عَلَامَاتُ النِّفَاقِ، وَصِفَاتُ الْمُنَافِقِينَ


((عَلَامَاتُ النِّفَاقِ، وَصِفَاتُ الْمُنَافِقِينَ))

فَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي تَخْلِيصِ الْقَلْبِ مِمَّا يَشُوبُهُ، وَفِي رَدِّ الْمَظَالِمِ إِلَى أَرْبَابِهَا، وَأَنْ يَنْظُرَ فِي أَحْوَالِهِ وَفِي دَوَافِعِهِ، وَأَنْ يَنْظُرَ فِي قَلْبِهِ وَفِي نِيَّتِهِ وَعَقْدِهِ، وَأَنْ يُحَرِّرَ الْإِخْلَاصَ فِي سَوَاءِ فُؤَادِهِ.

وَأَنْ يُنَقِّيَ الْقَلْبَ مِمَّا يَشُوبُهُ وَيُفْسِدُ عَلَيْهِ الْقَصْدَ، وَيُدَمِّرُ عَلَيْهِ نِيَّتَهُ مِنَ الرِّيَاءِ وَالنِّفَاقِ وَالسُّمْعَةِ؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ ﷺ قَدْ أَخْبَرَنَا أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ لَا يُفْلِحُونَ أَبَدًا، وَإِنَّمَا كَفَّ الْيَدَ عَنْهُمْ قَتْلًا؛ حَتَّى لَا يَقُولَ النَّاسُ: إِنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-.

وَقَدْ وَضَّحَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بَعْضَ صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ فِي ((بَرَاءَةَ))، وَهِيَ ((الْفَاضِحَةُ))؛ لِأَنَّهَا فَضَحَتِ الْمُنَافِقِينَ بِصِفَاتِهِمْ، وَعَرَّتْهُمْ مِنْ شَفِيفِ ثِيَابِهِمْ، حَتَّى بَدَوْا مَفْضُوحِينَ لِلْخَلَائِقِ أَجْمَعِينَ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا.

فَخَصَّهُمُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بِآيَاتٍ مُتَكَاثِرَاتٍ.

 فَاللَّهُ -جَلَّ وَعَلَا- فِي فَاتِحَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ ذَكَرَ الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ ذَكَرَ الْكَافِرِينَ فِي آيَاتٍ، ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ بَعْضِ صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ؛ فَأَسْهَبَ النَّصُّ الْقُرْآنِيُّ فِي وَصْفِهِمْ؛ لِالْتِوَائِهِمْ، وَلِغُمُوضِ حَالِهِمْ وَلِعِظَمِ شَرِّهِمْ، وَلِاخْتِلَاطِ مَسَالِكِهِمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ؛ وَلِأَنَّهُمْ كَالسُّوسِ الَّذِي يَنْخَرُ فِي جَسَدِ الْأُمَّةِ.

 وَأَمَّا الْكَافِرُ، فَأَمْرُهُ وَاضِحٌ، وَخَطَرُهُ ظَاهِرٌ.

 وَأَمَّا الْمُنَافِقُ الَّذِي يُظْهِرُ غَيْرَ مَا يُضْمِرُ؛ فَهَذَا كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُتَعَامَلَ مَعَهُ، هُوَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ يُصَلِّي مَعَهُمْ، وَلَكِنْ لَا يَقُومُ إِلَى الصَّلَاةِ إِلَّا عَلَى حَالِ كَسَلٍ وَفُتُورٍ؛ كَمَا أَخْبَرَ رَبُّنَا فِي كِتَابِهِ الْمَجِيدِ؛ وَلَكِنَّهُ يُصَلِّي مَعَهُمْ.

وَرُبَّمَا شَهِدَ مَعَهُمُ الْغَزْوَةَ فِي سَبِيلِ اللهِ ظَاهِرًا، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمُشَارَكَاتِ فِي الْخَيْرِ الظَّاهِرِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَهَذَا يُنَافِقُ؛ يُدَمِّرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ صَفَّهُمْ، وَيُفَرِّقُ عَلَيْهِمْ شَمْلَهُمْ، وَيُبَدِّدُ مِنْهُمْ وَحْدَتَهُمْ، وَيَسْعَى فِي حَطِّ شَأْنِ الْإِسْلَامِ، وَهَيْهَاتَ!

شَرَعَ النَّصُّ الْقُرْآنِيُّ فِي بَيَانِ هَؤُلَاءِ {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 8-9]، وَهَذَا الْعَطْفُ الْكَرِيمُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَتَوَلَّى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ.

