التَّحْذِيرُ مِنْ أَكْلِ الْحَرَامِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ


((التَّحْذِيرُ مِنْ أَكْلِ الْحَرَامِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ))

فَإِنَّ أَكْلَ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ مُحَرَّمٌ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، قَالَ تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188].

وَلَا يَأْكُلُ بَعْضُكُمْ مَالَ بَعْضٍ دُونَ وَجْهٍ مِنَ الْحَقِّ، كَالْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ، وَالْغَصْبِ، وَالسَّرِقَةِ، وَالْغِشِّ، وَالتَّغْرِيرِ، وَالرِّبَا وَنَحْوِ ذَلِكَ.

فَلَا يَسْتَحِلَّ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ إِلَّا لِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي شَرَعَهَا اللهُ؛ كَالْمِيرَاثِ وَالْهِبَةِ، وَالْعَقْدِ الصَّحِيحِ الْمُبِيحِ لِلْمِلْكِ، وَلَا يُنَازِعُ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فِي الْمَالِ وَهُوَ مُبْطِلٌ، وَيَرْفَعُ إِلَى الْحَاكِمِ أَوْ الْقَاضِي لِيَحْكُمَ لَهُ، وَيَنْتَزِعَ مِنْ أَخِيهِ مَا لَهُ بِشَهَادَةٍ بَاطِلَةٍ، أَوْ بَيِّنَةٍ كَاذِبَةٍ، أَوْ رِشْوَةٍ خَبِيثَةٍ، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ تَحْرِيمَ ذَلِكَ عَلَيْكُمْ.

فَإِنَّ أَكْلَ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ مُحَرَّمٌ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، فَلْيَمْتَثِلْ كُلُّ عَبْدٍ أَمْرَ اللهِ بِاجْتِنَابِ أَكْلِ الْأَمْوَالِ بِالْبَاطِلِ، فَإِنَّهُ مُحَرَّمٌ بِكُلِّ حَالٍ، لَا يُبَاحُ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ.

*وَاللهُ -جَلَّ وَعَلَا- وَصَفَ الْيَهُودَ بِأَنَّهُمْ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ بِصُنُوفِهِ؛ مِنْ رِبًا، وَرِشْوَةٍ، وَتَزْوِيرٍ، وَأَكْلُ السُّحْتِ يَسْتَأْصِلُ الْعَلَاقَاتِ الِاجْتِمَاعِيَّةَ، وَيُفْسِدُ أُمُورَ النَّاسِ، قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة: 42].

حُكَّامُ الْيَهُودِ كَثِيرُو السَّمَاعِ لِلْكَذِبِ، كَثِيرُو الْأَكْلِ لِلْمَالِ الْحَرَامِ؛ كَالرِّبَا، وَالرِّشْوَةِ، يَسْمَعُونَ الْكَذِبَ مِمَّنْ رَشَاهُمْ وَيَقْضُونَ لَهُ.

وَقَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَتَرَىٰ كَثِيرًا مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63)} [المائدة: 62-63].

تَرَى أَيُّهَا الرَّائِي الْمُتَتَبِّعُ لِأَحْوَالِهِمْ -الْيَهُودِ-، الْمُرَاقِبُ لِسُلُوكِهِمْ كَثِيرًا مِنَ الْيَهُودِ يُبَادِرُونَ دُونَ تَرَدُّدٍ إِلَى ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي وَالْمَنْهِيَّاتِ، وَمَجَاوَزَةِ الْحَدِّ بِالْعِصْيَانِ وَالظُّلْمِ، وَأَكْلِ الرِّبَا، وَالرِّشْوَةِ، وَالْغِشِّ، وَالتَّزْوِيرِ، الَّذِي يَسْتَأْصِلُ التَّعَامُلُ بِهِ كُلَّ عَلَاقَةٍ اجْتِمَاعِيَّةٍ تَرْبُطُ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ، وَتُفْسِدُ أُمُورَهُمْ، وَلَبِئْسَ الْعَمَلُ كَانَ هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ يَعْمَلُونَ فِي الْمَاضِي وَالْحَاضِرِ وَالْمُسْتَقْبَلِ.

