الدرس التاسع : «المُرَاقَبَةُ»


«دُرُوسٌ مُهِمَّةٌ لِعُمُومِ المُسْلِمِينَ فِي رَمَضَانَ»

«الدرس التاسع» 

«المُرَاقَبَةُ»

إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.

وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.

وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

«مَقَامُ المُرَاقَبَةِ وَالإِحْسَانِ»

فَعَنْ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: «بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعْرِ، لَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ، حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ وَوَضَعَ كَفَيِّهِ عَلَى فَخِذَيْهِ...

وَسَأَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ- النَّبِيَّ ﷺ عَن الإِسْلَامِ وَالإِيمَانِ وَالإِحْسَانِ.

قَالَ جِبْرِيلُ: فَأَخْبَرَنِي عَنِ الْإِحْسَانِ، قَالَ: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ».

الإِحْسَانُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي تَفْسِيرِهِ: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ».

يُشِيرُ إِلَى أَنَّ العَبْدَ يَعْبُدُ اللهَ تَعَالَى عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، وَهُوَ اسْتِحْضَارُ قُرْبِهِ، وَأَنَّهُ بَيْنَ يَدَيْهِ كَأَنَّهُ يَرَاهُ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الخَشْيَةَ وَالخَوْفَ، وَالهَيْبَةَ وَالتَّعْظِيمَ.

كَمَا جَاءَ في روايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَهِيَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: «أَنْ تَخْشَى اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ»، وُيُوجِبُ أَيْضًا النُّصْحَ فِي العِبَادَةِ، وُيُوجِبُ بَذْلَ الجُهْدِ فِي تَحْسِينِهَا وَإِتْمَامِهَا وَإِكْمَالِهَا.

وَقَوْلُهُ ﷺ: «فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»: قِيلَ إِنَّهُ تَعْلِيلٌ لِلْأَوَّلِ، فَإِنَّ العَبْدَ إِذَا أُمِرَ بِمُرَاقَبَةِ اللهِ فِي العِبَادَةِ، وَاسْتِحْضَارِ قُرْبِهِ مِن عَبْدِهِ حَتَّى كَأَنَّ العَبْدَ يَرَاهُ؛ فَإِنَّهُ قَدْ يَشُقُّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَيَسْتَعِينُ عَلَى ذَلِكَ بِإِيمَانِهِ بِأَنَّ اللهَ يَرَاهُ، وَيَطَّلِعُ عَلَى سِرِّهِ وَعَلَانِيَتِهِ وَبَاطِنِهِ وَظَاهِرِهِ، وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِهِ، فَإِذَا حَقَّقَ هَذَا المَقَامَ؛ سَهُلَ عَلَيْهِ الانْتِقَالُ إِلَى المَقَامِ الثَّانِي وَهُوَ دَوَامُ التَّحْدِيقِ بِالبَصِيرَةِ إِلَى قُرْبِ اللهِ مِن عَبْدِهِ وَمَعِيَّتِهِ حَتَّى كَأَنَّهُ يَرَاهُ.

وَقِيلَ: بَلْ هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَنْ شَقَّ عَلَيْهِ أَنْ يَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّهُ يَرَاهُ، فَلَيَعْبُدِ اللهَ عَلَى أَنَّ اللهَ يَرَاهُ وَيَطَّلِعَ عَلَيْهِ، فَلَيَسْتَحِ مِنْ نَظَرِهِ إِلَيْهِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ أَهْلِ المَعْرِفَةِ وَاليَقِينِ: «اتَّقِ اللهَ أَنْ يَكُونَ أَهْوَنَ النَّاظِرِينَ إِلَيْكَ»، وَهِيَ كَلِمَةٌ صَادِعَةٌ، تَصْدَعُ القَلْبَ وَتُفَتِّتُهُ.

اتَّقِ اللهَ أَنْ يَكُونَ أَهْوَنَ النَّاظِرِينَ إِلَيْكَ: يَعْنِي يَتَحَرَّزُ المَرْءُ مِنَ المَعَاصِي بِنَظَرِ النَّاظِرِينَ إِلَيْهِ، وَإِذَا خَلَا فَعَلَ مَا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ، فَيَجْعَلُ اللهَ أَهْوَنَ النَّاظِرِينَ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ نَزَّلَ نَظَرَ اللهِ إِلَيْهِ مَنْزِلَةَ نَظَرِ المَخْلُوقِينَ إِلَيْهِ؛ لَتَحَرَّزَ مِن المَعْصِيَةِ فِي الخَلْوَةِ كَمَا تَحَرَّزَ مِن المَعْصِيَةِ فِي الجَلْوَةِ، وَلَكِنْ يَتَحَرَّزُ مِن المَعْصِيَةِ فِي الجَلْوَةِ وَيَجْتَرِئُ عَلَيْهَا فِي الخَلْوَةِ، فَهَذَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ جَعَلَ اللهَ أَهْوَنَ النَّاظِرِينَ إِلَيْهِ، وَلَمْ يُبَالِ بِنَظَرِ اللهِ إِلَيْهِ.

وَقَالَ بَعْضُهُم: «خَف اللهَ عَلَى قَدْرِ قُدْرَتِهِ عَلَيْكَ، وَاسْتَحِ مِن اللهِ عَلَى قَدْرِ قُرْبِهِ مِنْكَ».

وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ مَقَامِ الإِحْسَانِ المُشَارِ إِلَيْهِ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ-.

وَيَتَفَاوتُ أَهْلُ هَذَا المَقَامِ فِيهِ يَعْنِي مَقَامَ الإِحْسَانِ- بِحَسَبِ قُوَّةِ نُفُوذِ البَصَائِر.

«وَيْحَك، أَلَا تَعْلَم بأنَّ اللهَ يَرَى؟!!»

النبيُّ ﷺ يُخْبِرُ: «أنَّ أقوامًا يَأْتُونَ يومَ القيامةِ بأعمالٍ بيضاءَ عظيمة كأمثالِ جِبَالِ تِهَامَةَ -مِنْ صلاةٍ وزكاةٍ وصيامٍ وصدقةٍ وحجٍّ وبِرٍّ ووَصْلٍ وغيرِ ذلك مِنْ أمورِ الخير-، فَيَنْظُرُ اللهُ إليها، فَيَجْعَلُها هَبَاءً منثورًا».

فقال الأصحابُ -رضوانُ الله عليهم- وَجِلِين: مَنْ يكونُ هٰؤلاء؟

«أمَا إنهم لمِنْكُم -أمَا إنهم لمِنْكُم-، ويقولون بمِثْلِ قولكم، ويعملون بمِثْلِ أعمالكم؛ ولكنهم قومٌ إذا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللهِ انتهكوها»، قومٌ إذا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللهِ انتهكوها!!

وَيْحَك، أليس عليك مِنْ شهيد؟!!

أليس عليك مِنْ رقيب؟!!

أليس عليك مِنْ سميعٍ يسمعُ هَمْسَ الضميرِ في الضميرِ للضميرِ بالإتيانِ بما يريد؟!! وَيْحَك، ألَا تَعْلَم بأنَّ اللهَ يرى؟!!

وَيْحَك، ألَا تَعْلَم أنَّ اللهَ -تبارك وتعالى- هو السميع البصير!! يَعْلَمُ خائِنة الأعْيُن وما تخفي الصدور؟!!

اللهُ ربُّ العالمين يريدُ من الأعمالِ حقَائِقَها، وحَقَائِقُهَا لا تقومُ إلَّا على الإخلاصِ فيها.

 

«مقاماتُ العَابِدينَ الثَّلاثَة: الخوفُ والرَّجَاءُ والمَحَبَّةُ»

الخوفُ أَحَدُ أركانِ الإيمانِ والإحسانِ.

والثَّلَاثَةُ التي عَلَيْهَا مَدَارُ مَقَامَاتِ السَّالِكِينَ جَمِيعِها؛ هي: الخوفُ والرجاءُ والمَحَبَّةُ، وَقَدْ ذَكَرَهَا -سبحانهُ وَتَعَالَى- في قولِهِ: ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا * أُولَٰئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ﴾ [الإسراء: 57،56].

فَجَمَعَ بَيْنَ المَقَامَاتِ الثلاثة، فَإِنَّ ابتغاءَ الوسيلةِ إليه هو التقرُّبُ إليه بِحُبِّهِ وفِعْلِ مَا يُحِبُّهُ، ثم يقول: ﴿وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ﴾، فَذَكَرَ الحُبَّ والخَوْفَ والرَّجَاءَ.

والمعنى: إنَّ الذينَ تَدْعُونَهُم مِن دونِ اللهِ مِن المَلائكةِ والأنبياءِ والصَّالِحينَ يَتَقَرَّبُونَ إلى رَبِّهِم ويخافونَهُ ويرجونَهُ، فَهُم عَبِيدُهُ كَمَا أَنَّكُم عَبِيدُهُ، فَلِمَاذَا تَعْبُدُونَهُم مِن دُونِهِ وَأَنْتُم وَهُم عَبِيدٌ له؟!

وَقَد أَمَرَ سبحانهُ بالخوفِ منه في قولِهِ جل وعلا-: ﴿فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 175].

