((نَمَاذِجُ دَالَّةٌ عَلَى الْمَعِيَّةِ الْخَاصَّةِ))
النَّبِيُّ ﷺ قَالَ لِصَاحِبِهِ أَبِي بَكْرٍ لَمَّا حَزِنَ وَاشْتَدَّ قَلَقُهُ: {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}؛ بِعَوْنِهِ وَنَصْرِهِ وَتَأْيِيدِهِ، {فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ}؛ أَيِ: الثَّبَاتَ وَالطُّمَأْنِينَةَ، وَالسُّكُونَ الْمُثَبِّتَ لِلْفُؤَادِ، وَلِهَذَا لَمَّا قَلِقَ صَاحِبُهُ سَكَّنَهُ وَقَالَ: {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40].
هَذِهِ مَعِيَّةٌ خَاصَّةٌ؛ فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مَعَ النَّبِيِّ ﷺ وَصَاحِبِهِ -يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ- كَمَا أَنَّهُ مَعَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ وَقَفُوا عَلَى بَابِ الْغَارِ وَكَانُوا فِي الطَّلَبِ، وَلَكِنْ هَذَا مِنْ حَيْثُ الْمَعِيَّةُ الْعَامَّةُ.
فَلَوْ كَانَ الْمَقْصُودُ هَاهُنَا الْمَعِيَّةَ الْعَامَّةَ مَا أَفَادَ هَذَا شَيْئًا، وَتَعَالَى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ كِتَابِهِ عَلَى هَذَا النَّحْوِ.
إِذَنْ؛ هَذِهِ الْمَعِيَّةُ مَعِيَّةٌ خَاصَّةٌ، شَيْءٌ فَوْقَ الْمَعِيَّةِ الْعَامَّةِ.
{إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}.
((الْخِطَابُ لِأَبِي بَكْرٍ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40].
أَوَّلًا: نَصَرَهُ حِينَ الْإِخْرَاجِ؛ {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا}.
ثَانِيًا: وَعِنْدَ الْمُكْثِ فِي الْغَارِ؛ {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ}.
ثَالِثًا: عِنْدَ الشِّدَّةِ حِينَمَا وَقَفَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى فَمِ الْغَارِ؛ {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ}.
فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ مَوَاقِعَ بَيَّنَ اللهُ -تَعَالَى- فِيهَا نَصْرَهُ لِنَبِيِّهِ.
وَهَذَا الثَّالِثُ حِينَ وَقَفَ الْمُشْرِكُونَ عَلَيْهِمْ؛ يَقُولُ أَبُو بَكْرٍ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! لَوْ نَظَرَ أَحَدُهُمْ إِلَى قَدَمِهِ لَأَبْصَرَنَا)).
يَعْنِي: إِنَّنَا عَلَى خَطَرٍ! كَقَوْلِ أَصْحَابِ مُوسَى لَمَّا وَصَلُوا إِلَى الْبَحْرِ: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء: 61]، وَهُنَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ لِأَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}. فَطَمْأَنَهُ وَأَدْخَلَ الْأَمْنَ فِي نَفْسِهِ، وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}.
وَقَوْلُهُ: {لَا تَحْزَنْ}.. نَهْيٌ يَشْمَلُ الْهَمَّ مِمَّا وَقَعَ وَمَا سَيَقَعُ؛ فَهُوَ صَالِحٌ لِلْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ.
وَالْحُزْنُ: تَأَلُّمُ النَّفْسِ وَشِدَّةُ هَمِّهَا.
{إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}؛ وَهَذِهِ الْمَعِيَّةُ خَاصَّةٌ، مُقَيَّدَةٌ بِالنَّبِيِّ ﷺ وَأَبِي بَكْرٍ، وَتَقْتَضِي مَعَ الْإِحَاطَةِ الَّتِي هِيَ الْمَعِيَّةُ الْعَامَّةُ: النَّصْرَ وَالتَّأْيِيدَ.