هَلَّا يَنْهَاهُمُ الْعُبَّادُ وَالْفُقَهَاءُ الَّذِينَ كَانَ يَتَّبِعُهُمُ الْيَهُودُ، وَيَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ عَنْ قَوْلِهِمْ الْكَذِبِ بِإِعْلَانِهِمُ الْإِسْلَامَ وَإِبْطَانِهِمْ الْكُفْرَ، وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ.

لَبِئْسَ مَا كَانَ عُبَّادُهُمْ وَعُلَمَاؤُهُمْ يَصْنَعُونَ؛ إِذْ لَمْ يَنْهَوْا غَيْرَهُمْ عَنِ الْمَعَاصِي، فَكَانُوا بِمَنْزِلَةِ الْمُرْتَكِبِينَ لَهَا، بَلْ صَارُوا أَشَدَّ جُرْمًا؛ لِأَنَّ عَمَلَهُمْ سَمَّاهُ اللهُ تَعَالَى صِنَاعَةً، وَهِيَ تَكُونُ بِمَهَارَةٍ وَتَدْبِيرٍ وَتَعَرُّفٍ بِالْغَايَاتِ وَالنَّتَائِجِ.

*وَحَرَّمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الرِّبَا -وُهَوَ مِنْ أَكْبَرِ أَبْوَابِ السُّحْتِ-  وَحَذَّرَ مِنْ سُوءِ عَاقِبَتِهِ:  قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275].

الَّذِينَ يَتَعَامَلُونَ بِالرِّبَا أَخْذًا وَعَطَاءً، فَلَا يُقْلِعُونَ عَنْهُ، وَلَا يَتُوبُونَ إِلَى بَارِئِهِمْ مِنْهُ، وَيَرَوْنَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَا يَفْعَلُونَ شَيْئًا مُنْكَرًا، وَيَرْفُضُونَ حُكْمَ اللهِ فِي تَحْرِيمِهِ، حَالُهُمْ وَهُمْ يَأْكُلُونَ الرِّبَا -إِذْ يَسْلُبُ الْإِثْرَاءُ بِغَيْرِ حَقٍّ عَاطِفَتَهُمُ الْإِنْسَانِيَّةُ، وَيَجْعَلُ أَفْكَارَهُمْ وَنُفُوسَهُمْ مُضْطَرِبَةً دَائِمَةَ التَّطَلُّعِ لِمُضَاعَفَةِ رُؤُوسِ أَمْوَالِهِمْ مِنْ جَهْدِ الْآخِرِينَ، وَاسْتِغْلَالِ ضَرُورَاتِهِمْ-.

حَالُهُمْ وَهُمْ يَأْكُلُونَ الرِّبَا كَالْمَجْنُونِ ذِي الْحَرَكَاتِ الْمُضْطَرِبَةِ، يَمْشِي وَيَتَعَثَّرُ، وَيَصْدِمُ الْأَشْيَاءَ، وَتَأْتِيهِ الْخَبْطَاتُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَهُوَ لَا يَرَى الشَّخْصَ الْمَسْئُولَ عَنِ الضَّرْبَاتِ الَّتِي تَتَهَاوَى عَلَيْهِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، فَكَأَنَّمَا يَتَخَبَّطُهُ شَيْطَانٌ خَبِيثٌ عَدِيمُ الرَّحْمَةِ، خَفِيٌّ لَا تَرَاهُ أَعْيُنُ النَّاسِ.

ذَلِكَ الَّذِي نَزَلَ بِهِمْ مِنْ عَذَابِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ لِرَفْضِهِمْ حُكْمَ اللهِ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا، وَاعْتِرَاضِهِمْ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِمْ: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا}، فَكَمَا أَنَّ الْبَيْعَ يُؤَدِّي إِلَى الرِّبْحِ وَهُوَ حَلَالٌ، فَكَذَلِكَ الرِّبَا يُؤَدِّي إِلَى الرِّبْحِ وَهُوَ حَلَالٌ فِي نَظَرِهِمْ أَيْضًا.