فَالْخَوْفُ مِنَ الْعِبَادَاتِ الْجَلِيلَةِ، وَالْخَوْفُ وَالذُّعْرُ هُوَ انْفِعَالٌ يَحْصُلُ بِتَوَقُّعِ مَا فِيهِ هَلَاكٌ أَوْ ضَرَرٌ أَوْ أَذًى.

«ثَنَاءُ اللهِ عَلَى الخَائِفِينَ مِنْهُ»

وَقَد أَثْنَى سبحانهُ على أَقْرَبِ عِبَادِهِ إليه بِالخَوْفِ مِنْهُ؛ فَقَالَ عن أنبيائِهِ بعد أنْ أَثْنَى عَلَيْهِم وَمَدَحَهُم: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا﴾ [الأنبياء: 90].

فالرَّغَبُ: الرَّجَاءُ والرَّغْبَةُ، والرَّهَبُ: الخَوْفُ والخَشْيَةُ.

وقالَ عن ملائكتِهِ الذين قد أَمَّنَهُم مِن عَذَابِهِ: ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [النحل: 50].

«أَعْرَفُ الخَلْقِ بِاللهِ أَشَدُّهُم لَهُ خَشْيَةً»

وفي «الصحيحين» عن النبي ﷺ أنه قال: «إِنِّي أَعْلَمُكُم بِاللهِ وَأَشَدُّكُم لَهُ خَشْيَةً»، وفي لَفْظٍ آخر في روايةٍ لِمُسْلِمٍ: «إِنِّي أَخْوَفُكُم للهِ وَأَعْلَمُكُم بِمَا أَتَّقِي».

وكان يُصَلِّي ولِصَدْرِهِ أَزِيزٌ كأزيزِ المِرْجَلِ مِن البُكَاءِ، وَقَد قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر: 28]، فَكُلَّمَا كان العبدُ باللهِ أعلمَ كان له أَخْوَفَ، قال ابنُ مَسْعُودٍ رضي اللهُ عنه-: «وَكَفَى بِخَشْيَةِ اللهِ عِلْمًا».

وَنُقْصَانُ الخوفِ مِنَ اللهِ إِنَّمَا هو لِنُقْصَانِ معرفةِ العبدِ به، فَأَعْرَفُ النَّاسِ بِاللهِ أَخْشَاهُم له، ومَنْ عَرَفَ اللهَ اشْتَدَّ حياؤهُ منه وَخَوْفُهُ له وَحُبُّهُ له، وَكُلَّمَا ازدادَ معرفةً ازدادَ حَيَاءً وَخَوْفًا وَحُبًّا، فالخوفُ مِن أَجَلِّ مَنَازِلِ الطريقِ، وَخَوْفُ الخاصة أعظمُ مِن خَوْفِ العَامَّةِ، وَهُم إليه أَحْوَجُ؛ وَهُم بهم أَليَق؛ وَهُم له أَلْزَم، فَإِنَّ العبدَ إِمَّا أنْ يكونَ مَسْتَقِيمًا أو مَائِلًا عن الاستقامة، فإنْ كان مَائِلًا عن الاستقامةِ فَخَوْفُهُ مِن العقوبةِ على مَيْلِهِ، ولا يَصِحُّ الإيمانُ إلَّا بهذا الخَوْفِ.

والخَوْفُ يَنْشَأُ مِن ثلاثةِ أمورٍ:

*أحدُهَا: مَعرِفَتُهُ بِالجِنَايَةِ وَقُبْحِهَا.

*والثَّانِي: تَصْدِيقُ الوعيدِ وَأَنَّ اللهَ رَتَّبَ على المعصيةِ عقوبتَهَا.

*والثَّالِثُ: أنه لا يَعْلَمُ لَعَلَّهُ يُمْنَعُ مِن التَّوْبَةِ وَيُحَالُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إذا ارتكبَ الذَّنْبَ.

مَن استقرَّ في قلبِهِ ذِكْرُ الدارِ الآخرة وجزائها وذِكْرُ المعصيةِ والتَّوعد عليها وعدم الوثوق بإتيانِهِ بالتوبةِ النَّصُوح؛ هَاجَ في قلبِهِ مِن الخَوْفِ ما لا يَمْلكُهُ ولا يُفَارِقُهُ حتى يَنْجُو، وأَمَّا إنْ كانَ مُسْتَقِيمًا مع اللهِ؛ فَخَوْفُهُ يكونُ مع جريانِ الأنْفَاسِ لِعِلْمِهِ بِأَنَّ اللهَ مُقَلِّبُ القلوبِ، وَمَا مِن قَلْبٍ إلَّا وهو بين إصبعيْن مِن أصابع الرحمن عَزَّ وَجَلَّ- فَإِنْ شَاءَ أَنْ يُقِيمَهُ أَقَامَهُ؛ وإنْ شَاءَ أنْ يُزِيغَهُ أَزَاغَهُ كَمَا ثَبَتَ عن النبيِّ ﷺ: «كَانِت أَكْثَرُ يَمِينِهِ لَا وَمُقَلِّب القُلُوبِ لَا وَمُقَلِّب القُلُوبِ».

