((مِنْ أَعْظَمِ صِفَاتِ النَّبِيِّ ﷺ وَأُمَّتِهِ الرَّحْمَةُ))
إِنَّ الرَّحْمَةَ صِفَةٌ مُهِمَّةٌ، مَحْبُوبَةٌ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، اتَّصَفَ بِهَا بِكَمَالِهَا الرَّسُولُ الْأَمُينُ.
وَالصِّفَةُ الْبَارِزَةُ لِهَذِهِ الْأُمَّةُ هِيَ الرَّحْمَةُ، كَمَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29]؛ فَهِيَ صِفَةٌ بَارِزَةٌ مِنْ صِفَاتِ هَذِهِ الْأُمَّةِ.
وَالْقَسَاوَةُ لَا يُحِبُّهَا اللهُ تَعَالَى، وَهِيَ عُقُوبَةٌ؛ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يُحِبُّ الْقُلُوبَ الْقَاسِيَةَ، وَأَبْعَدُ الْقُلُوبِ عَنِ اللهِ الْقَلْبُ الْقَاسِي: {فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 22].
أَبْعَدُ الْقُلُوبِ عَنِ اللهِ تَعَالَى الْقَلْبُ الْقَاسِي، وَأَحَبُّ الْقُلُوبِ إِلَى اللهِ تَعَالَى الْقَلْبُ السَّلِيمُ؛ وَهُوَ الْقَلْبُ الْمُوَحِّدُ الَّذِي يَتَّصِفُ بِصِفَاتِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ، وَمِنْ أَعْظَمِ ذَلِكَ: صِفَةُ الرَّحْمَةِ.
وَمِنْ سَعَادَةِ الْمَرْءِ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِفًا بِصِفَةِ الرَّحْمَةِ، وَمِنْ سُوءِ حَظِّهِ وَشَقَاوَتِهِ الْحِرْمَانُ مِنْ هَذِهِ الصِّفَةِ الْجَلِيلَةِ.
فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ الصَّادِقَ الْمَصْدُوقَ أَبَا الْقَاسِمِ ﷺ يَقُولُ: «لَا تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إِلَّا مِنْ شَقِيٍّ». هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ.
قَوْلُهُ: «لَا تُنْزَعُ»: بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ؛ أَيْ: لَا تُسْلَبُ الشَّفَقَةُ، وَأَصْلُ النَّزْعِ: الْجَذْبُ وَالْقَلْعُ.
النَّبْيُّ ﷺ يُبَيِّنُ أَنَّ الرَّحْمَةَ فِي الْخَلْقِ هِيَ رِقَّةٌ فِي الْقَلْبِ، وَرِقَّةُ الْقَلْبِ عَلَامَةُ الْإِيمَانِ، وَمِنْ لَا رِقَّةَ لَهُ فِي قَلْبِهِ فَلَا إِيمَانَ لَهُ، وَمَنْ لَا إِيمَانَ لَهُ شَقِيٌّ، فَمَنْ لَمْ يُرْزَقِ الرِّقَّةَ فِي الْقَلْبِ وَالرَّحْمَةَ فِي الْفُؤَادِ شَقِيَ.
وَحَقِيقَةُ الرَّحْمَةِ إِرَادَةُ الْمَنْفَعَةِ، وَإِذَا ذَهَبَتْ إِرَادَتُهَا مِنْ قَلْبِهِ شَقِيَ بِإِرَادَةِ الْمَكْرُوهِ لِغَيْرِهِ؛ فَذَهَبَ عَنْهُ الْإِيمَانُ وَالْإِسْلَامُ.
قَوْلُهُ: «لَا تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إِلَّا مِنْ شَقِيٍّ»: هَلِ الْمُرَادُ فِيهِ: تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ مِنْ قَلْبِهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ رَحْمَةٌ؟
لِأَنَّ حَقِيقَةَ النَّزْعِ إِخْرَاجُ شَيْءٍ مِنْ مَكَانٍ كَانَ فِيهِ، فَهَلِ الْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ ذَلِكَ؟ أَوِ الْمُرَادُ: لَمْ يُجْعَلْ فِي قَلْبِهِ رَحْمَةٌ أَصْلًا ويَكُونُ كَقَوْلِهِ: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ»؟.
وَالْمُرَادُ: شَقَاءُ الْآخِرَةِ أَوِ الدُّنْيَا أَوِ الدَّارَيْنِ مَعًا.
«الرَّحْمَةُ»: رِقَّةٌ وَحُنُوٌّ يَجِدُ الْإِنْسَانُ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ عِنْدَ رُؤْيَةِ مُبْتَلًى أَوْ صَغِيرٍ أَوْ ضَعِيفٍ، يَحْمِلُهُ مَا يَجِدُهُ عَلَى الْإِحْسَانِ لَهُ، وَاللُّطْفِ وَالرِّفْقِ بِهِ، وَالسَّعْيِ فِي كَشْفِ مَا بِهِ، وَقَدْ جَعَلَ اللهُ هَذِهِ الرَّحْمَةَ فِي الْحَيَوَانِ كُلِّهِ، يَعْطِفُ الْحَيَوانُ عَلَى نَوْعِهِ وَوَلَدِهِ، وَيُحْسِنُ عَلَيْهِ حَالَ ضَعْفِهِ وَصِغَرِهِ.
وَحِكْمَتُهَا: تَسْخِيرُ الْقَوِيِّ لِلضَّعِيفِ.
وَهَذِهِ الرَّحْمَةُ الَّتِي جَعَلَهَا اللهُ فِي الْقُلُوبِ فِي هَذِهِ الدَّارِ الَّتِي ثَمَرَتُهَا الْمَصْلَحَةُ الْعَظِيمَةُ الَّتِي هِيَ حِفْظُ النَّوْعِ رَحْمَةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ مِئَةٍ ادَّخَرَهَا اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ، فَمَنْ خَلَقَ اللهُ فِي قَلْبِهِ الرَّحْمَةَ الْحَامِلَةَ عَلَى الرِّفْقِ وَكَشْفِ ضُرِّ الْمُبْتَلَى فَقَدْ رَحِمَهُ اللهُ بِذَلِكَ فِي قَلْبِهِ بِمَا جعَلَ بِهِ مِنْ تِلْكَ الرَّحْمَةِ، وَجَعَلَ ذَلِكَ عَلَى رَحْمَتِهِ إِيَّاهُ فِي الْمَآلِ، فَمَنْ سَلَبَهُ ذَلِكَ الْمَعْنَى وَابْتَلَاهُ بِنَقِيضِهِ مِنَ الْقَسْوَةِ وَالْغِلْظَةِ وَالْفَظَاظَةِ، وَلَمْ يَلْطُفْ بِضَعِيفٍ، وَلَا أَشْفَقَ عَلَى مُبْتَلًى فَقَدْ أَشْقَاهُ حَالًا، وَجَعَلَ ذَلِكَ عَلَمًا عَلَى شِقْوَتِهِ مَآلًا، نَعُوذُ بِاللَّهِ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: «لَا تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إِلَّا مِنْ شَقِيٍّ»: مِنْ كَافِرٍ أَوْ فَاجِرٍ أَوْ عَاصٍ، فَيَتْعَبُ فِي الدُّنْيَا وَيُعَاقَبُ فِي الْآخِرَةِ.
قَوْلُهُ: «إِلَّا مِنْ شَقِيٍّ»: وَالْمُرَادُ بِالشَّقِيِّ: مَنْ كَانَ شَقِيًّا فِي الْآخِرَةِ، ولَكِنَّهُ يُشْقِي نَفْسَهُ وَغَيْرَهُ فِي الدُّنْيَا، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه: 124].
فِي الْحَدِيثِ: دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الرَّحْمَةَ مِنَ الصِّفَاتِ الْعَظِيمَةِ، لِذَا وَصَفَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ بِالرَّحْمَةِ؛ لِجَلَالَةِ قَدْرِهَا، وَلِعِظَمِ شَأْنِهَا؛ فَقَالَ -عَزَّ وَجَلَّ-: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128]، فَوَصَفَهُ بِالرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ.
إِذَنْ: فَهُمَا مِنْ صِفَاتِ النَّبِيِّ الْكَرِيمِ ﷺ وَمَنْ تَأَسَّى بِهِ مِنْ أُمَّتِهِ، فَالرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، وَالَّذِي لَا تُوجَدُ فِيهِ رَحْمَةٌ فَهَذَا مِنَ الْأَشْقِيَاءِ؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ مِنْ خِصَالِهِ الْحَمِيدَةِ أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ رَحْمَةٍ لِمَنْ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُرْحَمَ، فَالْكَبِيرُ يَرْحَمُ الصَّغِيرَ كَمَا سَبَقَ، وَالْقَوِيُّ يَرْحَمُ الضَّعِيفَ، وَالصَّحِيحُ يَرْحَمُ الْمَرِيضَ، وَنَحْوُ ذَلِكَ.
فَالْمَقْصُودُ أَنَّ الرَّحْمَةَ مِنْ أَعْمَالِ الْخَيْرِ، وَمِنَ الْخِصَالِ الطَّيِّبَةِ الَّتِي امْتَازَ بِهَا أَهْلُ الْإِيمَانِ، وَالْعَكْسُ بِالْعَكْسِ، لَا تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إِلَّا مِنَ الْأَشْقِيَاءِ، وَالْأَشْقِيَاءُ غَيْرُ السُّعَدَاءِ.
المصدر: مُحَمَّدٌ ﷺ نَبِيُّ الرَّحْمَةِ، فَلْنَحْمَلْ رَحْمَتَهُ لِلْعَالَمِينَ