مَعَ أَنَّ الْحَقِيقَةَ تُثْبِتُ أَنَّ الْبَيْعَ لَيْسَ مِثْلَ الرِّبَا، فَالرِّبَا ظُلْمٌ وَاسْتِغْلَالٌ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَوَسِيلَةٌ لِمَنْعِ التَّعَاطُفِ وَالتَّعَاوُنِ الِاجْتِمْاَعِيِّ عَنْ طَرِيقِ الْقَرْضِ الْحَسَنِ، وَهُوَ كَذَلِكَ رِبْحٌ لَا يُقَابِلُهُ جَهْدٌ وَلَا ضَمَانُ خَسَارَةٍ.

وَرِبْحُ الْبَيْعِ يُقَابِلُهُ ضَمَانُ الْخَسَارَةِ الْمُحْتَمَلَةِ، فَكَيْفَ يَكُونُ الْبَيْعُ مِثْلَ الرِّبَا؟!!

وَأَحَلَّ اللهُ لَكُمُ الْأَرْبَاحَ فِي التِّجَارَةِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ نَفْعٍ لِلْأَفْرَادِ وَالْجَمَاعَاتِ، وَحَرَّمَ الرِّبَا الَّذِي هُوَ زِيَادَةٌ فِي الْمَالِ لِأَجْلِ تَأْخِيرِ الْأَجَلِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ اسْتِغْلَالٍ وَضَيَاعٍ وَهَلَاكٍ.

*وَحَرَّمَ اللهُ السَّرِقَةَ، وَرَتَّبَ عَلَيْهَا الْعِقَابَ الشَّدِيدَ، قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة: 38].

وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ اللَّذَيْنِ يَأْخُذَانِ الْمَالَ الْمُحَرَّزَ الْمَصُونَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِخْفَاءِ، فَاقْطَعُوا -يَا وُلَاةَ الْأَمْرِ- أَيْدَيَهُمَا؛ بِقَطْعِ يَمِينِ السَّارِقِ مِنْ رُؤُوسِ الْأَصَابِعِ إِلَى الرُّسْغِ.

ذَلِكَ الْقَطْعُ مُجَازَاةٌ لَهُمَا عَلَى أَخْذِهِمَا أَمْوَالَ النَّاسِ بِغَيْرِ حَقٍّ؛ عُقُوبَةً مِنَ اللهِ، يَمْنَعُ بِهِا غَيْرَهُمَا أَنْ يَصْنَعَ مِثْلَ صَنِعِيهِمَا، وَاللهُ قَوِيٌّ غَالِبٌ فِي انْتِقَامِهِ مِمَّنْ عَصَاهُ، حَكِيمٌ فِيمَا أَوْجَبَهُ مِنْ قَطْعِ يَدِ السَّارِقِ.

وَقَدْ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ السَّرِقَةَ: أَخْذُ الْمَالِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِخْفَاءِ، وَأَنْ يَكُونَ الْمَالُ مُحَرَّزًا مَصُونًا، مَعْنِيًّا بِحِفْظِهِ الْعِنَايَةُ الَّتِي تَلِيقُ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمَسْرُوقُ مَالًا مُتَقَوِّمًا لَا شُبْهَةَ فِيهِ، وَلَا قُصُورَ فِي مَالِيَّتِهِ بِأَنْ يَتَمَوَّلَهُ النَّاسُ، وَيُعِدُّونَهُ لِأَغْرَاضِهِمُ الْمُخْتَلِفَةِ، وَيَتَنَافَسُونَ فِي طَلَبِهِ.

كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْيَدَ لَا تُقْطَعُ إِلَّا إِذَا بَلَغَ الْمَسْرُوقُ قَدْرًا مِنَ الْمَالِ مِقْدَارُهُ رُبُعُ دِينَارٍ أَوْ عَشْرَةُ دَرَاهِمٍ.

*وَحَرَّمَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَكْلَ أَمْوَالِ الْيَتَامَى -وَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ أَبْوَابِ السُّحْتِ أَيْضًا-، وَرَتَّبَ عَلَى أَكْلِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10].