«الخَوْفُ فَرْضٌ عَلَى كلِّ أَحَدٍ»

والخَوْفُ فَرْضٌ على كلِّ أَحَدٍ، قالَ اللهُ جَلَّ وَعَلَا-: ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾[آل عمران: 175]، يَعْنِي يُخَوِّفُكُمْ أَوْلِيَاءَهُ، يُخَوِّفُكُمْ بِأَوْلِيَائِهِ، يُخَوِّفُكُمْ مِنْ أَوْلِيَائِهِ، وَيُعَظِّمُهُمْ فِي صُدُورِكُمْ، وَيُكَبِّرُهُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ.

 ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْخَوْفَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْإِيمَانِ ﴿فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾؛ فَأَتَى بِهَذَا الشَّرْطِ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ نَفْيَ هَذَا الْخَوْفِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْإِيمَانِ ﴿فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾ [النحل: 51].

وَقَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْن﴾ [المائدة:  44].

 

«الخَوْفُ المَحْمُودُ الصَّادِقُ وَالخَوْفُ المَذْمُومُ»

الْخَوْفُ مِنَ اللهِ تَعَالَى يَكُونُ مَحْمُودًا، وَيَكُونُ غَيْرَ مَحْمُودٍ.

 مَتَى يَكُونُ الْخَوْفُ مِنَ اللهِ مَحْمُودًا؟ وَمَتَى يَكُونُ الْخَوْفُ مِنَ اللهِ غَيْرَ مَحْمُودٍ؟

*الخوفُ الْمَحْمُودُ: مَا كَانَتْ غَايَتُهُ أَنْ يَحُولَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ مَعْصِيَةِ اللهِ، الْخَوْفُ مِنَ اللهِ الَّذِي يَحُولُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ مَعْصِيَةِ اللهِ بِحَيْثُ يَحْمِلُكَ عَلَى فِعْلِ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ؛ فَهَذَا خَوْفٌ مِنَ اللهِ مَحْمُودٌ؛ فَإِذَا حَصَلَتْ هَذِهِ الْغَايَةُ سَكَنَ الْقَلْبُ وَاطْمَأَنَّ، وَغَلَبَ عَلَيْهِ الْفَرَحُ بِنِعْمَةِ اللهِ، وَرَجَاءٌ لِثَوَابِهِ ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [يونس: 58]، فَهَذَا هُوَ الْخَوْفُ الْمَحْمُودُ مِنَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.

*وَأَمَّا الْخَوْفُ غَيْرُ الْمَحْمُودِ: فَهُوَ مَا يَحْمِلُ الْعَبْدُ عَلَى الْيَأْسِ مِنْ رَوْحِ اللهِ وَالْقُنُوطِ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ، وَحِينَئِذٍ يَتَحَسَّرُ الْعَبْدُ وَيَنْكَمِشُ، وَيَتَمَادَى فِي الْمَعْصِيَةِ بِقُوَّةِ يَأْسِهِ ﴿إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ [يوسف: 87]؛ فَالْخَوْفُ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الْيَأْسِ لَيْسَ مَحْمُودًا.

الْخَوْفُ الْمَحْمُودُ مِنَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هُوَ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى فِعْلِ الْوَاجِبَاتِ، وَاجْتِنَابِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَإِذَا فَعَلَ الْإِنْسَانُ ذَلِكَ اطْمَأَنَّ قَلْبُهُ، وَسَكَنَتْ رُوحُهُ، وَزَالَ خَوْفُهُ.

 وَأَمَّا الْخَوْفُ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الْيَأْسِ، فَلَيْسَ مَحْمُودًا.

 

«خَوْفُ الصَّالِحِينَ»

﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَة

مَدَحَ اللهُ أَهْلَ الخَوْفِ في كتابِهِ وَأَثْنَى عَلَيْهِم فَقَالَ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾ [المؤمنون: 57-61].

في «المُسْنَدِ» والترمذي عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قلت يا رسول الله؛ قَوْلُ اللهِ جَلَّ وَعَلَا-: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَة﴾ [المؤمنون: 60]، أهو الذي يَزْنِي وَيَشْرَبُ الخَمْرَ وَيَسْرِقُ؟

قَالَ: «لَا يَا ابْنَةَ الصِّدِّيق، وَلَكِنَّهُ الرَّجُلُ يَصُومُ وَيُصَلِّي وَيَتَصَدَّقُ وَيَخَافُ أنْ لا يُقْبَلَ مِنْهُ».

