((الْأُمُورُ الَّتِي يُسْتَمَدُّ مِنْهَا الْإِيمَانُ وَأَسْبَابُ زِيَادَتِهِ))
إِنَّ الْإِيمَانَ هُوَ كَمَالُ الْعَبْدِ، وَبِهِ تَرْتَفِعُ دَرَجَاتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَهُوَ السَّبَبُ وَالطَّرِيقُ لِكُلِّ خَيْرٍ عَاجِلٍ أَوْ آجِلٍ، وَلَا يَحْصُلُ، وَلَا يَقْوَى، وَلَا يَتِمُّ إِلَّا بِمَعْرِفَةِ مَا مِنْهُ يُسْتَمَدُّ، وَإِلَى يَنْبُوعِهِ وَأَسْبَابِهِ وَطُرُقِهِ.
وَاللهُ تَعَالَى قَدْ جَعَلَ لِكُلِّ مَطْلُوبٍ سَبَبًا وَطَرِيقًا يُوصِلُ إِلَيْهِ، وَالْإِيمَانُ أَعْظَمُ الْمَطَالِبِ وَأَهَمُّهَا وَأَعَمُّهَا؛ وَقَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُ مَوَادَّ كَبِيرَةً تَجْلِبُهُ وَتُقَوِّيه، كَمَا كَانَ لَهُ أَسْبَابٌ تُضْعِفُهُ وَتُوِهِيهِ.
وَمَوَادُّهُ الَّتِي تَجْلِبُهُ وَتُقَوِّيه أَمْرَانِ: مُجْمَلٌ وَمُفَصَّلٌ:
*أَمَّا الْمُجْمَلُ فَهُوُ:
التَّدَبُّرُ لِآيَاتِ اللهِ الْمَتْلُوَّةِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ وَالتَّأَمُّلُ لِآيَاتِهِ الْكَوْنِيَّةِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا؛ وَالْحِرْصُ عَلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ الَّذِي خُلِقَ لَهُ الْعَبْدُ؛ وَالْعَمَلُ بِالْحَقِّ؛ فَجَمِيعُ الْأَسْبَابِ مَرْجِعُهَا إِلَى هَذَا الْأَصْلِ الْعَظِيمِ.
*وَأَمَّا التَّفْصِيلُ: فَالْإِيمَانُ يَحْصُلُ وَيَقْوَى بِأُمُورٍ كَثِيرَةٍ:
1*مِنْهَا -بَلْ أَعْظَمُهَا-: مَعْرِفَةُ أَسْمَاءِ اللهِ الْحُسْنَى الْوَارِدَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَالْحِرْصُ عَلَى فَهْمِ مَعَانِيهَا، وَالتَّعَبُّدُ للهِ فِيهَا.
فَقَدْ ثَبَتَ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنْهُ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((إِنَّ للهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعِينَ اسْمًا -مِئَةً إِلَّا وَاحِدًا- مَنْ أَحْصَاهَا، دَخَلَ الْجَنَّةَ))؛ أَيْ مِنْ حَفِظَهَا، وَفَهِمَ مَعَانِيهَا، وَاعْتَقَدَهَا، وَتَعَبَّدَ للهِ بِهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَالْجَنَّةُ لَا يَدْخُلُهَا إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ.
فَعُلِمَ: أَنَّ ذَلِكَ أَعْظَمُ يَنْبُوعٍ وَمَادَّةٍ لِحُصُولِ الْإِيمَانِ وَقُوَّتِهِ وَثَبَاتِهِ؛ وَمَعْرِفَةِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى هِيَ أَصْلُ الْإِيمَانِ، وَالْإِيمَانُ يَرْجِعُ إِلَيْهَا.
وَمَعْرِفَتُهَا تَتَضَمَّنُ أَنْوَاعَ التَّوْحِيدِ الثَّلَاثَةَ: تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ، وَتَوْحِيدُ الْإِلَهِيَّةِ، وَتَوْحِيدُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَهَذِهِ الْأَنْوَاعُ هِيَ رُوحُ الْإِيمَانِ وَرَوْحُهُ، وَأَصْلُهُ وَغَايَتُهُ، فَكُلَّمَا ازْدَادَ الْعَبْدُ مَعْرِفَةً بِأَسْمَاءِ اللهِ وَصِفَاتِهِ، ازْدَادَ إِيمَانُهُ، وَقَوِيَ يَقِينُهُ.
فَيَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَبْذُلَ مَقْدُورَهُ وَمُسْتَطَاعَهُ فِي مَعْرِفَةِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَتَكُونُ مَعْرِفَتُهُ سَالِمَةً مِنْ دَاءِ التَّعْطِيلِ، وَمِنْ دَاءِ التَّمْثِيلِ؛ اللَّذَيْنِ ابْتُلِيَ بِهِمَا كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ؛ بَلْ تَكُونُ الْمَعْرِفَةُ مُتْلَقَّاةً مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَمَا رُوِيَ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، فَهَذِهِ الْمَعْرِفَةُ النَّافِعَةُ الَّتِي لَا يَزَالُ صَاحِبُهَا فِي زِيَادَةٍ فِي إِيمَانِهِ، وَقُوَّةِ يَقِينِهِ، وَطُمْأْنِينَةٍ فِي أَحْوَالِهِ.
2*وَمِنْهَا -مِنْ أَسْبَابِ حُصُولِ الْإِيمَانِ وَقُوَّتِهِ-: تَدَبُّرُ الْقُرْآنِ عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ.
فَإِنَّ الْمُتَدَبِّرَ لَا يَزَالُ يَسْتَفِيدُ مِنْ عُلُومِ الْقُرْآنِ وَمَعَارِفِهِ؛ مَا يَزْدَادُ بِهِ إِيمَانًا، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2].
3*وَكَذَلِكَ مَعْرِفَةُ أَحَادِيثِ النَّبِيِّ ﷺ، وَمَا تَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ عُلُومِ الْإِيمَانِ وَأَعْمَالِهِ:كُلُّهَا مِنْ مُحَصِّلَاتِ الْإِيمَانِ وَمُقَوِّيَاتِهِ.
فَكُلَّمَا ازْدَادَ الْعَبْدُ مَعْرِفَةً بِكِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، ازْدَاَدَ إِيمَانُهُ وَيَقِينُهُ، وَقَدْ يَصِلُ فِي عِلْمِهِ وَإِيمَانِهِ إِلَى مَرْتَبَةِ الْيَقِينِ.
4*وَمِنْ طُرُقِ مُوُجِبَاتِ الْإِيمَانِ وَأَسْبَابِهِ: مَعْرِفَةُ النَّبِيِّ ﷺ، وَمَعْرِفَةُ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَخْلَاقِ الْعَالِيَةِ، وَالْأَوْصَافِ الْكَامِلَةِ.
فَهُوَ ﷺ أَكْبَرُ دَاعٍ لِلْإِيمَانِ فِي أَوْصَافِهِ الْحَمِيدَةِ، وَشَمَائِلِهِ الْجَمِيلَةِ، وَأَقْوَالِهِ الصَّادِقَةِ النَّافِعَةِ، وَأَفْعَالِهِ الرَّشِيدَةِ، فَهُوَ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ، وَالْقُدْوَةُ الْأَكْمَلُ {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]، {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7].
5*وَمِنْ أَسْبَابِ الْإِيمَانِ وَدَوَاعِيهِ: التَّفَكُّرُ فِي الْكَوْنِ، فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الْمُتَنَوِّعَةِ، وَالنَّظَرُ فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ، وَمَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الصِّفَاتِ، فَإِنَّ ذَلِكَ دَاعٍ قَوِيٌّ لِلْإِيمَانِ، لِمَا فِي هَذِهِ الْمَوْجُودَاتِ مِنْ عَظَمَةِ الْخَلْقِ الدَّالِّ عَلَى قُدْرَةِ خَالِقِهَا وَعَظَمَتِهِ؛ وَمَا فِيهَا مِنَ الْحُسْنِ وَالْانِتَظَامِ، وَالْإِحْكَامِ الَّذِي يُحَيِّرُ الْأَلْبَابَ؛ الدَّالِّ عَلَى سَعَةِ عِلْمِ اللهِ، وَشُمُولِ حِكْمَتِهِ؛ وَمَا فِيهَا مِنْ أَصْنَافِ الْمَنَافِعِ وَالنِّعَمِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي لَا تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى، الدَّالَّةِ عَلَى سَعَةِ رَحْمَةِ اللهِ، وَجُودِهِ وَبِرِّهِ.
وَكَذَلِكَ التَّفَكُّرُ فِي كَثْرَةِ نِعَمِ اللهِ وَآلَائِهِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، الَّتِي لَا يَخْلُو مِنْهَا مَخْلُوقٌ طَرْفَةَ عَيْنٍ؛ فَإِنَّ هَذَا يَدْعُو إِلَى الْإِيمَانِ.
6*وَمِنْ أَسْبَابِ دَوَاعِي الْإِيمَانِ: الْإِكْثَارُ مِنْ ذِكْرِ اللهِ كُلَّ وَقْتٍ، وَمِنَ الدُّعَاءِ الَّذِي هُوَ مُخُّ الْعِبَادَةِ.
7*وَمِنَ الْأَسْبَابِ الْجَالِبَةِ لِلْإِيمَانِ: مَعْرِفَةُ مَحَاسِنِ الدِّينِ.
فَإِنَّ الدِّينَ الْإِسْلَامِيَّ كُلَّهُ مَحَاسِنُ، عَقَائِدُهُ أَصَحُّ الْعَقَائِدِ وَأَصْدَقُهَا وَأَنْفَعُهَا؛ وَأَخْلَاقُهُ أَحْمَدُ الْأَخْلَاقِ وَأَجْمَلُهَا؛ وَأَعْمَالُهُ وَأَحْكَامُهُ أَحْسَنُ الْأَحْكَامِ وَأَعْدَلُهَا، وَبِهَذَا النَّظَرِ الْجَلِيلِ يُزَيِّنِ اللهُ الْإِيمَانَ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ، وَيُحَبِّبُهُ إِلَيْهِ.
8*وَمِنْ أَعْظَمِ مُقَوِّيَاتِ الْإِيمَانِ: الِاجْتِهَادُ فِي التَّحَقُّقِ فِي مَقَامِ الْإِحْسَانِ، فِي عِبَادَةِ اللهِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى خَلْقِهِ، فَيَجْتَهِدُ أَنْ يَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّهُ يُشَاهِدُهُ، فَإِنْ لَمْ يَقْوَى عَلَى هَذَا اسْتَحْضَرَ أَنَّ اللهَ يُشَاهِدُهُ وَيَرَاهُ.
9-وَمِنْهَا -أَيْ مِنْ مَصَادِرِ الْإِيمَانِ وَمُقَوِّيَاتِهِ- قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَىٰ وَرَاءَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8)} [المؤمنون: 1-8].
فَهَذِهِ الصِّفَاتُ الثَّمَانِ، كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا تُثْمِرُ الْإِيمَانَ وَتُنَمِّيهِ؛ كَمَا أَنَّهَا مِنْ صِفَاتِ الْإِيمَانِ وَدَاخِلَةٍ فِي تَفْسِيرِهِ.
10*وَمِنْ دَوَاعِي الْإِيمَانِ وَأَسْبَابِهِ: الدَّعْوَةُ إِلَى اللهِ وَإِلَى دِينِهِ، وَالتَّوَاصِي بِالْحَقِّ وَالتَّوَاصِي بِالصَّبْرِ، وَالدَّعْوَةُ إِلَى أَصْلِ الدِّينِ، وَالدَّعْوَةُ إِلَى الْتِزَامِ شَرَائِعِهِ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ.
11*وَمِنْ أَهَمِّ مَوَادِّ الْإِيمَانِ وَمُقَوِّيَاتِهِ: تَوْطِينُ النَّفْسِ عَلَى مُقَاوِمَاتِ مَا يُنَافِي الْإِيمَانَ مِنْ شُعَبِ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ، وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ.
فَمَتَى حَفِظَ الْعَبْدُ مِنَ الْوُقُوعِ فِي فِتَنِ الشُّبُهَاتِ، وَفِتَنِ الشَّهَوَاتِ؛ تَمَّ إِيمَانُهُ، وَقَوِيَ يَقِينُهُ.
المصدر:الْإِيمَانُ وَآثَارُهُ فِي الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