إِنَّ الَّذِينَ يَعْتَدُونَ عَلَى أَمْوَالِ الْيَتَامَى بِسَائِرِ أَنْوَاعِ التَّصَرُّفَاتِ الرَّدِيئَةِ، الْمُتْلِفَةِ لِلْمَالِ حَرَامًا بِغَيْرِ حَقٍّ، سَيَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَارًا، تَحْرِقُ بُطُونَهُمْ، وَتَشْوِي أَحْشَاءَهُمْ، وَسَيْدَخُلُونَ نَارًا هَائِلَةً مُشْتَعِلَةً، يَحْتَرِقُونَ فِيهَا؛ جَزَاءَ أَكْلِهِمْ أَمْوَالِ الْيَتَامَى ظُلْمًا.

عِبَادَ اللهِ! إِذَا كَانَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَا يَقْبَلُ مَا كَانَ رَدِيئًا مِنَ الْحَلَالِ فَكَيْفَ بِالْحَرَامِ؟!!

أَنْتُمْ لَا تَقْبَلُونَهُ لِأَنْفُسِكُمْ -يَعْنِي هَذَا الْخَبِيثَ- إِذَا مَا أُعْطِيتُمُوهُ، فَإِنَّكُمْ لَا تَأْخُذُونَهُ إِلَّا بِلَوْنٍ مِنْ أَلْوَانِ الْإِغْمَاضِ.

كَأَنَّمَا يُغْمِضُ عَيْنَيْهِ حَتَّى لَا يَرَى مَا يَأْخُذُهُ مِمَّا هُوَ رَدِيءٌ، فَأَنْتُمْ لَا تَقْبَلُونَهُ، فَكَيْفُ تُحِبُّونَ أَنْ يَقَعَ فِي يَدَيِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؟!!

وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أن الصدقة إِذَا مَا تَصَدَّقَ بِهَا الْمُتَصَدِّقُ فَإِنَّهَا لَا تَقَعُ فِي يَدَيِ الْآخِذِ، وَإِنَّمَا تَقَعُ فِي يَدَيِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَكَانَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- إِذَا مَا تَصَدَّقَتْ بِصَدَقَةٍ طَيَّبَتْ مَا يَقْبَلُ الطِّيبَ مِنَ الصَّدَقَةِ.

فَلَمَّا رُوجِعَتْ فِي ذَلِكَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، قَالَتْ: ((إِنَّ الصَّدَقَةَ قَبْلَ أَنْ تَقَعَ فِي يَدِ الْآخِذِ تَقَعُ فِي يَدَيِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ تَقَعَ صَدَقَتِي فِي يَدَيِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مُعَطَّرَةً)).

قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ ۖ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [البقرة: 267].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاتَّبَعُوا رَسُولَهُ! أَنْفِقُوا مِنَ الْمَالِ الْحَلَالِ الطَّيِّبِ الَّذِي كَسَبْتُمُوهُ، وَأَنْفِقُوا مِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ، وَلَا تَعْمَدُوا إِلَى الرَّدِيءِ مِنْهُ فَتُنْفِقُونَهُ، وَلَوْ أُعْطِيَ لَكُمْ مَا أَخَذْتُمُوهُ إِلَّا إِذَا تَغَاضَيْتُمْ مُكْرَهِينَ عَلَى رَدَاءَتِهِ، فَكَيْفَ تَرْضَوْنَ للهِ مَا لَا تَرْضَوْنَ لِأَنْفُسِكُمْ.

وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْ نَفَقَاتِكُمْ، مَحْمُودٌ فِي ذَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ.

*نَهْيُ النَّبِيِّ ﷺ الشَّدِيدُ عَنْ أَكْلِ الْحَرَامِ:

عِبَادَ اللهَ! إِنَّ أَكْلَ الْحَرَامِ يُثْمِرُ ثَمَرًا خَبِيثًا مُرًّا، وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ النَّبِيُّ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: ((إِنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلى الْجَنَّةِ كُلُّ لَحْمٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ، «كُلُّ لَحْمٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ، فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ».