أَخْرَجَهُ الترمذيُّ وابنُ مَاجَه، وهو حديثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

 قَالَ رَسُولُ للهِ ﷺ: «وَاللهِ مَا أَدْرِي، وَأَنَا رَسُولُ الله، مَاذا يُفْعَلُ بِي».

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رضي الله عنهما- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ تَلَا قَوْلَهُ تعالى فِي إِبْرَاهِيمَ: ﴿رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي﴾ [إبراهيم: 36].

وَقَالَ عِيسَى -عَلَيْهِ السَّلَام-: ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [المائدة: 118].

فَرَفَعَ يَدَيْهِ: «اللَّهُمَّ أُمَّتِي أُمَّتِي وَبَكَى».

فَقَالَ اللَّهُ -جَلَّ وعلا-: «يَا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ -وَرَبُّكَ أَعْلَمُ- فَسَلْهُ مَا يُبْكِيكَ».

فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَام- فَسَأَلَهُ، فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِمَا قَالَ وَهُوَ أَعْلَمُ.

فَقَالَ اللَّهُ: «يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ فَقُلْ: إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ وَلَا نَسُوءُكَ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَكَانَ ﷺ يُصَلِّى وَلِخَوْفِهِ في جَوْفِهِ أَزْيزٌ كأَزِيزِ المِرْجَلِ مِن البُكَاءِ.

وَرُوِّينَا عن أبي بَكر الصِّديق -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ كانَ يُمْسِكُ لِسَانَهُ وَيَقُولُ: «هَذَا الذي أَوْرَدَنِي المَوَارِدَ». وَقَالَ: «يَا لَيْتَنِي كُنْتُ شَجَرَةً تُعْضَدُ ثُمَّ تُؤكَلُ».

وكذلكَ قَالَ طَلْحَة وأبو الدَّرْدَاء وأبو ذَر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم-.

وكان عُمَرُ بنُ الخَطَّاب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَسْمَعُ آيةً؛ فَيَمْرَضُ؛ فَيُعَادُ أَيَّامًا، وَأَخَذَ يَوْمًا تِبْنَةً مِن الأرضِ فَقَالَ: «يَا لَيْتَنِي كُنْتُ هذه التِّبْنَةَ، يَا لَيْتَنِي لَم أَكُ شَيْئًا مَذْكُورًا، يَا لَيْتَ أُمِّي لَم تَلِدْنِي». وكانَ في وَجْهِهِ خَطَّان أَسْوَدَانِ مِن البُكَاءِ.

وقالَ عُثْمَانُ -رَضِيَ اللهُ عنهُ-: «وَدِدْتُ أَنِّي إِذَا مِتُّ لَا أُبْعَثُ».

وَقَالَ أبو عُبيْدَة بن الجَرَّاح -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «وَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ كَبْشًا فَذَبَحَنِي أَهْلِي، فَأَكَلُوا لَحْمِي، وانْتَهَى أَمْرِي».

وَقَالَ عمران بن حُصَيْن: «يا لَيْتَنِي كُنْتُ رَمَادًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ».

وقال حُذيْفَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «وَدِدْتُ أنَّ لي إِنْسَانًا يكونُ في مَالِي، ثُمَّ أُغْلِقُ عَليَّ بَابِي، فَلَا يَدْخُلُ عَليَّ أَحَدٌ حَتَّى أَلْحَقَ بِاللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-».

وكان مَجْرَى الدَّمْعِ في خَدِّ ابنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-كالشِّرَاكِ البَالِي.

قالت عائشةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: «يَا لَيْتَنِي كُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا»، كَمَا قَالَت مَرْيَمُ مِن قَبْل.

وقال عَليٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «والله لَقَد رَأيْتُ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ ﷺ، فَمَا أَرَى اليومَ شَيْئًا يُشْبِهُهُم، لَقَد كانوا يُصْبِحُونَ شُعْثًا غُبْرًا، بينَ أَعْيُنِهِم أَمْثَالُ رُكَبِ المَعْزَى، قَد بَاتُوا للهِ سُجَّدًا وَقِيَامًا، يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ تَعَالَى، يُرَاوِحُونَ بَيْنَ جِبَاهِهِم وأقدامِهِم، فإذا أَصْبَحُوا فَذَكَرُوا اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ-، مَادُوا أي: اضطربُوا- كَمَا يَمِيدُ الشَّجَرُ في يومِ الرِّيحِ، وَهَملت أَعْيُنُهُم حَتَّى تَبَلَّ ثِيَابَهُم، والله لأن القومَ كأنَّمَا بَاتُوا غَافِلِينَ»، لأنَّهُم كانوا لا يُرَاءونَ.

قال الحَسَنُ: «عَمِلُوا والله بِالطَّاعَاتِ واجتَهِدُوا فِيهَا وَخَافُوا أنْ تُرَدَّ عَلَيْهِم، إنَّ المُؤمِنَ جَمَعَ إِحْسَانًا وَخَشْيَةً، والمُنَافِقُ جَمَعَ إِسَاءَةً وَأَمْنًا».

قال أبُو حَفْص: «الخَوْفُ سَوْطُ اللهِ يُقَوِّمُ به الشَّارِدِينَ عَن بَابِهِ».

وقَالَ: «الخوفُ سِرَاجٌ في القَلْبِ به يُبْصِرُ ما فيه مِن الخيرِ والشَّرِّ، وكلُّ أَحَدٍ إذا خِفْتَهُ هَرَبْتَ مِنْهُ إِلَّا الله فَإِنَّكَ إِذا خِفْتَهُ هَرَبْتَ إِلَيْهِ»، فَالخَائِفُ هَارِبٌ مِن رَبِّهِ إلى رَبِّهِ.

قال أبو سُليمان: «مَا فَارَقَ الخَوفُ قَلْبًا إلَّا خَرِبَ».

وقال إبراهيمُ بن سُفيان: «إذا سَكَنَ الخَوْفُ القلوبَ أَحْرَقَ مَوَاضِعَ الشَّهَوَاتِ مِنْهَا وَطَرَدَ الدُّنْيَا عَنْهَا».

وَقَالَ غَيْرُهُ: «النَّاسُ عَلَى الطَّرِيقِ مَا لَم يَزُل عَنْهُم الخَوْفُ، فَإِذَا زَالَ عَنْهُم الخَوْفُ ضَلُّوا الطَّرِيقَ».

«الخَوْفُ يَمْنَعُكَ مِنْ مَعْصيَةِ اللهِ وَقِصَّةٌ رَائِعَةٌ»

إنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا لَمْ يَخَفْ مِنَ اللهِ اتَّبَعَ هَوَاهُ، وَلَاسِيَّمَا إِذَا كَانَ طَالِبًا مَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ، وَهُوَ يَطْلُبُ مَا لَا يَحْصُلُ لَهُ وَلَمْ يُحَصِّلْهُ، وَلَا يَخَافُ رَبَّهُ فِي طَلَبِهِ، وَيَتَّبِعُ هَوَاهُ؛ هَذَا تَبْقَى نَفْسُهُ طَالِبَةً لِمَا تَسْتَرِيحُ بِهِ، وَتَدْفَعُ بِهِ الْغَمَّ وَالْحُزْنَ عَنْهَا وَلَيْسَ عِنْدَهَا مِنْ ذِكْرِ اللهِ وَعِبَادَتِهِ مَا تَسْتَرِيحُ إِلَيْهِ وَبِهِ، وَيَسْتَرِيحُ إِلَى الْمُحَرَّمَاتِ حِينَئِذٍ مِنْ فِعْلِ الْفَوَاحِشِ وَشُرْبِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَقَوْلِ الزُّورِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُغْضِبُ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا-. الْإِنْسَانُ إِذَا لَمْ يَخَفْ رَبَّهُ اتَّبَعَ هَوَاهُ، وَأَمَّا إِذَا خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ نَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى؛ كَمَا قَالَ اللهُ(1).

والزُّهادُ مِن أُمةِ مُحمَّدٍ ﷺ كان منهم مَن كان شفيفَ البصيرةِ جدًّا، وكان له في الدعوةِ باعٌ لا يُنكر، إبراهيمُ بن أدهم رحمة الله عليه-، فإنَّ رجُلًا مِمن أسرفَ على نفسِهِ جاء إليه، فقالَ يا أبا إسحاق: إنِّي قد أسرفتُ على نفسي، فعِظْنِي بمَوعظةٍ لعلَّ اللهَ تبارك وتعالى- أنْ ينفعني بها.

فقال: نعم، هي خمسةُ أمورٍ، إنْ أَخَذْتَ بها وقَدَرْتَ عليها؛ نفعكَ اللهُ تبارك وتعالى- بها.

قال: هات يا أبا إسحاق.

قال إبراهيمُ -رحمهُ الله-: إنْ أردْتَ أنْ تعصيَ اللهَ تبارك وتعالى- فلا تأكُل رزقَهُ.

قال: وكيف ذلك يا أبا إسحاق، وكلُّ ما في الأرضِ إنما هو رزقُهُ؟

قال: أويَجْمُلُ أنْ تأكُلَ رزقَهُ وتعصيَ أمرَهُ؟!!