 {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 9]، ثُمَّ بَيَّنَ اللهُ مَوْطِنَ الدَّاءِ فِيهِمْ {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَٰكِن لَّا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ ۗ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَٰكِن لَّا يَعْلَمُونَ (13)} [البقرة: 10-13].

بَيَّنَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِإِسْهَابٍ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بَعْضَ  صِفَاتِ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ؛ لِأَنَّ حَالَهُمْ غَامِضٌ كَالْيَرْبُوعِ الَّذِي يَدْخُلُ جُحْرَهُ؛ فَلَا تَدْرِي مِنْ أَيْنَ يَخْرُجُ بِمَسَالِكَ مُمَوَّهَةٍ، وَلَا كَذَلِكَ الْمَخْلَصُ الَّذِي يُخْلِصُ لِلَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- قَصْدَهُ، وَيُوَحِّدُ سَبِيلَهُ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَا يَقْبَلُ هَذَا النِّفَاقَ وَلَا يَرْضَاهُ، وَإِنَّمَا يُحِبُّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْمُخْلِصِينَ.

وَمَنْ تَأَمَّلَ مَا وَصَفَ اللهُ بِهِ الْمُنَافِقِينَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ صِفَاتِ الذَّمِّ؛ عَلِمَ أَنَّهُمْ أَحَقُّ بِالدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ.

 فَإِنَّهُ وَصَفَهُمْ بِمُخَادَعَتِهِ، وَمُخَادَعَةِ عِبَادِهِ، وَوَصَفَ قُلُوبَهُمْ بِالْمَرَضِ، وَهُوَ مَرَضُ الشُّبُهَاتِ وَالشُّكُوكِ، وَوَصَفَهُمْ بِالْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَبِالِاسْتِهْزَاءِ بِدِينِهِ وَبِعِبَادِهِ.

وَوَصَفَهُمْ بِالطُّغْيَانِ، وَاشْتِرَاءِ الضَّلَالِ بِالْهُدَى، وَوَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ.

 وَوَصَفَهُمْ بِالْحَيْرَةِ وَالْكَسَلِ عِنْدَ عِبَادَتِهِ، وَوَصَفَهُمْ بِالزِّنَا وَالْفَاحِشَةِ، وَقِلَّةِ ذِكْرِهِ.

وَوَصَفَهُمْ بِالتَّرَدُّدِ وَهُوَ التَّذَبْذُبُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ، لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ.

وَوَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ يَحْلِفُونَ بِاسْمِهِ تَعَالَى كَذِبًا وَبَاطِلًا، وَوَصَفَهُمْ بِغَايَةِ الْجُبْنِ، وَبِعَدَمِ الْفِقْهِ فِي الدِّينِ، وَبِعَدَمِ الْعِلْمِ، وَبِالْبُخْلِ، وَبِعَدَمِ الْإِيمَانِ بِاللهِ، وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلَا بِالرَّبِّ.

 وَوَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ مَضَرَّةٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا يَحْصُلُ لَهُمْ بِنَصِيحَتِهِمْ إِلَّا الشَّرُّ مِنَ الْخَبَالِ وَالْإِسْرَاعِ بَيْنَهُمْ بِالشَّرِّ وَإِلْقَاءِ الْفِتْنَةِ.

وَوَصَفَهُمْ بِكَرَاهَتِهِمْ لِظُهُورِ أَمْرِ اللهِ، وَمَحْوِ الْحَقِّ، وَأَنَّهُمْ يَحْزَنُونَ بِمَا يَحْصُلُ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْخَيْرِ وَالنَّصْرِ، وَيَفْرَحُونَ بِمَا يَحْصُلُ لَهُمْ مِنَ الْمِحْنَةِ وَالْبَلَاءِ، وَأَنَّهُمْ يَتَرَبَّصُونَ بِهِمُ الدَّوَائِرَ.

وَوَصَفَهُمْ بِكَرَاهَتِهِمُ الْإِنْفَاقَ فِي مَرْضَاةِ اللهِ وَسَبِيلِهِ، وَبِعَيْبِ الْمُؤْمِنِينَ، وَرَمْيِ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا لَيْسَ فِيهِمْ.

