((الْكَلَامُ طَيِّبٌ وَخَبِيثٌ وَبَيَانُ شَأْنِهِ))
عِبَادَ اللهِ! لَقَدْ ضَرَبَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- الْمَثَلَ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ لِلْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ وَالْكَلِمَةِ الْخَبِيثَةِ؛ فَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ كَالشَّجَرَةِ الطَّيِّبَةِ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ، تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا، وَالْكَلِمَةُ الْخَبِيثَةُ كَالشَّجَرَةِ الْخَبِيثَةِ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ.
قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 24-27].
قَالَ الشَّيْخُ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- : «يَقُولُ تَعَالَى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً﴾: وَهِيَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَفُرُوعُهَا، ﴿ كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ﴾: وَهِيَ النَّخْلَةُ، {أَصْلُهَا ثَابِتٌ﴾: فِي الْأَرْضِ، {وَفَرْعُهَا﴾: مُنْتَشِرٌ ﴿فِي السَّمَاءِ﴾: وَهِيَ كَثِيرَةُ النَّفْعِ دَائِمًا.
{تُؤْتِي أُكُلَهَا﴾؛ أَيْ: ثَمَرَتَهَا، {كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا﴾: فَكَذَلِكَ شَجَرَةُ الْإِيمَانِ أَصْلُهَا ثَابِتٌ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ عِلْمًا وَاعْتِقَادًا، وَفَرْعُهَا مِنَ الْكَلِمِ الطَّيِّبِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالْأَخْلَاقِ الْمَرْضِيَّةِ وَالْآدَابِ الْحَسَنَةِ فِي السَّمَاءِ دَائِمًا، يَصْعَدُ إِلَى اللهِ مِنْهُ مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْأَقْوَالِ الَّتِي تُخْرِجُهَا شَجَرَةُ الْإِيمَانِ، مَا يَنْتَفِعُ بِهِ الْمُؤْمِنُ وَيَنْتَفِعُ بِهِ غَيْرُهُ.
{وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾: مَا أَمَرَهُمْ بِهِ وَنَهَاهُمْ عَنْهُ؛ فَإِنَّ فِي ضَرْبِ الْأَمْثَالِ تَقْرِيبًا لِلْمَعَانِي الْمَعْقُولَةِ مِنَ الْأَمْثَالِ الْمَحْسُوسَةِ، وَيَتَبَيَّنُ الْمَعْنَى الَّذِي أَرَادَهُ اللهُ غَايَةَ الْبَيَانِ وَيَتَّضِحُ غَايَةَ الْوُضُوحِ، وَهَذَا مِنْ رَحْمَتِهِ وَحُسْنِ تَعْلِيمِهِ، فَلِلَّهِ أَتَمُّ الْحَمْدِ وَأَكْمَلُهُ وَأَعَمُّهُ.
فَهَذِهِ صِفَةُ كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ، وَثَبَاتِهَا فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ.
ثُمَّ ذَكَرَ ضِدَّهَا، وَهِيَ كَلِمَةُ الْكُفْرِ وَفُرُوعُهَا، فَقَالَ: ﴿وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ﴾: الْمَأْكَلَ وَالْمَطْعَمَ، وَهِيَ شَجَرَةُ الْحَنْظَلِ وَنَحْوُهَا.
{اجْتُثَّتْ﴾: هَذِهِ الشَّجَرَةُ {مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ﴾؛ أَيْ: مِنْ ثُبُوتٍ، فَلَا عُرُوقَ تُمْسِكُهَا وَلَا ثَمَرَةَ صَالِحَةً تُنْتِجُهَا، بَلْ إِنْ وُجِدَ فِيهَا ثَمَرَةٌ فَهِيَ ثَمَرَةٌ خَبِيثَةٌ، كَذَلِكَ كَلِمَةُ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، لَيْسَ لَهَا ثُبُوتٌ نَافِعٌ فِي الْقَلْبِ، وَلَا تُثْمِرُ إِلَّا كُلَّ قَوْلٍ خَبِيثٍ وَعَمَلٍ خَبِيثٍ يَسْتَضِرُّ بِهِ صَاحِبُهُ وَلَا يَنْتَفِعُ، وَلَا يَصْعَدُ إِلَى اللهِ مِنْهُ عَمَلٌ صَالِحٌ، وَلَا يَنْفَعُ نَفْسَهُ، وَلَا يَنْتَفِعُ بِهِ غَيْرُهُ.
﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ﴾: يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ يُثَبِّتُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ؛ أَيِ: الَّذِينَ قَامُوا بِمَا عَلَيْهِمْ مِنَ الْإِيمَانِ الْقَلْبِيِّ التَّامِّ، الَّذِي يَسْتَلْزِمُ أَعْمَالَ الْجَوَارِحِ وَيُثْمِرُهَا، فَيُثَبِّتُهُمُ اللهُ:
فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا عِنْدَ وُرُودِ الشُّبُهَاتِ بِالْهِدَايَةِ إِلَى الْيَقِينِ، وَعِنْدَ عُرُوضِ الشَّهَوَاتِ بِالْإِرَادَةِ الْجَازِمَةِ عَلَى تَقْدِيمِ مَا يُحِبُّهُ اللهُ عَلَى هَوَى النَّفْسِ وَمُرَادِهَا.
وَفِي الْآخِرَةِ عِنْدَ الْمَوْتِ بِالثَّبَاتِ عَلَى الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ وَالْخَاتِمَةِ الْحَسَنَةِ.
وَفِي الْقَبْرِ عِنْدَ سُؤَالِ الْمَلَكَيْنِ لِلْجَوَابِ الصَّحِيحِ إِذَا قِيلَ لِلْمَيِّتِ: مَنْ رَبُّكَ؟ وَمَا دِينُكَ؟ وَمَنْ نَبِيُّكَ؟ هَدَاهُمْ لِلْجَوَابِ الصَّحِيحِ بِأَنْ يَقُولَ الْمُؤْمِنُ: ((اللهُ رَبِّي، وَالْإِسْلَامُ دِينِي، وَمُحَمَّدٌ نَبِيِّي)).
{وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ﴾: عَنِ الصَّوَابِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلَكِنَّهُمْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ».
وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ قَدْرَ الْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ وَالْكَلِمَةِ الْخَبِيثَةِ، فَقَالَ ﷺ: «إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللهِ، لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَرْفَعُهُ اللهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَهْوِي بِهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ». أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ ﷺ فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ أَبُو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ فِيهَا، يَزِلُّ بِهَا إِلَى النَّارِ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
قَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- : «مَعْنَى: يَتَبَيَّنُ: يُفَكِّرُ أَنَّهَا خَيْرٌ أَمْ لَا».
وَقَالَ الْحَافِظُ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي «الْفَتْحِ»: «قَوْلُهُ: «مَا يَتَبَيَّنُ فِيهَا»؛ أَيْ: لَا يَتَطَلَّبُ مَعْنَاهَا؛ أَيْ: لَا يُثْبِتُهَا بِفِكْرِهِ، وَلَا يَتَأَمَّلُهَا حَتَّى يَتَثَبَّتَ فِيهَا، فَلَا يَقُولُهَا إِلَّا إِنْ ظَهَرَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي الْقَوْلِ».
وَعَنْ بِلَالِ بن الْحَارِثِ الْمُزَنِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللهِ تَعَالَى مَا كَانَ يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ، يَكْتُبُ اللهُ لَهُ بِهَا رِضْوَانَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ مَا كَانَ يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ يَكْتُبُ اللهُ بِهَا سَخَطَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ». أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ بَيَانٌ شَافٍ لِشَأْنِ الْكَلِمَةِ، وَأَيْنَ تَبْلُغُ بِصَاحِبِهَا مِنْ دَرَجَاتِ الرِّضْوَانِ فِي الْجِنَانِ إِنْ كَانَتْ طَيِّبَةً، وَكَيْفَ تَهْوِي بِقَائِلِهَا دَرَكَاتٍ فِي الشَّقَاءِ وَالنَّارِ إِنْ كَانَتْ غَيْرَ طَيِّبَةٍ.
وَقَدْ أَخْبَرَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- فِي كِتَابِهِ الْكَرِيمِ أَنَّ أَلْفَاظَ الْعِبَادِ مُحْصَاةٌ عَلَيْهِمْ، لَا يَنِدُّ مِنْهَا عَنِ الْإِحْصَاءِ لَفْظٌ، فَقَالَ تَعَالَى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق: 18].
أَيْ: مَا يَلْفِظُ الْعَبْدُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا وَلَدَيْهِ مَلَكٌ يَرْقُبُهُ، عَتِيدٌ؛ أَيْ: حَاضِرٌ مَعَهُ لَا يَغِيبُ عَنْهُ.
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: «﴿مَا يَلْفِظُ﴾؛ أَيْ: ابْنُ آدَمَ. ﴿مِنْ قَوْلٍ﴾؛ أَيْ: مَا يَتَكَلَّمُ بِكَلِمَةٍ، ﴿إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾؛ أَيْ: إِلَّا وَلَهَا مَنْ يَرْقُبُهَا مُعَدٌّ لِذَلِكَ يَكْتُبُهَا؛ لَا يَتْرُكُ كَلِمَةً وَلَا حَرَكَةً، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ﴾ [الانفطار: 10-12].
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ:
هَلْ يَكْتُبُ الْمَلَكُ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الْكَلَامِ؟! وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ.
أَمْ يَكْتُبُ مَا فِيهِ ثَوَابٌ وَعِقَابٌ؟! كَمَا هُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-.
وَظَاهِرُ الْآيَةِ؛ الْأَوَّلُ لِعُمُومِ قَوْلِهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾».
المصدر:أَمَانَةُ الْكَلِمَةِ