وَلِهَذَا وَقَفَتْ قُرَيْشٌ عَلَى الْغَارِ وَلَمْ يُبْصِرُوهُمَا! أَعْمَى اللهُ أَبْصَارَهُمْ.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ مَعِيَّةِ اللهِ الْخَاصَّةِ لِأَنْبِيَائِهِ وَأَصْفِيَائِهِ: مَعِيَّةُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْخَاصَّةُ لِمُوسَى وَهَارُونَ -عَلَيْهِمَا السَّلَامُ-، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46].
هَذَا الْخِطَابُ مُوَجَّهٌ لِمُوسَى وَهَارُونَ، لَمَّا أَمَرَهُمَا اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- أَنْ يَذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ؛ قَالَ: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:43 - 46].
فَقَوْلُهُ: {أَسْمَعُ وَأَرَى}.. جُمْلَةٌ اسْتِئْنَافِيَّةٌ لِبَيَانِ مُقْتَضَى هَذِهِ الْمَعِيَّةِ الْخَاصَّةِ، وَهُوَ السَّمْعُ وَالرُّؤْيَةُ، وَهَذَا سَمْعٌ وَرُؤْيَةٌ خَاصَّانِ يَقْتَضِيَانِ النَّصْرَ وَالتَّأْيِيدَ وَالْحِمَايَةَ مِنْ فِرْعَوْنَ الَّذِي قَالَا عَنْهُ: {إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى}.
وَمِنْ ذَلِكَ مَعِيَّةُ اللهِ الْخَاصَّةُ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي جِهَادِهِمُ الْكَافِرِينَ؛ قَالَ تَعَالَى: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249].
{كَمْ}: خَبَرِيَّةٌ تُفِيدُ التَّكْثِيرَ؛ يَعْنِي: فِئَةٌ قَلِيلَةٌ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً عِدَّةَ مَرَّاتٍ، أَوْ فِئَاتٌ قَلِيلَةٌ مُتَعَدِّدَةٌ غَلَبَتْ فِئَاتٍ كَثِيرَةً مُتَعَدِّدَةً، لَكِنْ لَا بِحَوْلِهِمْ وَلَا بِقُوَّتِهِمْ، بَلْ بِإِذْنِ اللهِ؛ أَيْ: بِإِرَادَتِهِ وَقُدْرَتِهِ.
وَمِنْ ذَلِكَ: أَصْحَابُ طَالُوتَ؛ غَلَبُوا عَدُوَّهُمْ وَكَانُوا كَثِيرِينَ.
وَمِنْ ذَلِكَ: أَصْحَابُ بَدْرٍ؛ خَرَجُوا لِغَيْرِ قِتَالٍ، بَلْ لِأَخْذِ عِيرِ أَبِي سُفْيَانَ، وَأَبُو سُفْيَانَ لَمَّا عَلِمَ بِهِمْ أَرْسَلَ صَارِخًا إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ يَقُولُ: أَنْقِذُوا عِيرَكُمْ؛ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ خَرَجُوا إِلَيْنَا يُرِيدُونَ أَخْذَ الْعِيرِ!
وَالْعِيرُ فِيهَا أَرْزَاقٌ كَثِيرَةٌ لِقُرَيْشٍ، فَخَرَجَتْ قُرَيْشٌ بِأَشْرَافِهَا وَأَعْيَانِهَا وَخُيَلَائِهَا وَبَطَرِهَا، يُظْهِرُونَ الْقُوَّةَ وَالْفَخْرَ وَالْعِزَّةَ، حَتَّى قَالَ أَبُو جَهْلٍ: وَاللهِ لَا نَرْجِعُ حَتَّى نَقْدَمَ بَدْرًا فَنُقِيمَ فِيهَا ثَلَاثًا؛ نَنْحَرُ الْجَزُورَ، وَنَسْقِي الْخُمُورَ، وَتَعْزِفُ عَلَيْنَا الْقِيَانُ، وَتَسْمَعُ بِنَا الْعَرَبُ.. فَلَا يَزَالُونَ يَهَابُونَنَا أَبَدًا)).
فَالْحَمْدُ للهِ.. غَنَّوْا عَلَى قَتْلِهِ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ!!
كَانَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ مَا بَيْنَ تِسْعِمِائَةٍ وَأَلْفٍ، كُلَّ يَوْمٍ يَنْحَرُونَ مِنَ الْإِبِلِ تِسْعًا إِلَى عَشْرٍ، وَالنَّبِيُّ ﷺ هُوَ وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، مَعَهُمْ سَبْعُونَ بَعِيرًا وَفَرَسَانِ فَقَطْ يَتَعَاقَبُونَهَا، وَمَعَ ذَلِكَ قَتَلُوا الصَّنَادِيدَ الْعُظَمَاءَ لِقُرَيْشٍ حَتَّى جَيَّفُوا وَانْتَفَخُوا مِنَ الشَّمْسِ، وَسُحِبُوا إِلَى قَلِيبٍ مِنْ قُلُبِ بَدْرٍ خَبِيثَةٍ.
فَـ {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}؛ لِأَنَّ الْفِئَةَ الْقَلِيلَةَ صَبَرَتْ، {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}؛ صَبَرَتْ كُلَّ أَنْوَاعِ الصَّبْرِ؛ عَلَى طَاعَةِ اللهِ، وَعَنْ مَعْصِيَةِ اللهِ، وَعَلَى مَا أَصَابَهَا مِنَ الْجَهْدِ وَالتَّعَبِ وَالْمَشَقَّةِ فِي تَحَمُّلِ أَعْبَاءِ الْجِهَادِ، {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ})).
*وَمِنْ أَمْثِلَةِ مَعِيَّةِ اللهِ لِأَوْلِيَائِهِ: تَبْرِئَتُهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- مِمَّا اتُّهِمَتْ بِهِ ظُلْمًا وَزُورًا؛ فَفِي تَارِيخِ المُسلِمِينَ، بَلْ وَفِي سِيرَةِ النَّبِيِّ الكَرِيمِ ﷺ حَادِثَةٌ عَظِيمَةٌ لهَا ثِقَلُهَا الكَبِيرُ، وَآثَارُهَا الحَمِيدَةُ فِي نَتَائِجِهَا؛ وَهِيَ حَادِثَةُ الْإِفْكِ.
وَلَسْنَا مُبَالِغِينَ حِينَ نَقُولُ إِنَّ مَا وَاجَهَهُ الرَّسُولُ ﷺ فِي حَدِيثِ الْإِفْكِ، هُوَ حَدَثُ الْأَحْدَاثِ فِي تَارِيخِهِ ﷺ، فَلَمْ يُمْكَرْ بِالْمُسْلِمِينَ مَكْرٌ أَشَدُّ مِنْ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ.
وَهِيَ مُجَرَّدُ فِرْيَةٍ وَإِشَاعَةٍ مُخْتَلَقَةٍ بَيَّنَ اللهُ -تَعَالَى- كَذِبَهَا، لَكِنَّهَا لَوْلَا عِنَايَةُ اللهِ كَانَتْ قَادِرَةً عَلَى أَنْ تَعْصِفَ بِالْأَخْضَرِ وَالْيَابِسِ، وَلَا تُبْقِي عَلَى نَفْسٍ مُسْتَقِرَّةٍ مُطْمَئِنَّةٍ.
وَلَقَدْ مَكَثَ مُجتَمَعُ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ بِأَكْمَلِهِ شَهْرًا كَامِلًا وَهُوَ يَصْطَلِي نَارَ تِلْكَ الْفِرْيَةِ، وَيَتَعَذَّبُ ضَمِيرُهُ، وَتَعْصُرُهُ الْإِشَاعَةُ الْهَوْجَاءُ وَالْفِرْيَةُ الصَّلْعَاءُ، حَتَّى نَزَلَ الْوَحْيُ؛ لِيَضَعَ حَدًّا لِتِلْكَ الْمَأْسَاةِ الْمُفْظِعَةِ، وَلِيَكُونَ دَرْسًا تَرْبَوِيًّا رَائِعًا لِلْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ، وَلِكُلِّ مُجْتَمَعٍ مُسْلِمٍ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ.
قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} ]النور: 11[.
لَقَدْ ذَكَرَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- فِي أَوَائِلِ ((سُورَةِ النُّورِ)) آيَاتٍ فِي تَعْظِيمِ الرَّمْيِ بِالزِّنَا عُمُومًا، وَصَارَ ذَلِكَ كَأنَّهُ مُقَدِّمَةٌ لِلْقِصَّةِ الَّتِي وَقَعَتْ عَلَى أَشْرَفِ النِّسَاءِ أُمِّنَا أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-.
وَهَذِهِ الْآيَاتُ نَزَلَتْ فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ الْمَشْهُورَةِ الثَّابِتَةِ فِي الصِّحَاحِ وَالْمَسَانِيدِ وَالسُّنَنِ.
وَحَاصِلُهَا أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ فِي بَعْضِ غَزَوَاتِهِ وَمَعَهُ زَوْجُهُ عَائِشَةُ الصِّدِّيقَةُ بِنْتُ الصِّدِّيقِ، فَانْقَطَعَ عِقْدُهَا، فَانْحَبَسَتْ فِي طَلَبِهِ وَرَحَلُوا، وَقَدْ رَحَّلُوا جَمَلَهَا وَهَوْدَجَهَا، وَلَمْ يَفْقِدُوهَا؛ لِخِفَّةِ جِسْمِهَا حِينَئِذٍ، ثُمَّ اسْتَقَلَّ الْجَيْشُ رَاحِلًا، وَجَاءَتْ مَكَانَهُمْ، وَعَلِمَتْ أَنَّهُمْ إِذَا فَقَدُوهَا رَجَعُوا إِلَيْهَا، فَاسْتَمَرُّوا فِي مَسِيرِهِمْ.
وَكَانَ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعْطَّلِ السُّلَمِيُّ، وَهُوَ مِنْ أَفَاضِلِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ، قَدْ عَرَّسَ فِي أُخْرَيَاتِ الْقَوْمِ وَنَامَ، فَرَأَى عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- فَعَرَفَهَا، فَأَنَاخَ رَاحِلَتَهُ، فَرَكِبَتْهَا مِنْ دُونِ أَنْ يُكَلِّمَهَا أَوْ تُكَلِّمَهُ، ثُمَّ جَاءَ يَقُودُ بِهَا بَعْدَمَا نَزَلَ الْجَيْشُ فِي الظَّهِيرَةِ.
فَلَمَّا رَأَى بَعْضُ الْمُنَافِقِينَ -الَّذِينَ فِي صُحْبَةِ الْأَمِينِ ﷺ فِي ذَلِكَ السَّفَرِ- مَجِيءَ صَفوَانَ بِهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ، أَشَاعَ مَا أَشَاعَ، وَوَشَى الْحَدِيثُ، وَتَلَقَّفَتْهُ الْأَلْسُنُ، حَتَّى اغْتَرَّ بِذَلِكَ بَعْضُ الْمُؤْمِنِينَ، وَصَارُوا يَتَنَاقَلُونَ هَذَا الْكَلَامَ.
وَانْحَبَسَ الْوَحْيُ مُدَّةً طَوِيلَةً عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَبَلَغَ الْخَبَرُ عَائشَةَ بَعْدَ ذَلِكَ بِمُدَّةٍ، فَحَزِنَتْ حُزْنًا شَدِيدًا، فَأَنْزَلَ اللهُ بَرَاءَتَهَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ فِي أَوَّلِ ((سُورَةِ النُّورِ))، وَوَعَظَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَعْظَمَ ذَلِكَ، وَوَصَّاهُمْ بِالْوَصَايَا النَّافِعَةِ.
فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ}؛ أَيْ: بِالْكَذِبِ الشَّنِيعِ، وَهُوَ رَمْيُ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ.
{عُصْبَةٌ مِّنكُمْ}؛ أَيْ: جَمَاعَةٌ مُنْتَسِبُونَ إِلَيْكُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُؤْمِنِينَ، مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُ الصَّادِقُ فِي إِيمَانِهِ، لَكِنَّهُ اغْتَرَّ بِتَروِيجِ الْمُنَافِقِينَ، وَمِنْهُمُ الْمُنَافِقُ.
{لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُم}؛ لِمَا تَضَمَّنَ ذَلِكَ تَبْرِئَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ وَنَزَاهَتَهَا، وَالتَّنْوِيهَ بِذِكْرِهَا، حَتَّى تَنَاوَلَ عُمُومُ الْمَدْحِ سَائِرَ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ ﷺ، وَلِمَا تَضَمَّنَ مِنْ بَيَانِ الْآيَاتِ الْمُضْطَرِّ إِلَيْهَا الْعِبَادُ، الَّتِي مَا زَالَ الْعَمَلُ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَكُلُّ هَذَا خَيْرٌ عَظِيمٌ، لَوْلَا مَقَالَةُ أَهْلِ الْإِفْكِ لَمْ يَحصُلْ ذَلِكَ.
وَإِذَا أَرَادَ اللهُ أَمْرًا جَعَلَ لَهُ سَبَبًا، وَلِذَلِكَ جَعَلَ الْخِطَابَ عَامًّا مَعَ الْمُؤْمِنِينَ كُلِّهِمْ، وَأَخْبَرَ أَنَّ قَدْحَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ كَقَدْحٍ فِي أَنْفُسِهِمْ.
فَفِيهِ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ، وَاجْتِمَاعِهِمْ عَلَى مَصَالِحِهِمْ.. كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ.
وَالْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا، فَكَمَا أَنَّهُ يَكْرَهُ أَنْ يَقْدَحَ أَحَدٌ فِي عِرْضِهِ، فَلْيَكْرَهْ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَقْدَحَ فِي أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ، الَّذِي هُوَ بِمَنْزِلَةِ نَفْسِهِ، وَمَا لَمْ يَصِلِ الْعَبْدُ إِلَى هَذِهِ الْحَالِ، فَإنَّهُ مِنْ نَقْصِ إِيمَانِهِ وَعَدَمِ نُصْحِهِ.
{لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ}؛ وَهَذَا وَعِيدٌ لِلَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ، وَأَنَّهُمْ سَيُعَاقَبُونَ عَلَى مَا قَالُوا مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ حَدَّ النَّبِيُّ ﷺ مِنْهُمْ جَمَاعَةً؛ أَيْ: أَقَامَ عَلَيْهِمْ حَدَّ الْقَذْفِ.
{وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ}؛ أَيْ: مُعْظَمَ الْإِفْكِ، وَهُوَ الْمُنَافِقُ الْخَبِيثُ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ -لَعَنَهُ اللهُ-، {لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ}؛ أَلَا وَهُوَ الْخُلودُ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ.
ثُمَّ أَرْشَدَ اللهُ عِبَادَهُ عِنْدَ سَمَاعِ مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ، فَقَالَ: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا}؛ أَيْ: ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ بَعضُهُمْ بِبَعْضٍ خَيْرًا، وَهُوَ السَّلَامَةُ مِمَّا رُمُوا بِهِ، وَأَنَّ مَا مَعَهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ الْمَعْلُومِ يَدْفَعُ مَا قِيلَ فِيهِمْ مِنَ الْإِفْكِ الْبَاطِلِ.
{وَقَالُوا} بِسَبَبِ ذَلِكَ الظَّنِّ.
{هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ}؛ أَيْ: هَذَا كَذِبٌ وَبَهْتٌ مِنْ أَعْظَمِ الْأَشْيَاءِ وَأَبْيَنِهَا، فَهَذَا مِنَ الظَّنِّ الْوَاجِبِ حِينَ سَمَاعِ الْمُؤْمِنِ عَنْ أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ، وَأَنْ يُبَرِّئَهُ بِلِسَانِهِ، وَيُكَذِّبَ الْقَائِلَ فِيمَا افْتَرَاهُ.
المصدر:مَعِيَّةُ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَأَثَرُهَا فِي تَحْقِيقِ السَّلَامِ النَّفْسِيِّ