 فَيَلْمِزُونَ الْمُتَصَدِّقِينَ، وَيَعِيبُونَ الْمُتَزَهِّدِينَ، وَيَرْمُونَ بِالرِّيَاءِ وَإِرَادَةِ الثَّنَاءِ فِي النَّاسِ مُكْثِرَهُمْ، وَأَنَّهُمْ عَبِيدُ دُنْيَا، إِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ مُنِعُوا سَخِطُوا، وَبِأَنَّهُمْ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ ﷺ، وَيَنْسُبُونَهُ إِلَى مَا بَرَّأَهُ اللهُ مِنْهُ، وَيَعِيبُونَهُ بِمَا هُوَ مِنْ كَمَالِهِ وَفَضْلِهِ.

وَوَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ يَقْصِدُونَ إِرْضَاءَ الْمَخْلُوقِينَ، وَلَا يَطْلُبُونَ إِرْضَاءَ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَبِأَنَّهُمْ يَسْخَرُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَيَفْرَحُونَ إِذَا تَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَيَكْرَهُونَ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللهِ.

وَوَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ يَفْرَحُونَ إِذَا تَخَلَّفُوا عَنِ الرَّسُولِ ﷺ، وَيَكْرَهُونَ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَيَتَحَيَّلُونَ عَلَى تَعْطِيلِ فَرَائِضِ اللهِ بِأَنْوَاعِ الْحِيَلِ، وَيَرْضَوْنَ بِالتَّخَلُّفِ عَنْ طَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ.

وَوَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ مَطْبُوعٌ عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَأَنَّهُمْ يَتْرُكُونَ مَا أَوْجَبَ اللهُ عَلَيْهِمْ مَعَ قُدْرَتِهِمْ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُمْ أَحْلَفُ النَّاسِ بِاللهِ؛ فَقَدِ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً تَقِيهِمْ مِنْ إِنْكَارِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ.

 وَهَذَا شَأْنُ الْمُنَافِقِ؛ أَحْلَفُ النَّاسِ بِاللهِ كَاذِبًا، قَدِ اتَّخَذَ يَمِينَهُ جُنَّةً وَوِقَايَةً يَتَّقِي بِهَا إِنْكَارَ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ.

وَوَصَفَهُمُ اللهُ بِأَنَّهُمْ رِجْسٌ -وَالرِّجْسُ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ أَخْبَثُهُ وَأَقْذَرُهُ-، فَهُمْ أَخْبَثُ بَنِي آدَمَ وَأَقْذَرُهُمْ وَأَرْذَلُهُمْ.

 وَوَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ فَاسِقُونَ، وَبِأَنَّهُمْ مَضَرَّةٌ عَلَى أَهْلِ الْإِيمَانِ يَقْصِدُونَ التَّفْرِيقَ بَيْنَهُمْ، وَيُؤْوُونَ مَنْ حَارَبَهُمْ وَحَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ، وَأَنَّهُمْ يَتَشَبَّهُونَ بِهِمْ، وَيُضَاهُونَهُمْ فِي أَعْمَالِهِمْ؛ لِيَتَوَصَّلُوا مِنْهَا إِلَى الْإِضْرَارِ بِهِمْ وَتَفْرِيقِ كَلِمَتِهِمْ، وَهَذَا شَأْنُ الْمُنَافِقِينَ أَبَدًا.

وَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ فَتَنُوا أَنْفُسَهُمْ بِكُفْرِهِمْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ، وَتَرَبَّصُوا بِالْمُسْلِمِينَ دَوَائِرَ السَّوءِ.

وَهَذِهِ عَادَتُهُمْ فِي كُلِّ زَمَانٍ، وَارْتَابُوا فِي الدِّينِ فَلَمْ يُصَدِّقُوا بِهِ، وَغَرَّتْهُمُ الْأَماَنِيُّ الْبَاطِلَةُ، وَغَرَّهُمُ الشَّيْطَانُ الرَّجِيمُ.

وَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ أَحْسَنُ النَّاسِ أَجْسَامًا، تُعْجِبُ الرَّائِيَ أَجْسَامُهُمْ، وَالسَّامِعَ مَنْطِقُهُمْ، فَإِذَا جَاوَزْتَ أَجْسَامَهُمْ وَأَقْوَالَهُمْ رَأَيْتَ خُشُبًا مُسَنَّدَةً، لَا إِيمَانَ وَلَا فِقْهَ، وَلَا عِلْمَ وَلَا صِدْقَ، بَلْ خُشُبٌ قَدْ كُسِيَتْ كُسْوَةً تَرُوقُ النَّاظِرَ، وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ.

وَوَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ إِذَا عُرِضَ عَلَيْهِمُ التَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ أَبَوْهَا، وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ لَا حَاجَةَ لَهُمْ إِلَيْهَا، إِمَّا لِأَنَّ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الزَّنْدَقَةِ وَالْجَهْلِ الْمُرَكَّبِ مُغْنٍ عَنْهَا وَعَنِ الطَّاعَاتِ جُمْلَةً كَحَالِ كَثِيرٍ مِنَ الزَّنَادِقَةِ، وَإِمَّا احْتِقَارًا وَازْدِرَاءً بِمَنْ يَدْعُوهُمْ إِلَى ذَلِكَ.

وَوَصَفَهُمْ سُبْحَانَهُ بِالِاسْتِهْزَاءِ بِهِ وَبِآيَاتِهِ وَبِرَسُولِهِ، وَبِأَنَّهُمْ مُجْرِمُونَ، وَبِأَنَّهُمْ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ، وَيَقْبِضُونَ أَيْدَيَهُمْ عَنِ الْإِنْفَاقِ فِي مَرْضَاتِهِ.

وَوَصَفَهُمْ بِنِسْيَانِ ذِكْرِهِ، وَبِأَنَّهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الْكُفَّارَ، وَيَدَعُونَ الْمُؤْمِنِينَ، وَبِأَنَّ الشَّيْطَانَ قَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ، وَغَلَبَ عَلَيْهِمْ حَتَّى أَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللهِ، فَلَا يَذْكُرُونَهُ إِلَّا قَلِيلًا.

 وَبِأَنَّهُمْ حِزْبُ الشَّيْطَانِ، وَأَنَّهُمْ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ، وَبِأَنَّهُمْ يَتَمَنَّوَنَ مَا يُعْنِتُ الْمُؤْمِنِينَ وَيَشُقُّ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّ الْبَغْضَاءَ تَبْدُو لَهُمْ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَعَلَى فَلَتَاتِ لِسَانِهِمْ، وَبِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ.

فَهَذِهِ بَعْضُ صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى.

عِبَادَ اللهِ! لَقَدْ بَيَّنَ نَبِيُّنَا ﷺ عِظَمَ الْإِخْلَاصِ فِي دِينِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.

 وَحَذَّرَ النَّبِيُّ ﷺ مِنَ النِّفَاقِ وَمِنَ الرِّيَاءِ، وَمِنْ قَصْدِ الشُّهْرَةِ وَالسُّمْعَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُضَادُّ الْإِخْلَاصَ لِلَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.

 وَاللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَا يَتَقَبَّلُ إِلَّا مِنَ الْمُتَّقِينَ الْمُخْلِصِينَ.

 وَأَمَّا الْمُنَافِقُونَ: فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَا يُصْلِحُ عَمَلَهُمْ؛ وَلَا يُفْلِحُ الْمُنَافِقُونَ حَيْثُ أَتَوْا؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَا يَرْضَى أَحْوَالَهُمْ، وَلَا يَقْبَلُ أَقْوَالَهُمْ {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} [المنافقون: 4]؛ كَذَا أَمَرَ بِذَلِكَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.

 فَالنَّبِيُّ ﷺ يَدُلُّنَا عَلَى أَنْ نُغَيِّرَ أَنْفُسَنَا، وَأَنْ يَقِفَ الْوَاحِدُ مِنَّا عَلَى رَأْسِ طَرِيقِهِ؛ لِيَتَأَمَّلَ فِي مَاضِيهِ وَيَنْظُرَ فِي حَالِهِ وَحَاضِرِهِ، ثُمَّ لِيَسْتَشْرِفَ إِلَى مُسْتَقْبَلِهِ؛ لِيَتَدَارَكَ قَبْلَ أَنْ يَفُوتَ الْأَوَانُ؛ فَإِنَّ بَابَ التَّوْبَةِ مَفْتُوحٌ فِي حَقِّ الْأَفْرَادِ حَتَّى تَبْلُغَ الرُّوحُ الْحُلْقُومَ.

وَالرَّسُولُ ﷺ جَعَلَنَا عَلَى الْمَحَجَّةِ الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا؛ لَا يَزِيغُ عَنْهَا إِلَّا هَالِكٌ.

 وَحَذَّرَنَا مِنْ خِصَالِ النِّفَاقِ، وَنَفَّرَنَا مِنَ الرِّيَاءِ، وَحَضَّنَا عَلَى اجْتِنَابِ السُّمْعَةِ.

 وَبَيَّنَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَأَنَّ مَا عِنْدَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- لَا يُنَالُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ.

 فَمَهْمَا تَوَسَّلَ الْعَبْدُ بِمَعْصِيَةِ اللهِ إِلَى رِضْوَانِهِ حَجَبَهُ عَنْهُ، وَقَطَعَهُ دُونَهُ؛ فَمَا عِنْدَ اللهِ لَا يُنَالُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ.

وَالرَّسُولُ ﷺ يُحَذِّرُنَا مِنْ خِصَالٍ ذَكَرَ أَنَّهَا مِنْ خِصَالِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ الْتَوَى بَاطِنُهُمْ.

 وَقَدْ ذَكَرَ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ مَا ذَكَرَ كَمَا بَيَّنَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- صِفَاتِهِمْ فِي الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ.

يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) , مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ)).

فَهَذِهِ صِفَاتُ الْمُنَافِقِينَ، وَهُوَ النِّفَاقُ الْعَمَلِيُّ؛ مَنْ أَتَى بِهَذِهِ الْخِصَالِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا؛ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ؛ وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ فَفِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا؛ حَتَّى يَتَخَلَّصَ مِنْهَا بِتَوْبَةٍ نَصُوحٍ.

((إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ))؛ وَكُلُّ مَا آتَاكَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْ شَيْءٍ وَأَقَامَكَ فِيهِ مِنْ أَمْرٍ؛ فَأَنْتَ مُؤْتَمَنٌ عَلَيْهِ؛ فَيَنْبَغِي عَلَيْكَ أَلَّا تَخُونَ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ إِذَا وُسِّدَ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ؛ لِأَنَّهُ ضُيِّعَتِ الْأَمَانَةُ.

 فَكُلُّ قَائِمٍ عَلَى أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ نَفْسِهِ أَوْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَهُوَ مُؤْتَمَنٌ عَلَيْهِ، وَمَا آتَاكَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- مِنْ شَيْءٍ مِنْ نِعْمَةٍ فِي بَدَنِكَ؛ فَصَحَّحَهَا لَكَ أَوْ فِي مَالِكَ، فَأَنْعَمَ عَلَيْكَ بِهِ، أَوْ فِي أَهْلِكَ فَأَفْضَلَ بِهِ عَلَيْكَ، أَوْ فِي وَلَدِكَ فَرَزَقَكَ إِيَّاهُ؛ كُلُّ ذَلِكَ وَمَا فَوْقَهُ إِنَّمَا هُوَ مِمَّا أَنْتَ مُؤْتَمَنٌ عَلَيْهِ.

 فَيَجِبُ أَنْ تَمْضِيَ فِيهِ بِالسَّوِيَّةِ، وَتَعْدِلَ فِيهِ بِالْحُكْمِ، وَتَقُومَ فِيهِ بِأَمْرِ اللهِ، وَإِلَّا فَإِنَّ الْأَبْعَدَ قَدْ خَانَ الْأَمَانَةَ؛ فَفِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ.

((إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ))؛ وَذَلِكَ يَتَمَثَّلُ بِجَحْدِ مَا عَلَيْهِ، وَبِادِّعَاءِ مَا لَيْسَ لَهُ؛ فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ؛ فَهُوَ خَائِنٌ خَانَ الْأَمَانَةَ؛ يَدَّعِي مَا لَيْسَ لَهُ وَيَجْحَدُ مَا عَلَيْهِ.

((إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ)): وَلَوْ كَانَ مُتَحَدِّثًا بِالْكَلِمَةِ؛ يُضْحِكُ بِهَا النَّاسَ؛ فَوَيْلٌ لَهُ، ثُمَّ وَيْلٌ لَهُ، أَيْ لِلَّذِي يَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ يَقْصِدُ أَنْ يُضْحِكَ بِهَا النَّاسَ كَمَا فِي حَدِيثِ رَسُولِ اللهِ ﷺ .

((وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ)): فَلَا ذِمَّةَ لَهُ تَقُومُ، وَإِنَّمَا هُوَ الْغَدْرُ عِنْدَ الْعَهْدِ، وَالنَّقْضُ لِلْوَعْدِ، وَعَدَمُ الْوَفَاءِ بِمَا وَعَدَ؛ لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِ النِّفَاقُ بِخَصْلَتِهِ.

((وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ))؛ لَا يَطْوِي أَمْرًا، وَإِنَّمَا يُذِيعُ الْأَكَاذِيبَ وَيَنْشُرُهَا بِخَصْلَةِ النِّفَاقِ الَّتِي اسْتَحْوَذَتْ عَلَى قَلْبِهِ.

((وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ))؛ وَلَا كَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَعْتِبُ وَيَنْتَظِرُ الْأَوْبَةَ كَمَا هُوَ فِي شَأْنِ كُلِّ كَرِيمِ النَّفْسِ؛ يَنْتَظِرُ الْأَوْبَةَ، وَيَعْلَمُ أَنَّ الْجَفْوَةَ إِنَّمَا هِيَ إِلَى أَمَدٍ مَعْلُومٍ.

 وَأَمَّا الْفُجُورُ فِي الْخُصُومَةِ؛ فَمِنْ شَأْنِ الْمُنَافِقِينَ.

 أَعَاذَنَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْهُمْ وَمِنْ خِصَالِهِمْ.

النِّفَاقُ إِنَّمَا هُوَ مِنْ عَمَلِ النُّفُوسِ الْمَرِيضَةِ وَالْقُلُوبِ السَّقِيمَةِ, لَا تَجِدُ الرَّجُلَ صَاحِبَ الْمُرُوءَةِ يُنَافِقُ أَبَدًا!

 حَتَّى وَلَوْ لَمْ يَتَدَيَّنْ مُتَعَبِّدًا بِتَرْكِ النِّفَاقِ, وَلَكِنَّهُ لَا يُنَافِقُ, وَإِنَّمَا يَكُونُ النِّفَاقُ فِي النُّفُوسِ الْمُتَدَنِّيَةِ النُّفُوسِ الْهَابِطَةِ الَّتِي انْطَوَتْ عَلَى الْخُبْثِ, وَانْطَوَتْ عَلَى الضَّعْفِ وَالْمَذَلَّةِ؛ وَلِذَلِكَ اسْتَبْعَدَ الْأَشْرَافَ وَالسَّادَةَ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَصْلُحُونَ لِلنِّفَاقِ وَلَا يَصْلُحُ النِّفَاقُ لَهُمْ.

الْمُنَافِقُونَ قَبْلَ ذَلِكَ كُلِّهِ عُشَّاقُ زَعَامَةٍ, وَعَبِيدُ مَصَالِحَ؛ لَا يُقَصِّرُونَ فِي امْتِطَاءِ كُلِّ مَرْكَبٍ يَضْمَنُ لَهُمُ السِّيَادَةَ وَالْقِيَادَةَ مِنْ أَجْلِ هَذَا؛ يُؤْمِنُونَ أَوَّلَ النَّهَارَ وَيَكْفُرُونَ آخِرَهُ, وَيُخَاطِبُونَ كُلَّ إِنْسَانٍ بِالْأُسْلُوبِ الَّذِي يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ.

 فَهَذَا مِنْ خِصَالِ وَعَلَامَاتِ الْمُنَافِقِينَ: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا} فَهَذَا لَوْنٌ، {وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: 14]، فَهَذَا لَوْنٌ آخَرُ.

فَهُمْ يُخَاطِبُونَ كُلَّ إِنْسَانٍ بِالْأُسْلُوبِ الَّذِي يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ كَالْيَرْبُوعِ فِي نَافِقَائِه لَهُ مَسَارِبُهُ وَعَلَى حَسَبِ الْحَالِ فِي اتِّبَاعِهِ يَكُونُ تَخَلُّصُهُ؛ فَيَخْرُجُ مِنْ هَذَا مَرَّةً وَمِنْ هَذَا مَرَّةً, وَمِنْ هَذَا مَرَّةً.

 وَكُلُّ ذَلِكَ خَفِيٌّ غَيْرُ ظَاهِرٍ, خَفِيٌّ عَمَّنْ تَتَّبِعُهُ غَيْرُ ظَاهِرٍ لِمَنْ نَظَرَ إِلَى حَالِهِ وَمَآلِهِ.

الْمُنَافِقُ يُخَالِفُ قَوْلُهُ فِعْلَهُ.

وَيُخَالِفُ سِرُّهُ عَلَانِيَتَهُ؛ فَيُظْهِرُ الْعَلَانِيَةَ الْحَسَنَةَ, وَالظَّاهِرَ الْمَرْضِيَّ, وَقَدِ انْطَوَى عَلَى قَلْبِ ذِئْبٍ.

 وَأَمَّا فِي ظَاهِرِهِ؛ فَيَلْبَسُ لِلنَّاسِ مُسُوحَ الْحِمْلَانِ.

 وَأَمَّا فِي الْبَاطِنِ, فَالْمُنَافِقُونَ عَلَى جُثْمَانِ ذِئَابٍ يُخَالِفُ مَدْخَلُهُ مَخْرَجَهُ, وَمَشْهَدُهُ مَغِيبَهُ.

لَقَدْ حَذَّرَ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ تَقْلِيدِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى, وَأَشَارَ إِلَى زَمَنٍ يُقَلِّدُ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَتَبِعَهُمُ الْمُسْلِمُونَ مَعَ أَنَّ جُحْرَ الضَّبِّ لَا يَدْخُلُهُ عَاقِلٌ.

فَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ؛ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا فِي جُحْرِ ضَبٍّ لَتَبِعْتُمُوهُمْ)).

 قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ, آلْيَهُودُ وَالنَّصَارَى؟

 قَالَ: ((فَمَنْ؟!!)) .

 وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) بِهَذَا اللَّفْظِ.

وَحَذَّرَ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ مُشَابَهَةِ هَؤُلَاءِ, وَأَخْبَرَ؛ وَهَذَا مِنْ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ سَيَأْتِي عَلَيْهِمْ يَوْمٌ يَتَّبِعُونَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى فِي كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلَ هَؤُلَاءِ جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلَهُ الْمُسْلِمُونَ وَرَاءَهُمْ, وَهَذَا وَاقِعٌ.

 فَتَقْلِيدُ هَؤُلَاءِ فِي كُلِّ شَيْءٍ قَائِمٌ -فِي زِيِّهِمْ، وَفِي كَلَامِهِمْ، وَفِي حَرَكَةِ حَيَاتِهِمْ، وَفِي تَصَوُّرَاتِهِمْ, بَلْ وَفِي لُغَاتِهِمْ, وَفِي الْبِنَاءِ عَلَى قَوَاعِدِهِمْ فِي الْفِكْرِ، وَفِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْأُمُورِ الْمَادِّيَّةِ الَّتِي يَحْيَا بِهَا النَّاسُ!

 فَالنَّبِيُّ ﷺ أَخْبَرَ أَنَّ ذَلِكَ سَيَكُونُ, وَقَدْ كَانَ؛ وَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، النَّاسُ يَتَّبِعُونَ هَؤُلَاءِ فِي كُلِّ شَيْءٍ- هَذَا مِنَ النِّفَاقِ الَّذِي تَمَكَّنَ مِنَ الْقُلُوبِ.

 وَأَمَّا الْمُخْلِصُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ؛ فَإِنَّهُمْ يَتَمَسَّكُونَ بِهَدْيِ نَبِيِّهِمْ ﷺ وَبِأُصُولِ دِينِهِمْ, وَلَا يَتَّبِعُونَ أَحَدًا إِلَّا مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ النَّبِيِّ ﷺ فَهُوَ قُدْوَتُهُمْ ﷺ فِيمَا يُبَلِّغُ عَنْ رَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

*هَذِهِ أَمَارَاتُ النِّفَاقِ، فَاحْذَرُوهَا!!

إِنَّ زَرْعَ النِّفَاقِ يَنْبُتُ عَلَى سَاقِيَتَيْنِ: سَاقِيَةِ الْكَذِبِ، وَسَاقِيَةِ الرِّيَاءِ.

وَمَخْرَجُهُمَا مِنْ عَيْنَيْنِ: عَيْنِ ضَعْفِ الْبَصِيرَةِ، وَعَيْنِ ضَعْفِ الْعَزِيمَةِ.

فَإِذَا تَمَّتْ هَذِهِ الْأَرْكَانُ الْأَرْبَعُ اسْتَحْكَمَ نَبَاتُ النِّفَاقِ وَبُنْيَانُهُ، وَلَكِنَّهُ بِمَدَارِجِ السُّيُولِ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ.

 فَإِذَا سَالَ سَيْلُ الْحَقَائِقِ وَعَايَنُوا يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ، وَكُشِفَ الْمَسْتُورُ، وَبُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ، وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ، تَبَيَّنَ حِينَئِذٍ- لِمَنْ كَانَتْ بِضَاعَتُهُ النِّفَاقَ أَنَّ حَوَاصِلَهُ الَّتِي حَصَّلَهَا كَانَتْ كَالسَّرَابِ: {يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور: 39].

قُلُوبُهُمْ عَنِ الْخَيْرَاتِ لَاهِيَةٌ، وَأَجْسَادُهُمْ إِلَيْهَا سَاعِيَةٌ، وَالْفَاحِشَةُ فِي فِجَاجِهِمْ فَاشِيَةٌ، وَإِذَا سَمِعُوا الْحَقَّ كَانَتْ قُلُوبُهُمْ عَنْ سَمَاعِهِ قَاسِيَةً، وَإِذَا حَضَرُوا الْبَاطِلَ وَشَهِدُوا الزُّورَ انْفَتَحَتْ أَبْصَارُ قُلُوبِهِمْ، وَكَانَتْ آذَانُهُمْ وَاعِيَةً.

فَهَذِهِ وَاللَّهِ- أَمَارَاتُ النِّفَاقِ، فَاحْذَرْهَا أَيُّهَا الرَّجُلُ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ بِكَ الْقَاضِيَةُ:

 إِذَا عَاهَدُوا لَمْ يَفُوا، وَإِذَا وَعَدُوا أَخْلَفُوا، وَإِنْ قَالُوا لَمْ يُنْصِفُوا، وَإِنْ دُعُوا إِلَى الطَّاعَةِ وَقَفُوا، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ: تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ صَدَفُوا، وَإِذَا دَعَتْهُمْ أَهْوَاؤُهُمْ إِلَى أَغْرَاضِهِمْ أَسْرَعُوا إِلَيْهَا وَانْصَرَفُوا.

فَذَرْهُمْ وَمَا اخْتَارُوا لِأَنْفُسِهِمْ مِنَ الْهَوَانِ وَالْخِزْيِ وَالْخُسْرَانِ، فَلَا تَثِقْ بِعُهُودِهِمْ، وَلَا تَطْمَئِنَّ إِلَى وُعُودِهِمْ؛ فَإِنَّهُمْ فِيهَا كَاذِبُونَ، وَهُمْ لِمَا سِوَاهَا مُخَالِفُونَ: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة: 75-77].

فَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَتَعَلَّمَ صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ؛ لِكَيْ يَتَوَقَّاهَا، وَلِكَيْ لَا يُلِمَّ بِشَيْءٍ مِنْهَا وَلَا يُلِمَّ شَيْءٌ مِنْهَا بِهِ؛ أَنْ تَكُونَ فِيهِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ، فَكَمْ مِنْ مُحْسِنٍ لِلظَّنِّ بِنَفْسِهِ وَهُوَ أَسْوَأُ مِنَ السُّوءِ نَفْسِهِ، فَعَلَى الْمَرْءِ أَلَّا يَغْتَرَّ!!

 

المصدر:النِّفَاقُ... عَلَامَاتُهُ، وَخُطُورَتُهُ

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  الْأَمَلُ وَالتَّفَاؤُلُ فِي السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ
  نَصِيحَةٌ لِجَمَاعَاتٍ ضَالَّةٍ تُكَفِّرُ أَهْلَ الْقِبْلَةِ!!
  نِعَمُ اللهِ عَلَيْنَا لَا تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى
  مِنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ الْهِجْرَةِ: هَجْرُ الْمَعَاصِي وَالْآثَامِ
  الِاسْتِعْدَادُ لِرَمَضَانَ لَا يَكُونُ بِالْإِسْرَافِ!!
  رَحْمَةُ اللهِ بِمَنْ يَقْضِي حَاجَةَ كَلْبٍ؛ فَكَيْفَ بِإِخْوَانِكُمْ؟!!
  ثَمَرَاتُ الْإِيجَابِيَّةِ
  أَدِلَّةُ تَحْرِيمِ الْمُسْكِرَاتِ وَالْمُخَدِّرَاتِ
  ذِكْرُ اللهِ فِي الْمَسْجِدِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ
  الدَّرْسُ الثَّانِي: أُصُولُ التَّوْحِيدِ وَمَعَالِمُهُ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ
  ضَرُورَةُ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْمِيَاهِ
  نَبِيُّكُمْ ﷺ كَانَ أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا مَعَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ
  الْحَثُّ عَلَى الِاجْتِهَادِ فِي الدُّعَاءِ فِي شَهْرِ رَمضَانَ
  حَثُّ السُّنَّةِ عَلَى الْعِلْمِ الْمَادِّيِّ وَالْعَمَلِ الْجَادِّ
  نِدَاءٌ إِلَى الْمِصْرِيِّينَ بِتَقْدِيمِ مَصْلَحَةِ الْوَطَنِ الْعُلْيَا
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان