((حِكْمَةُ اللهِ فِي اسْتِخْلَافِهِ الْإِنْسَانَ فِي الْأَرْضِ))
فَإِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- خَلَقَ الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، وَكَرَّمَهُ وَسَخَّرَ لَهُ مَا خَلَقَهُ، وَأَنَاطَ بِهِ مُهِمَّةَ عِمَارَةِ هَذِهِ الْأَرْضِ الَّتِي اسْتَخْلَفَهُ فِيْهَا، قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]، وَهَذَا الْخَلِيْفَةُ هُو آدَمُ وَبَنُو آدَمَ.
وَقَال تَعَالَى: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61]؛ أَيْ جَعَلَكُمْ فِيْهَا؛ لِتَعْمُرُوهَا، وَمَكَّنَكُمْ بِمَا آتَاكُمْ مِنْ عِمَارَتِهَا.
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان: 20].
وَهَذَا التَّسْخِيرُ يَحْمِلُ فِي طَيَّاتِهِ كُلَّ مَظَاهِرِ التَّكْريِمِ لِهَذَا الْإِنْسَانِ الَّذِي اسْتَخْلَفَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي الْأَرْضِ لِعِمَارَتِهَا، وَعِمَارَتُهَا بِعِبَادَةِ رَبِّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِيهَا، وَبِالْقِيَامِ عَلَى مَا يُصْلِحُهَا.
وَقَدْ زَوَّدَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هَذَا الْإِنْسَانَ بِكُلِّ وَسَائِلِ الِاسْتِخْلَافِ فِي الْأَرْضِ، وَسَلَّحَهُ بِكُلِّ أَدَوَاتِ الْمَعْرِفَةِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى قِيَادَةِ دِفَّةِ هَذِهِ الْحَيَاةِ، وَإِدَارَةِ دَوَالِيبِ الْعَمَلِ فِيهَا.
وَلِكَيْ لَا يَضِلَّ وَلَا يَشْقَى بَعَثَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِلَيْهِ الْمُرْسَلِينَ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْكُتُبَ، فِيْهَا الشَّرَائِعُ وَالْحَقُّ الْمُبِينُ.
وَعَلَّمَهُمْ أُصُولَ التَّعَايُشِ وَمَبَادِئَ التَّعَامُلِ، وَلَفَتَ أَنْظَارَهُمْ إِلَى ضَرُورَةِ الِالْتِزَامِ بِآدَابِ الشَّرَائِعِ وَالْأَدْيَانِ، وَلَم يُبِحْ لِأَحَدٍ أَنْ يَخْرُجَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ طَائِعًا مُخْتَارًا.
وَأَشْعَرَهُمْ عِظَمَ الْمَسْئُولِيَّةِ عَنِ الْإِخْلَالِ وَالتَّقْصِير، فَقَالِ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة: 105].
ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْإِنْسَانَ إِنَّمَا هُوَ مُلْكٌ لِلَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، لَم يَخْلُقْهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَبَثًا، وَلَمْ يَسْتَخْلِفْهُ فِي الْبَاطِلِ، وَلَنْ يَتْرُكَهُ سُدًى، وَلَمْ يَجْعَلْهُ حُرًّا فِي تَصَرُّفَاتِهِ يَتَصَرَّفُ فِي نَفْسِهِ كَيْفَمَا يَشَاءُ.
بَلْ أَوْجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَحْمِيَ نَفْسَهُ، وَأَنْ يَصُونَهَا مِنْ كُلِّ أَوْجُهِ الْهَلَاكِ، وَأَنْ يَصْرِفَ عَنْهَا كُلَّ مَظَاهِرِ الْإِضْرَارِ، قَالَ تَعَالَى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29]، وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195].
المصدر: مَخَاطِرُ الْإِدْمَانِ وَالْمُخَدِّرَاتِ