زِيَادَةُ الْإِيمَانِ مِنْ ثَمَرَاتِ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَتَدَبُّرِهِ


 ((زِيَادَةُ الْإِيمَانِ مِنْ ثَمَرَاتِ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَتَدَبُّرِهِ))

إِنَّ الْإِيمَانَ هُوَ كَمَالُ الْعَبْدِ، وَبِهِ تَرْتَفِعُ دَرَجَاتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَهُوَ السَّبَبُ وَالطَّرِيقُ لِكُلِّ خَيْرٍ عَاجِلٍ أَوْ آجِلٍ، وَلَا يَحْصُلُ، وَلَا يَقْوَى، وَلَا يَتِمُّ إِلَّا بِمَعْرِفَةِ مَا مِنْهُ يُسْتَمَدُّ، وَإِلَى يَنْبُوعِهِ وَأَسْبَابِهِ وَطُرُقِهِ.

وَاللهُ تَعَالَى قَدْ جَعَلَ لِكُلِّ مَطْلُوبٍ سَبَبًا وَطَرِيقًا يُوصِلُ إِلَيْهِ، وَالْإِيمَانُ أَعْظَمُ الْمَطَالِبِ وَأَهَمُّهَا وَأَعَمُّهَا؛ وَقَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُ مَوَادَّ كَبِيرَةً تَجْلِبُهُ وَتُقَوِّيهِ، كَمَا كَانَ لَهُ أَسْبَابٌ تُضْعِفُهُ وَتُوِهِيهِ.

وَمَوَادُّهُ الَّتِي تَجْلِبُهُ وَتُقَوِّيه أَمْرَانِ: مُجْمَلٌ وَمُفَصَّلٌ:

*أَمَّا الْمُجْمَلُ فَهُوُ:

التَّدَبُّرُ لِآيَاتِ اللهِ الْمَتْلُوَّةِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ وَالتَّأَمُّلُ لِآيَاتِهِ الْكَوْنِيَّةِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا؛ وَالْحِرْصُ عَلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ الَّذِي خُلِقَ لَهُ الْعَبْدُ؛ وَالْعَمَلُ بِالْحَقِّ؛ فَجَمِيعُ الْأَسْبَابِ مَرْجِعُهَا إِلَى هَذَا الْأَصْلِ الْعَظِيمِ.

*وَأَمَّا التَّفْصِيلُ: فَالْإِيمَانُ يَحْصُلُ وَيَقْوَى بِأُمُورٍ كَثِيرَةٍ:

1*مِنْهَا -بَلْ أَعْظَمُهَا-: مَعْرِفَةُ أَسْمَاءِ اللهِ الْحُسْنَى الْوَارِدَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَالْحِرْصُ عَلَى فَهْمِ مَعَانِيهَا، وَالتَّعَبُّدُ للهِ فِيهَا.

فَقَدْ ثَبَتَ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ))  عَنْهُ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((إِنَّ للهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا، مِئَةً إِلَّا وَاحِدًا، مَنْ أَحْصَاهَا، دَخَلَ الْجَنَّةَ))؛ أَيْ مِنْ حَفِظَهَا، وَفَهِمَ مَعَانِيهَا، وَاعْتَقَدَهَا، وَتَعَبَّدَ للهِ بِهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَالْجَنَّةُ لَا يَدْخُلُهَا إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ. 

فَعُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ أَعْظَمُ يَنْبُوعٍ وَمَادَّةٍ لِحُصُولِ الْإِيمَانِ وَقُوَّتِهِ وَثَبَاتِهِ؛ وَمَعْرِفَةُ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى هِيَ أَصْلُ الْإِيمَانِ، وَالْإِيمَانُ يَرْجِعُ إِلَيْهَا.

وَمَعْرِفَتُهَا تَتَضَمَّنُ أَنْوَاعَ التَّوْحِيدِ الثَّلَاثَةَ: تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ، وَتَوْحِيدُ الْإِلَهِيَّةِ، وَتَوْحِيدُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَهَذِهِ الْأَنْوَاعُ هِيَ رُوحُ الْإِيمَانِ وَرَوْحُهُ، وَأَصْلُهُ وَغَايَتُهُ، فَكُلَّمَا ازْدَادَ الْعَبْدُ مَعْرِفَةً بِأَسْمَاءِ اللهِ وَصِفَاتِهِ، ازْدَادَ إِيمَانُهُ، وَقَوِيَ يَقِينُهُ.

فَيَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَبْذُلَ مَقْدُورَهُ وَمُسْتَطَاعَهُ فِي مَعْرِفَةِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَتَكُونُ مَعْرِفَتُهُ سَالِمَةً مِنْ دَاءِ التَّعْطِيلِ، وَمِنْ دَاءِ التَّمْثِيلِ؛ اللَّذَيْنِ ابْتُلِيَ بِهِمَا كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ؛ بَلْ تَكُونُ الْمَعْرِفَةُ مُتْلَقَّاةً مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَمَا رُوِيَ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، فَهَذِهِ الْمَعْرِفَةُ النَّافِعَةُ الَّتِي لَا يَزَالُ صَاحِبُهَا فِي زِيَادَةٍ فِي إِيمَانِهِ، وَقُوَّةِ يَقِينِهِ، وَطُمْأْنِينَةٍ فِي أَحْوَالِهِ.

2*وَمِنْهَا -مِنْ أَسْبَابِ حُصُولِ الْإِيمَانِ وَقُوَّتِهِ-: تَدَبُّرُ الْقُرْآنِ عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ.

فَإِنَّ الْمُتَدَبِّرَ لَا يَزَالُ يَسْتَفِيدُ مِنْ عُلُومِ الْقُرْآنِ وَمَعَارِفِهِ؛ مَا يَزْدَادُ بِهِ إِيمَانًا، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2].

وَكَذَلِكَ: إِذَا نَظَرَ إِلَى انْتِظَامِهِ وَإِحْكَامِهِ -أَيْ إِلَى انْتِظَامِ الْقُرْآنِ وَإِحْكَامِهِ-؛ وَأَنَّهُ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَيُوَافِقُ بَعْضُهُ بَعْضًا، لَيْسَ فِيهِ تَنَاقُضٌ وَلَا اخْتِلَافٌ؛ تَيَقَّنَ أَنَّهُ: {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42].

وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ، لَوَجَدَ فِيهِ -مِنَ التَّنَاقُضِ وَالِاخْتِلَافِ- أُمُورًا كَثِيرَةً، قَالَ تَعَالَى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82].

وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ مُقَوِّيَاتِ الْإِيمَانِ، وَيُقَوِّيهِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ: فَالْمُؤْمِنُ بِمُجَرَّدِ مَا يَتْلُو آيَاتِ اللهِ، وَيَعْرِفُ مَا رُكِّبَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَخْبَارِ الصَّادِقَةِ، وَالْأَحْكَامِ الْحَسَنَةِ، يَحْصُلُ لَهُ مِنْ أُمُورِ الْإِيمَانِ خَيْرٌ كَبِيرٌ، فَكَيْفَ إِذَا أَحْسَنَ تَأَمُّلَهُ، وَفَهِمَ مَقَاصِدَهُ وَأَسْرَارَهُ؟!!

وَلِهَذَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ الْكُمَّلُ يَقُولُونَ: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا} [آل عمران: 193].

3*وَكَذَلِكَ مَعْرِفَةُ أَحَادِيثِ النَّبِيِّ ﷺ، وَمَا تَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ عُلُومِ الْإِيمَانِ وَأَعْمَالِهِ:كُلُّهَا مِنْ مُحَصِّلَاتِ الْإِيمَانِ وَمُقَوِّيَاتِهِ.

فَكُلَّمَا ازْدَادَ الْعَبْدُ مَعْرِفَةً بِكِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، ازْدَاَدَ إِيمَانُهُ وَيَقِينُهُ، وَقَدْ يَصِلُ فِي عِلْمِهِ وَإِيمَانِهِ إِلَى مَرْتَبَةِ الْيَقِينِ.

فَقَدْ وَصَفَ اللهُ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ، الَّذِينَ حَصَلَ لَهُمُ الْعِلْمُ التَّامُّ الْقَوِيُّ الَّذِي يَدْفَعُ الشُّبُهَاتِ وَالرَّيْبَ، وَيُوجِبُ الْيَقِينَ التَّامَّ؛ وَلِهَذَا كَانُوا سَادَةَ الْمُؤْمِنِينَ، الَّذِينَ اسْتَشْهَدَ اللهُ بِهِمْ، وَاحْتَجَّ بِهِمْ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنَ الْمُرْتَابِينَ وَالْجَاحِدِينَ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7].

فَالرَّاسِخُونَ زَالَ عَنْهُمُ الْجَهْلُ وَالرَّيْبُ وَأَنْوَاعُ الشُّبُهَاتِ؛ وَرَدُّوا الْمُتَشَابِهَ مِنَ الْآيَاتِ إِلَى الْمُحْكَمِ مِنْهَا، وَقَالُوا: آمَنَّا بِالْجَمِيعِ، فَكُلُّهَا مِنْ عِنْدِ اللهِ؛ وَمَا مِنْهُ، وَمَا تَكَلَّمَ بِهِ وَحَكَمَ بِهِ؛ كَلُّهُ حَقٌّ وَصِدْقٌ .

وَقَالَ تَعَالَى: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} [النساء: 162].

وَقَالَ تَعَالَى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18].

وَلِعْلِمِهِمْ بِالْقُرْآنِ الْعِلْمَ التَّامَّ، وَإِيمَانِهِمُ الصَّحِيحِ؛ اسْتَشْهَدَ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [الروم: 56].

وَأَخْبَرَ تَعَالَى فِي عِدَّةِ آيَاتٍ أَنَّ الْقُرْآنَ آيَاتٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَآيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ؛ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُمْ بِتِلَاوَتِهِ وَتَدَبُّرِهِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْيَقِينِ وَالْإِيمَانِ بِحَسَبِ مَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْهُ، فَلَا يَزَالُونَ يَزْدَادُونَ عِلْمًا وَإِيمَانًا وَيَقِينًا.

فَالتَّدَبُّرُ لِلْقُرْآنِ مِنْ أَعْظَمِ الطُّرُقِ وَالْوَسَائِلِ الْجَالِبَةِ لِلْإِيمَانِ، وَالْمُقَوِّيَةِ لَهُ، قَالَ تَعَالَى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29].

فَاسْتِخْرَاجُ بَرَكَةِ الْقُرْآنِ -الَّتِي مِنْ أَهَمِّهَا حُصُولُ الْإِيمَانِ- سَبِيلُهُ وَطَرِيقُهُ تَدَبُّرُ آيَاتِهِ وَتَأَمُّلُهَا؛ كَمَا ذَكَرَ أَنَّ تَدَبُّرَهُ يُوقِفُ الْجَاحِدَ عَنْ جُحُودِهِ، وَيَمْنَعُ الْمُعْتَدِي عَلَى الدِّينِ مِنْ اعْتِدَائِهِ. 

قَالَ تَعَالَى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ}  [المؤمنون: 68]؛ أَيْ: فَلَوْ تَدَبَّرُوهُ حَقَّ تَدَبُّرِهِ، لَمَنَعَهُمْ مِمَّا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ، وَأَوْجَبَ لَهُمُ الْإِيمَانَ وَاتِّبَاعَ مَنْ جَاءَ بِهِ .

وَقَالَ تَعَالَى: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ} [يونس: 39]؛ أَيْ: فَلَوْ حَصَلَ لَهُمُ الْإِحَاطَةُ بِعِلْمِهِ، لَمَنَعَهُمْ مِنَ التَّكْذِيبِ، وَأَوْجَبَ لَهُمُ الْإِيمَانَ.

الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ تَدَبُّرُهُ وَكَذَا أَحَادِيثُ النَّبِيِّ الْعَظِيمِ ﷺ؛ تَدَبُّرُ ذَلِكَ وَالنَّظَرُ فِيهِ وَبَحْثُهُ وَتَعَلُّمُهُ يُوجِبُ زِيَادَةَ الْإِيمَانِ.

قَالَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- فِي ((الْفَوَائِدِ)) : ((الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ كِتَابُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَاللهُ جَعَلَهُ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ، وَجَعَلَ فِيهِ شِفَاءً مِنَ الْأَسْقَامِ، سِيَّمَا أَسْقَامُ الْقُلُوبِ وَأَمْرَاضُهَا مِنْ شُبُهَاتٍ وَشَهَوَاتٍ.