قال: لا، هات الثانيةَ يا أبا إسحاق.

فقالَ إبراهيمُ -رحمهُ اللهُ-: إنْ أرَدْتَ أنْ تعصيَ أمرَهُ فلا تسكُن أرضَهُ، ولا تكُن مُقيمًا في بلدٍ مِن بلادِهِ.

قال: هذه أَعْسَرُ مِن الأولى يا أبا إسحاق، وما بينَ المشرقِ والمغربِ وما فوقَ ذلك وما دونَهُ إنما هو مُلْكُهُ!

قال إبراهيمُ -رحمهُ اللهُ-: أويَجْمُلُ أنْ تأكلَ رزقَهُ وتسكنَ أرضَهُ وتعصيَ أمرَهُ؟!!

قال: لا، هات الثالثة يا أبا إسحاق.

قال: إنْ أرَدْتَ إلَّا أنْ تأكُلَ رزقَهُ وتسكُنَ بلدَهُ وتعصيَ أمرَهُ؛ فاعْصِهِ في مكانٍ لا يطَّلِعُ عليك فيه.

قال: وكيف ذلك وهو يعلمُ السِّرَّ وأَخْفَى، وهو مُطَّلِعٌ على البواطنِ ويعلمُ الهواجسَ ولا يخْفَى عليه شيء؟!!

قال: يا هذا أَويَجْمُلُ بك أنْ تأكُلَ رزقَهُ، وتسكُنَ أرضَهُ، ثمَّ تأتي بالمعصيةِ كِفاحًا بحيثُ يطَّلِعُ عليك؟!!

قال: لا والله يا أبا إسحاق، هات الرابعة.

فقالَ: إذا أَتَاكَ مَلَكُ الموتِ، فقُل له: أَجِّلْنِي حتى أتوبَ.

قال: إنه لا يُمَكِّنُنِي يا أبا إسحاق.

قال: فأين النجاةُ إذن إذا كان لا يُؤجِّلُكَ؟!!

قال: هات الخامسةَ يا أبا إسحاق.

فقالَ له إبراهيمُ -رحمه الله-: إذا ما أخذَ الزبانيةُ بيَديْكَ ورِجليْكَ لكي يُلقُوكَ في النارِ؛ فاستعصِ عليهم ولا تُطَاوِعْهُم.

قال: وكيف لي بذلك يا أبا إسحاق؟! حَسْبي فقَدْ فَطِنْتُ.

«الوَحْيُ هُوَ نُورُ العَالَم وَحَيَاتُهُ وَهِدَايَتُهُ»

الخَوْفُ فَرْضٌ على كلِّ أَحَدٍ، وَالوَحْيُ هُوَ نُورُ العَالَم وَحَيَاتُهُ وَهِدَايَتُهُ, وَعَلَى قَدْرِ تَمَسُّكِ الإِنْسَانِ بِهَذَا النُّورِ وَالحَيَاةِ وَالهُدَى يَكُونُ تَحْقِيقُهُ لِلْقَصْدِ الَّذِي لِأَجْلِهِ خَلَقَهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى-, فَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى- خَلَقَنَا لِغَايَةٍ, وَهَذِهِ الغَايَةُ مُبَيَّنَةٌ فِي الوَحْيِ المَعْصُومِ, وَإِذَا مَا عَاشَ النَّاسُ بِهَذَا الوَحْيِ؛ سَعِدُوا فِي الحَيَاةِ, وَتَجَنَّبُوا سُبُلَ الشَّقَاءِ فِي الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ, وَلَا حَيَاةَ لِهَذَا العَالَمِ إِلَّا بِأَنْ يَتَمَسَّكَ بِالوَحْيِ.

وَالَّذِي يُرِيدُهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنَّا هُوَ: «أَنْ نَحْيَا بِالوَحْيِ», وَهَذِهِ الجُمْلَة لَوْ أَنَّكَ أَخَذْتَ مَعْنَاهَا الصَّحِيح, وَجَعَلْتَهُ فِي حَيَاتِكِ نِبْرَاسًا وَمَنْهَاجًا, وَحَقَّقْتَهُ فِي ذَاتِكَ وَفِي رُوحِكَ وَفِي نَفْسِكَ وَفِي جَسَدِكَ وَفِي مَنْ حَوْلَكَ, هَذِهِ الجُمْلَةُ تُورِثُكَ السَّعَادَةَ دُنْيَا وَآخِرَة, وَتُجَنِّبُكَ الشَّقَاءَ وَالتَّعَاسَةَ دُنْيَا وَآخِرَة، وَهِيَ: عِشْ بِالوَحْيِ.