الْعَبْدُ يَدْفَعُ بِاللُّقْمَةِ الْحَرَامِ فِي جَوْفِهِ، وَالدَّمُ يَتَجَدَّدُ فِي الْجَسَدِ الْحَيِّ فِي فَتْرَةٍ دَوْرِيَّةٍ، فَلَا تَبْقَى خَلِيَّةٌ مِنْ خَلَايَا الدَّمِ جَارِيَةً سَارِيَةً فِي عُرُوقِهَا بَعْدَ الْمُدَّةِ الْمَضْرُوبَةِ لَهَا، إِذْ تَتَكَسَّرُ، ثُمَّ تَصِيرُ إِلَى مَا تَصِيرُ إِلَيْهِ، وَيَتَجَدَّدُ ذَلِكَ مِنَ الْغِذَاءِ الَّذِي يَتَغَذَّى بِهِ الْإْنْسَانُ الْحَيُّ.

فَإِذَا مَا دَفَعَ بِاللُّقْمَةِ الْحَرَامِ فِي جَوْفِهِ، فَلَا جَرَمَ وَلَا رَيْبَ أَنَّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ الْحَرَامِ يَدْخُلُ فِي بَعْضِ خَلَايَاهُ دَمًا وَلَحْمًا وَعَظْمًا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ، وَ«كُلُّ لَحْمٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ، فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ».

النَّبِيُّ ﷺ بَيَّنَ أَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- لَمْ يَجْعَلْ لِلْمُسْلِمِ حَرَجًا وَلَا ضِيقًا فِي شَيْءٍ، بَلْ جَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الرِّزْقَ مَكْفُولًا مُحَدَّدًا كَالْأَجَلِ، لَا يَخَافُ الْعَبْدُ مِنْهُ نُقْصَانًا، وَلَا يَتَوَقَّعُ الْمَرْءُ عَلَيْهِ زِيَادَةً إِلَّا لِنَقْصٍ فِي عَقْلِهِ.

فَفِي «الْحِلْيَةِ» بِإسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ قَالَ: «إِنَّ رَوْحَ الْقُدُسِ -جِبْرِيل -عَلَيْهِ السَّلَامُ-- نَفَثَ فِي رُوعِي)).

وَالنَّفْثُ: شَيْءٌ فَوْقَ النَّفْخِ وَدُونَ التَّفْلِ، ((فِي رُوعِيَ»: يَعْنِي: فِي نَفْسِي وَفُؤَادِي وَخَاطِرِي.

«إِنَّ رَوْحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رُوعِيَ أَنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ أَجَلَهَا وَتَسْتَوْعِبَ رِزْقَهَا، فَاتَّقُوا اللهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، وَلَا يَحْمِلَنَّ أَحَدَكُمُ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ أَنْ يَطْلُبَهُ بِمَعْصِيَةٍ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، فَإِنَّ مَا عِنْدَ اللهِ لَا يُنَالُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ».

«فَاتَّقُوا اللهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ»: وَتَجَمَّلُوا، وَأْتُوا بِالْأَمْرِ لَا عَلَى نَحْوٍ مُنْضَبِطٍ وَنَحْوٍ جَمِيلٍ، مِنْ غَيْرِ مَا عَجَلَةٍ، وَمِنْ غَيْرِ مَا انْدِفَاع، «فَاتَّقُوا اللهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ»؛ لِأَنَّ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- لَا يُنَالُ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْخَيْرِ إِلَّا بِطَاعَتِهِ، وَلِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ قَسَّمَ الْأَرْزَاقَ آجِلًا، كَمَا حَدَّدَ الْآجَاَل سَلَفًا، فَلَا الْأَجَلَ يَتَقَدَّمُ وَلَا يَتَأَخَّرُ، وَلَا الرِّزْقَ يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ كُلُّهُ حَدَّدَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ سَلَفًا.

دِينُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يَتَوَرَّعُ فِيهِ الْمُتَوَرِّعُونَ عَنْ أَكْلِ الْحَرَامِ، وَغِشْيَانِ الْحَرَامِ، وَالْوُقُوعِ فِي الشُّبُهَاتِ، قَالَ نَبِيُّنَا ﷺ: ((يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ، لَا يُبَالِي النَّاسُ فِيهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبُوا، أَمِنْ حَلَالٍ أَمْ مِنْ حَرَامٍ)) .

الْحَلَالُ عِنْدَهُمْ مَا وَقَعَ فِي الْيَدِ!! وَلَوْ كَانَ رِشْوَةً أَوْ غَصْبًا أَوْ سَرِقَةً!! مَا دَامَ وَقَعَ فِي الْيَدِ فَهُوَ حَلَالٌ!! وَالْحَرَامُ عِنْدَهُمْ مَا لَمْ يَقَعْ فِي الْيَدِ!!

وَمَا كَذَلِكَ دِينُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلَا عَلَى هَذَا أَخَذَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِيثَاقَنَا أَمْرًا: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172].

وَالنَّبِيُّ الْكَرِيمَ ﷺ فِي أَعْظَمِ اجْتِمَاعٍ شَهِدَهُ وَأَوْسَعِهِ، فِي يَوْمِ النَّحْرِ كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ رِوَايَةِ أَبِي بَكْرَةَ نُفَيْعِ بْنِ الْحَارِثِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ اسْتَحْضَرَ أَذْهَانَهُمْ، وَاسْتَجْلَبَ فُهُومَهُمْ حَتَّى صَارَتْ شَاخِصَةً بَيْنَ يَدَيْهِ، وَتَحْتَ نَاظِرَيْهِ، وَهُوَ ﷺ يَقُولُ: ((أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ أَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟ أَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟))

وَهُمْ يَقُولُونَ:  اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.

فَيَقُولُ: ((أَلَيْسَ بِيَوْمِ النَّحْرِ؟))

يَقُولُونَ: بَلَى.

((أَلَيْسَ بِالشَّهْرِ الَّذِي جَعَلَ اللهُ الْقَدْرَ؟))

يَقُولُونَ: بَلَى.

يَقُولُ: ((أَلَيْسَتْ هَذِهِ الْبَلْدَةُ؟))

يَقُولُونَ: بَلَى.

فَلَمَّا قَرَّرَهُمْ، وَأَعْلَمَهُمْ بِحُرْمَةِ الْيَوْمِ فِي شَهْرِهِ فِي مَكَانِهِ، قَالَ: ((إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا)).

 

المصدر:أَكْلُ السُّحْتِ وَسُوءُ عَاقِبَتِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  مِنْ دُرُوسِ وَفَوَائِدِ قِصَّةِ الْخَلِيلِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: الِامْتِثَالُ وَالِاسْتِسْلَامُ لِأَمْرِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-
  المَوْعِظَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : ((رَمَضَانُ شَهْرُ الْجَوَدِ وَالْكَرَمِ وَالْعَطَاءِ))
  أَنْوَاعُ النِّفَاقِ
  الْحَثُّ عَلَى التَّحَابِّ وَالِائْتِلَافِ وَنَبْذُ التَّبَاغُضِ وَالِاخْتِلَافِ
  فَضَائِلُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَشَرَفُ حَمَلَتِهِ
  رِقَابَةُ الضَّمِيرِ وَرِعَايَةُ السِّرِّ فِي زَحْمَةِ الْحَيَاةِ وَصِرَاعَاتِهَا!!
  مَعْنَى مُحَاسَبَةِ النَّفْسِ وَحَقِيقَتُهَا
  أَيَّامُ الْعَشْرِ أَفْضَلُ أَيَّامِ الدُّنْيَا
  الْإِسْلَامُ دِينُ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ
  سُوءُ عَاقِبَةِ آكِلِ السُّحْتِ فِي الْآخِرَةِ
  زِيَادَةُ الْإِيمَانِ مِنْ ثَمَرَاتِ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَتَدَبُّرِهِ
  دِينُ الْإِسْلَامِ هُوَ دِينُ الْفِطْرَةِ والطَّهَارَةِ
  الْأُصُولُ الْعَامَّةُ لِلْمُعَامَلَاتِ الِاقْتِصَادِيَّةِ فِي الْإِسْلَامِ
  مِنْ مَظَاهِرِ الْإِيجَابِيَّةِ: الِاجْتِهَادُ فِي الطَّاعَاتِ وَمُجَانَبَةِ الْمَعَاصِي
  مِنْ مَعَالِمِ الْبِرِّ بِالْأَوْطَانِ: الِاتِّحَادُ وَعَدَمُ شَقِّ الصَّفِّ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان