((جُمْلَةٌ مِنْ أَخْلَاقِ النَّبِيِّ ﷺ الْكَرِيمَةِ وَصِفَاتِهِ النَّبِيلَةِ))
قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 3-4].
((وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا عَظِيمًا، كَمَا يُفِيدُهُ التَّنْكِيرُ، غَيْرَ مَقْطُوعٍ، بَلْ هُوَ دَائِمٌ مُسْتَمِرٌّ، وَذَلِكَ لِمَا أَسْلَفَهُ النَّبِيُّ ﷺ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَالْأَخْلَاقِ الْكَامِلَةِ، وَالْهِدَايَةِ إِلَى كُلِّ خَيْرٍ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}؛ أَيْ: عَلِيًّا بِهِ، مُسْتَعْلِيًا بِخُلُقِكَ الَّذِي مَنَّ اللهُ عَلَيْكَ بِهِ.
وَحَاصِلُ خُلُقِهِ الْعَظِيمِ مَا فَسَّرَتْهُ بِهِ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- لِمَنْ سَأَلَهَا عَنْهُ، فَقَالَتْ: ((كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ)) .
وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْلِهِ -تَعَالَى- لَهُ: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ} الْآيَةَ، {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} الْآيَةَ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّاتِ عَلَى اتِّصَافِهِ ﷺ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَالْآيَاتِ الْحَاثَّاتِ عَلَى كُلِّ خُلُقٍ جَمِيلٍ؛ فَكَانَ لَهُ مِنْهَا أَكْمَلُهَا وَأَجَلُّهَا، وَهُوَ فِي كُلِّ خَصْلَةٍ مِنْهَا فِي الذُّرْوَةِ الْعُلْيَا.
فَكَانَ ﷺ سَهْلًا لَيِّنًا، قَرِيبًا مِنَ النَّاسِ، مُجِيبًا لِدَعْوَةِ مَنْ دَعَاهُ، قَاضِيًا لِحَاجَةِ مَنِ اسْتَقْضَاهُ، جَابِرًا لِقَلْبِ مَنْ سَأَلَهُ، لَا يَحْرِمُهُ، وَلَا يَرُدُّهُ خَائِبًا، وَإِذَا أَرَادَ أَصْحَابُهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- مِنْهُ أَمْرًا وَافَقَهُمْ عَلَيْهِ، وَتَابَعَهُمْ فِيهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَحْذُورٌ.
وَإِنْ عَزَمَ عَلَى أَمْرٍ لَمْ يَسْتَبِدَّ بِهِ دُونَهُمْ، بَلْ يُشَاوِرُهُمْ وَيُؤَامِرُهُمْ، وَكَانَ يَقْبَلُ مِنْ مُحْسِنِهِمْ، وَيَعْفُو عَنْ مُسِيئِهِمْ.
وَلَمْ يَكُنْ يُعَاشِرُ جَلِيسًا لَهُ إِلَّا أَتَمَّ عِشْرَةً وَأَحْسَنَهَا، فَكَانَ لَا يَعْبَسُ فِي وَجْهِهِ، وَلَا يُغْلِظُ عَلَيْهِ فِي مَقَالِهِ، وَلَا يَطْوِي عَنْهُ بِشْرَهُ، وَلَا يُمْسِكُ عَلَيْهِ فَلَتَاتِ لِسَانِهِ، وَلَا يُؤَاخِذُهُ بِمَا يَصْدُرُ مِنْهُ مِنْ جَفْوَةٍ، بَلْ يُحْسِنُ إِلَيْهِ غَايَةَ الْإِحْسَانِ، وَيَحْتَمِلُهُ غَايَةَ الِاحْتِمَالِ ﷺ )) .
*وَهَذِهِ بَعْضُ جَوَانِبِ أَخْلَاقِ النَّبِيِّ ﷺ الْكَرِيمَةِ وَصِفَاتِهِ النَّبِيلَةِ الَّتِي يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَأَسَّى بِهَا، وَنَجْعَلَ مِنْ هَذَا التَّأْسِّي وَاقِعًا عَمَلِيًّا فِي حَيَاتِنَا؛ وَمِنْهَا:
*أَمَانَةُ النَّبِيِّ ﷺ:
إِنَّ الْأَمَانَةَ وَصْفُ الْمُرْسَلِينَ، هِيَ أَبْرَزُ أَخْلَاقِ الرُّسُلِ.. نُوحٍ، وَهُودٍ، وَصَالِحٍ، وَلُوطٍ، وَشُعَيْبٍ؛ فِي (سُورَةِ الشُّعَرَاءِ) يُخْبِرُنَا اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- أَنَّ كُلَّ رَسُولٍ مِنْ هَؤُلَاءِ قَدْ قَالَ لِقَوْمِهِ: {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} [الدخان: 18].
وَرَسُولُنَا مُحَمَّدٌ ﷺ كَانَ فِي قَوْمِهِ -قَبْلَ الرِّسَالَةِ.. قَبْلَ أَنْ يُنَبَّأَ.. قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ, وَبَعْدَ ذَلِكَ- كَانَ مَشْهُورًا بَيْنَهُمْ بِأَنَّهُ الْأَمِينُ، كَانَ النَّاسُ يَخْتَارُونَهُ لِحِفْظِ وَدَائِعِهِمْ عِنْدَهُ، وَلَمَّا هَاجَرَ وَكَّلَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بِرَدِّ الْوَدَائِعِ إِلَى أَصْحَابِهَا.
يَسْعَوْنَ إِلَى قَتْلِهِ وَإِيصَالِ الْأَذَى إِلَيْهِ بِكُلِّ سَبِيلٍ، وَيَكْفُرُونَ بِمَا جَاءَ بِهِ، وَيُكَذِّبُونَ مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ، وَيَأْتَمِنُونَهُ؛ لِأَنَّهُ الْأَمِينُ -صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ-.
قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا} [النساء: ٥٨].
قَالَ الْعَلَّامَةُ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- : ((الْأَمَانَاتُ كُلُّ مَا اؤْتُمِنَ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ وَأُمِرَ بِالْقِيَامِ بِهِ، فَأَمَر اللهُ عِبَادَهَ بِأَدَائِهَا؛ أَيْ: كَامِلَةً مُوَفَّرَةً، لَا مَنْقُوصَةً وَلَا مَبْخُوسَةً، وَلَا مَمْطُولًا بِهَا، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ أَمَانَاتُ الْوِلَايَاتِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَسْرَارِ؛ وَالْمَأْمُورَاتِ الَّتِي لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا إِلَّا اللهُ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنِ اؤْتُمِنَ أَمَانَةً وَجَبَ عَلَيْهِ حِفْظُهَا فِي حِرْزِ مِثْلِهَا، قَالُوا: لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَدَاؤُهَا إِلَّا بِحِفْظِهَا؛ فَوَجَبَ ذَلِكَ.
وَفِي قَوْلِهِ: {إِلَى أَهْلِهَا} دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهَا لَا تُدْفَعُ وَتُؤَدَّى لِغَيْرِ الْمُؤْتَمِنِ، وَوَكِيلُهُ بِمَنْزِلَتِهِ؛ فَلَوْ دَفَعَهَا لِغَيْرِ صَاحِبِهَا لَمْ يَكُنْ مُؤَدِّيًا لَهَا)).
وَقَالَ اللهُ تَعَالَى: {لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ} [الأنفال: ٢٧].
وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَاءٍ} [الأنفال: ٥٨].
وَقَالَ ﷺ: «أَدِّ الْأَمَانَةَ لِمَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ».
هَذَا دِينُ اللهِ، دِينُ الْإِسْلَامِ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ ﷺ لَا غَدْرَ فِيهِ وَلَا خِيَانَةَ فِيهِ، وَإِنَّمَا هُوَ عَدْلٌ مُطْلَقٌ, وَحَقٌ كَامِلٌ, وَأَمَانَةٌ شَامِلَةٌ.
أَدُّوا الْأَمَانَةَ!
لَا تَخُونُوا اللهَ!
لَا تَخُونُوا الرَّسُولَ!
لَا تَخُونُوا الْبَلَدَ الْإِسْلَامِيَّ الَّذِي أَظَلَّتْكُمْ سَمَاؤُهُ, وَأَقَلَّتْكُمْ أَرْضُهُ, وَرَوَاكُمْ مَاؤُهُ, وَاسْتَنْشَقْتُمْ هَوَاءَهُ, اتَّقُوا اللهَ فِيهِ, لَا تَخُونُوهُ, أَدُّوا الْأَمَانَةَ فِيهِ؛ فَإِنَّهُ أَمَانَةٌ فِي أَعْنَاقِكُمْ.
*جُودُهُ وَكَرَمُهُ ﷺ؛ فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ».
كَانَ النَّبِيُّ ﷺ فِي حَالَاتِهِ جَمِيعِهَا في كُلِّ الْعَامِ أَجْوَدَ الْخَلْقِ، لَا يَرُدُّ سَائِلًا، وَيُعْطِي عَطَاءَ مَنْ لَا يَخْشَى الْفَقْرَ.
وَفِي «الصَّحِيحِ»: أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ بِبُرْدَةٍ، فَأَهْدَتْهَا إِلَيْهِ.
تَدْرُونَ مَا الْبُرْدَةُ؟
قِيلَ: الشَّمْلَةُ.
وَقِيلَ: شَمْلَةٌ مُطَرَّزَةٌ بِحَاشِيَتِهَا، مَنْسُوجَةٌ بِحَاشِيَتِهَا.
فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ ﷺ مُحْتَاجًا إِلَيْهَا فَلَبِسَهَا.
فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: يَا رَسُولَ اللهِ! اكْسُنِيهَا.
فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «هِيَ لَكَ». وَأَعْطَاهُ إِيَّاهَا.
ثُمَّ دَخَلَ النَّبِيُّ ﷺ بَيْتَهُ, فَأَقْبَلَ أَصْحَابُهُ -أَيْ أَصْحَابُ الرَّجُلِ، أَقْبَلُوا- عَلَيْهِ لَائِمِينَ.
وَقَالُوا: تَعْلَمُ أَنَّهُ ﷺ لَا يَرُدُّ السَّائِلَ، وَأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ لِشَيْءٍ: لَا.. قَطُّ، وَأَنَّكَ مَتَى سَأَلْتَهُ أَنْ يُعْطِيَكَهَا أَعْطَاكَهَا مِنْ غَيْرِ مَا تَسْوِيفٍ وَلَا مَنْظَرَةٍ -يَعْنِي مِنْ غَيْرِ مَا انْتِظَارٍ وَلَا تَرَيُّثٍ-!!
وَأَخَذُوا يَلُومُونَهُ يَقُولُونَ: إِنَّهُ إِنَّمَا أَخَذَهَا وَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهَا ﷺ.
فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: وَاللهِ مَا أَخَذْتُهَا إِلَّا رَجَاءَ بَرَكَتِهَا؛ إِذْ جَعَلَهَا ﷺ عَلَى جِلْدِهِ، إِذْ جَعَلَهَا عَلَى جَسَدِهِ، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ كَفَنِي.. فَكَانَتْ!
فَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ فِي حَالَاتِهِ جَمِيعِهَا في كُلِّ الْعَامِ أَجْوَدَ الْخَلْقِ، لَا يَرُدُّ سَائِلًا، وَيُعْطِي عَطَاءَ مَنْ لَا يَخْشَى الْفَقْرَ, كَمَا فِي «الصَّحِيحِ» أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ ﷺ غَنَمًا فِي شِعْبٍ بَيْنَ جَبَلَيْنِ.
فَأَعْطَاهُ الرَّسُولُ ﷺ إِيَّاهَا جَمِيعَهَا.
فَعَادَ الرَّجُلُ إِلَى قَوْمِهِ يَقُولُ: إِنَّ مُحَمَّدًا يُعْطِي عَطَاءً لَا يَخْشَى الْفَقْرَ.
يُعْطِي النَّبِيُّ ﷺ عَطَاءً بِلَا حُدُودٍ، وَهُوَ يُعْطِي عَطَاءَ مَنْ لَا يَخْشَى الْفَقْرَ.
وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَتَأَلَّفُ بِالْعَطَاءِ وَبِالْبَذْلِ قُلُوبَ أَقْوَامٍ لَا تُقَادُ إِلَّا بِزِمَامِ الْعَطَاءِ، وَلَا تَنْقَادُ إِلَّا لَهُ.
إِذَنْ؛ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ أَجْوَدَ النَّاسِ, وَأَكْرَمَ النَّاسِ, وَأَحْسَنَ النَّاسِ, وَأَجْمَلَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ ﷺ.
وَلِمَكَانَةِ هَذَا الْخُلُقِ الْكَرِيمِ وَعَظِيمِ مَنْزِلَتِهِ أَمَرَ بِهِ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ قَالَ سُبْحَانَهُ: {وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} [الأنفال: 60].
أَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ، وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ أَجْرُهُ فِي الْآخِرَةِ، وَيُعَجَّلُ لَكُمْ عِوَضُهُ فِي الدُّنْيَا؛ بَرَكَةً فِي رِزْقِكُمْ وَنَمَاءً فِي أَمْوَالِكُمْ، وَأَنْتُمْ لَا تُنْقَصُونَ مِنْ ثَوَابِ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا.
وَيَقُولُ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: «يَا ابْنَ آدَمَ! أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ», يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: «يَمِينُهُ مَلْأَى، سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، لَا تَغِيضُهَا نَفَقَةٌ» .
نَعَمْ! لَوْ أَنَّكَ نَظَرْتَ مَا أَنْفَقَ وَكَمْ أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ الْخَلْقَ؛ لَعَلِمْتَ أَنَّ ذَلِكَ مُسْتَعْظَمٌ عِنْدَ الْخَلْقِ، وَأَمَّا عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فَشَيْءٌ هَيِّنٌ يَسِيرٌ.
إِنَّ اللهَ رَبَّ العَالَمِينَ هُوَ الْجَوَادُ؛ كَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «إِنَّ اللهَ كَرِيمٌ يُحِبُّ الْكُرَمَاءَ، جَوَادٌ يُحِبُّ الْجَوَدَةَ، يُحِبُّ مَعَالِيَ الْأُمُورِ، وَيَكْرَهُ سَفْسَافَهَا».
فَاللهُ هُوَ الْكَرِيمُ، وَهُوَ الْجَوَادُ، وَيُحِبُّ الْكَرَمَ وَأَهْلَهُ، وَيُحِبُّ الْجُودَ وَأَهْلَهُ، وَيُحِبُّ مَعَالِيَ الْأُمُورِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْكَرَمَ وَالْجُودَ مِنْ مَعَالِي الْأُمُورِ.
*النَّبِيُّ ﷺ حَمَلَ إِلَى الْبَشَرِيَّةِ التَّيْسِيرَ وَالِاعْتِدَالَ؛ فَمِنْ خَصَائِصِ الإِسْلَامِ: الِاعْتِدَالُ وَالتَّوَازُنُ، وَالِاسْتِقَامَةُ مِنْ أَهَمِّ مَعَالِمِ الدِّينِ؛ قَالَ تَعَالَى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} [الفاتحة:6-7].
قَالَ الأَوْزَاعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((مَا مِنْ أَمْرٍ أَمَرَ اللهُ -تَعَالَى- بِهِ إِلَّا عَارَضَ الشَّيْطَانُ فِيهِ بِخَصْلَتَيْنِ؛ لَا يُبَالِي أَيَّهُمَا أَصَابَ: الغُلُوُّ، أَوِ التَّقْصِيرُ)) .
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ خَطًّا، ثُمَّ قَالَ: ((هَذَا سَبِيلُ اللهِ))، ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ، ثُمَّ قَالَ: ((هَذِهِ سُبُلٌ مُتَفَرِّقَةٌ، عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ))، ثُمَّ قَرَأَ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ}. وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ؛ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالدَّارِمِيُّ، وَابْنُ أَبِي عَاصِمٍ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَغَيْرُهُمْ.
وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ يَقْتَضِي مَعْنَى الْخَيْرِيَّةِ الَّتِي بَيْنَ طَرَفَيِ التَّفْرِيطِ وَالْإِفْرَاطِ.
وَالنَّبِيُّ ﷺ حَمَلَ إِلَى الْبَشَرِيَّةِ التَّيْسِيرَ وَالتَّبْشِيرَ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغُدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِذَا بَعَثَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ فِي بَعْضِ أَمْرِهِ قَالَ: ((بَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا، وَيَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ لَمَّا بَعَثَهُ وَمُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ قَالَ: ((يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا، وَتَطَاوَعَا وَلَا تَخْتَلِفَا)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا، وَسَكِّنُوا وَلَا تُنَفِّرُوا)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
لَقَدْ بَعَثَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- رَسُولَهُ ﷺ بِنَبْذِ الْغُلُوِّ وَالتَّنَطُّعِ وَالتَّطَرُّفِ؛ لِأَنَّ اللهَ جَعَلَ هَذِهِ الْأُمَّةَ أُمَّةً وَسَطًا بَيْنَ الْأُمَمِ؛ فِي عَقِيدَتِهَا، وَعِبَادَتِهَا، وَأَخْلَاقِهَا، وَمُعَامَلَاتِهَا، وَالْوَسَطُ: الْعَدْلُ الْخِيَارُ، فَلَا إِفْرَاطَ وَلَا تَفْرِيطَ، وَلَا غُلُوَّ وَلَا جَفَاءَ.
وَقَدْ عَابَ اللهُ -تَعَالَى- عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ الْغُلُوَّ فِي الدِّينِ؛ فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77].
وَبَعَثَ اللهُ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا ﷺ بِرَفْعِ الْآصَارِ وَالْأَغْلَالِ الَّتِي كَانَتْ عَلَى مَنْ قَبْلَنَا بِشَرِيعَةٍ سَمْحَةٍ؛ مِنْ قَوَاعِدِهَا:
*رَفْعُ الْحَرَجِ.
*وَمِنْ قَوَاعِدِهَا: أَنَّ الْمَشَقَّةَ تَجْلِبُ التَّيْسِيرَ.
*وَمِنْ قَوَاعِدِهَا: لَا وَاجِبَ بِلَا اقْتِدَارٍ، وَلَا مُحَرَّمَ مَعَ اضْطِرَارٍ.
*وَمِنْ قَوَاعِدِهَا: أَنَّ الضَّرَرَ يُزَالُ، فَلَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ.
((وَنَبِيُّنَا ﷺ مَا خُيِّرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا، فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ أَبُو مُوسَى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِذَا بَعَثَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- فِي بَعْضِ أَمْرِهِ قَالَ: ((بَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا، وَيَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا)) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَالِاعْتِدَالُ الَّذِي دَعَا إِلَيْهِ النَّبِيُّ ﷺ لَمْ يَكُنْ قَاصِرًا عَلَى الْأُمُورِ التَّعَبُّدِيَّةِ، وَلَكِنَّهُ شَمِلَ جَمِيعَ مَنَاحِي الْحَيَاةِ؛ فَقَدْ قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام: 141].
وَلَا تُجَاوِزُوا الْحَدَّ بِإِنْفَاقِ الْمَالِ وَأَكْلِ الطَّعَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ إِنَّهُ -سُبْحَانَهُ- لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ الْمُتَجَاوِزِينَ الْحَدَّ فِي كُلِّ شَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْإِسْرَافَ يُوصِلُ إِلَى الْوُقُوعِ فِي الْمَضَارِّ وَالْمَهَالِكِ، أَوِ الظُّلْمِ وَالتَّحْرِيفِ فِي الدِّينِ.
وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((كُلْ، وَاشْرَبْ، وَالْبَسْ، وَتَصَدَّقْ.. مِنْ غَيْرِ سَرَفٍ وَلَا مَخِيلَةٍ)) . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ الْجَامِعِ وَغَيْرِهِ)).
وَالْمُسْلِمُ يَأْكُلُ مِنْ رِزْقِ رَبِّهِ الْحَلَالِ الطَّيِّبِ, وَلَا يُكْثِرُ مِنَ الْأَكْلِ؛ فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-, عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((الْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ, وَالْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((طَعَامُ الْوَاحِدِ يَكْفِي الِاثْنَيْنِ, وَطَعَامُ الِاثْنَيْنِ يَكْفِي الْأَرْبَعَةَ, وَطَعَامُ الْأَرْبَعَةِ يَكْفِي الثَّمَانِيَةَ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَتَجَنَّبَ الشِّبَعَ الْمُفْرَطَ؛ لِقَوْلِ الرَّسُولِ: ((مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنِهِ, بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ لُقَيْمَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ, فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ؛ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ, وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ, وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ)) .
الْمُسْلِمُ يَنْظُرُ إِلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ بِاعْتِبَارِهِمَا وَسِيلَةً إِلَى غَيْرِهِمَا, لَا غَايَةً مَقْصُودَةً لِذَاتِهَا, فَهُوَ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ مِنْ أَجْلِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى سَلَامَةِ بَدَنِهِ الَّذِي بِهِ يُمْكِنُهُ أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ الْعِبَادَةَ الَّتِي تُؤَهِّلُهُ لِكَرَامَةِ الدَّارِ الْآخِرَةِ وَسَعَادَتِهَا.
فَلَيْسَ الْمُسْلِمُ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ لِذَاتِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَشَهْوَتِهِمَا؛ فَلِذَا هُوَ لَوْ لَمْ يَجُعْ لَمْ يَأْكُلْ, وَلَوْ لَمْ يَعْطَشْ لَمْ يَشْرَبْ.
*وَمِنْ أَخْلَاقِ النَّبِيِّ ﷺ الْكَرِيمَةِ، وَصِفَاتِهِ النَّبِيلَةِ: الْعَدْلُ وَالْإِنْصَافُ مَعَ جَمِيعِ الْخَلْقِ؛ قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 58].
إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ -أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ- بِأَدَاءِ الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا، وَيَأْمُرُكُمْ إِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ فِي كُلِّ شُئُونِهِمْ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ الَّذِي بَيَّنَهُ فِيمَا شَرَعَ، إِنَّ اللهَ نِعْمَ مَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ فِي كُلِّ أَحْوَالِكُمْ، إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا لِأَقْوَالِكُمْ، بَصِيرًا بِأَفْعَالِكُمْ.
قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8].
{وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ}؛ أَيْ: لَا يَحْمِلَنَّكُمْ بُغْضُ قَوْمٍ {عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا}، كَمَا يَفْعَلُهُ مَنْ لَا عَدْلَ عِنْدَهُ وَلَا قِسْطَ، بَلْ كَمَا تَشْهَدُونَ لِوَلِيِّكُمْ فَاشْهَدُوا عَلَيْهِ, وَكَمَا تَشْهَدُونَ عَلَى عَدُوِّكُمْ فَاشْهَدُوا لَهُ, وَلَوْ كَانَ كَافِرًا أَوْ مُبْتَدِعًا؛ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْعَدْلُ فِيهِ, وَقَبُولُ مَا يَأْتِي بِهِ مِنَ الْحَقِّ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ، لَا لِأَنَّهُ قَالَهُ، وَلَا يُرَدُّ الْحَقُّ لِأَجْلِ قَوْلِهِ, فَإِنَّ هَذَا ظُلْمٌ لِلْحَقِّ.
وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ؛ وَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ، وَاثْنَانِ فِي النَّارِ.. فَأَمَّا الَّذِي فِي الْجَنَّةِ فَالَّذِي عَرَفَ الْحَقَّ وَقَضَى بِهِ، وَأَمَّا اللَّذَانِ فِي النَّارِ؛ فَأَحَدُهُمَا عَرَفَ الْحَقَّ وَخَالَفَهُ وَلَمْ يَقْضِ بِهِ، وَأَحَدُهُمَا قَضَى بِهَوَاهُ؛ قَضَى بِجَهْلِهِ! فَهَذَانِ فِي النَّارِ)).
وَعِنْدَ مُسْلِمٍ فِي الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ: ((مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَأَدْخَلَهُ النَّارَ)).
قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَلَوْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا؟
قَالَ: ((وَلَوْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ)).
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ فِي وَقْتِهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ثَمَنٌ، وَإِنْ كَانَ لَهُ الْيَوْمَ ثَمَنٌ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ ثَمَنٌ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ؛ ((وَلَوْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ)) تُتَّخَذُ مِنْهُ الْمَسَاوِيكُ.
فَقَالَ الرَّسُولُ ﷺ: ((مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ))، يَحْلِفُ زُورًا وَيُقْسِمُ كَذِبًا أَنَّ هَذَا لَهُ، وَلَيْسَ لَهُ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ، كَمَا بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ فِي حَالِ الْمُتَخَاصِمِينَ بَيْنَ يَدَيْهِ: ((إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ أَحَدَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِالْحُجَّةِ مِنْ أَخِيهِ فَأَقْضِي لَهُ بِمَا لَيْسَ لَهُ بِحَقٍّ، فَمَنِ اقْتَطَعَ شَيْئًا مِنْ حَقِّ أَخِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ)).
*وَمِنَ الْأَخْلَاقِ الْكَرِيمَةِ لِلنَّبِيِّ ﷺ وَالصِّفَاتِ النَّبِيلَةِ: حُسْنُ الْمُعَامَلَةِ مَعَ جَمِيعِ النَّاسِ؛ وَمِمَّا دَلَّ عَلَيهِ النَّبِيُّ الْكَرِيمُ ﷺ:
((حُسْنُ الْجِوَارِ؛ يَعْنِي الْإِحْسَانَ إِلَى مَنْ يَسْكُنُ بِجِوَارِكَ بِبَذْلِ الْمَعْرُوفِ وَكَفِّ الْأَذَى.
وَالْجِيرَانُ هُمُ الْأَقَارِبُ فِي الْمَنْزِلِ، وَأَدْنَاهُمْ أَوْلَاهُمْ بِالْإِحْسَانِ وَالْإِكْرَامِ؛ قَالَ تَعَالَى: {وَبِالْوَالِدَينِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ} [النساء: 36]؛ فَأَوصَى اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْجَارِ الْقَرِيبِ وَالْجَارِ الْبَعِيدِ.
وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَومِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ ﷺ: ((إِذَا صَنَعْتَ مَرَقَةً فَأَكْثِرْ مَاءَهَا، ثُمَّ انْظُرْ أَهْلَ بَيتٍ مِنْ جِيرَانِكَ فَأَصِبْهُمْ مِنْهُ بِمَعْرُوفٍ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
وَقَالَ ﷺ: ((مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ)). كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ مِنْ رِوَايَةِ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- .
وَقَالَ ﷺ: ((وَاللهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللهِ لَا يُؤْمِنُ)).
قِيلَ: ((مَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟)).
قَالَ: ((الَّذِي لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ النُّصُوصِ الدَّالَةِ عَلَى الْعِنَايَةِ بِالْجَارِ وَالْإِحْسَانِ إِلَيهِ وَإِكْرَامِهِ.
وَالْجَارُ إِنْ كَانَ مُسْلِمًا قَرِيبًا كَانَ لَهُ ثَلَاثَةُ حُقُوقٍ: حَقُّ الْإِسْلَامِ، وَحَقُّ الْقَرَابَةِ، وَحَقُّ الْجِوَارِ. وَإِنْ كَانَ قَرِيبًا جَارًا فَلَهُ حَقَّانِ: حَقُّ الْقَرَابَةِ، وَحَقُّ الْجِوَارِ. وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا غَيْرَ قَرِيبٍ وَهُوَ جَارٌ فَلَهُ حَقَّانِ: حَقُّ الْإِسْلَامِ، وَحَقُّ الْجِوَارِ. وَإِنْ كَانَ جَارًا كَافِرًا بَعِيدًا فَلَهُ حَقٌّ وَاحِدٌ؛ وَهُوَ: حَقُّ الْجِوَارِ.
وَمِنَ الْمُؤْسِفِ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ الْيَومَ يُسِيئُونَ إِلَى الْجَارِ أَكْثَرَ مِمَّا يُسِيئُونَ إِلَى غَيْرِهِ، فَتَجِدُهُ يَعْتَدِي عَلَى جَارِهِ بِالْأَخْذِ مِنْ مُلْكِهِ وَإِزْعَاجِهِ.
*وَمِنَ الْأَخْلَاقِ النَّبَوِيَّةِ النَّبِيلَةِ: الْإِحْسَانُ إِلَى الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ.
وَالْيَتَامَى جَمْعُ يَتِيمٍ؛ وَهُوَ لُغَةً: الْمُنْفَرِدُ، وَشَرْعًا: مَنْ مَاتَ أَبُوهُ قَبْلَ بُلُوغِهِ.
وَالْإِحْسَانُ إِلَى الْيَتَامَى هُوَ بِرِعَايَةِ أَحْوَالِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَالشَّفَقَةِ عَلَيْهِمْ.
فَمَا يُصِيبُ الْيَتِيمَ مِنَ انْكِسَارِ الْقَلْبِ بِفَقْدِ الْأَبِ، فَهُوَ بِحَاجَةٍ إِلَى الْعِنَايَةِ وَالرِّفْقِ، وَالْإِحْسَانُ إَلَى الْيَتَامَى يَكُونُ -أَيضًا- بِحَسَبِ الْحَالِ.
وَالْمَسَاكِينُ جَمْعُ مِسْكِينٍ؛ وَهُوَ الْمُحْتَاجُ الَّذِي أَسْكَنَتْهُ الْحَاجَةُ وَالْفَقْرُ، وَالْإِحْسَانُ إِلَيْهِمْ يَكُونُ بِالتَّصَدُّقِ عَلَيْهِمْ وَالرِّفْقِ بِهِمْ.
وَالْإِحْسَانُ إِلَى ابْنِ السَّبِيلِ؛ وَهُوَ الْمُسَافِرُ الْمُنْقَطَعُ بِهِ الَّذِي نَفِدَتْ نَفَقَتُهُ أَوْ ضَاعَتْ أَو سُرِقَتْ.
وَالْإِحْسَانُ إِلَيْهِمْ مِمَّا أَمَرَ بِهِ الشَّرْعُ فِي آيَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ مِنَ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، وَجَعَلَ لَهُمْ حُقُوقًا خَاصَّةً فِي الْفَيْءِ وَغَيْرِهِ.
وَوَجْهُ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ أَنَّ الْفَقْرَ أَسْكَنَهُمْ وَأَضْعَفَهُمْ وَكَسَرَ قُلُوبَهُمْ، فَكَانَ مِنْ مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ أَنْ يُحْسِنَ إِلَيْهِمْ جَبْرًا لِمَا حَصَلَ لَهُمْ مِنَ النَّقْصِ وَالِانْكِسَارِ.
وَالْإِحْسَانُ إِلَى الْمَسَاكِينِ يَكُونُ بِحَسَبِ الْحَالِ، فَإِذَا كَانَ مُحْتَاجًا إِلَى طَعَامٍ فَالْإِحْسَانُ إِلَيْهِ بِأَنْ تُطْعِمَهُ، وَإِذَا كَانَ مُحْتَاجًا إِلَى كُسْوَةٍ فَالْإِحْسَانُ إِلَيْهِ بِأَنْ تَكْسُوَهُ، وَإِلَى اعْتِبَارِهِ بِأَنْ تُولِيهِ اعْتِبَارًا، فَإِذَا دَخَلَ الْمَجْلِسَ تُرَحِّبُ بِهِ وَتُقَدِّمُهُ لِأَجْلِ أَنْ تَرْفَعَ مِنْ شَأْنِهِ، فَمِنْ أَجْلِ هَذَا النَّقْصِ الَّذِي قَدَّرَهُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عَلَيْهِ بِحِكْمَتِهِ، أَمَرَنَا -عَزَّ وَجَلَّ- بِأَنْ نُحْسِنَ إِلَيْهِمْ.
وَكَذَلِكَ ابْنُ السَّبِيلِ -وَهُوَ الْمُسَافِرُ-، وَهُوَ هَاهُنَا الْمُسَافِرُ الَّذِي انْقَطَعَ بِهِ السَّفَرُ أَو لَمْ يَنْقَطِعْ، بِخِلَافِ الْمُسَافِرِ الَّذِي يَكُونُ غَيرَ مُسْتَوحِشٍ، فَإِنَّكَ إِذَا آنَسْتَ مَنِ انْقَطَعَ بِهِ سَبَبُهُ فِي سَفَرِهِ بِإِكْرَامِهِ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ، فَهَذَا مِمَّا يَأْمُرُ بِهِ الشَّرْعُ.
فَإِذَا نَزَلَ ابْنُ السَّبِيلِ بِكَ ضَيْفًا فَمِنْ إِكْرَامِهِ أَنْ تُكْرِمَ ضِيَافَتَهُ، لَكِنْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِنَّهُ لَا يَجِبُ إِكْرَامُهُ بِضِيَافَتِهِ إِلَّا فِي الْقُرَى دُونَ الْأَمْصَارِ، بَلْ هِيَ وَاجِبَةٌ فِي الْقُرَى وَالْأَمْصَارِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ سَبَبٌ كَضِيقِ الْبَيْتِ مَثَلًا أَوْ أَسْبَابٌ أُخْرَى تَمْنَعُ مِنْ أَنْ تُضَيِّفَ هَذَا الرَّجُلَ، لَكِنْ عَلَى كُلِّ حَالٍ يَنْبَغِي إِذَا تَعَذَّرَ أَنْ تُحْسِنَ الرَّدَّ.
وَكَذَلِكَ الرِّفْقُ بِالْمَمْلُوكِ، وَالرِّفْقُ ضِدُّ الْعُنْفِ، وَالرِّفْقُ لِينُ الْجَانِبِ، وَالْمَمْلُوكُ يَشْمَلُ الْآدَمِيَّ وَالْبَهِيمَ.
فَالرِّفْقُ بِالْمَمْلُوكِ الْآدَمِيِّ أَنْ تُطْعِمَهُ إِذَا طَعِمْتَ، وَتَكْسُوَهُ إِذَا اكْتَسَيْتَ، وَلَا تُكَلِّفَهُ مَا لَا يُطِيقُ.
وَالرِّفْقُ بِالْمَمْلُوكِ مِنَ الْبَهَائِمِ سَوَاءٌ كَانَتْ مِمَّا تُرْكَبُ أَوْ تُحْلَبُ أَوْ تُقْتَنَى يَخْتَلِفُ -أَيِ الرِّفْقُ- بِحَسَبِ مَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ؛ فَفِي الشِّتَاءِ تُجْعَلُ فِي الْأَمَاكِنِ الدَّافِئَةِ إِذَا كَانَتْ لَا تَتَحَمَّلُ الْبَرْدَ، وَفِي الصَّيفِ فِي الْأَمَاكِنِ الْبَارِدَةِ إِذَا كَانَتْ لَا تَتَحَمَّلُ الْحَرَّ، وَيُؤْتَى لَهَا بِالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إِنْ لَمْ تَحْصُلْ عَلَيْهِ بِنَفْسِهَا بِالرَّعْيِ، وَإِذَا كَانَتْ مِمَّا تَحْمِلُ فَلَا تُحَمَّلُ مَا لَا تُطِيقُ.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ الشَّرْعِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَنْسَ حَتَّى الْبَهَائِمَ.
*وَمِنَ الْأَخْلَاقِ الْكَرِيمَةِ الَّتِي يَجِبُ اتِّبَاعُهَا: النَّهْيُ عَنِ الْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ، وَالْبَغْيِ وَالِاسْتِطَالَةِ عَلَى الْخَلْقِ بِحَقٍّ أَوْ بِغَيْرِ حَقٍّ.
الْفَخْرُ بِالْقَوْلِ، وَالْخُيَلَاءُ بِالْفِعْلِ، وَالْبَغْيُ: الْعُدْوَانُ، وَالِاسْتِطَالَةُ: التَّرَفُّعُ وَالِاسْتِعْلَاءُ.
فَيَنْهَى الشَّرْعُ عَنِ الْفَخْرِ؛ أَنْ يَتَفَاخَرَ الْإِنْسَانُ عَلَى غَيْرِهِ بِقَوْلِهِ، فَيَقُولَ: ((أَنَا الْعَالِمُ، أَنَا الْغَنِيُّ، أَنَا الشُّجَاعُ))، وَإِنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ أَنْ يَسْتَطِيلَ عَلَى الْآخَرِينَ وَيَقُولَ: ((مَاذَا أَنْتُمْ عِنْدِي؟))، فَيَكُونُ هَذَا فِيهِ بَغْيٌ وَاسْتِطَالَةٌ عَلَى الْخَلْقِ.
وَالْخُيَلَاءُ تَكُونَ بِالْأَفْعَالِ؛ يَتَخَايَلُ فِي مِشْيَتِهِ، وَفِي وَجْهِهِ، وَفِي رَفْعِ رَأْسِهِ وَرَقَبَتِهِ إِذَا مَشَى، كَأَنَّهُ وَصَلَ إِلَى السَّمَاءِ، وَاللهُ -جَلَّ وَعَلَا- وَبَّخَ مَنْ هَذَا فِعْلُهُ فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} [الإسراء: 37].
((كُنْ مُتَوَاضِعًا فِي الْقَولِ وَالْفِعْلِ)).
فِي الْقَولِ: لَا تُثْنِ عَلَى نَفْسِكَ بِصِفَاتِكَ الْحَمِيدَةِ، إِلَّا حَيْثُ دَعَتِ الضَّرُورَةُ أَوِ الْحَاجَةُ إِلَى ذَلِكَ؛ كَقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((لَوْ أَعْلَمُ أَحَدًا هُوَ أَعْلَمُ مِنِّي بِكِتَابِ اللهِ تَبْلُغُهُ الْإِبِلُ لَرَكِبْتُ إِلَيْهِ)). كَمَا عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي ((الصَّحِيحِ)) عَنْهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
فَقَصَدَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بِذَلِكَ أَمْرَيْنِ:
الْأَوَّلُ: حَثُّ النَّاسِ عَلَى تَعَلُّمِ كِتَابِ الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.
وَالثَّانِي: دَعْوَتُهُمْ لِلتَّلَقِّي عَنْهُ.
وَالْإِنْسَانُ ذُو الصِّفَاتِ الْحَمِيدَةِ لَا يَظُنُّ أَنَّ النَّاسَ تَخْفَى عَلَيْهِمْ خِصَالُهُ أَبَدًا، سَوَاءٌ ذَكَرَهَا لِلنَّاسِ أَمْ لَمْ يَذْكُرْهَا، بَلْ إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا صَارَ يُعَدِّدُ صِفَاتِهِ الْحَمِيدَةَ أَمَامَ النَّاسِ سَقَطَ مِنْ أَعْيُنِهِمْ، فَاحْذَرْ هَذَا الْأَمْرَ وَاجْتَنِبْهُ.
وَالْبَغْيُ هُوَ الْعُدْوَانُ عَلَى الْغَيْرِ، وَمَوَاقِعُهُ ثَلَاثَةٌ بَيَّنَهَا الرَّسُولُ ﷺ فِي قَوْلِهِ: ((إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ)) .
فَالْبَغْيُ عَلَى الْخَلْقِ فِي الْأَمْوَالِ وَالدِّمَاءِ وَالْأَعْرَاضِ؛ فِي الْأَمْوَالِ: كَأَنْ يَدَّعِيَ مَا لَيْسَ لَهُ أَو يُنْكِرَ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَو يَأْخُذَ مَا لَيْسَ لَهُ، فَهَذَا بَغْيٌ عَلَى الْأَمْوَالِ. وَفِي الدِّمَاءِ: الْقَتْلُ فَمَا دُونَهُ، يَعْتَدِي عَلَى الْإِنْسَانِ بِالْجَرْحِ وَالْقَتْلِ. وَفِي الْأَعْرَاضِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهَا الْأَعْرَاضُ؛ يَعْنِي: السُّمْعَةَ، فَيَعْتَدِي عَلَيْهِ بِالْغِيبَةِ الَّتِي يُشَوِّهُ بِهَا سُمْعَتَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الزِّنَا وَمَا دُونَهُ، وَالْكُلُّ مُحَرَّمٌ.
أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ يَنْهَوْنَ عَنْ الِاعْتِدَاءِ عَلَى الْأَمْوَالِ وَالدِّمَاءِ وَالْأَعْرَاضِ، وَ-كَذَلِكَ- الِاسْتِطَالَةِ عَلَى الْخَلْقِ؛ يَعْنِي الِاسْتِعْلَاءَ عَلَيْهِمْ بِحَقٍّ أَوْ بِغَيْرِ حَقٍّ.
فَالِاسْتِعْلَاءُ عَلَى الْخَلْقِ يَنْهَى عَنْهُ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، سَوَاءٌ كَانَ بِحَقٍّ أَوْ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَالِاسْتِعْلَاءُ هُوَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَتَرَفَّعُ عَلَى غَيْرِهِ. وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ أَنَّ مِنْ شُكْرِ نِعْمَةِ اللهِ عَلَيْكَ إِذَا مَنَّ عَلَيْكَ بِفَضْلٍ عَلَى غَيْرِكَ مِنْ مَالٍ أَوْ جَاهٍ أَوْ سِيَادَةٍ أَوْ عِلْمٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ تَزْدَادَ تَوَاضُعًا حَتَّى تُضِيفَ إِلَى الْحُسْنِ حُسْنًا؛ لِأَنَّ الَّذِي يَتَوَاضَعُ فِي مَوْضِعِ الرِّفْعَةِ هُوَ الْمُتَوَاضِعُ حَقِيقَةً، وَأَمَّا أَنْ يَسْتَطِيلَ عَلَى الْخَلْقِ بِحَقٍّ - يَعْنِي حَتَّى لَوْ كَانَ لَهُ الْحَقُّ فِي بَيَانِ أَنَّهُ عَالٍ مُرْتَفِعٌ - فَإِنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ يَنْهَوْنَ عَنْ الِاسْتِعْلَاءِ وَالتَّرَفُّعِ.
الِاسْتِطَالَةُ بِحَقٍّ أَنْ يَكُونَ أَصْلُ الِاسْتِطَالَةِ حَقًّا؛ بِأَنْ يَكُونَ قَدِ اعْتَدَى عَلَيْهِ إِنْسَانٌ فَيَعْتَدِي عَلَيْهِ أَكْثَرَ.
فَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ يَنْهَوْنَ عَنْ الِاسْتِطَالَةِ وَالِاسْتِعْلَاءِ عَلَى الْخَلْقِ؛ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ بِحَقٍّ أَوْ بِغَيْرِ حَقٍّ.
وَيَأْمُرُونَ بِمَعَالِي الْأَخْلَاقِ؛ أَيْ مَا كَانَ عَالِيًا مِنْهَا، كَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَيَنْهَى أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَنْ سَفْسَافِهَا -أَيْ رَدِيئِهَا-؛ كَالْكَذِبِ وَالْخِيَانَةِ وَالْفَوَاحِشِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَكُلُّ مَا يَقُولُونَهُ وَيَفْعَلُونَهُ مِنْ هَذَا وَغَيْرِهِ فَإِنَّمَا هُمْ فِيهِ مُتَّبِعُونَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَطَرِيقَتُهُمْ هِيَ دِينُ الْإِسْلَامِ الَّذِي بَعَثَ اللهُ بِهِ مُحَمَّدًا ﷺ.
كُلُّ مَا يَقُولُهُ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَو يَفْعَلُونَهُ مِنْ هَذَا وَغَيْرِهِ فَإِنَّمَا هُمْ فِيهِ مُتَّبِعُونَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَهَذِهِ حَالٌ يَنْبَغِي أَنْ يُتَنَبَّهَ لَهَا؛ وَهُوَ أَنَّنَا كُلُّ مَا نَقُولُهُ وَكُلُّ مَا نَفْعَلُهُ نَشْعُرُ حَالَ قَوْلِهِ أَوْ فِعْلِهِ أَنَّنَا نَتَّبِعُ فِيهِ الرَّسُولَ ﷺ مَعَ الْإِخْلَاصِ لِلهِ لِتَكُونَ أَقْوَالُنَا وَأَفْعَالُنَا كُلُّهَا عِبَادَاتٍ لِلهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، لِهَذَا يُقَالُ: ((إِنَّ عِبَادَاتِ الْغَافِلِينَ عَادَاتٌ، وَعَادَاتِ الْمُنْتَبِهِينَ عِبَادَاتٌ))، فَالْإِنْسَانُ الْمُوَفَّقُ يُمْكِنُ أَنْ يُحَوِّلَ الْعَادَاتِ إِلَى عِبَادَاتٍ، وَالْإِنْسَانُ الْغَافِلُ يَجْعَلُ عِبَادَاتِهِ عَادَاتٍ.
فَلْيَحْرِصِ الْمُؤْمِنُ عَلَى أَنْ يَجْعَلَ أَقْوَالَهُ وَأَفْعَالَهُ كُلَّهَا تَبَعًا لِكِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ ﷺ، لِيَنَالَ بِذَلِكَ الْأَجْرَ وَيَحْصُلَ بِهِ كَمَالُ الْإِيمَانِ وَالْإِنَابَةِ إِلَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- )) .
المصدر: التَّأَسِّي بِأَخْلَاقِ الرَّسُولِ الْكَرِيمِ ﷺ