ولو أنَّ الناسَ أطاعوا الرسولَ ﷺ ظاهرًا وباطنًا ما وُجِدَ في الدنيا شرٌّ قَطُّ، وإنَّمَا يُوجَد الشَّرُّ في المَكَانِ على قَدْرِ مُخَالفةِ النبي ﷺ، والناسُ أحوجُ إلى الرسالةِ منهم إلى الطعامِ والشَّرَابِ، بل إلى النَّفَسِ؛ لأنَّ الجسدَ إذا حُرِمَ النَّفَسَ مَاتَ، وأمَّا القلبُ فإذا مَا حُرِمَ الرسالةَ هَلَكَ، وهلاكُ القلوبِ هَلَاكُ الآخرةِ وضياعُهَا، وهذا أكبرُ وأعظمُ مِن هلاكِ الأبدانِ وضياعِ الدنيا.

«نَصِيحَةٌ جَامِعَةٌ نَافِعَةٌ: كُنْ بَيْنَ الخَوْفِ وَالرَّجَاءِ...»

فَاعْلَم أَيُّهَا الأَخُ الحَبِيبُ أنَّ الخَوْفَ وَاجِبٌ، يَجِبُ عَلَيْكَ أَنْ تَخَافَ مِنْ اللهِ، وَالخَوْفُ المَحْمُودُ الصَّادِقُ مَا حَجَزَكَ عَن مَحَارمِ اللهِ، إنْ لم تَأْتِ بِهَذَا الخَوْفِ عَلَى هَذَا النَّحْوِ عُوقِبْتَ؛ لأَنَّكَ لم تَأْتِ بِوَاجِبٍ أَوْجَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ، وَفَرَّطْتَ في حَقٍّ أَحَقَّهُ اللهُ عَلَيْكَ.

وَاعَلْم أَيُّهَا الأَخُ الحَبِيبُ أَنَّ اليَأسَ مِنْ رَوْحِ اللهِ وَأَنَّ القُنُوطَ مِن رَحْمَتِهِ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ وَمِنْ عَظَائمِ الإِثْمِ، فَإِنْ تَوَرَطْتَ في ذَلِكَ تَوَرَطْتَ في كَبَيرةٍ مِنْ كَبَائِرِ الإِثْمِ وَعَظِيمَةٍ مِنْ عَظَائِمِ الذُّنُوبِ.      

*فَنَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُعَلِّمنَا دِينَنَا وَأَنْ يُمَسِّكَنَا بِهِ، إِنَّهُ تَعَالَى عَلَى كلِّ شَيْءٍ قَدِيرٍ، وَصَلَّى اللهم وَسَلَّم علَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

 

 المصدر:دُرُوسٌ مُهِمَّةٌ لِعُمُومِ المُسْلِمِينَ فِي رَمَضَانَ

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  الْإِكْثَارُ مِنْ ذِكْرِ اللهِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ
  تَعْرِيفُ الْمُسْكِرِ لُغَةً وَشَرْعً
  مَشْرُوعِيَّةُ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَحِكْمَتُهُمَا
  فَضَائِلُ رِعَايَةِ الْبَنَاتِ
  بِنَاءُ الْوَطَنِ الْقَوِيِّ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْأَمَلِ
  مِنْ فَوَائِدِ الصِّيَامِ وَمَقَاصِدِهِ
  تَرْبِيَةُ الطِّفْلِ عَلَى حَمْلِ أَمَانَةِ دِينِهِ وَأُمَّتِهِ
  دَلَائِلُ عَدْلِ وَرَحْمَةِ الْإِسْلَامِ بِالْعَالَمِ
  الْمَوْعِظَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعُشْرُونَ : ((الْحَثُّ عَلَى التَّوَاضُعِ))
  أَقْبِلُوا عَلَى ذِكْرِ اللهِ!
  مِنْ حُقُوقِ الطِّفْلِ: الرِّفْقُ وَالرَّحْمَةُ بِهِ
  الِاسْتِعْدَادُ لِرَمَضَانَ لَا يَكُونُ بِالْإِسْرَافِ!!
  الْإِسْلَامُ رَحْمَةٌ فِي السِّلْمِ وَالْحَرْبِ
  الْعِيدُ وَاجْتِمَاعُ الْمُسْلِمِينَ وَنَبْذُ الْخِلَافَاتِ
  الرَّدُّ عَلَى افْتِرَاءَاتِ الْمَادِّيِّينَ الْجَاهِلِينَ أَنَّ الْعُلُومَ الْعَصْرِيَّةَ وَالْمُخْتَرَعَاتِ الْحَدِيثَةَ غَيْرُ دَاخِلَةٍ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان