طَاعَتُكَ مِنَّةٌ مِنَ اللهِ عَلَيْكَ
فَيَنْبَغِي عَلَى الْإِنْسَانِ إِذَا مَنَّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَيْهِ بِطَاعَةٍ أَنْ يَنْسَاهَا، بَلْ يَنْبَغِي عَلَيهِ أَنْ يَكُونَ مُشْفِقًا مِنْ أَلَّا تُقْبَلَ عِنْدَ رَبِّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.
وَالنَّاقِدُ بَصِيرٌ، وَلَا بُدَّ مِنَ الْبَحْثِ وَالْفَحْصِ وَالتَّفْتِيشِ، وَالتَّنْقِيرِ فِي الدَّوَافِعِ وَالْبَوَاعِثِ الَّتِي تَكُونُ مِنْ وَرَاءِ الْأَعْمَالِ.
فَإِذَا عَمِلَ المَرْءُ عَمَلًا مِمَّا يُحِبُّهُ اللهُ وَيَرْضَاهُ، وَوَفَّقَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِلَيْهِ؛ فَيَنْبَغِي أَنْ يُطَالِعَ المِنَّةَ عَلَيْهِ فَيهِ، وَأَنَّهُ لَوْلَا أَنَّ اللهَ –جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- قَدْ وَفَّقَهُ إِلَيْهِ، وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ، وَوَجَّهَ قَلْبَهُ إِلَى فِعْلِهِ؛ مَا قَوِيَ عَلَى أَنْ يَأْتِيَ بِهِ، وَلَا أَنْ يَتَقَرَّبَ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِهِ.
فَحِينَئِذٍ يَنْظُرُ مُطَالِعًا إِلَى المِنَّةِ -مِنَّةِ المَنَّانِ الْعَلِيمِ-، ثُمَّ يَنْظُرُ إِلَى قُصُورِ النَّفْسِ، وَيَنْظُرُ إِلَى حَالِهَا فِي تَرَدِّيهَا؛ فَحِينَئِذٍ يُطَالِعُ تَقْصِيرَ النَّفْسِ مَعَ مُشَاهَدَةِ المِنَّةِ.
فَإِذَا عَمِلَ عَمَلًا مِمَّا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهِ؛ فَيَنْبَغِي عَلَيهِ أَنْ يَكُونَ مُشْفِقًا مِنْ أَلَّا يَقْبَلَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْهُ، كَمَا قَالَ رَبُّنَا –جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ}[المؤمنون: 60].
قَالَ النَّبِيُّ ﷺ مُصَحِّحًا لِعَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- مَا فَهِمَتْهُ؛ إِذْ قَالَتْ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! هُوَ الرَّجُلُ يَزْنِي، وَيَسْرِقُ، وَيَشْرَبُ الخَمْرَ؟
قَالَ: ((لَا يَا اِبْنَةَ الصِّدِّيقِ، وَإِنَّمَا هُوَ الرَّجُلُ يُصَلِّي، وَيَتَصَدَّقُ، وَيَفْعَلُ الخَيرَ، وَيَخْشَى، وَيُشْفِقُ أَلَّا يَقْبَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنْهُ)).
{وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ}[المؤمنون: 60].
فَإِذَا عَمِلَ الْمَرْءُ عَمَلًا مِنْ أَعْمَالِ الْخَيْرِ، وَوُفِّقَ إِلَى طَاعَةٍ مِنَ الطَّاعَاتِ؛ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُشْفِقًا مِنْ أَلَّا يَقْبَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.
لِأَنَّهُ رُبَّمَا لَمْ يُهَذِّبِ الْعَمَلَ، وَلَمْ يُصَفِّهِ؛ حَتَّى يَكُونَ حَقِيقًا بِالقَبُولِ عِنْدَ اللهِ، وَحِينَئِذٍ يُلَفُّ كَمَا يُلَفُّ الثَّوْبُ الخَلِقُ، ثُمَّ يُضْرَبُ بِهِ وَجْهُهُ -عِيَاذًا بِاللهِ، وَلِياذًا بِجَنَابِهِ الرَّحِيمِ-.
وَأَمَّا إِذَا عَمِلَ سَيَّئَةً: فَيَنْبَغِي أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهَا دَائِمًا كَأَنَّمَا هِيَ جَبَلٌ يَهُمُّ أَنْ يَقَعَ عَلَيهِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا اِسْتَصْغَرَ السَّيِّئَةَ وَالذَّنْبَ؛ فَهَذَا دَلَالَةٌ عَلَى النِّفَاقِ فِي الْقَلْبِ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((وَإِنَّ المُنَافِقَ لَيَنْظُرُ إِلَى ذَنْبِهِ كَذُبَابٍ وَقَعَ عَلَى أَنْفِهِ، فَقَالَ بِهِ هَكَذَا))، ثُمَّ لَا يُعَوِّلُ عَلَيْهِ، وَلَا يُفَكِّرُ فِيهِ بَعْدُ، وَقَدِ اِسْتُنْسِخَ فِي صَحَائِفِ السِّيِّئَاتِ.
وَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَا يَضِيعُ عِنْدَهُ عَمَلُ عَامِلٍ، وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يَنْصِبُ المَوَازِينَ الْقِسْطِ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا، وَلَوْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَى بِهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَكَفَى بِهِ حَاسِبًا.
وَاللهُ رَبُّ الْعَالمينَ يُقِيمُ الْعَدْلَ، وَيُحِقُّ الحَقَّ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
المصدر: وماذا بعد رمضان؟