شَيْئًا، وَلَا يَزِيدُ الْعَدَاوَةَ إِلَّا شِدَّةً، وَأَنَّ إِحْسَانَهُ إِلَيْهِ لَيْسَ بِوَاضِعٍ قَدْرَهُ، بَلْ مَنْ تَوَاضَعَ لِلهِ رَفَعَهُ، وَهَانَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ، وَفَعَلَ ذَلِكَ مُتَلَذِّذًا مُسْتَحْلِيًا لَهُ.
{وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}؛ لِكَوْنِهَا مِنْ خِصَالِ خَوَاصِّ الْخَلْقِ، الَّتِي يَنَالُ بِهَا الْعَبْدُ الرِّفْعَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، الَّتِي هِيَ مِنْ أَكْبَرِ خِصَالِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ».
إِنَّ اللهَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- جَعَلَ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضَهُمْ لِبَعْضٍ رَحْمَةً وَعَوْنًا، وَلِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى سَائِرُهُ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ)).
وَقَالَ ﷺ: ((الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ الْمَرْصُوصِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا)).
وَقَالَ ﷺ: ((الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، مَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ)). قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((السَّعَادَةُ فِي مُعَامَلَةِ الْخَلْقِ أَنْ تُعَامِلَهُمْ للهِ، فَتَرْجُو اللهَ فِيهِمْ، وَلَا تَرْجُوهُمْ فِي اللهِ، وَتَخَافُهُ فِيهِمْ، وَلَا تَخَافُهُمْ فِي اللهِ، وَتُحْسِنُ إِلَيْهِمْ رَجَاءَ ثَوَابِ اللهِ، لَا لِمُكَافَئَتِهِمْ، وَتَكُفُّ عَنْ ظُلْمِهِمْ خَوْفًا مِنَ اللهِ، لَا مِنْهُمْ)).
وَقَالَ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَإِذَا أَحْسَنَ إِلَى النَّاسِ فَإِنَّمَا يُحْسِنُ إِلَيْهِمُ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى، أَلَّا يَطْلُبَ مِنْهُمْ جَزَاءً إِذَا أَحْسَنَ إِلَيْهِمْ؛ فَاللهُ -جَلَّ جَلَالُهُ- هُوَ الَّذِي مَنَّ عَلَيْهِ بِذَلِكَ.
يَعْلَمُ أَنَّ اللهَ قَدْ مَنَّ عَلَيْهِ بِأَنْ جَعَلَهُ مُحْسِنًا، فَيَرَى أَنَّ عَمَلَهُ للهِ وَبِاللهِ، فَلَا يَطْلُبُ مِمَّنْ أَحْسَنَ إِلَيْهِ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا، وَلَا يَمُنُّ عَلَيْهِ بِذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْمَانُّ عَلَيْهِ؛ إِذِ اسْتَعْمَلَهُ فِي الْإِحْسَانِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَشْكُرَ اللهَ، إِذْ يَسَّرَهُ لِلْيُسْرَى)).
قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((مُلَاطَفَةُ الْخَلْقِ وَهِيَ مُعَامَلَتُهُمْ بِمَا يُحِبُّ أَنْ يُعَامِلُوهُ بِهِ مِنَ اللُّطْفِ، وَلَا يُعَامِلُهُمْ بِالْعُنْفِ وَالشِّدَّةِ وَالْغِلْظَةِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يُنَفِّرُهُمْ عَنْهُ، وَيُغْرِيهِمْ بِهِ، وَيُفْسِدُ عَلَيْهِ قَلْبَهُ وَحَالَهُ مَعَ اللهِ وَوَقْتَهُ، فَلَيْسَ لِلْقَلْبِ أَنْفَعُ مِنْ مُعَامَلَةِ النَّاسِ بِاللُّطْفِ؛ فَإِنَّ مُعَامَلَةَ النَّاسِ بِذَلِكَ: إِمَّا أَجْنَبِيٌّ فَتَكْسِبُ مَوَدَّتَهُ وَمَحَبَّتَهُ، وَإِمَّا صَاحِبٌ وَحَبِيبٌ فَتَسْتَدِيمُ صُحْبَتَهُ وَمَوَدَّتَهُ، وَإِمَّا عَدُوٌّ وَمُبْغِضٌ فَتُطْفِئُ بِلُطْفِكَ جَمْرَتَهُ، وَتَسْتَكْفِي شَرَّهُ، وَيَكُونُ احْتِمَالُكَ لِمَضَضِ لُطْفِكَ بِهِ دُونَ احْتِمَالِكَ لِضَرَرِ مَا يَنَالُكَ مِنَ الْغِلْظَةِ عَلَيْهِ وَالْعُنْفِ بِهِ)).
((مَظَاهِرُ حُسْنِ الْعِشْرَةِ))
إِنَّ مِنَ الْأَخْلَاقِ الْحَسَنَةِ الَّتِي يَتَأَكَّدُ عَلَى الْمُسْلِمِ التَّحَلِّي بِهَا حُسْنَ الْعِشْرَةِ؛ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَحَرَّى الِالْتِزَامَ بِهِ، وَأَنْ يُدِيمَ النَّظَرَ فِي وَاقِعِ عِشْرَتِهِ لِلنَّاسِ، فَمَا ظَهَرَ لَهُ فِيهِ مِنْ تَقْصِيرٍ تَدَارَكَهُ بِالْإِصْلَاحِ، وَمَا ظَهَرَ لَهُ فِيهِ مِنْ سَدَادٍ حَمِدَ اللهَ عَلَيْهِ وَأَدَامَهُ، وَإِنَّ لِحُسْنِ الْعِشْرَةِ مَظَاهِرَ جَلِيَّةً وَمَعَالِمَ وَاضِحَةً، وَمِنْهَا:
-أَنْ يُحِبَّ لَهُمْ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ، وَصِدْقُ الْمُرُوءَةِ، وَصَفَاءُ الْمَحَبَّةِ؛ فَإِنَّ الْعِشْرَةَ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِهِمَا، وَإِظْهَارُ الْفَرَحِ بِمَا رُزِقَ مِنْ عِشْرَتِهِمْ وَأُخُوَّتِهِمْ؛ فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ)).
وَقَالَ ﷺ: ((وَاللهِ لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَفَلَا أُخْبِرُكُمْ بِشَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَينَكُمْ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).
-مِنْ مَظَاهِرِ حُسْنِ الْعِشْرَةِ مَعَ النَّاسِ: الْعَدْلُ مَعَهُمْ وَإِنْ كَانَ يُبْغِضُهُمْ، قَالَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8].
((أَيْ: لَا يَحْمِلَنَّكُمْ بُغْضُ قَوْمٍ عَلَى تَرْكِ الْعَدْلِ فِيهِمْ، بَلِ اسْتَعْمِلُوا الْعَدْلَ فِي كُلِّ أَحَدٍ؛ صَدِيقًا كَانَ أَوْ عَدُوًّا; وَلِهَذَا قَالَ: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} أَيْ: عَدْلُكُمْ أَقْرَبُ إِلَى التَّقْوَى مِنْ تَرْكِهِ)).
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((أَفَاءَ اللهُ خَيْبَرَ عَلَى رَسُولِه، فَأَقَرَّهُمْ رَسُولُ اللهِ ﷺ وَجَعَلَهَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، فَبَعَثَ عَبْدَ اللهِ بْنَ رَوَاحَةَ فَخَرَصَهَا عَلَيْهِمْ، ثُمَّ قَالَ: ((يَا مَعْشَرَ يَهُودَ! أَنْتُمْ أَبْغَضُ الْخَلْقِ إِلَيَّ، قَتَلْتُمْ أَنْبِيَاءَ اللهِ، وَكَذَبْتُمْ عَلَى اللهِ، وَلَيْسَ يَحْمِلُنِي بُغْضِي إِيَّاكُمْ أَنْ أَحِيفَ عَلَيْكُمْ، قَدْ خَرَصْتُ عِشْرِينَ أَلْفَ وَسْقٍ مِنْ تَمْرٍ، فَإِنْ شِئْتُم فَلَكُمْ، وَإِنْ أَبَيْتُمْ فَلِي)).
قَالُوا: ((بِهَذَا قَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، قَدْ أَخَذْنَاهَا)).
قَالَ: ((فَاخْرُجُوا عَنَّا)).
-وَمِنْ حُسْنِ الْعِشْرَةِ: الصَّفْحُ عَنْ عَثَرَاتِ الْإِخْوَانِ، وَتَرْكُ تَأْنِيبِهِمْ عَلَيْهَا؛ فَإِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- عَفُوٌّ يُحِبُّ الْعَفْوَ مِنْ عِبَادِهِ؛ فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- عَفُوٌّ يُحِبُّ الْعَفْوَ، {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النور: 22])). قِطْعَةٌ مِنْ حَدِيثٍ رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَحَسَّنَهُ بِشَوَاهِدِهِ الْأَلْبَانِيُّ كَمَا فِي ((السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ)).
قَالَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40]، يَجْزِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا وَثَوَابًا كَثِيرًا.
وَفِي جَعْلِ أَجْرِ الْعَافِي عَلَى اللهِ مَا يُهَيِّجُ عَلَى الْعَفْوِ، وَأَنْ يُعَامِلَ الْعَبْدُ الْخَلْقَ بِمَا يُحِبُّ أَنْ يُعَامِلَهُ اللهُ بِهِ، كَمَا يُحِبُّ أَنْ يَعْفُوَ اللهُ عَنْهُ فَلْيَعْفُ عَنْهُمْ، وَكَمَا يُحِبُّ أَنْ يُسَامِحَهُ اللهُ فَلْيُسَامِحْهُمْ؛ فَإِنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ.
وَمِنْهَا: مُلَازَمَةُ الْحَيَاءِ فِي كُلِّ حَالٍ؛ لِقَوْلِهِ ﷺ: «الْحَيَاءُ مِنَ الْإِيمَانِ».
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ -أَوْ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ- شُعْبَةً، أَفْضَلُهَا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ». وَالْحَدِيثُ فِي «الصَّحِيحَيْنِ».
«الشُّعْبَةُ»: الْقِطْعَةُ مِنَ الشَّيْءِ، أَوِ الْخَصْلَةُ أَوِ الْجُزْءُ مِنَ الشَّيْءِ.
«وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ»؛ فَالْحَيَاءُ: خُلُقٌ يَبْعَثُ عَلَى اجْتِنَابِ الْقَبِيحِ، وَيَمْنَعُ صَاحِبَهُ مِنَ التَّقْصِيرِ فِي حَقِّ ذِي الْحَقِّ.
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «مَا كَانَ الْحَيَاءُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلَا كَانَ الْفُحْشُ فِي شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ». الْحَدِيثُ صَحِيحٌ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَه.
«زَانَهُ»؛ يَعْنِي: جَمَّلَهُ، وَجَعَلَهُ كَامِلًا، وَحَسَّنَهُ.
«إِلَّا زَانَهُ»: إِلَّا زَيَّنَهُ؛ وذَلِكَ لِأَنَّ الْحَيَاءَ يَدَعُ صَاحِبُهُ بِهِ مَا يُلَامُ عَلَى فِعْلِهِ، فَلَا يُلَابِسُ الْمَعَايِبَ، فَإِذَا نَظَرَ الْإِنْسَانُ إِلَى حَقِيقَةِ حَيَائِهِ مِنَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ تَلَذَّذَ بِزِينَةِ هَذِهِ الصِّلَةِ.
وَإِذَا نَظَرَ إِلَى حَقِيقَةِ الْحَيَاءِ مِنْ أَهْلِهِ وَإِخْوَانِهِ؛ لَاسْتَمْتَعَ بِزِينَةِ تِلْكَ الْعَلَاقَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ هَذَا؛ فَهُنَالِكَ خَلَلٌ فِي الْحَيَاءِ، فَلْيُبَادِرِ الْمَرْءُ إِلَى إِصْلَاحِهِ.
وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «الْحَيَاءُ لَا يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ».
فَقَالَ بُشَيْرُ بْنُ كَعْبٍ: ((مَكْتُوبٌ فِي الْحِكْمَةِ: إِنَّ مِنَ الْحَيَاءِ وَقَارًا، إِنَّ مِنَ الْحَيَاءِ سَكِينَةً)).
فَقَالَ لَهُ عِمْرَانُ: ((أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَتُحَدِّثُنِي عَنْ صَحِيفَتِكَ؟!!)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
فَهَذَا حَثٌّ عَلَى التَّخَلُّقِ بِخُلُقِ الْحَيَاءِ، وَأَنَّ فِيهِ الْخَيْرَ كُلَّ الْخَيْرِ لِلْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ.
-وَمِنْهَا: بَشَاشَةُ الْوَجْهِ، وَحُسْنُ الْكَلَامِ، وَسَعَةُ الْقَلْبِ؛ فَعَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83]..
وَمِنَ الْقَوْلِ الْحَسَنِ أَمْرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهْيُهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَتَعْلِيمُهُمُ الْعِلْمَ، وَبَذْلُ السَّلَامِ، وَالْبَشَاشَةُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ كَلَامٍ طَيِّبٍ.
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: «قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾؛ أَيْ: كَلِّمُوهُمْ طَيِّبًا، وَلِينُوا لَهُمْ جَانِبًا، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ بِالْمَعْرُوفِ، كَمَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾.
فَالْحَسَنُ مِنَ الْقَوْلِ: يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيَحْلُمُ وَيَعْفُو وَيَصْفَحُ، وَيَقُولُ لِلنَّاسِ حُسْنًا كَمَا قَالَ اللهُ، وَهُوَ كُلُّ خُلُقٍ حَسَنٍ رَضِيَهُ اللهُ».
وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ الْقَوْلَ الطَّيِّبَ الْحَسَنَ لَا يَذْهَبُ سُدًى، وَلَا يَضِيعُ بَدَدًا، بَلْ صَاحِبُهُ مَأْجُورٌ عَلَيْهِ مُثَابٌ عَلَى قَوْلِهِ؛ فَفِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: «وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ».
-وَمِنْ حُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ: بَسْطُ الْيَدِ بِالْخَيْرِ وَالْفَضْلِ؛ فَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ -فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي ((جَامِعِهِ))، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ-: «إِنَّ اللهَ كَرِيمٌ يُحِبُّ الْكُرَمَاءَ، جَوَادٌ يُحِبُّ الْجَوَدَةَ، يُحِبُّ مَعَالِيَ الْأُمُورِ، وَيَكْرَهُ سَفْسَافَهَا» .
فَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هُوَ الْكَرِيمُ وَهُوَ الْجَوَادُ، وَيُحِبُّ الْكَرَمَ وَأَهْلَهُ، وَيُحِبُّ الْجُودَ وَأَهْلَهُ، وَيُحِبُّ مَعَالِيَ الْأُمُورِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْكَرَمَ وَالْجُودَ مِنْ مَعَالِي الْأُمُورِ.
وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ فِي حَالَاتِهِ جَمِيعِهَا أَجْوَدَ الْخَلْقِ، لَا يَرُدُّ سَائِلًا، وَيُعْطِي عَطَاءَ مَنْ لَا يَخْشَى الْفَقْرَ, كَمَا فِي «الصَّحِيحِ»: ((أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ ﷺ غَنَمًا فِي شِعْبٍ بَيْنَ جَبَلَيْنِ)).
فَأَعْطَاهُ الرَّسُولُ ﷺ إِيَّاهَا جَمِيعَهَا.
فَعَادَ الرَّجُلُ إِلَى قَوْمِهِ يَقُولُ: ((إِنَّ مُحَمَّدًا يُعْطِي عَطَاءً لَا يَخْشَى الْفَقْرَ)).
يُعْطِي النَّبِيُّ ﷺ عَطَاءً بِلَا حُدُودٍ، وَهُوَ يُعْطِي عَطَاءَ مَنْ لَا يَخْشَى الْفَقْرَ.
وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَتَأَلَّفُ بِالْعَطَاءِ وَبِالْبَذْلِ قُلُوبَ أَقْوَامٍ لَا تُقَادُ إِلَّا بِزِمَامِ الْعَطَاءِ، وَلَا تَنْقَادُ إِلَّا لَه.
كَانَ النَّبِيُّ ﷺ أَجْوَدَ النَّاسِ, وَأَكْرَمَ النَّاسِ, وَأَحْسَنَ النَّاسِ, وَأَجْمَلَ النَّاسِ.
-وَمِنْهَا: كَظْمُ الْغَيْظِ، قَالَ تَعَالَى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران: 134].
((أَيْ: إِذَا ثَارَ بِهِمُ الْغَيْظُ كَظَمُوهُ بِمَعْنَى: كَتَمُوهُ فَلَمْ يُعْمِلُوهُ، وَعَفَوْا مَعَ ذَلِكَ عَمَّنْ أَسَاءَ إِلَيْهِمْ)).
-وَمِنْ حُسْنِ الْعِشْرَةِ: تَرْكُ الْكِبْرِ، قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان: 18].
(({وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ}: لَا تُعْرِضْ بِوَجْهِكَ عَنِ النَّاسِ إِذَا كَلَّمْتَهُمْ أَوْ كَلَّمُوكَ؛ احْتِقَارًا مِنْكَ لَهُمْ وَاسْتِكْبَارًا عَلَيْهِمْ، وَلَكِنْ أَلِنْ جَانِبَكَ، وَابْسُطْ وَجْهَكَ إِلَيْهِمْ.
{وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} أَيْ: جَذْلًا مُتَكَبِّرًا جَبَّارًا عَنِيدًا، لَا تَفْعَلْ ذَلِكَ يُبْغِضُكَ اللهُ; وَلِهَذَا قَالَ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} أَيْ: مُخْتَالٍ مُعْجَبٍ فِي نَفْسِهِ، فَخُورٍ عَلَى غَيْرِهِ)).
وَقَالَ تَعَالَى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر: 88].
((أَلِنْ لَهُمْ جَانِبَكَ، وَحَسِّنْ لَهُمْ خُلُقَكَ؛ مَحَبَّةً وَإِكْرَامًا وَتَوَدُّدًا)).
وَعَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((إِنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا؛ حَتَّى لَا يَبْغِيَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، ولَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
-وَمِنْ حُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ: قِلَّةُ الْخِلَافِ مَعَ مَنْ تَتَعَامَلُ مَعَهُمْ، وَلُزُومُ مُوَافَقَتِهِمْ فِيمَا يُبِيحُهُ الْعِلْمُ وَالشَّرِيعَةُ.
-وَمِنْ حُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ: سَلَامَةُ الْقَلْبِ، وَالنَّصِيحَةُ لَهُمْ؛ فَإِنَّ ِمِنْ أَجَلِّ أَخْلَاقِ الْأَبْرَارِ سَلَامَةَ الصَّدْرِ لِلْإِخْوَانِ، وَالنَّصِيحَةَ لَهُمْ؛ فَقَدْ ثَبَتَ فِي ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ))، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ -وَذَكَرَ مِنْهَا-: وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ)).
يَعْنِي: إِذَا جَاءَ إِلَيْكَ يَطْلُبُ نَصِيحَتَكَ لَهُ فِي شَيْءٍ فَانْصَحْهُ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنَ الدِّينِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((الدِّينُ النَّصِيحَةُ: لِلَّهِ، وَلِرَسُولِهِ، وَلِأَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ، وَعَامَّتِهِمْ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
أَمَّا إِذَا لَمْ يَأْتِ إِلَيْكَ يَطْلُبُ النَّصِيحَةَ، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ ضَرَرٌ أَوْ إِثْمٌ فِيمَا سَيُقْدِمُ عَلَيْهِ وَجَبَ عَلَيْكَ أَنْ تَنْصَحَهُ وَإِنْ لَمْ يَأْتِ إِلَيْكَ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ إِزَالَةِ الضَّرَرِ وَالْمُنْكَرِ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ كَانَ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِيمَا سَيَفْعَلُ وَلَا إِثْمَ وَلَكِنَّكَ تَرَى أَنَّ غَيْرَهُ أَنْفَعُ؛ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْكَ أَنْ تَقُولَ لَهُ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَسْتَنْصِحَكَ فَتَلْزَمُ النَّصِيحَةُ -حِينَئِذٍ-.
-وَمِنْ حُسْنِ الْعِشْرَةِ: إِلْقَاءُ السَّلَامِ عَلَى إِخْوَانِكَ، وَإِجَابَةُ دَعْوَتِهِمْ، قَالَ ﷺ: ((حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ: وَمِنْهَا: إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ)).
فَالسَّلَامُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَهُوَ مِنْ أَسْبَابِ تَآلُفِ الْمُسْلِمِينَ وَتَوَادِّهِمْ، كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ، وَكَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: ((وَاللهِ لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَفَلَا أُخْبِرُكُمْ بِشَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَينَكُمْ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).
وَكَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَبْدَأُ مَنْ لَقِيَهُ بِالسَّلَامِ، وَيُسَلِّمُ عَلَى الصِّبْيَانِ إِذَا مَرَّ بِهِمْ، كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).
((وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ)) أَيْ: إِذَا دَعَاكَ إِلَى مَنْزِلِهِ لِتَنَاوُلِ طَعَامٍ أَوْ غَيْرِهِ فَأَجِبْهُ، وَالْإِجَابَةُ إِلَى الدَّعْوَةِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ جَبْرِ قَلْبِ الدَّاعِي، وَجَلْبِ الْمَوَدَّةِ وَالْأُلْفَةِ، وَيُسْتَثْنَي مِنْ ذَلِكَ وَلِيمَةُ الْعُرْسِ، فَإِنْ أَجَابَ فَإِنَّ الْإِجَابَةَ إِلَى الدَّعْوَةِ إِلَيْهَا واجِبَةٌ بِشُرُوطٍ مَعْرُوفَةٍ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: ((وَمَنْ لَمْ يُجِبْ فَقَدْ عَصَى اللهَ وَرَسُولَهُ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَلَعَلَّ قَوْلَهُ ﷺ: ((إِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ)): يَشْمَلُ حَتَّى الدَّعْوَةَ لِمُسَاعَدَتِه وَمُعَاوَنَتِهِ، فَإِنَّكَ مَأْمُورٌ بِإِجَابَةِ أَخِيكَ الْمُسْلِمِ إِذَا دَعَاكَ لِذَلِكَ، فَإِذَا دَعَاكَ لِتُعِينَهُ فِي حَمْلِ شَيْءٍ، أَوْ إِلْقَائِهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّكَ مَأْمُورٌ بِمُسَاعَدَتِهِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: ((الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا)).
وَمِنْهَا: أَلَّا يَعِدَهُمْ وَيُخَالِفَهُمْ فَإِنَّهُ نِفَاقٌ، قَالَ النَّبِيِّ ﷺ: ((آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: فَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ)). وَهَذَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي ((صَحِيحِهِ)).
-وَمِنْ حُسْنِ الْعِشْرَةِ: الْإِخْلَاصُ فِي الصُّحْبَةِ؛ فَيُرَاعِي فِي صُحْبَةِ إِخْوَانِهِ صَلَاحَهُمْ لَا مُرَادَهُمْ، وَدَلَالَتَهُ عَلَى رُشْدِهِمْ لَا عَلَى مَا يُحِبُّونَهُ، قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ)).
-وَمِنْهَا: كَفُّ الْأَذَى عَنِ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ؛ فَإِنَّ فِي أَذِيَّةِ الْمُسْلِمِينَ إِثْمًا عَظِيمًا، قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأَحزاب: 58].
وَالْغَالِبُ أَنَّ مَنْ تَسَلَّطَ عَلَى أَخِيهِ بِأَذًى فَإِنَّ اللهَ يَنْتَقِمُ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((وَلاَ تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ، بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ)).
-وَمِنْ حُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ: حُسْنُ الظَّنِّ، وَحَمْلُ كَلَامِ الْإِخْوَانِ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ مَا وَجَدْتَ ذَلِكَ قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:12 ].
وَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَرْفَعُهُ: «إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ؛ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ، وَلَا تَحَسَّسُوا وَلَا تَجَسَّسُوا، وَلَا تَنَافَسُوا وَلَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخوَانًا».
قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((َكَتَبَ إِلَيَّ بَعْضُ إِخْوَانِي مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ: أَنْ ضَعْ أَمْرَ أَخِيكَ عَلَى أَحْسَنِهِ مَا لَمْ يَأْتِكَ مَا يَغْلِبُكَ، وَلَا تَظُنَّنَّ بِكَلِمَةٍ خَرَجَتْ مِنَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ شَرًّا وَأَنْتَ تَجِدُ لَهَا فِي الْخَيْرِ مَحْمَلًا!)).
وَالرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ لَمَّا دَخَلَ عَلَى الشَّافِعِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ- يَعُودُهُ فِي مَرَضِهِ قَالَ لَهُ: ((قَوَّى اللهُ ضَعْفَكَ يَا إِمَامُ)).
ابْتَسَمَ وَقَالَ: ((لَوْ قَوَّى ضَعْفِي قَتَلَنِي!!)).
قَالَ: ((فَمَا أَقُولُ؟)).
قَالَ: ((تَقُولُ: قَوَّى اللهُ قُوَّتَكَ، وَأَضْعَفَ اللهُ ضَعْفَكَ))، أَمَّا أَنْ تَقُولَ: قَوَّى اللهُ ضَعْفَكَ؛ فَمَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّهُ سَيَقْتُلُنِي بِضَعْفِي.
قَالَ: ((لَوْ قَوَّى ضَعْفِي قَتَلَنِي)).
قَالَ: ((فَمَا أَقُولُ؟)).
قَالَ: ((تَقُولُ: أَضْعَفَ اللهُ ضَعْفَكَ، وَقَوَّى اللهُ قُوَّتَكَ)).
قَالَ: ((وَاللهِ مَا أَرَدْتُ إِلَّا الْخَيْرَ)).
فَقَالَ: ((يَا رَبِيعُ! وَاللهِ لَوْ شَتَمْتَنِي لَعَلِمْتُ أَنَّكَ مَا أَرَدْتَ إِلَّا الْخَيْرَ)).
-وَمِنْهَا: مُجَانَبَةُ الْحِقْدِ وَالْحَسَدِ؛ فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَرْفَعُهُ: «إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ؛ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ، وَلَا تَحَسَّسُوا وَلَا تَجَسَّسُوا، وَلَا تَنَافَسُوا وَلَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخوَانًا».
-وَمِنْ حُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ: إِقْلَالُ الْعِتَابِ، وَالْإِغْضَاءُ عَنِ الصَّدِيقِ فِي بَعْضِ الْمَكَارِهِ، قَالَ تَعَالَى: {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ} [يوسف: 77].
((أَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ {وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ} أَيْ: لَمْ يُقَابِلْهُمْ عَلَى مَا قَالُوهُ بِمَا يَكْرَهُونَ، بَلْ كَظَمَ الْغَيْظَ، وَأَسَرَّ الْأَمْرَ فِي نَفْسِهِ)).
-وَمِنْهَا: تَرْكُ الِاسْتِخْفَافِ بِأَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ، وَمَعْرِفَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لِيُكْرَمَ عَلَى قَدْرِهِ، قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((مَنِ اسْتَخَفَّ بِالْعُلَمَاءِ ذَهَبَتْ آخِرَتُهُ، وَمَنِ اسْتَخَفَّ بِالْأُمَرَاءِ ذَهَبَتْ دُنْيَاهُ، وَمَنِ اسْتَخَفَّ بِالْإِخْوَانِ ذَهَبَتْ مُرُوءُتُهُ)).
- وَمِنْهَا: مُلَازَمَةُ الصَّدِيقِ؛ فَلَا تَقْطَعْ صَدِيقًا بَعْدَ مُصَادَقَتِهِ، وَلَا تَرُدَّهُ بَعْدَ قَبُولٍ مَا دَامَ مُسْتَقِيمَ الْعَقِيدَةِ، طَيِّبَ الْأَخْلَاقِ، قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 28].
وَاحْبِسْ يَا رَسُولَ اللهِ وَيَا كُلَّ دَاعٍ إِلَى اللهِ نَفْسَكَ، صَابِرًا عَلَى تَحَمُّلِ مَشَقَّاتِ التَّعْلِيمِ وَالتَّرْبِيَةِ وَالتَّزْكِيَةِ، مُصَاحِبًا وَمُلَازِمًا الَّذِينَ يَعْبُدُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ {بِالْغَدَاةِ}: مَا بَيْنَ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَطُلُوعِ الشَّمْسِ {وَالْعَشِيِّ}: مَا بَيْنَ صَلَاةِ الْعَصْرِ وَغُرُوبِ الشَّمْسِ، يُرِيدُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَجْهَ اللهِ، لَا يُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا.
-وَمِنْهَا حِفْظُ الْمَوَدَّةِ الْقَدِيمَةِ وَالْأُخُوَّةِ الثَّابِتَةِ؛ فَقَدْ كَانَ ﷺ رُبَّمَا ذَبَحَ الشَّاةَ، فَأَهْدَى عُظْمَهَا إِلَى صُوَيْحِبَاتِ خَدِيجَةَ، يَقُولُ: «اذْهَبُوا بِهَذِهِ إِلَى فُلَانَةَ؛ فَإِنَّهَا كَانَتْ تَأْتِينَا عَلَى عَهْدِ خَدِيجَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-» .
فَكَانَ النَّبِيُّ يُوَاسِي صَدِيقَاتِ خَدِيجَةَ، وَصِلَتُهُ لَهُنَّ مَعْرُوفَةٌ ذَائِعَةٌ شَائِعَةٌ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ.
وَهَذَا مِنْ وَفَائِهِ ﷺ.
وَالنَّبِيُّ ﷺ لَمَّا دَخَلَتْ أُخْتُ خَدِيجَةَ -وَكَانَ صَوْتُهَا أَشْبَهَ مَا يَكُونُ بِصَوْتِ خَدِيَجةَ- رَقَّ لِلصَّوْتِ جِدًّا لَمَّا سَمِعَهُ، حَتَّى غَارَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، وَهِيَ أَحَبُّ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ ﷺ إِلَيْهِ، حَتَّى قَالَتْ مَرَّةً لِلنَّبِيِّ ﷺ: «مَا أَكْثَرَ مَا أَرَاكَ تَذْكُرُ هَذِهِ -تَعْنِي خَدِيجَةَ- إِنْ كَانَتْ إِلَّا عَجُوزًا حَمْرَاءَ الشِّدْقَيْنِ هَلَكَتْ مَعَ الدَّهْرِ أَبْدَلَكَ اللهُ خَيْرًا مِنْهَا».
كَانَ ﷺ إِذَا مَا ذُبِحَتِ الشَّاةُ يَقُولُ: ((اذْهَبُوا بِهَذِهِ إِلَى فُلَانَةٍ، وَاذْهَبُوا بِهَذِهِ إِلَى فُلَانَةٍ، إِنَّهَا كَانَتْ تَصِلُنَا أَيَّامَ خَدِيجَةَ))..
وَخَدِيجَةُ قَدْ غُيِّبَتْ فِي رَمْسِهَا، وَخَدِيجَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَدْ أَصْبَحَتْ رَهِينَةَ قَبْرِهَا، وَلَكِنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَا يُجَزِّأُ الْقِيَمَ؛ لِأَنَّ الْقِيَمَ لَا تَتَجَزَّأُ.
-وَمِنْ حُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ مَعَ الْفُقَرَاءِ: مَعْرِفَةُ حُقُوقِهِمْ، وَالْقِيَامُ بِحَوَائِجِهِمْ؛ ((فَقَدْ أَمَرَ اللهُ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْإِحْسَانِ, وَيَدْخُلُ فِيهِ: الْإِحْسَانُ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ, وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ, وَتَعْلِيمُ الْعِلْمِ النَّافِعِ.
وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ: قَضَاءُ حَوَائِجِ النَّاسِ؛ مِنْ تَفْرِيجِ كُرُبَاتِهِمْ، وَإِزَالَةِ شِدَّاتِهِمْ, وَعِيَادَةِ مَرْضَاهُمْ, وَتَشْيِيعِ جَنَائِزِهِمْ, وَإِرْشَادِ ضَالِّهِمْ, وَإِعَانَةِ مَنْ يَعْمَلُ عَمَلًا، وَالْعَمَلِ لِمَنْ لَا يُحْسِنُ الْعَمَلَ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مِنَ الْإِحْسَانِ الَّذِي أَمَرَ اللهُ بِهِ.
وَيَدْخُلُ فِي الْإِحْسَانِ -أَيْضًا-: الْإِحْسَانُ فِي عِبَادَةِ اللهِ -تَعَالَى-)).
قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: ﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [البقرة: 195].
وَأَحْسِنُوا الْعَمَلَ مَعَ اللهِ -تَعَالَى-؛ بِالْقِيَامِ بِمَا أَمَرَكُمْ بِهِ مِنَ الْإِخْلَاصِ، وَصِدْقِ النِّيَّةِ.
وَأَحْسِنُوا الْعَمَلَ مَعَ خَلْقِ اللهِ؛ بِالْبِرِّ، وَالْعَفْوِ، وَالْإِنْفَاقِ عَلَى مَنْ تَلْزَمُكُمْ نَفَقَتُهُ.
إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ، وَيُثِيبُهُمْ عَلَى إِحْسَانِهِمْ، وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ؛ لِأَنَّ مَنْ أَحَبَّهُ اللهُ أَكْرَمَهُ، وَأَدْخَلَهُ فِي رَحْمَتِهِ.
وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا﴾ [الإنسان: 8-9].
﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ﴾ أَيْ: وَهُمْ فِي حَالٍ يُحِبُّونَ فِيهَا الْمَالَ وَالطَّعَامَ، لَكِنَّهُمْ قَدَّمُوا مَحَبَّةَ اللَّهِ عَلَى مَحَبَّةِ نُفُوسِهِمْ، وَيَتَحَرَّوْنَ فِي إِطْعَامِهِمْ أَوْلَى النَّاسِ وَأَحْوَجَهَمْ ﴿مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا﴾.
وَيَقْصِدُونَ بِإِنْفَاقِهِمْ وَإِطْعَامِهِمْ وَجْهَ اللَّهِ -تَعَالَى-، وَيَقُولُونَ بِلِسَانِ الْحَالِ: ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا﴾ أَيْ: لَا جَزَاءً مَالِيًّا وَلَا ثَنَاءً قَوْلِيًّا.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- -كَمَا فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ»- وَغَيْرِهِ: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا؛ نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ فِي الدُّنْيَا؛ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ عَلَى مُسْلِمٍ فِي الدُّنْيَا؛ سَتَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ».
وَقَالَ ﷺ: «أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ: إِدْخَالُ السُّرُورِ عَلَى الْمُؤْمِنِ، كَسَوْتَ عَوْرَتَهُ، أَوْ أَشْبَعْتَ جَوْعَتَهُ، أَوْ قَضَيْتَ لَهُ حَاجَةً».
لَقَدْ كَانَ نَبِيُّنَا الْأَمِينُ ﷺ فِي حَاجَةِ الْمَرْأَةِ الْمِسْكِينَةِ وَالضَّعِيفِ، كَانَ فِي حَاجَةِ الْكَسِيرِ، كَانَ فِي حَاجَةِ الْحَسِيرِ، كَانَ فِي حَاجَةِ الْفُقَرَاءِ وَالْمُعْوزِينَ، كَانَ فِي حَاجَةِ الثَّكَالَى وَالْأَرَامَلِ وَالْمَسَاكِينِ.
يَبْذُلُ ﷺ نَفْسَهُ، وَتَأْخُذُ الْجَارِيَةُ بِكُمِّهِ بِيَدِهِ، تَسِيرُ مَعَهُ فِي أَيِّ طَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الْمَدِينَةِ شَاءَتْ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهَا ﷺ .
-وَمِنْ حُسْنِ الْعِشْرَةِ: مُلَازَمَةُ الْأَدَبِ مَعَ الْإِخْوَانِ؛ فَقَدْ قِيلَ عَنِ الْأَدَبِ: ((إِنَّهُ حُسْنُ الْعِشْرَةِ)).
-وَمِنْهَا: حِفْظُ الْأَسْرَارِ، قَالَ النَّبِيِّ ﷺ: ((إِذَا حَدَّثَ الرَّجُلُ الْحَدِيثَ ثُمَّ الْتَفَتَ فَهِيَ أَمَانَةٌ». أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ, وَذَكَرَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ)).
وَكَمَا قِيلَ: ((صُدُورُ الْأَحْرَارِ مُسْتَوْدَعُ الْأَسْرَارِ)).
فَهَذَا أَدَبٌ مِنَ الْآدَابِ النَّبَوِيَّةِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْمَجَالِسِ, أَخَلَّ بِهِ أَكْثَرُ النَّاسِ, بَلْ أَخَلُّوا بِهِ جَمِيعًا -إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ-.
((صُدُورُ الْأَحْرَارِ مُسْتَوْدَعُ الْأَسْرَارِ)) أَيْ: أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَوْ لَمْ يَكُنْ مِنَ الدِّينِ لَكَانَ مِنَ الْمُرُوءَةِ الَّتِي يَحُضُّ عَلَيْهَا الدِّينُ, وَهِيَ مِنْ خُلُقِ الرِّجَالِ.
-وَمِنْ حُسْنِ الْعِشْرَةِ: عَدَمُ الْهَجْرِ إِلَّا لِسَبَبٍ شَرْعِيٍّ؛ يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: «مَنْ هَجَرَ أَخَاهُ سَنَةً، فَهُوَ كَسَفْكِ دَمِهِ»؛ يَعْنِي: الَّذِي يُخَاصِمُ أَخَاهُ سَنَةً هُوَ فِي الذَّنْبِ وَالْوِزْرِ عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ كَالَّذِي يَقْتُلُهُ.
الرَّسُولُ ﷺ يَقُولُ: «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ، فَإِنْ هَجَرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ فَمَاتَ دَخَلَ النَّارَ».
النَّبِيُّ ﷺ يُرِشْدُنَا إِلَى أَنَّ الْهِجْرَةَ فَوْقَ ثَلَاثٍ تُدْخِلُ صَاحِبَهَا النَّارَ، «فَمَنْ هَجَرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ دَخَلَ النَّارَ».
الرَّسُولُ ﷺ يُشَدِّدُ هَاهُنَا جِدًّا مِنْ هَذَا الْخِصَامِ الَّذِي يَكُونُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.
الرَّسُولُ ﷺ لَمْ يُرَخِّصْ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ)). ثُمَّ يُبَيِّنُ النَّبِيُّ ﷺ أَمْرًا نَفْسِيًّا يَعْتَرِي النَّاسَ عِنْدَمَا لَا يَكْسِرُونَ حِدَّةَ الْبَشَرِيَّةِ الْمُوغِلَةِ فِي الطِّينِيَّةِ فِيهِمْ، فَيَتَرَفَّعُ الْأَخُ عَلَى أَخِيهِ، عِنْدَمَا يَلْقَاهُ وَهُوَ لَهُ مُخَاصِمٌ، فَيَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ)) .
النَّبِيُّ ﷺ يُبَيِّنُ أَنَّ أَمْرَ الْخِصَامِ قَدْ يَكُونُ مُسْتَفْشِيًا، وَيَكُونُ مُتَأَصِّلًا فِي بَعْضِ الصُّدُورِ، مُتَغْلْغِلًا فِي بَعْضِ الْقُلُوبِ، فَمَا الْحَلُّ إِذَا عَادَ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يَعُدِ الْآخَرُ؟
فَيَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ، فَإِذَا مَرَّتْ ثَلَاثٌ فَلْيَلْقَهُ -أَيْ: فَلْيُقَابِلْهُ- فَلْيُلْقِ عَلَيْهِ السَّلَامَ، فَإِنْ أَجَابَهُ -يَعْنِي: فَإِنْ رَدَّ عَلَيْهِ- وَإِلَّا فَقَدْ بَرِئَ الْمُسْلِمُ مِنَ الْهِجْرَةِ)) .
-وَمِنْهَا: الْمَشُورَةُ مَعَ الْإِخْوَانِ، وَقَبُولُهَا مِنْهُمْ إِنْ كَانَتْ سَدِيدَةً، قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159].
((أَيِ: الْأُمُورُ الَّتِي تَحْتَاجُ إِلَى اسْتِشَارَةٍ وَنَظَرٍ وَفِكْرٍ؛ فَإِنَّ فِي الِاسْتِشَارَةِ مِنَ الْفَوَائِدِ وَالْمَصَالِحِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ مَا لَا يُمْكِنُ حَصْرُهُ؛ مِنْهَا: أَنَّ الْمُشَاوَرَةَ مِنَ الْعِبَادَاتِ الْمُتَقَرَّبِ بِهَا إِلَى اللهِ، وَمِنْهَا: أَنَّ فِيهَا تَسْمِيحًا لِخَوَاطِرِهِمْ، وَإِزَالَةً لِمَا يَصِيرُ فِي الْقُلُوبِ عِنْدَ الْحَوَادِثِ؛ فَإِنَّ مَنْ لَهُ الْأَمْرُ عَلَى النَّاسِ -إِذَا جَمَعَ أَهْلَ الرَّأْيِ وَالْفَضْلِ وَشَاوَرَهُمْ فِي حَادِثَةٍ مِنَ الْحَوَادِثِ- اطْمَأَنَّتْ نُفُوسُهُمْ وَأَحَبُّوهُ، وَعَلِمُوا أَنَّهُ لَيْسَ بِمُسْتَبِدٍّ عَلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا يَنْظُرُ إِلَى الْمَصْلَحَةِ الْكُلِّيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْجَمِيعِ، فَبَذَلُوا جُهْدَهُمْ وَمَقْدُورَهُمْ فِي طَاعَتِهِ؛ لِعِلْمِهِمْ بِسَعْيِهِ فِي مَصَالِحِ الْعُمُومِ)).
-وَمِنْ حُسْنِ الْعِشْرَةِ: الْإِيثَارُ، قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9].
الْأَنْصَارُ الَّذِينَ تَوَطَّنُوا الْمَدِينَةَ وَاتَّخَذُوهَا سَكَنًا، وَأَسْلَمُوا فِي دِيَارِهِمْ، وَأَخْلَصُوا فِي الْإِيمَانِ، وَتَمَكَّنُوا فِيهِ مِنْ قَبْلِ هِجْرَةِ الْمُهَاجِرِينَ إِلَيْهِمْ؛ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَيُنْزِلُونَهُمْ فِي مَنَازِلِهِمْ، وَيُشَارِكُونَهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ، وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَزَازَةً وَغَيْظًا وَحَسَدًا مِمَّا أُعْطِيَ الْمُهَاجِرُونَ مِنَ الْفَيْءِ دُونَهُمْ؛ عِفَّةً مِنْهُم، وَشُعُورًا بِحَقِّ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أَصَابَهُمُ الْفَقْرُ بِسَبَبِ الْهِجْرَةِ.
ويُؤثِرُ الْأَنْصَارُ الْمُهَاجِرِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَمَنَازِلِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ؛ وَلَو كَانُوا بِهِم فَاقَةٌ وَحَاجَةٌ إِلَى مَا يُؤثْرِونَ بِهِ، وَمَن يَكْفْهِ اللهُ الْحَالَةَ النَّفْسَانِيَّةَ الَّتِي تَقْتَضِي مَنْعَ الْمَالَ حَتَّى يُخَالِفَهَا فِيمَا يَغْلِبُ عَلَيْهَا مِنَ الْبُخْلِ وَالْحِرْصِ الشَّدِيدِ الَّذِي يَدْفَعُ إِلَى ارْتِكَابِ كَبَائِرِ الْإِثْمِ، فَيُنْفِقُ مَالَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى فِي الْمَصَارِفِ الَّتِي أَمَرَ اللهُ بِالْإِنْفَاقِ فِيهَا طَيِّبَ النَّفْسِ بِذَلِكَ؛ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ بِهَذَا المَعْنَى؛ فَأُولَئِكَ الْفُضَلَاءُ رَفِيعُو الدَّرَجَةِ هُمْ وَحْدَهُمُ الظَّافِرُونَ بِكُلِّ خَيْرٍ، الْفَائِزُونَ بِكُلِّ مَطْلَبٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَفِي الْآيَةِ: مَدْحُ الْإِيثَارِ فِي حُظُوظِ النَّفْسِ وَالدُّنْيَا.
يُصْرَفُ جُزْءٌ مِنْ هَذَا الْمَالِ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ، الَّذِينَ أُجْبِرُوا عَلَى تَرْكِ أَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ، يَرْجُونَ أَنْ يَتَفَضَّلَ اللهُ عَلَيْهِمْ بِالرِّزْقِ فِي الدُّنْيَا وَبِالرِّضْوَانِ فِي الْآخِرَةِ، وَيَنْصُرُونَ اللهَ، وَيَنْصُرُونَ رَسُولَهُ بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ.
أُولَئِكَ الْمُتَّصِفُونَ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ هُمُ الرَّاسِخُونَ فِي الْإِيمَانِ حَقًّا، وَالْأَنْصَارُ الَّذِينَ نَزَلُوا المَدِينَةَ مِن قَبْلِ الْمُهَاجِرِينَ، وَاخْتَارُوا الْإِيمَانَ بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ، يُحِبُّونَ مِنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ مِنْ مَكَّةَ، وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ غَيْظًا وَلَا حَسَدًا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ في سَبِيلِ اللهِ إِذَا مَا أُعْطُوا شَيْئًا مِنَ الْفَيْءِ وَلَمْ يُعْطَوْا هُمْ، وَيُقَدِّمُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمُ الْمُهَاجِرِينَ فِي الْحُظُوظِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَلَوْ كَانُوا مُتَّصِفِينَ بِالْفَقْرِ وَالْحَاجَةِ، وَمَنْ يَقِهِ اللهُ حِرْصَ نَفْسِهِ عَلَى الْمَالِ، فَيَبْذُلُهُ فِي سَبِيلِهِ، فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ بِنَيْلِ مَا يَرْتَجُونَهُ وَالنَّجَاةِ مِمَّا يَرْهَبُونَهُ.
-وَمِنْهَا: التَّخَلُّقُ بِمَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «مَا شَيْءٌ أَثْقَلَ فِي مِيزَانِ الْمُؤْمِنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ، وَإِنَّ اللهَ لَيُبْغِضُ الْفَاحِشَ الْبَذِيءَ».
وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: ((مَا مِنْ شَيْءٍ يُوضَعُ فِي الْمِيزَانِ أَثْقَلُ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ، وَإِنَّ صَاحِبَ حُسْنِ الْخُلُقِ لَيَبْلُغُ بِهِ دَرَجَةَ صَاحِبِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.
-وَمِنْهَا: الْمُعَاشَرَةُ وَالْمُصَاحَبَةُ عَلَى الْوَفَاءِ؛ ((فَإِنَّ الْوَفَاءَ مِنَ الْقِيَمِ الْإِنْسَانِيَّةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي يَجِبُ أَنْ يَتَّصِفَ بِهَا الْمُسْلِمُ، وَحَثَّ عَلَيْهَا اللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فِي كِتَابِهِ الْكَرِيمِ فِي أَكْثَرَ مِنْ مَوْضِعٍ، وَمَنْ يَتَدَبَّرْ آيَاتِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ يَجِدْ أَنَّ اللهَ -سُبْحَانَهُ- قَدْ جَعَلَ الْوَفَاءَ قِوَامًا لِصَلَاحِ أُمُورِ النَّاسِ، يَقُولُ تَعَالَى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ}.
وَقَدْ أَمَرَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بِالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ أَمْرًا صَرِيحًا فِي عَدَدٍ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، مِنْهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء: 34])).
وَأَوْفُوا بِأَوَامِرِ اللهِ وَنَوَاهِيهِ، وَمَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الْعِبَادِ مِنْ مَوَاثِيقَ اتَّفَقْتُمْ عَلَيْهَا بِلَا نَقْضٍ وَلَا إِخْلَافٍ وَلَا نَقْصٍ؛ إِنَّ مُعْطِيَ الْعَهْدِ كَانَ مَسْئُولًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ اللهِ عَنْ حِفْظِهِ وَالْوَفَاءِ بِهِ.
-وَمِنْ حُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ: الذَّبُّ عَمَّنْ تُعَاشِرُهُمْ وَتُصَاحِبُهُمْ؛ فَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ ذَبَّ -أَيْ: دَفَعَ- عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ بِالْغَيْبَةِ -وَالْغَيْبَةُ ضِدُّ الْحُضُورِ-؛ كَانَ حَقًّا عَلَى اللهِ أَنْ يُعْتِقَهُ مِنَ النَّارِ)). رَوَاهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ لِغَيْرِهِ.
وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَرْفَعُهُ: ((مَنْ رَدَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ؛ رَدَّ اللهُ عَنْ وَجْهِهِ النَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ لِغَيْرِهِ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَأَبُو الشَّيْخِ.
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((مَنْ نَصَرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ بِالْغَيْبِ؛ نَصَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)). رَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا مَوْقُوفًا، وَهُوَ حَسَنٌ لِغَيْرِهِ.
-وَمِنْهَا: احْتِمَالُ الْأَذَى، وَقِلَّةُ الْغَضَبِ؛ فَمِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ: احْتِمَالُ الْأَذَى، فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)): ((أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَذَبَ رِدَاءَ النَّبِيِّ ﷺ؛ حَتَّى أَثَّرَتْ حَاشِيَتُهُ فِي عَاتِقِهِ ﷺ، ثُمَّ قَالَ: ((يَا مُحَمَّدُ! مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللهِ الَّذِي عِنْدَكَ)).
فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ، ثُمَّ ضَحِكَ، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ)). أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ مِنْ رِوَايَةِ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
وَكَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِذَا آذَاهُ قَوْمُهُ قَالَ: ((اللهم اغْفِرْ لِقَوْمِي؛ فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)).
وَكَانَ أُوَيْسٌ الْقَرَنِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- إِذَا رَمَاهُ الصِّبْيَانُ بِالْحِجَارَةِ يَقُولُ: ((يَا إِخْوَتَاهُ! إِنْ كَانَ وَلَا بُدَّ فَارْمُونِي بِالصِّغَارِ؛ لِئَلَّا تُدْمُوا سَاقِي فَتَمْنَعُونِي مِنَ الصَّلَاةِ)).
وَخَرَجَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ إِلَى بَعْضِ الْبَرَارِي، فَاسْتَقْبَلَهُ جُنْدِيٌّ، فَقَالَ: ((أَيْنَ الْعُمْرَانُ؟ فَأَشَارَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى الْمَقْبَرَةِ، فَضَرَبَ رَأْسَهُ فَشَجَّهُ، فَلَمَّا أُخْبِرَ أَنَّهُ إِبْرَاهِيمُ؛ جَعَلَ يُقَبِّلُ يَدَهُ وَرِجْلَهُ.
فَقَالَ: إِنَّهُ لَمَّا ضَرَبَ رَأْسِي سَأَلْتُ اللهَ لَهُ الْجَنَّةَ؛ لِأَنِّي عَلِمْتُ أَنِّي أُوجَرُ بِضَرْبِهِ إِيَّايَ، فَلَمْ أُحِبَّ أَنْ يَكُونَ نَصِيبِي مِنْهُ الْخَيْرَ، وَنَصِيبُهُ مِنِّي الشَّرَّ)).
((وَاجْتَازَ بَعْضُهُمْ فِي سِكَّةٍ -أَيْ: فِي طَرِيقٍ-، فَطُرِحَ عَلَيْهِ رَمَادٌ مِنَ السَّطْحِ، فَجَعَلَ أَصْحَابُهُ يَتَكَلَّمُونَ -يَعْنِي: يَسْتَنْكِرُونَ-.
فَقَالَ: مَنِ اسْتَحَقَّ النَّارَ فَصُولِحَ عَلَى الرَّمَادِ؛ يَنْبَغِي لَهُ أَلَّا يَغْضَبَ!!)).
فَهَذِهِ نُفُوسٌ ذُلِّلَتْ بِالرِّيَاضَةِ وَالْمُجَاهَدَةِ، فَاعْتَدَلَتْ أَخْلَاقُهُمْ، وَنُقِّيَتْ عَنِ الْغِشِّ بَوَاطِنُهُمْ، فَأَثْمَرَتِ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ مِنْ نَفْسِهِ بَعْضَ هَذِهِ الْعَلَامَاتِ الَّتِي وَجَدَهَا هَؤُلَاءِ؛ فَيَنْبَغِي أَنْ يُدَاوِمَ الْمُجَاهَدَةَ لِيَصِلَ؛ فَإِنَّهُ -بَعْدُ- مَا وَصَلَ)).
((إِنَّ حُسْنَ الْخُلُقِ: بَذْلُ النَّدَى، وَكَفُّ الْأَذَى، وَاحْتِمَالُ الْأَذَى)).
وَقِيلَ: ((حُسْنُ الْخُلُقِ: بَذْلُ الْجَمِيلِ، وَكَفُّ الْقَبِيحِ)).
وَقِيلَ: ((التَّخَلِّي مِنَ الرَّذَائِلِ، وَالتَّحَلِّي بِالْفَضَائِلِ)).
-وَمِنْ حُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ: الْمُشَارَكَةُ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، قَالَ ﷺ: ((مَثَلُ الْمُؤْمِنينَ في تَوَادِّهِمْ وتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ والْحُمَّى)).
فَالْمُؤْمِنُونَ يَتَعَاضَدُونَ، يَتَنَاصَرُونَ، يَتَحَابُّونَ، يَتَوَادُّونَ، إِذَا اشْتَكَى عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى.
فَالْجَسَدُ الْوَاحِدُ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ وَلَوْ مِنْ أَصْغَرِ الْأَعْضَاءِ؛ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ، فَإِذَا أَوْجَعَكَ أُصْبُعُكَ الْخِنْصَرُ الَّذِي هُوَ مِنْ أَصْغَرِ الْأَعْضَاءِ؛ فَإِنَّ الْجَسَدَ كُلَّهُ يَتَأَلَّمُُ، إِذَا أَوْجَعَتْكَ الْأُذُنُ تَأَلَّمَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا أَوْجَعَتْكَ الْعَيْنُ تَأَلَّمَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ.
فَهَذَا الْمَثَلُ الَّذِي ضَرَبَهُ النَّبِيُّ ﷺ مَثَلٌ مُصَوِّرٌ لِلْمَعْنَى، وَمُقَرِّبٌ لَهُ غَايَةَ التَّقْرِيبِ.
-وَمِنْهَا: أَلَّا يَمُنَّ عَلَى مَنْ يُحْسِنُ إِلَيْهِ، قَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى ۙ لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 262].
((ذَكَرَ اللهُ ثَوَابًا لِلْمُنْفِقِينَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِهِ نَفَقَةً صَادِرَةً، مُسْتَوْفِيَةً لِشُرُوطِهَا، مُنْتَفِيَةً مَوَانِعَهَا، فَلَا يُتْبِعُونَ الْمُنْفَقَ عَلَيْهِ مَنًّا مِنْهُمْ عَلَيْهِ، وَتَعْدَادًا لِلنِّعَمِ، وَأَذِيَّةً لَهُ قَوْلِيَّةً أَوْ فِعْلِيَّةً، فَهَؤُلَاءِ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ بِحَسَبِ مَا يَعْلَمُهُ مِنْهُمْ، وَبِحَسَبِ نَفَقَاتِهِمْ وَنَفْعِهَا، وَبِفَضْلِهِ الَّذِي لَا تَنَالُهُ وَلَا تَصِلُ إِلَيْهِ صَدَقَاتُهُمْ.
{وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}: فَنَفَى عَنْهُمُ الْمَكْرُوهَ الْمَاضِيَ بِنَفْيِ الْحُزْنِ، وَالْمُسْتَقْبَلَ بِنَفْيِ الْخَوْفِ عَلَيْهِمْ، فَقَدْ حَصَلَ لَهُمُ الْمَحْبُوبُ، وَانْدَفَعَ عَنْهُمُ الْمَكْرُوهُ)).
-وَمِنْهَا: الِاجْتِهَادُ فِي سَتْرِ عَوْرَاتِ الْإِخْوَانِ وَقَبَائِحِهِمْ، وَإِظْهَارُ مَنَاقِبِهِمْ، وَكَوْنِهِمْ يَدًا وَاحِدَةً فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ.
-وَمِنْهَا: التَّوَدُّدُ لِلْإِخْوَانِ بِالِاصْطِنَاعِ إِلَيْهِمْ وَالصَّفْحِ عَنْهُمْ.
-وَمِنْهَا: الدَّوَامُ لِلْإِخْوَانِ عَلَى حُسْنِ الْعِشْرَةِ، وَإِنْ وَقَعَتْ بَيْنَهُمْ وَحْشَةٌ أَوْ نُفْرَةٌ فَلَا يَتْرُكُ كَرَمَ الْعَهْدِ، وَلَا يُفْشِي الْأَسْرَارَ الْمَعْلُومَةَ فِي أَيَّامِ الْأُخُوَّةِ، وَتَرْكُ الْوَقِيعَةِ فِيهِمْ.
-وَمِنْهَا: قَبُولُ الْعُذْرِ مِنْ فَاعِلِهِ، قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: ((الْمُؤْمِنُ طَالِبُ عُذْرِ إِخْوَانِهِ، وَالْمُنَافِقُ طَالِبُ عَثْرَاتِهِمْ)).
وَمِنْهَا: أَلَّا يُنْسِيَكَ بُعْدُ الدَّارِ كَرَمَ الْعَهْدِ وَالنُّزُوعَ إِلَى مُشَاهَدَةِ الْإِخْوَانِ؛ فَمِنْ كَرَمِ الرَّجُلِ حَنِينُهُ إِلَى أَوْطَانِهِ، وَشَوْقُهُ إِلَى إِخْوَانِهِ.
-وَمِنْهَا: صَوْنُ السَّمْعِ عَنْ سَمَاعِ الْقَبِيحِ وَاللِّسَانِ عَنْ نُطْقِهِ.
-وَمِنْهَا: الْأَدَبُ فِي الِاسْتِئْذَانِ، وَاسْتِعْمَالُ السُّنَّةِ فِيهِ، قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّىٰ تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَىٰ أَهْلِهَا ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور: 27].
وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [النور: 61]
كَيْفِيَّةُ الِاسْتِئْذَانِ بَيَّنَهَا لَنَا النَّبِيُّ ﷺ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَلْيَرْجِعْ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْظُرَ إِنْسَانٌ فِي بَيْتِ غَيْرِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((لَوْ أَنَّ رَجُلًا اطَّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إِذْنٍ فَخَذَفْتَهُ -أَيْ: فَرَمَيْتَهُ، فَحَذَفْتَهُ- بِحَصَاةٍ فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ؛ مَا كَانَ عَلَيْكَ مِنْ جُنَاحٍ))؛ أَيْ: لَيْسَ فِيهَا دِيَةٌ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
-وَمِنْهَا: الرَّغْبَةُ فِي زِيَارَةِ الْإِخْوَانِ، وَالسُّؤَالُ عَنْ أَحْوَالِهِمْ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- -فِيمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ-, عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: ((أَنَّ رَجُلًا زَارَ أَخًا لَهُ فِي قَرْيَةٍ أُخْرَى, فَأَرْصَدَ اللهُ -تَعَالَى- عَلَى مَدْرَجَتِهِ مَلَكًا, فَلَمَّا أَتَى عَلَيْهِ قَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ؟
قَالَ: أُرِيدُ أَخًا لِي فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ.
قَالَ: هَلْ لَكَ عَلَيْهِ مِنْ نِعْمَةٍ تَرُبُّهَا؟
قَالَ: لَا، غَيْرَ أَنِّي أَحْبَبْتُهُ فِي اللهِ -تَعَالَى-.
قَالَ: فَإِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكَ بِأَنَّ اللهَ -تَعَالَى- قَدْ أَحَبَّكَ كَمَا أَحْبَبْتَهُ فِيهِ)).
وَ((الْمَدْرَجَةُ)): الطَّرِيقُ.
وَ((تَرُبُّهَا)): تَحْفَظُهَا وَتُرَاعِيهَا وَتُرَبِّيهَا كَمَا يُرَبِّي الرَّجُلُ وَلَدَهُ.
وَعِنْدَ التِّرْمِذِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ عَادَ مَرِيضًا أَوْ زَارَ أَخًا لَهُ فِي اللهِ -تَعَالَى- نَادَاهُ مُنَادٍ: طِبْتَ وَطَابَ مَمْشَاكَ وَتَبَوَّأْتَ مِنَ الْجَنَّةِ مَنْزِلًا)).
-وَمِنْهَا: أَنْ تُصَاحِبَ كُلًّا مِنَ الْإِخْوَانِ عَلَى قَدْرِ طَرِيقَتِهِ، وَحِفْظُ حُرُمَاتِ الصُّحْبَةِ وَالْعِشْرَةِ، وَإِنْصَافُ مَنْ تُعَاشِرُهُمْ مِنْ نَفْسِكَ، وَمُوَاسَاتُهُمْ، وَالصَّبْرُ عَلَى جَفَاءِ الْإِخْوَانِ، وَإِسْقَاطُ التُّهْمَةِ عَنْهُمْ بَعْدَ صِحَّةِ الْأُخُوَّةِ، وَمِنْهَا: تَوْقِيرُ الْكَبِيرِ، وَالرَّحْمَةُ وَالشَّفَقَةُ عَلَى مَنْ تُعَاشِرُهُمْ عَامَّةً؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: «مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا، وَيَعْرِفْ حَقَّ كَبِيرِنَا، فَلَيْسَ مِنَّا». وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَالْحَاكِمُ فِي «الْمُسْتَدْرَكِ»، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
قَوْلُهُ ﷺ: «فَلَيْسَ مِنَّا»: أَيْ: لَيْسَ عَلَى سُنَّتِنَا، أَوْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْكَمَالِ مِنَّا.
فِي الْحَدِيثِ: دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ حُسْنِ الْأَخْلَاقِ وَوُجُوبِ الرَّحْمَةِ مِنْ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ لِبَعْضٍ، وَمِنْ مُقْتَضَى حُسْنِ الْخُلُقِ وَالرَّحْمَةِ أَنْ يُوَقِّرَ الصَّغِيرُ الْكَبِيرَ، لِوُجُودِ حُسْنِ الْخُلُقِ لَدَيْهِ، وَأَنْ يَرْحَمَ الْكَبِيرُ الصَّغِيرَ؛ لِأَنَّ الْكَبِيرَ قَدْ عَقَلَ مَا لَا يَعْقِلُ الصَّغِيرُ، وَعَلِمَ مَا لَا يَعْلَمُ الصَّغِيرُ.
-وَمِنْهَا: أَلَّا يُغْرِقَ فِي الْخُصُومَةِ، وَيَتْرُكُ لِلصُّلْحِ مَوْضِعًا، وَأَلَّا يُعَاشِرَ مَنْ يُخَالِفُ الِاعْتِقَادَ الصَّحِيحَ.
-وَجَوَامِعُ حُسْنِ الْعِشْرَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ كِتَابِ رَبِّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199].
هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ جَامِعَةٌ لِمَعَانِي حُسْنِ الْخُلُقِ مَعَ النَّاسِ، وَمَا يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ سُلُوكُهُ فِي مُعَامَلَتِهِمْ وَمُعَاشَرَتِهِمْ، فَأَمَرَ -تَعَالَى- بِأَخْذِ {الْعَفْو}: وَهُوَ مَا سَمَحَتْ بِهِ أَنْفُسُهُمْ، وَسَهُلَتْ بِهِ أَخْلَاقُهُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْأَخْلَاقِ؛ بَلْ يَقْبَلُ مَا سَهُلَ، وَلَا يُكَلِّفُهُمْ مَا لَا تَسْمَحُ بِهِ طَبَائِعُهُمْ، وَلَا مَا لَا يُطِيقُونَ، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَشْكُرَ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ مَا قَابَلَهُ بِهِ مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ وَخُلُقٍ جَمِيلٍ، وَمَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ، وَيَتَجَاوَزَ عَنْ تَقْصِيرِهِمْ، وَيَغُضَّ طَرْفَهُ عَنْ نَقْصِهِمْ، وَعَمَّا أَتَوْا بِهِ وَعَامَلُوهُ بِهِ مِنَ النَّقْصِ، وَلَا يَتَكَبَّرَ عَلَى صَغِيرٍ لِصِغَرِهِ، وَلَا نَاقِصِ الْعَقْلِ لِنَقْصِهِ، وَلَا الْفَقِيرِ لِفَقْرِهِ، بَلْ يُعَامِلُ الْجَمِيعَ بِاللُّطْفِ، وَمَا تَقْتَضِيهِ الْحَالُ الْحَاضِرَةُ، وَبِمَا تَنْشَرِحُ لَهُ صُدُورُهُمْ، وَيُوَقِّرُ الْكَبِيرَ، وَيَحْنُو عَلَى الصَّغِيرِ، وَيُجَامِلُ النَّظِيرَ.
{وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ}: وَهُوَ كُلُّ قَوْلٍ حَسَنٍ، وَفِعْلٍ جَمِيلٍ، وَخُلُقٍ كَامِلٍ لِلْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ؛ فَاجْعَلْ مَا يَأْتِي إِلَى النَّاسِ مِنْكَ: إِمَّا تَعْلِيمَ عِلْمٍ دِينِيٍّ أَوْ دُنْيَوِيٍّ، أَوْ نَصِيحَةً، أَوْ حَثًّا لَهُمْ عَلَى خَيْرٍ؛ مِنْ عِبَادَةِ اللهِ، وَصِلَةِ رَحِمٍ، وَبِرِّ الْوَالِدَيْنِ، وَإِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ، أَوْ رَأْيٍ مُصِيبٍ، أَوْ مُعَاوَنَةٍ عَلَى بِرٍّ وَتَقْوَى، أَوْ زَجْرٍ عَنْ قَبِيحٍ، أَوْ إِرْشَادٍ إِلَى مَصْلَحَةٍ دِينِيَّةٍ أَوْ دُنْيَوِيَّةٍ، أَوْ تَحْذِيرٍ مِنْ ضِدِّ ذَلِكَ.
وَلَمَّا كَانَ الْعَبْدُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَذِيَّةِ الْجَاهِلِينَ لَهُ بِالْقَوْلِ أَوْ بِالْفِعْلِ؛ أَمَرَ اللهُ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ، وَعَدَمِ مُقَابَلَةِ الْجَاهِلِينَ بِجَهْلِهِمْ، فَمَنْ آذَاكَ بِقَوْلِهِ أَوْ فِعْلِهِ فَلَا تُؤْذِهِ، وَمَنْ حَرَمَكَ فَلَا تَحْرِمْهُ، وَمَنْ قَطَعَكَ فَصِلْهُ، وَمَنْ ظَلَمَكَ فَاعْدِلْ فِيهِ، فَبِذَلِكَ يَحْصُلُ لَكَ مِنَ الثَّوَابِ مِنَ اللهِ، وَمِنْ رَاحَةِ الْقَلْبِ وَسُكُونِهِ، وَمِنَ السَّلَامَةِ مِنَ الْجَاهِلِينَ، وَمِنَ انْقِلَابِ الْعَدُوِّ صَدِيقًا، وَمِنَ التَّبَوُّءِ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ أَعْلَاهَا أَكْبَرُ حَظٍّ وَأَوْفَرُ نَصِيبٍ، قَالَ تَعَالَى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [ فصلت: 34-35].
فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْهُدَى وَالشِّفَاءُ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ.
((حُسْنُ الْعِشْرَةِ وَحِفْظُهَا مَعَ أَصْنَافِ النَّاسِ))
عِبَادَ اللهِ! لَا تَحْلُو الْمُخَالَطَةُ إِلَّا بِحُسْنِ الْمُعَايَشَةِ، وَأَدَاءِ حُقُوقِ الْمُعَاشَرَةِ، وَتَحْقِيقِ الْعَدْلِ وَالنَّصَفَةِ فِي الْمُعَامَلَةِ، وَمَنْ كَانَ فِي إِيفَاءِ مَا يَكُونُ عَلَيْهِ مِثْلَمَا يَكُونُ فِي حِفْظِ مَا يَكُونُ لَهُ فَقَدْ أَنْصَفَ فِي الْقَضَاءِ.
وَالْأَهْلُ وَالْقَرَابَةُ أَوْلَى النَّاسِ بِحُسْنِ الْمُخَالَطَةِ، وَجَمِيلِ الْمُعَاشَرَةِ، وَلِينِ الْمُعَامَلَةِ، قَالَ ﷺ: «خَيرُكُم خَيرُكُم لِأَهلِهِ، وَأَنَا خَيرُكُم لِأَهلِي».
وَأَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ الْعِشْرَةِ وَطِيبِ الصُّحْبَةِ هُمَا الْوَالِدَانِ، وَذَلِكَ: بِبِرِّهِمَا بِالْخِدْمَةِ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ فِي حَيَاتِهِمَا، وَإِنْجَازِ وَعْدِهِمَا بَعْدَ وَفَاتِهِمَا، وَالدُّعَاءِ لَهُمَا فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ، وَإِكْرَامِ أَصْدِقَائِهِمَا.
إِنَّ حَقَّ الْأَبَوَيْنِ يَلِي حَقَّ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَحَقَّ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي الْفَرْضِيَّةِ وَالْوُجُوبِ.
قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}.
{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)} [الإسراء: 23-24].
فَأَمَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بَعْدَ الْأَمْرِ بِإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ، وَبِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا، فَهَذَا مِنْ آكَدِ الْحُقُوقِ وَمِنْ أَجَلِّهَا.
وَبَيَّنَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّهُ لَا يُجِيزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَلَفَّظَ بِكَلِمَةِ سُوءٍ تَنُمُّ عَنْ ضَجَرٍ يُحِسُّهُ فِي نَفْسِهِ، فَيُعْلِنُهُ بِلِسَانِهِ، {فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا}.
وَإِنَّ أَوْلَى الْأَرْحَامِ بِالرِّعَايَةِ لَهِيَ مَا يَتَّصِلُ بِالْأَبَوَيْنِ، وَالنَّبِيُّ ﷺ قَدْ سُئِلَ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ، فَأَجَابَ ﷺ بِتَرْتِيبٍ وَاضِحٍ لَا لَبْسَ فِيهِ وَلَا غُمُوضَ؛ فَإِنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ ﷺ، فَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟)).
قَالَ: ((أُمُّكَ)).
قَالَ: ((ثُمَّ مَنْ؟)).
قَالَ: ((أُمُّكَ)).
قَالَ: ((ثُمَّ مَنْ؟)).
قَالَ: ((أُمُّكَ)).
قَالَ: ((ثُمَّ مَنْ؟)).
قَالَ: ((أَبُوكَ)).
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ قَالَ: «إِنَّ أَبَرَّ الْبِرِّ أَنْ يَصِلَ الرَّجُلُ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ» .
«إِنَّ أَبَرَّ الْبِرِّ»؛ أَيْ: أَفْضَلَهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى وَالِدِهِ.
والْبِرُّ: الْإِحْسَانُ؛ وَهِيَ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ لِلْخَيْرِ كُلِّهِ.
وَكَذَلِكَ تَدْخُلُ الْوَالِدَةُ.
«وُدِّ أَبِيهِ»: بِضَمِّ الْوَاوِ بِمَعْنَى الْمَوَدَّةِ؛ أَيْ: أَصْحَابِ مَوَدَّتِهِ وَمَحَبَّتِهِ، فَالْوُدُّ بِمَعْنَى الْمَوَدَّةِ.
فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْعَظِيمِ: فَضْلُ الصِّلَةِ لِأَصْدِقَاءِ الْأَبِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَتَلْتَحِقُ بِهِ صَدِيقَاتُ الْأُمِّ، وَأَصْحَابُ الْأَجْدَادِ، وَالْمَشَائِخِ، وَالزَّوْجِ، والزَّوْجَةِ.
وَيَجِبُ حُسْنُ الْعِشْرَةِ مَعَ الزَّوْجَةِ وَالْأَوْلَادِ، وَذَلِكَ: بِالْمُدَارَاةِ وَسَعَةِ الْخُلُقِ وَالنَّفْسِ، وَتَمَامِ الشَّفَقَةِ، وَتَعْلِيمِ الْأَدَبِ وَالسُّنَّةِ، وَحَمْلِهِمْ عَلَى الطَّاعَةِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6].
إِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- نَادَانَا بِوَصْفِ الْإِيمَانِ؛ لِكَيْ يَكُونَ ذَلِكَ حَافِزًا لَنَا عَلَى إِلْقَاءِ سَمْعِ الْقَلْبِ لِمَا يَأْمُرُنَا بِهِ وَمَا يَنْهَانَا عَنْهُ.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}: يَا مَنْ أَعْلَنْتُمْ إِيمَانَكُمْ بِرَبِّكِمْ -جَلَّ وَعَلَا-، فَآمَنْتُمْ بِهِ وَبِمَا أَنْزَلَ مِنْ كِتَابٍ وَبِالرَّسُولِ الَّذِي أَرْسَلَهُ إِلَيْكُمْ، إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ حَقًّا؛ فَاسْمَعُوا وَعُوا، وَامْتَثِلُوا أَمْرَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَاجْتَنِبُوا مَسَاخِطَهُ.
{قُوا أَنفُسَكُمْ}: اجْعَلُوا بَيْنَ أَنْفُسِكُمْ وَبَيْنَ نَارِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وِقَايَةً وَجُنَّةً، {وَأَهْلِيكُمْ}: فَإِنَّكُمْ رُعَاةٌ فِيهِمْ، وَكُلُّ رَاعٍ فِي رَعِيَّةٍ هُوَ مَسْئُولٌ عَنْهَا.
وَالرَّجُلُ فِي أَهْلِهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَمَا أَحْسَنَ إِلَيْهِمْ مَنْ مَكَّنَهُمْ مِنْ وَسَائِلِ الْفِسْقِ وَاللَّهْوِ وَالْفُجُورِ وَإِضَاعَةِ الْأَوْقَاتِ فِي مَعْصِيَةِ رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ، وَمَا سَعَى بِذَلِكَ فِي وِقَايَتِهِمُ النَّارَ الَّتِي وَصَفَهَا الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ بِقَوْلِهِ: {نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}: لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ، يُعْذِّبُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهَا أَهْلَ الْفُجُورِ وَالْفِسْقِ وَالْكُفْرِ، وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا, إِنَّ لِبَدَنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا, إِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا, إِنَّ لِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا, إِنَّ لِزَوْرِكَ -أَيْ: لِضِيفَانِكَ وَزَائِرِيكَ- عَلَيْكَ حَقًّا, فَآتِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حقَّهُ)).
وَعَنِ الْمِقْدَامِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: ((مَا أَطْعَمْتَ نَفْسَكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ، وَمَا أَطْعَمْتَ وَلَدَكَ وَزَوْجَتَكَ وَخَادِمَكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ)).
هَذَا الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى بَيَانِ شَيْءٍ مِنْ فَضَائِلِ الْإِسْلَامِ وَمَحَاسِنِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَا أَنْفَقْتَهُ عَلَى نَفْسِكَ مِنَ الْمَأْكَلِ وَالْمَشْرَبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا تَنْتَفِعُ بِهِ؛ يَكُونُ لَكَ فِيهِ صَدَقَةٌ، وَهَكَذَا مَا أَنْفَقْتَهُ عَلَى مَنْ تَحْتَ يَدِكَ مِنْ زَوْجَةٍ وَابْنٍ وَخَادِمٍ وَمَمْلُوكٍ لَكَ فِيهِ صَدَقَاتٌ، وَهَذَا يَحْتَاجُ إِلَى النِّيَّة.
إِنَّ مَا أَنْفَقْتَهُ عَلَى نَفْسِكَ -أَيُّهَا الْمُسْلِمُ- وَعَلَى أَهْلِكَ وَعَلَى مَمْلُوكِكَ وَعَلَى الْأَجِيرِ الْخَادِمِ وَالْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ صَدَقَةٌ، كلُّ مَا أَنْفَقْتَهُ فَلَكَ فِيهِ صَدَقَاتٌ.
وَهَذَا مِنْ مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ وَفَضَائِلِهِ، وَمِنْ رَحْمَةِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالْمُسْلِمِينَ وَالمُسْلِمَاتِ، وَيَحْتَاجُ هَذَا إِلَى النِّيَّةِ، أَيْ: أَنْ تَنْوِيَهُ نِيَّةً عَامَّةً فِي كُلِّ مَا أَنْفَقْتَ مِنْ مَالِكَ فِي وُجُوهِ الْحَلَالِ؛ وَمِنْ ذَلِكَ: الْمَطْعَمُ وَالْمَشْرَبُ، وَالْمَسْكَنُ وَالْمَرْكَبُ تَحْتَسِبُهُ فَلَكَ فِيهِ صَدَقَاتٌ جَارِيَةٌ.
إِنَّ بَابَ عِشْرَةِ النِّسَاءِ بَابٌ عَظِيمٌ تَجِبُ الْعِنَايَةُ بِهِ؛ لِأَنَّ تَطْبِيقَهُ مِنْ أَخْلَاقِ الْإِسْلَامِ، وَلِأَنَّ تَطْبِيقَهُ تَدُومُ بِهِ الْمَوَدَّةُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَلِأَنَّ تَطْبِيقَهُ يَحْيَا بِهِ الزَّوْجَانِ حَيَاةً سَعِيدَةً.
وَلِأَنَّ تَطْبِيقَهُ سَبَبٌ لِكَثْرَةِ الْوِلَادَةِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا حَسُنَتِ الْعِشْرَةُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ ازْدَادَتِ الْمَحَبَّةُ، وَإِذَا ازْدَادَتِ الْمَحَبَّةُ ازْدَادَ الِاجْتِمَاعُ عَلَى الْجِمَاعِ، وَبِالْجِمَاعِ يَكُونُ الْأَوْلَادُ، فَالْمُعَاشَرَةُ أَمْرُهَا عَظِيمٌ.
اعْلَمْ أَنَّ مُعَامَلَتَكَ لِزَوْجَتِكَ؛ يَجِبُ أَنْ تُقَدِّرَ كَأَنَّ رَجُلًا زَوْجًا لِابْنَتِكَ؛ كَيْفَ يُعَامِلُهَا؟
فَهَلْ تَرْضَى أَنْ يُعَامِلَهَا بِالْجَفَاءِ وَالْقَسْوَةِ؟
الْجَوَابُ: لَا.
إِذَنْ؛ لَا تَرْضَى أَنْ تُعَامِلَ بِنْتَ النَّاسِ بِمَا لَا تَرْضَى أَنْ تُعَامَلَ بِهِ ابْنَتُكَ، وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ يَنْبَغِي أَنْ يَعْرِفَهَا كُلُّ إِنْسَانٍ.
فَكَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَرْضَى أَنْ تَكُونَ ابْنَتُهُ تَحْتَ رَجُلٍ يُقَصِّرُ فِي حَقِّهَا وَيُهِينُهَا، وَيَجْعَلُهَا كَالْأَمَةِ يَجْلِدُهَا جَلْدَ الْعَبْدِ؛ فَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يُعَامِلَ زَوْجَتَهُ بِهَذَا، لَا بِالصَّلَفِ وَالِاسْتِخْدَامِ الْخَارِجِ عَنِ الْعَادَةِ.
وَعَلَى الزَّوْجَةِ -أَيْضًا- أَنْ تُعَامِلَ زَوْجَهَا مُعَامَلَةً طَيِّبَةً، أَطْيَبَ مِنْ مُعَامَلَتِهِ لَهَا؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ فِي كِتَابِهِ: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228].
وَلِأَنَّ اللهَ -تَعَالَى- سَمَّى الزَّوْجَ سَيِّدًا، فَقَالَ -عَزَّ وَجَلَّ- فِي سُورَةِ يُوسُفَ: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} [يوسف: 25].
وَلِأَنَّ النَّبِيَّﷺ سَمَّى الزَّوْجَةَ أَسِيرَةً، فَقَالَ: «اتَّقُوا اللهَ فِي النِّسَاءِ؛ فَإِنَّهُنَّ عِنْدَكُمْ عَوَانٌ» .
«وَعَوَان»: جَمْعُ عَانِيَةٍ، وَهِيَ الْأَسِيرَةُ.
فَعَلَى كُلِّ حَالٍ؛ الْوَاجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ إِذَا كَانَ يُحِبُّ أَنْ يَحْيَا حَيَاةً سَعِيدَةً مُطْمَئِنَّةً هَادِئَةً؛ أَنْ يُعَاشِرَ زَوْجَتَهُ بِالْمَعْرُوفِ.
وَكَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِلزَّوْجَةِ مَعَ زَوْجِهَا، وَإِلَّا ضَاعَتِ الْأُمُورُ، وَصَارَتِ الْحَيَاةُ شَقَاءً، ثُمَّ هَذَا -أَيْضًا- يُؤَثِّرُ عَلَى الْأَوْلَادِ؛ فَالْأَوْلَادُ إِذَا رَأَوُا الْمَشَاكِلَ بَيْنَ أُمِّهِمْ وَأَبِيهِمْ؛ سَوْفَ يَتَأَلَّمُونَ وَيَنْزَعِجُونَ، وَإِذَا رَأَوُا الْأُلْفَةَ فَسَيُسَرُّونَ، فَعَلَيْكَ -أَيُّهَا الْأَخُ الْحَبِيبُ- بِالْمُعَاشَرَةِ بِالْمَعْرُوفِ.
قَالَ تَعَالَى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228].
فَأَثْبَتَ أَنَّ عَلَيْهِنَّ عِشْرَةً، فَيَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ.. كُلٌّ مِنْهُمَا أَنْ يُعَاشِرَ الْآخَرَ بِالْمَعْرُوفِ.
وَقَوْلُهُ: «بِالْمَعْرُوفِ» يُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ: مَا عَرَفَهُ الشَّرْعُ وَأَقَرَّهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ: مَا اعْتَادَهُ النَّاسُ وَعَرَفُوهُ، وَيُمْكِنُ أَنْ نَقُولَ بِالْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا، مَا عَرَفَهُ الشَّارِعُ وَأَقَرَّهُ، وَمَا اعْتَادَهُ النَّاسُ وَعَرَفُوهُ، فَلَوِ اعْتَادَ النَّاسُ أَمْرًا مُحَرَّمًا؛ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ؛ وَلَوْ كَانَ عَادَةً؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَا يُقِرُّهُ.
وَمَا سَكَتَ عَنْهُ الشَّرْعُ وَلَكِنَّ الْعُرْفَ يُلْزِمُ بِهِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ تَمَامِ الْعَقْدِ، إِذِ الْعُقُودُ الْجَارِيَةُ بَيْنَ النَّاسِ تَتَضَمَّنُ كُلَّ مَا يَسْتَلْزِمُهُ هَذَا الْعَقْدُ شَرْعًا أَوْ عُرْفًا.
وَيَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ فِي مُعَاشَرَتِهِ لِزَوْجَتِهِ بِالْمَعْرُوفِ أَلَّا يَقْصِدَ السَّعَادَةَ الدُّنْيَوِيَّةَ، وَالْأُنْسَ وَالْمُتْعَةَ فَقَطْ، بَلْ يَنْوِي مَعَ ذَلِكَ التَّقَرُّبَ إِلَى اللهِ تَعَالَى بِفِعْلِ مَا يَجِبُ، وَهَذَا أَمْرٌ نَغْفُلُ عَنْهُ كَثِيرًا، فَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فِي مُعَاشَرَتِهِ لِزَوْجَتِهِ بِالْمَعْرُوفِ؛ قَصْدُهُ أَنْ تَدُومَ الْعِشْرَةُ بَيْنَهُمَا عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ، وَيَغِيبُ عَنْ ذِهْنِهِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ تَقَرُّبًا إِلَى اللهِ -تَعَالَى-، وَهَذَا كَثِيرًا مَا نَنْسَاهُ، يُنْسِينَا إِيَّاهُ الشَّيَاطِينُ.
وَعَلَى هَذَا فَيَنْبَغِي أَنْ تَنْوِيَ بِهَذَا أَنَّكَ قَائِمٌ بِأَمْرِ اللهِ: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}، فَهَذَا أَمْرٌ، وَأَنْتَ إِذَا عَاشَرْتَ بِالْمَعْرُوفِ؛ فَإِنَّكَ تَكُونُ مُمْتَثِلًا لِهَذَا الْأَمْرِ الْإِلَهِيِّ الْكَرِيمِ، وَإِذَا نَوَيْتَ ذَلِكَ؛ حَصَلَ لَكَ الْأَمْرُ الثَّانِي، وَهُوَ دَوَامُ الْعِشْرَةِ الطَّيِّبَةِ، وَالْمُعَامَلَةِ الطَّيِّبَةِ، وَكَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِلزَّوْجَةِ.
وَيَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَصْبِرَ عَلَى الزَّوْجَةِ؛ وَلَوْ رَأَى مِنْهَا مَا يَكْرَهُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19].
قَالَ ﷺ: «لَا يَفْرَكُ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا؛ رَضِيَ مِنْهَا خُلُقًا آخَرَ».
وَنَبَّهَ الرَّسُولُ ﷺ عَلَى هَذَا بِقَوْلِهِ: «لَا يَجْلِدُ أَحَدُكُمُ امْرَأَتَهُ جَلْدَ الْعَبْدِ، ثُمَّ يُضَاجِعُهَا».
وَالْمَرْأَةُ -كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ- نَاقِصَةُ عَقْلٍ وَدِينٍ، وَقَرِيبَةُ الْعَاطِفَةِ، كَلِمَةٌ مِنْكَ تُبْعِدُهَا عَنْكَ بُعْدَ الثُّرَيَّا، وَكَلِمَةٌ تُدْنِيهَا مِنْكَ حَتَّى تَكُونَ إِلَى جَنْبِكَ، فَلِهَذَا يَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُرَاعِيَ هَذِهِ الْأَحْوَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ.
وَيَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَلَّا يَغْضَبَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ قُصُورٌ، حَتَّى الْإِنْسَانُ فِي نَفْسِهِ مُقَصِّرٌ، وَلَيْسَ صَحِيحًا أَنَّهُ كَامِلٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَهِيَ أَيْضًا أَوْلَى بِالتَّقْصِير.
وَأَيْضًا: يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَقِيسَ الْمَسَاوِئَ بِالْمَحَاسِنِ، فَبَعْضُ الزَّوْجَاتِ إِذَا مَرِضَ زَوْجُهَا قَدْ لَا تَنَامُ اللَّيْلَ، وَتُطِيعُهُ فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ، ثُمَّ إِذَا فَارَقَهَا؛ فَمَتَى يَجِدُ زَوْجَةً؟!
وَإِذَا وَجَدَ؛ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ أَسْوَأَ مِنَ الْأُولَى؛ لِهَذَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يُقَدِّرَ الْأُمُورَ؛ حَتَّى يَكُونَ سَيْرُهُ مَعَ أَهْلِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ، وَالْإِنْسَانُ إِذَا عَوَّدَ نَفْسَهُ حُسْنَ الْأَخْلَاقِ انْضَبَطَ، وَبِذَلِكَ يَسْتَرِيحُ.((
وَحُسْنُ الْعِشْرَةِ مَعَ الْعُلَمَاءِ؛ بِمُلَازَمَتِهِمْ، وَالتَّأَدُّبِ مَعَهُمْ، وَالرُّجُوعِ إِلَيْهِمْ فِي الْمُهِمَّاتِ وَالنَّوَازِلِ، وَمَعْرِفَةِ الْمَكَانَةِ الَّتِي جَعَلَهَا اللهُ لَهُمْ؛ فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ)).
هَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْمَنَاقِبِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ؛ فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ خَيْرُ خَلْقِ اللهِ، فَوَرَثَتُهُمْ خَيْرُ الْخَلْقِ بَعْدَهُمْ.
وَحُسْنُ الْعِشْرَةِ مَعَ الْأَصْحَابِ؛ بِدَوَامِ الْبِشْرِ، وَبَذْلِ الْمَعْرُوفِ، وَنَشْرِ الْمَحَاسِنِ، وَسَتْرِ الْقَبَائِحِ، وَمُسَاعَدَتِهِمْ بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ، وَمُجَانَبَةِ الْحِقْدِ وَالْحَسَدِ وَالْبَغْيِ وَمَا يَكْرَهُونَ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، وَتَرْكِ مَا يُعْتَذَرُ مِنْهُ.
وَحُسْنُ الْعِشْرَةِ مَعَ جِيرَانِهِ؛ فَإِنَّ الْجَارَ لَهُ حَقٌّ بِإِطْلَاقٍ، سَوَاءٌ كَانَ مُسْلِمًا أَمْ كَانَ كَافِرًا، سَوَاءٌ كَانَ طَائِعًا أَمْ كَانَ عَاصِيًا، سَوَاءٌ كَانَ عَالِمًا أَمْ كَانَ جَاهِلًا، سَوَاءٌ كَانَ مُصَالِحًا أَمْ كَانَ مُخَاصِمًا.
الْجَارُ مُطْلَقُ الْجَارِ لَهُ حَقٌّ؛ لِأَنَّ النُّصُوصَ وَرَدَتْ مُطْلَقَةً مِنْ غَيْرِ قَيْدٍ، وَهَذَا نَبِّيُكُمْ ﷺ يَقُولُ قَوْلًا مُرْسَلًا عَامًّا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ قَيْدٍ: ((مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ)).
قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ -كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ))-: ((وَاللهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللهِ لَا يُؤْمِنُ))؟ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.
قَالَ الْأَصْحَابُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-: ((مَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟)).
قَالَ: ((الَّذِي لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ)).
قَالُوا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-: ((وَمَا بَوَائِقُهُ يَا رَسُولَ اللهِ؟)).
قَالَ: ((شَرُّهُ)).
((حُسْنُ عِشْرَةِ النَّبِيِّ ﷺ مَعَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ))
إِنَّ الْمُتَأَمِّلَ فِي سِيرَةِ نَبِيِّنَا ﷺ يَجِدُهُ نِعْمَ الْقُدْوَةُ فِي حُسْنِ الْعِشْرَةِ مَعَ أَهْلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَعَ النَّاسِ جَمِيعًا؛ فَهُوَ الَّذِي وَصَفَهُ رَبُّهُ -سُبْحَانَهُ- بِقَوْلِهِ: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128].
إِنَّ الرَّحْمَةَ مِنْ أَخَصِّ أَوْصَافِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ الَّتِي كَانَتْ تَغْلِبُ غَضَبَهُ، وَلَهُ مِنْهَا الْحَظُّ الْأَوْفَى.
فَإِنَّ اللهَ أَرْسَلَهُ لِذَلِكَ، كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]
وَلَقَدْ تَوَاتَرَتِ النُّصُوصُ مِنْ سِيرَتِهِ وَسُنَّتِهِ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الرَّحْمَةِ وَالشَّفَقَةِ، وَمَا جَاءَ عَنْهُ مِنَ الْأَمْرِ بِهَا، وَالْحَثِّ عَلَى امْتِثَالِهَا شَيْءٌ كَثِيرٌ يَعْسُرُ حَصْرُهُ وَاسْتِقْصَاؤُهُ؛ لِذَلِكَ اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْدَانُ، قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159].
وَقَدْ شَهِدَ لَهُ ﷺ عُلَمَاءُ أَهْلِ الْكِتَابِ؛ شَهِدَوا لَهُ بِأَنَّهُ رَحْمَةٌ لِلْعَالَمِينَ؛فعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: «خَرَجَ أَبُو طَالِبٍ إِلَى الشَّامِ وَخَرَجَ مَعَهُ النَّبِيُّ ﷺ -يَعْنِي: فِي صِبَاهُ- فِي أَشْيَاخٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَلَمَّا أَشْرَفُوا عَلَى الرَّاهِبِ هَبَطُوا فَحَلُّوا رِحَالَهُمْ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمُ الرَّاهِبُ وَكَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ يَمُرُّونَ بِهِ فَلَا يَخْرُجُ إِلَيْهِمْ وَلَا يَلْتَفِتُ.
قَالَ: فَهُمْ يَحُلُّونَ رِحَالَهُمْ، فَجَعَلَ يَتَخَلَّلُهُمُ الرَّاهِبُ حَتَّى جَاءَ فَأَخَذَ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ.
فَقَالَ: هَذَا سَيِّدُ العَالَمِينَ، هَذَا رَسُولُ رَبِّ العَالَمِينَ، يَبْعَثُهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ.
فَقَالَ لَهُ أَشْيَاخٌ مِنْ قُرَيْشٍ: مَا عِلْمُكَ؟
فَقَالَ: إِنَّكُمْ حِينَ أَشْرَفْتُمْ مِنَ العَقَبَةِ لَمْ يَبْقَ حَجَرٌ وَلَا شَجَرٌ إِلَّا خَرَّ سَاجِدًا وَلَا يَسْجُدَانِ إِلَّا لِنَبِيٍّ، وَإِنِّي أَعْرِفُهُ بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ أَسْفَلَ مِنْ غُضْرُوفِ كَتِفِهِ مِثْلَ التُّفَّاحَةِ». الْحَدِيثَ. أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي «صَحِيحِ السِّيرَةِ».
وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ سَبَبَ رَحْمَةِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يَرْحَمَ الْإِنْسَانُ خَلْقَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، فَعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ «مَنْ لَا يَرْحَمِ النَّاسَ لَا يَرْحَمْهُ اللهُ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ». أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمْ.
كَانَ نَبِيُّنَا ﷺ خَيْرَ النَّاسِ أَبًا وَزَوْجًا وَجَدًّا وَصَاحِبًا ﷺ، فَكَانَ ﷺ يُعِينُ أَهْلَهُ وَيُسَاعِدُهُمْ فِي حَاجَاتِهِمْ.
كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَقْسِمُ بَيْنَ نِسَائِهِ فِي الْمَبِيتِ وَالْإِيوَاءِ وَالنَّفَقَةِ.
وَكَانَتْ سِيرَتُهُ مَعَ أَزْوَاجِهِ حُسْنَ الْمُعَاشَرَةِ، وَحُسْنَ الْخُلُقِ، وَكَانَ يُسَرِّبُ إِلَى عَائِشَةَ بَنَاتٍ مِنَ الْأَنْصَارِ يَلْعَبْنَ مَعَهَا -وَكَانَتْ جَارِيَةً حَدِيثَةَ السِّنِّ-، وَكَانَ إِذَا هَوِيَتْ شَيْئًا لَا مَحْذُورَ فِيهِ؛ تَابَعَهَا عَلَيْهِ.
وَكَانَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَرَأْسُهُ فِي حِجْرِهَا، وَرُبَّمَا كَانَتْ حَائِضًا، وَكَانَ يَأْمُرُهَا وَهِيَ حَائِضٌ فَتَأْتَزِرُ، ثُمَّ يُبَاشِرُهَا، وَكَانَ يُقَبِّلُهَا وَهُوَ صَائِمٌ، وَكَانَ يُمَكِّنُهَا مِنَ اللَّعِبِ، وَيُرِيهَا الْحَبَشَةَ وَهُمْ يَلْعَبُونَ فِي مَسْجِدِهِ، وَهِيَ مُتَّكِئَةٌ عَلَى مَنْكِبِهِ تَنْظُرُ، وَسَابَقَهَا فِي السَّفَرِ عَلَى الْأَقْدَامِ مَرَّتَيْنِ، وَتَدَافَعَا فِي خُرُوجِهِمَا مِنَ الْمَنْزِلِ مَرَّةً.
وَكَانَ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ، فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ، وَلَمْ يَقْضِ لِلْبَوَاقِي شَيْئًا، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْجُمْهُورُ، وَكَانَ يَقُولُ: ((خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي)). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ)).
وَكَانَ إِذَا صَلَّى الْعَصْرَ دَارَ عَلَى نِسَائِهِ، فَدَنَا مِنْهُنَّ وَاسْتَقْرَأَ أَحْوَالَهُنَّ.
وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ، وَكَانَ يَخْدُمُ نَفْسَهُ، فَعَنْ عَمْرَةَ، قَالَتْ: قِيلَ لِعَائِشَةَ: مَاذَا كَانَ يَعْمَلُ رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي بَيْتِهِ؟!
قَالَتْ: ((كَانَ بَشَرًا مِنَ الْبَشَرِ، يَفْلِي ثَوْبَهُ، وَيَحْلُبُ شَاتَهُ، وَيَخْدُمُ نَفْسَهُ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ))، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ)).
كَانَ النَّبِيُّ ﷺ خَيْرَ أَبٍ لِأَبْنَائِهِ؛ فَقَدْ أَخْبَرَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّهُ مَا كَانَ مِنْ أَحَدٍ أَشْبَهَ بِرَسُولِ اللهِ ﷺ فِي سَمْتِهِ، وَفِي دَلِّهِ، وَفِي مَشْيِهِ، وَفِي جِلْسَتِهِ مِنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.
وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا أَقْبَلَتْ؛ قَامَ إِلَيْهَا فَقَبَّلَهَا، وَأَجْلَسَهَا فِي مَوْضِعِهِ ﷺ، وَكَانَ إِذَا أَقْبَلَ عَلَيْهَا وَذَهَبَ إِلَيْهَا؛ قَامَتْ إِلَيْهِ، فَقَبَّلَتْهُ وَأَجْلَسَتْهُ ﷺ .
وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ خَيْرَ جَدٍّ لِأَحْفَادِهِ؛ فَعَنْ يَعْلَى بْنِ مُرَّةَ أَنَّهُ قَالَ: ((خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ، وَدُعِينَا إِلَى طَعَامٍ فَإِذَا حُسَيْنٌ يَلْعَبُ فِي الطَّرِيقِ، فَأَسْرَعَ النَّبِيُّ ﷺ أَمَامَ الْقَوْمِ، ثُمَّ بَسَطَ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَمُرُّ مَرَّةً هَاهُنَا وَمَرَّةً هَاهُنَا، يُضَاحِكُهُ حَتَّى أَخَذَهُ، فَجَعَلَ إِحْدَى يَدَيْهِ فِي ذَقَنِهِ وَالْأُخْرَى فِي رَأْسِهِ، ثُمَّ اعْتَنَقَهُ فَقَبَّلَهُ، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «حُسَيْنٌ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ، أَحَبَّ اللَّهُ مَنْ أَحَبَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ، سِبْطَانِ مِنَ الْأَسْبَاطِ». هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَسَلَكَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي «السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ».
«سِبْطَانِ»: «السِّبْطُ»: وَلَدُ الْبِنْتِ، مَأْخَذُهُ مِنَ «السَّبَطِ» بِالْفَتْحِ وَهِيَ شَجَرَةٌ لَهَا أَغْصَانٌ كَثِيرَةٌ وَأَصْلُهَا وَاحِدٌ، كَأَنَّ الْوَالِدَ بِمَنْزِلَةِ الشَّجَرَةِ، وَكَأَنَّ الْأَوْلَادَ بِمَنْزِلَةِ الْأَغْصَانِ.
قَالَ الْقَاضِي: «السِّبْطُ»: وَلَدُ الْوَلَدِ؛ أَيْ: هُوَ مِنْ أَوْلَادِ أَوْلَادِهِ.
فِيهِ: تَوَاضُعُ النَّبِيِّ ﷺ وَشَفَقَتُهُ وَرَحْمَتُهُ بِالْأَطْفَالِ.
فِيهِ: صِلَتُهُ بِأَرْحَامِهِ.
فِيهِ: مُضَاحَكَةُ الصَّبِيِّ، وَمُمَازَحَتُهُ وَاعْتِنَاقُهُ، وَإِدْخَالُ السُّرُورِ عَلَيْهِ.
فِي الْحَدِيثِ: اسْتِحْبَابُ مُلَاطَفَةِ الصِّبِيِّ، وَاسْتِحْبَابُ مُدَاعَبَتِهِ؛ رَحْمَةً لَهُ وَلُطْفًا بِهِ، وَبيَانُ خُلُقِ التَّوَاضُعِ مَعَ الْأَطْفَالِ وَغَيْرِهِمْ.
فَهَذا النَّبِيُّ الْكَرِيمُ ﷺ مَعَ عَظِيمِ مَسْئُولِيَّتِهِ، وَمَعَ جَلِيلِ مَا نَاطَهُ اللهُ -تَعَالَى- بِعُنُقِهِ، وَمَعَ مَا كَانَ فِيهِ مِنْ أَمْرِ الدَّعْوَةِ وَالْبَلَاغِ وَأَدَاءِ الرِّسَالَةِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى، يَجِدُ فِي صَدْرِهِ فُسْحَةً؛ -وَمَا أَوْسَعَ صَدْرَهُ ﷺ!- لِكَيْ يُلَاطِفَ حُسَيْنًا عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ، وَهِيَ صُورَةٌ مُحَبَّبَةٌ، فِيهَا شَفَقَةٌ، وَفِيهَا رِقَّةٌ، وَفِيهَا رَحْمَةٌ، وَفِيهَا رَأْفَةٌ، فَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَى مَنْ وَصَفَهُ رَبُّهُ بِأَنَّهُ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((أَبْصَرَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ النَّبِيَّ ﷺ وَهُوَ يُقَبِّلُ الْحَسَنَ.
فَقَالَ: ((إِنَّ لِي مِنَ الْوَلَدِ عَشَرَةً مَا قَبَّلْتُ أَحَدًا مِنْهُمْ)).
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إنه مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ أَحْسَنَ النَّاسِ عِشْرَةً بِخَادِمِهِ؛ فَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((خَدَمْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ عَشْرَ سِنِينَ، فَمَا قَالَ لِي قَطُّ: أُفٍّ، وَلَا قَالَ لِشَيْءٍ فَعَلْتُهُ: لِمَ فَعَلْتَهُ؟ وَلَا لِشَيْءٍ لَمْ أَفْعَلْهُ: أَلَا فَعَلْتَ كَذَا؟!)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانُ كَمَالِ خُلُقِهِ ﷺ وَحُسْنِ عِشْرَتِهِ، وَحِلْمِهِ وَصَفْحِهِ، بِأَبِي هُوَ وَأُمِّي وَنَفْسِي ﷺ.
وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، بِيَدِهِ شَيْئًا قَطُّ، إِلا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَلا ضَرَبَ خَادِمًا وِلا امْرَأَةً) . الْحَدِيثُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
الْحَدِيثُ فِيهِ بَيَانٌ لِرَحْمَةِ النَّبِيِّ ﷺ.
هَاهُنَا بَيَانٌ لِرَحْمَتِهِ بِنِسَائِهِ وَخَدَمِهِ، وَكُلُّ مَنِ اتَّصَلَ بِهِ مِنْ أُمَّتِهِ، وَأَنَّهُ مَا اسْتَخْدَمَ يَدَهُ إِلَّا فِي الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- دِفَاعًا عَنِ الْحَقِّ فِي شَتَّى مَجَالَاتِهِ.
وَكَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ أَطْيَبَ النَّاسِ عِشْرَةً مَعَ أَصْحَابِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-؛ فَقَدْ كَانَ مِنْ عَادَةِ النَّبِيِّ ﷺ تَقْدِيمُ أَهْلِ الصَّلَاحِ وَالْعِلْمِ وَالشَّرَفِ وَهُمْ أَهْلُ الْفَضْلِ عَلَى غَيْرِهِمْ، كَانَ يُقَدِّمُهُمْ وَيَخُصُّهُمْ بِإِذْنِهِ، وَكَانَ فِيهِمْ ذُو الْحَاجَةِ وَذُو الْحَاجَتَيْنِ وَذُو الْحَوَائِجِ، فَيَتَشَاغَلُ بِطَلَبَاتِهِمْ، وَيَشْغَلُهُمْ أَيْضًا مَعَهُ بِهَا، بِمَا يَصْلُحُ لَهُمْ وَلِبَاقِي الْأُمَّةِ، وَيُخْبِرُهُمْ بِالَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلُوهُ، وَيَأْمُرُهُمْ بِأَنْ يُبَلِّغَ الشَّاهِدُ مِنْهُمُ الْغَائِبَ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى أَمَانَةَ التَّبْلِيغِ، فَجَعَلَ فَجَعَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- ذَلِكَ مَنُوطًا بِأَعْنَاقِ مَنْ سَمِعُوا مِنْهُ، فَيَنْبَغِي عَلَيْهِمْ أَنْ يُبَلِّغُوا عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ بَلَّغَ عَنِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، فَعَلَى أَصْحَابِهِ أَنْ يُبَلِّغُوا الْأُمَّةَ مَا حَمَلُوهُ مِنْهُ مِنَ الْعِلْمِ.
كَانَ ﷺ إِذَا غَابَ عَنْهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ سَأَلَ عَنْهُ، فَإِنْ كَانَ مَرِيضًا عَادَهُ، وَإِنْ كَانَ مُسَافِرًا دَعَا لَهُ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ اسْتَغْفَرَ لَهُ وَصَلَّى عَلَى قَبْرِهِ رُبَّمَا، كَمَا فَعَلَ مَعَ بَعْضِ مَنْ مَاتَ مِنْ أَصْحَابِهِ.
وَكَانَ يَسْتَفْسِرُ عَنْ أَحْوَالِ أُمَّتِهِ، وَمَا وَقَعَ لَهُمْ مِنْ خَيْرٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَكَانَ لَا يُقَبِّحُ الْحَسَنَ، وَإِنَّمَا كَانَ يُثْنِي عَلَيْهِ بِالثَّنَاءِ الْحَسَنِ، وَيُقَبِّحُ الْقَبِيحَ وَيُوَهِّنُهُ، وَذَلِكَ لِاعْتِدَالِ أَمْرِهِ، وَعَدَمِ إِسْرَافِهِ فِي إِلْقَاءِ الْأَحْكَامِ، غَيْرَ مُتَنَاقِضٍ فِيمَا يَقُولُ وَفِيمَا يَفْعَلُ، وَكَانَ مُتْنَبِهًا لِكُلِّ أَمْرٍ فِيهِمْ، فَكَانَ لَا يُثْقِلُ عَلَيْهِمْ بِالتَّكْلِيفِ أَوِ الْمَوْعِظَةِ، فَإِذَا وَعَظَهُمْ تَخَوَّلَهُمْ فِي الْمَوْعِظَةِ حَتَّى لَا يَمَلُّوا.
وَكَانَ ﷺ لَا يَخُصُّ أَحَدًا بِالْكَلَامِ دُونَ أَحَدٍ فِي الْمَجْلِسِ، وَإِنَّمَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْجَالِسِينَ لَهُ حَظٌّ عِنْدَهُ مِنَ السَّمَاعِ وَالِاسْتِمَاعِ، حَتَّى لَا يَظُنَّ جَلِيسُهُ أَنَّ أَحَدًا أَكْرَمُ عَلَيْهِ مِنْهُ.
وَمَنْ جَلَسَ إِلَيْهِ ﷺ فَإِنَّهُ يَصْبِرُ عَلَيْهِ، وَلَا يَضْجَرُ مِنْهُ، وَلَا يُهْمِلُهُ، وَلَا يَنْصَرِفُ عَنْهُ حَتَّى يَنْصَرِفَ عَنْهُ الْمُتَحَدِّثُ، وَمَنْ سَأَلَهُ حَاجَةً لَا يَرُدُّهُ إِلَّا بِهَا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ لَهُ مَطْلَبَهُ، صَرَفَهُ بِحُسْنِ الْقَوْلِ وَتَطْيِيبِ الْخَاطِرِ، فَكَرَمُهُ وَجُودُهُ شَمِلَ النَّاسَ جَمِيعًا، تَمَامًا كَمَا يَفْعَلُ الْأَبُ الْعَادِلُ تِجَاهَ أَوْلَادِهِ جَمِيعًا غَيْرَ مُفَرِّقٍ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ، فَالْكُلُّ عِنْدَهُ ﷺ سَوَاءٌ، لَا فَرْقَ بَيْنَ عَرَبِيٍّ أَوْ أَعْجَمِيٍّ إِلَّا بِالتَّقْوَى.
وَأَمَّا عَنِ الْمَجْلِسِ، فَهُوَ مَجْلِسُ عِلْمٍ وَحِلْمٍ وَحَيَاءٍ وَصَبْرٍ وَأَمَانَةٍ، لَا تَرْتَفِعُ فِيهِ الْأَصْوَاتُ، كَمَا لَا تُعَابُ وَلَا تُغْتَابُ فِيهِ حُرُمَاتُ النَّاسِ، فَهُوَ مَجْلِسٌ شَرِيفٌ نَظِيفٌ؛ لِأَنَّ أَعْضَاءَهُ شُرَفَاءُ، وَعَلَى رَأْسِهِمْ نَبِيُّهُمْ مُحَمَّدٌ ﷺ.
وَإِنْ صَدَرَتْ فِي الْمَجْلِسِ مِنْ بَعْضِ النَّاسِ سَقْطَةٌ أَوْ هَفْوَةٌ أَوْ زَلَّةٌ، فَلَا يُسْمَعُ لَهَا خَبَرٌ خَارِجَ الْمَجْلِسِ؛ لِهَيْبَةِ النَّبِيِّ ﷺ، وَجَلَالِهِ، وَاحْتِرَامِهِ، وَعَدَمِ الْحِرْصِ عَلَى إِغْضَابِهِ، أَوْ قُلْ: لِحُسْنِ أَخْلَاقِ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ الَّذِينَ تَخَلَّقُوا بِخُلُقِ النُّبُوَّةِ مِنْ مَنْبَعِهَا الْأَصِيلِ، فَهُمْ عِنْدَهُ جَمِيعًا مُتَسَاوُونَ، فَلَا فَضْلَ لِأَحَدٍ عِنْدَهُ عَلَى أَحَدٍ إِلَّا بِالتَّقْوَى.
وَتَجِدُ الْكَبِيرَ فِيهِمْ مُتَوَاضِعًا، يَحْتَرِمُونَ الْكَبِيرَ وَيُوَقِّرُونَهُ، وَيَرْحَمُونَ الصَّغِيرَ، وَيُؤْثِرُونَ صَاحِبَ الْحَاجَةِ عَلَى مَنْ لَا حَاجَةَ لَهُ، وَيُرَاعُونَ الْغَرِيبَ وَيُكْرِمُونَهُ.
وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَعْمَلُ مَعَ أَصْحَابِهِ فِي حَفْرِ الْخَنْدَقِ، وَقَبْلَ ذَلِكَ عَمِلَ مَعَهُمْ ﷺ فِي بِنَاءِ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ يَحْمِلُ التُّرَابَ عَلَى كَتِفِهِ ﷺ، وَكَانَ مِنَ الْمُمْكِنِ أَنْ يُكْفَى ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ ﷺ عَمِلَ بِيَدِهِ، حَفَرَ مَعَهُمْ، وَحَمَلَ التُّرَابَ عَلَى عَاتِقِهِ مَعَهُمْ، وَشَارَكَهُمْ، حَتَّى إِنَّهُ كَانَ فِي سَفْرَةٍ، فَاقْتَسَمُوا الْأَعْمَالَ، فَقَالَ: وَأَنَا عَلَيَّ جَمْعُ الْحَطَبِ.
وَكَانَ مِنَ الْمُمْكِنِ أَنْ يَكْفُوهُ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ ﷺ شَارَكَهُمْ فِي الْأَعْمَالِ، هَذَا مِنْ سُنَّتِهِ، وَأَمَّا التَّرَفُّعُ وَالتَّكَبُّرُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ، فَلَيْسَ مِنْ شِيمَةِ الْمُسْلِمِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ.
أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِهِ)) عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَجَاءَأَبُو بَكْرٍ آخِذًا بِطَرَفِ ثَوْبِهِ حَتَّى أَبْدَى عَنْ رُكْبَتِهِ، فَلَمَّا رَآهُ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، قَالَ: ((أَمَّا صَاحِبُكُمْ فَقَدْ غَامَرَ))؛ أَيْ: فَقَدْ رَكِبَ الْمَخَاطِرَ أَوْ دَخَلَ أَمْرًا عَسِيرًا صَعْبًا، حَتَّى إِنَّهُ لَيَأْتِي عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ وَلَا يَلْتَفِتُ.
فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ فَسَلَّمَ وَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! إِنِّي كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ ابْنِ الْخَطَّابِ شَيْءٌ فَأَسْرَعْتُ إِلَيْهِ -يَعْنِي: فَأَغْلَظْتُ لَهُ الْقَوْلَ وَأَخَذْتُهُ بِشَدِيدِهِ- ثُمَّ نَدِمْتُ، فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَغْفِرَ لِي، فَأَبَى عَلَيَّ فَأَقْبَلْتُ إِلَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ)).
فَقَالَ: ((يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ ثَلَاثًا)).
ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ نَدِمَ، فَأَتَى مَنْزِلَ أَبِي بَكْرٍ فَسَأَلَ: ((أَثَّمَ أَبُو بَكْرٍ؟))
فَقَالُوا: لَا.
فَأَتَى إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَسَلَّمَ، فَجَعَلَ وَجْهُ النَّبِيِّ ﷺ يَتَمَعَّرُ -يَعْنِي مِنْ شِدَّةِ الْغَيْظِ وَمِنْ شِدَّةِ الْكَمَدِ عَلَى مَا وَجَدَ الصِّدِّيقُ مِنَ الْفَارُوقِ-.
فَجَعَلَ وَجْهُ النَّبِيِّ ﷺ يَتَمَعَّرُ، حَتَّى أَشْفَقَ أَبُو بَكْرٍ، فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ فَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَاللَّهِ أَنَا كُنْتُ أَظْلَمَ مَرَّتَيْنِ)).
فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ -لَمَّا قَالَ الصِّدِّيقُ ذَلِكَ وَفَعَلَ-: ((إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ فَقُلْتُمْ كَذَبْتَ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ صَدَقَ، وَوَاسَانِي بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُوا لِي صَاحِبِي مَرَّتَيْنِ)).
قَالَ أُبُو الدَّرْدَاءُ ﷺ: ((فَمَا أُوذِيَ بَعْدَهَا أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- )).
وَقَالَ ﷺ: ((لَوْ كُنْتُ مَتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا لِاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ))، وَفِي لَفْظٍ: ((وَلَكِنْ أَخِي وَصَاحِبِي)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
لَمَّا فَتَحَ اللهُ مَكَّةَ عَلَى رَسُولِهِ ﷺ، وَهِيَ بَلَدُهُ وَوَطَنُهُ، قَالَ الْأَنْصَارُ فِيمَا بَيْنَهُمْ: أَتَرَوْنَ رَسُولَ اللهِ ﷺ إِذْ فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ أَرْضَهُ وَبَلَدَهُ أَنْ يُقِيمَ بِهَا؟
وَهُوَ يَدْعُو عَلَى الصَّفَا رَافِعًا يَدَيْهِ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ دُعَائِهِ، قَالَ: ((مَاذَا قُلْتُمْ؟))
قَالُوا: ((لَا شَيْءَ يَا رَسُولَ اللهِ)).
فَلَمْ يَزَلْ بِهِمْ حَتَّى أَخْبَرُوهُ.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَعَاذَ اللهِ، الْمَحْيَا مَحْيَاكُمْ، وَالْمَمَاتُ مَمَاتُكُمْ)).
((النَّبِيُّ ﷺ هُوَ الْأُسْوَةُ فِي حُسْنِ الْعِشْرَةِ))
لَا شَكَّ أَنَّ حِفْظَ الْعِشْرَةِ وَصِيَانَةَ الْجَمِيلِ دَلِيلُ وَفَاءِ الْإِنْسَانِ، وَكَرَمِ أَصْلِهِ وَمَعْدِنِهِ، وَحُسْنِ تَدَيُّنِهِ، وَالْأُسْوَةُ فِي ذَلِكَ -أَيْضًا- الْمَثَلُ الْأَعْلَى لِلْبَشَرِيَّةِ كُلِّهَا نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ ﷺ الَّذِي كَانَ وَفِيًّا لِأَهْلِهِ وَلِأَصْحَابِهِ، قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].
«لَقَدْ كَانَ لَكُمْ -أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ- فِي أَقْوَالِ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَأَفْعَالِهِ، وَأَخْلَاقِهِ، وَثِقَتِهِ بِاللهِ، وَثَبَاتِهِ فِي الشَّدَائِدِ وَالْمِحَنِ، وَصَبْرِهِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَقِتَالِهِ بِنَفْسِهِ، وَكُلِّ جُزْئِيَّاتِ سُلُوكِهِ فِي الْحَيَاةِ.. لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِ قُدْوَةٌ صَالِحَةٌ، وَخَصْلَةٌ حَسَنَةٌ مِنْ حَقِّهَا أَنْ يُؤْتَسَى وَيُقْتَدَى بِهَا لِمَنْ كَانَ يُؤَمِّلُ مُرْتَقِبًا ثَوَابَ اللهِ، وَيَرْجُو السَّعَادَةَ الْخَالِدَةَ يَوْمَ الدِّينِ، وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا فِي جَمِيعِ الْمَوَاطِنِ بِالسَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ».
فَمَا أَجْمَلَ أَنْ نَتَّصِفَ بِحُسْنِ الْعِشْرَةِ وَحِفْظِهَا مَعَ الْأَهْلِ وَالزُّمَلَاءِ وَالْجِيرَانِ وَالنَّاسِ جَمِيعًا، حَيْثُ يَقُولُ نَبِيُّنَا ﷺ: «خَيْرُ الْأَصْحَابِ عِنْدَ اللهِ -تَعَالَى- خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ، وَخَيْرُ الْجِيرَانِ عِنْدَ اللهِ -تَعَالَى- خَيْرُهُمْ لِجَارِهِ». الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ))، وَأَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ فِي «الْمُسْتَدْرَكِ»،. وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي «صَحِيحِ الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ».
وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
نَسْأَلُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يَمُنَّ عَلَيْنَا بِمَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ، وَأَنْ يُدِيمَنَا عَلَيْهَا وَأَنْ يُدِيمَهَا عَلَيْنَا، حَتَّى يَقْبِضَنَا عَلَيْهَا، وَأَنْ يَحْشُرَنَا فِي زُمْرَةِ مَنْ بَعَثَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِيُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ وَمَحَاسِنَهَا.
وَصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَى أَصْحَابِهِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
المصدر
حسْنُ الْعِشْرَةِ وَحِفْظُهَا