وَجَعَلَهُ بُشْرَى وَرَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، وَذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ، وَجَعَلَهُ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ، وَصَرَّفَ فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا.

فَالَّذِي يَقْرَأُ كِتَابَ اللهِ وَيَتَدَّبَرُ آيَاتِهِ، وَيَتَأَمَّلُهَا؛ يَجِدُ فِيهِ مِنَ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ مَا يُقَوِّي إِيمَانَهُ وَيَزِيدُهُ وَيُنَمِّيهِ،ذَلِكَ أَنَّهُ يَجِدُ فِي خِطَابِ الْقُرْآنِ مَلِكًا لَهُ الْمُلْكُ كُلُّهُ، وَلَهُ الْحَمْدُ كُلُّهُ، أَزِمَّةُ الْأُمُورِ كُلِّهَا بِيَدِهِ، وَمَصْدَرُهَا مِنْهُ وَمَوْرِدُهَا إِلَيْهِ، مُسْتَوِيًا عَلَى الْعَرْشِ، لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ مِنْ أَقْطَارِ مَمْلَكَتِهِ، عَالِمًا بِمَا فِي نُفُوسِ عَبِيدِهِ، مُطَّلِعًا عَلَى أَسْرَارِهِمْ وَعَلَانِيَتِهِمْ، مُنْفَرِدًا بِتَدْبِيرِ الْمَمْلَكَةِ، يَسْمَعُ وَيَرَى وَيُعْطِي وَيَمْنَعُ، وَيُثِيبُ وَيُعَاقِبُ، وَيُكْرِمُ وَيُهِينُ، وَيَخْلُقُ وَيَرْزُقُ، وَيُمِيتُ وَيُحْيِي، وَيُقَدِّرُ وَيَقْضِي وَيُدَبِّرُ.

وَيَدْعُو عِبَادَهُ وَيَدُلُّهُمْ عَلَى مَا فِيهِ سَعَادَتُهُمْ وَفَلَاحُهُمْ، وَيُرَغِّبُهُمْ فِيهِ وَيُحَذِّرُهُمْ مِمَّا فِيهِ هَلَاكُهُمْ، وَيَتَعَرَّفُ إِلَيْهِمْ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَيَتَحَبَّبُ إِلَيْهِمْ بِنِعَمِهِ وَآلَائِهِ، فَيُذَكِّرُهُمْ بِنِعَمِهِ عَلَيْهِمْ، وَيَأْمُرُهُمْ بِمَا يَسْتَوْجِبُونَ بِهِ تَمَامَهَا، وَيُحَذِّرُهُمْ مَنْ نِقَمِهِ، وَيُذَكِّرُهُمْ بِمَا أَعَدَّ لَهُمْ مِنَ الْكَرَامَةِ إِنْ أَطَاعُوهُ وَمَا أَعَدَّ لَهُمْ مِنَ الْعُقُوبَةِ إِنْ عَصَوْهُ.

وَيُخْبِرُهُمْ بِصُنْعِهِ فِي أَوْلِيَائِهِ وَأَعْدَائِهِ، وَكَيْفَ كَانَتْ عَاقِبَةُ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ، وَيُثْنِي عَلَى أَوْلِيَائِهِ بِصَالِحِ أَعْمَالِهِمْ وَأَحْسَنِ أَوْصَافِهِمْ، وَيَذُمُّ أَعْدَاءَهُ بِسَيِّئِ أَعْمَالِهِمْ وَقَبِيحِ صِفَاتِهِمْ، وَيَضْرِبُ الْأَمْثَالَ، وَيُنَوِّعُ الْأَدِلَّةَ وَالْبَرَاهِينَ، وَيُجِيبُ عَنْ شُبَهِ أَعْدَائِهِ أَحْسَنَ الْأَجْوِبَةِ، وَيُصَدِّقُ الصَّادِقَ، وَيَكْذِّبُ الْكَاذِبَ، وَيَقُولُ الْحَقَّ وَيَهْدِي السَّبِيلَ وَيَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ، وَيَذْكُرُ أَوْصَافَهَا وَحُسْنَهَا وَنَعِيمَهَا، وَيُحَذِّرُ مِنْ دَارِ الْبَوَارِ وَيَذْكُرُ عَذَابَهَا وَقُبْحَهَا وَآلَامَهَا.

وَيُذَكِّرُ عِبَادَهُ فَقْرَهُمْ إِلَيْهِ، وَشَدَّةَ حَاجَتِهِمْ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَأَنَّهُمْ لَا غِنَى لَهُمْ عَنْهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَيَذْكُرُ غِنَاهُ عَنْهُمْ وَعَنْ جَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ، وَأَنَّهُ الْغَنِيُّ بِنَفْسِهِ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ، وَكُلُّ مَا سِوَاهُ فَقِيرٌ إِلَيْهِ، وَأَنَّهُ لَا يَنَالُ أَحَدٌ ذَرَّةً مِنَ الْخَيْرِ فَمَا فَوْقَهَا إِلَّا بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَلَا ذَرَّةً مِنَ الشَّرِّ فَمَا فَوْقَهَا إِلَّا بِعَدْلِهِ وَحِكْمَتِهِ.

وَتَشْهَدُ مِنْ خِطَابِهِ عِتَابَهُ لِأَحْبَابِهِ أَلْطَفَ عِتَابٍ، وَأَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ مُقِيلٌ عَثَرَاتِهِمْ، وَغَافِرٌ ذِلَّاتِهِمْ، وَمُقِيمٌ أَعْذَارَهُمْ، وَمُصْلِحٌ فَسَادَهُمْ، وَالدَّافِعُ عَنْهُمْ، وَالْمُحَامِي عَنْهُمْ، وَالنَّاصِرُ لَهُمْ، وَالْكَفِيلُ بِمَصَالِحِهِمْ، وَالْمُنْجِي لَهُمْ مِنْ كُلِّ كَرْبٍ، وَالْمُوَفِّي لَهُمْ بِوَعْدِهِ، وَأَنَّهُ وَلِيُّهُمُ الَّذِي لَا وَلِيَّ لَهُمْ سِوَاهُ، فَهُوَ مَوْلَاهُمُ الْحَقُّ وَنَصِيرُهُمْ عَلَى عَدْوِّهِمْ فَنِعَمَ الْمَوْلَى وَنَعِمَ النَّصِيرُ .

فَلَا يَزَالُ الْعَبْدُ يَسْتَفِيدُ مِنْ هَذَا التَّدَبُّرِ لِكِتَابِ اللهِ، وَيَشْهَدُ قَلْبُهُ فِيهِ مِنَ الْعُلُومِ مَا يَزِيدُ إِيمَانَهُ وَيُقَوِّيهِ، وَكَيْفَ لَا وَهُوَ يَجِدُ فِي الْقُرْآنِ مَلِكًا عَظِيمًا، رَحِيمًا جَوَادًا رَؤُوفًا هَذَا شَأْنُهُ، فَكَيْفَ لَا يُحِبُّهُ وَيُنَافِسُ فِي الْقُرْبِ مِنْهُ، وَيُنْفِقُ أَنْفَاسَهُ فِي التَّوَدُّدِ إِلَيْهِ، وَكَيْفَ لَا يَكُونُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُ، وَكَيْفَ لَا يُؤْثِرُ رِضَاهُ عَلَى رِضَا كُلِّ مَنْ سِوَاهُ، وَكَيْفَ لَا يَلْهَجُ بِذِكْرِهِ، وَيَصَيِّرُ حُبَّهُ وَالشَّوْقَ إِلَيْهِ وَالْأُنْسَ بِهِ غِذَاءَهُ وَقُوَّتَهُ وَدَوَاءَهُ، بِحَيْثُ إِنْ فَقَدَ ذَلِكَ فَسَدَ وَهَلَكَ وَلَمْ يَنْتَفِعْ بِحَيَاتِهِ)).

*تِلَاوَةُ الْقُرْآنِ تُثْمِرُ زِيَادَةَ إِيمَانِ الْمُؤْمِنِ وَخَوْفَهُ وَوَجَلَهُ مِنَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-:

قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 2-4].

فَوَصَفَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلْقِيَامِ بِأُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ، وَظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ.

فَإِنَّهُ وَصَفَهُمْ بِالْإِيمَانِ بِهِ إِيمَانًا ظَهَرَتْ آثَارُهُ فِي عَقَائِدِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ وَأَعْمَالِهِمُ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ.

وَأَنَّهُ مَعَ ثُبُوتِ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِهِمْ، يَزْدَادُ إِيمَانُهُمْ كُلَّمَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُ اللهِ، وَيَزْدَادُ خَوْفُهُمْ وَوَجَلُهُمْ كُلَّمَا ذُكِرَ اللهُ.

وَهُمْ فِي قُلُوبِهِمْ وَسِرَّهِمْ مُتَوَكِّلُونَ عَلَى اللهِ، وَمُعْتَمِدُونَ فِي أُمُورِهِمْ كُلِّهَا عَلَيْهِ، مُفَوِّضُونَ أُمُورَهُمْ إِلَيْهِ.

وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ (فَرْضَهَا وَنَفْلَهَا)، يُقِيمُونَهَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا.

وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ، وَيُنْفِقُونَ النَّفَقَاتِ الْوَاجِبَةَ وَالْمُسْتَحَبَّةَ.

وَمَنْ كَانَ عَلَى هَذَا الْوَصْفِ، فَلَمْ يَبْقَ مِنَ الْخَيْرِ مَطْلَبًا، وَلَا مِنَ الشَّرِّ مَهْرَبًا، وَلِهَذَا قَالَ: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} الَّذِينَ يَسْتَحِقُّونَ هَذَا الْوَصْفَ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَيُحَقِّقُونَ الْقِيَامَ بِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا.

ثُمَّ ذَكَرَ ثَوَابَهُمُ الْجَزِيلَ:

1*الْمَغْفِرَةَ الْمُتَضَمِّنَةَ لِزَوَالِ كُلِّ شَرٍّ وَمَحْذُورٍ.

2*وَرِفْعَةَ الدَّرَجَاتِ عِنْدَ رَبِّهِمْ.

3*وَالرِّزْقَ الْكَرِيمَ الْمُتَضَمِّنَ مِنَ النِّعَمِ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ.

 

المصدر:الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ وَأَثَرُهُ فِي زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَتَرْسِيخِ الْقِيَمِ الْأَخْلَاقِيَّةِ

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  الْحَثُّ عَلَى اسْتِغْلَالِ مَرْحَلَةِ الشَّبَابِ فِي الْعِبَادَةِ وَالْعَمَلِ
  سُبُلُ صَلَاحِ الْقَلْبِ وَثَمَرَتُهُ
  دَاءُ الْأُمَّةِ وَدَوَاؤُهَا وَحَلُّ قَضِيَّةِ الْأُمَّةِ
  نَبِيُّ الرَّحْمَةِ ﷺ، وَدِينُهُ دِينُ الرَّحْمَةِ
  حَثُّ اللهِ وَرَسُولِهِ ﷺ عَلَى عِبَادَةِ الذِّكْرِ
  مِصْرُ أُمَّةٌ لَهَا تَارِيخٌ فِي الدِّفَاعِ عَنِ الْإِسْلَامِ
  التَّحْذِيرُ مِنْ إِيذَاءِ الْيَتِيمِ وَقَهْرِهِ
  الْوَعْيُ بِالتَّحَدِّيَّاتِ الِاقْتِصَادِيَّةِ وَسُبُلِ مُوَاجَهَتِهَا
  مَبْنَى الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ عَلَى التَّيْسِيرِ
  مَبْنَى الْعَلَاقَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ فِي الْإِسْلَامِ عَلَى نِظَامٍ كَامِلٍ
  شَهَادَاتُ الْمُنْصِفِينَ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ بِرَحْمَةِ النَّبِيِّ ﷺ وَالْإِسْلَامِ
  الدُّرُوسُ الْمُسْتَفَادَةُ مِنْ خُطْبَةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ
  النَّبِيُّ ﷺ وَالصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- الْأُسْوَةُ فِي الْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ
  آثَارٌ عَظِيمَةٌ وَثَمَرَاتٌ جَلِيلَةٌ لِلْإِيمَانِ عَلَى الْمُجْتَمَعِ وَالْأُمَّةِ
  الدرس السابع : «العَدْلُ»
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان