((احْذَرُوا أَنْ تُؤْتَوْا مِنْ ثُغْرِ الْعُقُوقِ!!))
لَقَدْ تَدَبَّرْتُ فِي أَحْوَالِي وَأَحْوَالِ الْخَلْقِ مِنْ حَوْلِي؛ فَخَلُصْتُ -بِفَضْلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ- بِقَاعِدَةٍ جَلِيلَةٍ وَفَائِدَةٍ عَظِيمَةٍ، وَهِيَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا مَا اخْتَلَطَتْ أَحْوَالُهُ، وَتَعَسَّرَتْ عَلَيْهِ أُمُورُهُ، وَصَعُبَتْ عَلَيْهِ مَعِيشَتُهُ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ أَبَدًا إِلَّا بِسَبَبِ خَلْطٍ يَخْلِطُهُ فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ -وَإِنْ ظَنَّ نَفْسَهُ مِنَ الْمُحْسِنِينَ-.
وَهَذَا الْخَلْطُ قَدْ يَتَأَتَّى مِنْ قِبَلِ الْقَلْبِ أَحْيَانًا، وَقَدْ يَتَأَتَّى مِنْ قِبَلِ اللِّسَانِ أَحْيَانًا، وَقَدْ يَتَأَتَّى مِنْ قِبَلِ الْبَدَنِ فِي أَكْثَرِ الْأَحَايِينَ.
تَدَبَّرْتُ فِي أَحْوَالِي وَأَحْوَالِ الْخَلْقِ مِنْ حَوْلِي، فَوَجَدْتُ أَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى إِلَى الْإِنْسَانِ أَمْرٌ يَكْرَهُهُ إِلَّا إِذَا كَانَ خَارِجًا عَلَى مَنْهَجِ رَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا- بِكِتَابِهِ سُبْحَانَهُ أَوْ سُنَّةِ نَبِيِّهِ ﷺ.
وَقَدْ لَا يَلْتَفِتُ الْمَرْءُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا يُفَتِّشُ عَنْهُ، وَلَا يَأْبَهُ لَهُ، بَلْ لَعَلَّهُ لَوْ بَحَثَ فِيهِ، فَدُلَّ عَلَيْهِ لَاسْتَنَكَرَهُ جِدًّا!!
الْمَرْءُ؛ تَتَعَسَّرُ أُمُورُهُ، وَتَنْسَدُّ فِي وَجْهِهِ سُبُلُ الرَّشَادِ وَالْخَيْرِ، وَتَتَعَسَّرُ عَلَيْهِ مَعِيشَتُهُ، وَتَصْعُبُ عَلَيْهِ حَيَاتُهُ، وَهُوَ يَتَأَمَّلُ فِي نَفْسِهِ مِنْ أَيْنَ أُتِيتُ؟!!
وَلَا يَدْرِي الثُّغْرَ الَّذِي مِنْهُ نَفَذَ الشَّيْطَانُ إِلَى تَعْسِيرِ أُمُورِهِ عَلَيْهِ -نَسْأَلُ اللهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ- وَلَوْ أَنَّهُ عَرَضَ جُمْلَةَ أَحْوَالِهِ وَدَقَائِقَهَا عَلَى دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ كِتَابًا وَسُنَّةً، لَدَلَّهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهِدَايَةِ التَّوْفِيقِ فِي قَلْبِهِ عَلَى الْمَنْحَى الَّذِي عَلَيْهِ يَسْتَقِيمُ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَخْرُجَ مِمَّا تَوَرَّطَ فِيهِ مِنْ كَبَائِرِ الْإِثْمِ وَالْعِصْيَانِ، الَّتِي لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا إِنْسَانٌ إِلَّا إِذَا عَصَمَهُ الرَّحِيمُ الرَّحْمَنُ -نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَعْصِمَنَاَ مِنَ الزَّلَلِ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ-.
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الرَّسُولَ ﷺ دَلَّنَا فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي الْمَهْدِ إِلَّا ثَلَاثَةٌ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، وَصَاحِبُ جُرَيْجٍ.. )).
يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((وَكَانَ جُرَيْجٌ رَجُلًا عَابِدًا، فَاتَّخَذَ صَوْمَعَةً، فَكَانَ فِيهَا -كَمَا بَيَّنَ الْحَدِيثُ- قَدْ بُنِيَتْ مِنَ اللَّبِنِ وَمِنَ الطِّينِ، فَأَوَى إِلَيْهَا الرَّجُلُ مُتَعَبِّدًا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَحَالُهُ قَدِ انْتَشَرَتْ بِذِكْرِهَا الْحَسَنِ الطَّيِّبِ، حَتَّى اسْتَشْرَتْ فِي النَّاسِ وَاسْتَفَاضَتْ.
ثُمَّ إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ تَذَاكَرُوهُ بَعْدَ حِينٍ -كَمَا أَخْبَرَ رَسُولُنَا ﷺ- ((فَأَتَتْهُ أُمُّهُ وَهُوَ يُصَلِّي -جَاءَتْ أُمُّ جُرَيْجٍ إِلَيْهِ لِحَاجَةٍ يَقْضِيَهَا لَهَا، أَوْ مِنْ أَجْلِ أَنْ تَزُورَهُ، فَوَجَدَتْهُ فِي صَلَاتِهِ -فِي صَلَاةِ نَفْلٍ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ- فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ!
وَأَقْبَلَ الرَّجُلُ يُنَاجِي رَبَّهُ، قَالَ: يَا رَبِّ أُمِّي وَصَلَاتِي، فَأَقْبَلَ عَلَى صَلَاتِهِ، فَانْصَرَفَتْ.
فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ أَتَتْهُ وَهُوَ يُصَلِّي، فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ فَقَالَ: يَا رَبِّ أُمِّي وَصَلَاتِي، فَأَقْبَلَ عَلَى صَلَاتِهِ -وَوَدَعَ أُمَّهُ تَارِكًا إِيَّاهَا- فَانْصَرَفَتْ.
فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ أَتَتْهُ وَهُوَ يُصَلِّي فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ! فَقَالَ: أَيْ رَبِّ أُمِّي وَصَلَاتِي، فَأَقْبَلَ عَلَى صَلَاتِهِ، فَقَالَتْ: اللهُمَّ لَا تُمِتْهُ حَتَّى يَنْظُرَ إِلَى وُجُوهِ الْمُومِسَاتِ)).
إِنَّ الرَّجُلَ يُمْكِنُ أَنْ يَصِلَ بِأَبِيهِ أَوْ بِأُمِّهِ إِلَى مَرْحَلَةٍ مِنَ الْإِغْضَابِ، بِهَا يَدْعُوَانِ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهِ دَعْوَةً مُلَازِمَةً، تَتَعَسَّرُ بِسَبَبِهَا أَحْوَالُهُ، حَتَّى يَلْقَى وَجْهَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ غَاضِبًا عَلَيْهِ، سَاخِطًا عَلَيْهِ دُنْيَا وَآخِرَةً!!
وَيُفَتِّشُ الْإِنْسَانُ فِي نَفْسِهِ؛ مِنْ أَجْلِ أَيِّ شَيْءٍ تَعَسَّرَتْ عَلَيَّ أَحْوَالِي؟!!
وَمِنْ أَجْلِ أَيِّ شَيْءٍ صَعُبَتْ عَلَيَّ مَعِيشَتِي؟!!
وَهُوَ لَا يَدْرِي أَنَّهُ تَوَرَّطَ فِي عُقُوقِ لِأَبِيهِ أَوْ لِأُمِّهِ، أَوْ فِي إِغْضَابٍ لَهُمَا، أَوْ لِأَحَدِهِمَا، حَتَّى دَعَوَا أَوْ دَعَا أَحَدُهُمَا اللهَ عَلَيْهِ دَعْوَةً كَانَتْ مُلَازِمَةً فُتِّحَتْ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاوَاتِ، كَمَا قَالَ نَبِيُّنَا ﷺ مُحَذِّرًا: ((لَا تَدْعُوا عَلَى أَوْلَادِكُمْ أَنْ تُصَادِفُوا سَاعَةَ إِجَابَةٍ، فَيُسْتَجَابَ لَكُمْ فِيهِمْ)) .
نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَحْفَظَنَا بِحِفْظِهِ أَجْمَعِينَ.
((قَالَتْ: اللهُمَّ لَا تُمِتْهُ حَتَّى يَنْظُرَ إِلَى وُجُوهِ الْمُومِسَاتِ)).
ثُمَّ إِنَّهَا قَدِ اخْتَارَتْ لَهُ حَالَةً مِنَ الْحَالَاتِ الَّتِي تَتَنَاقَضُ تَمَامًا مَعَ أَحْوَالِهِ، هَذَا رَجُلٌ يُقْبِلُ عَلَى صَلَوَاتِهِ مُتَحَنِّثًا، وَيُقْبِلُ عَلَى عِبَادَتِهِ مُتَحَنِّثًا.
ثُمَّ إِنَّهَا تَأْتِي إِلَيْهِ بِبَغِيٍّ تَتَمَنَّى عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي قَرَارَةِ نَفْسِهَا أَلَّا يَمُوتَ حَتَّى يَرَى وَجْهَهَا، وَهُوَ عَلَى نَقِيضِ الْحَالِ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا أَقْبَلَ عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَتَرَكَ أُمَّهُ.
وَيَا لَهَا مِنْ دَعْوَةٍ -نَسْأَلُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ مِنْهَا أَجْمَعِينَ-.
((فَتَذَاكَرَ بَنُو إِسْرَائِيلَ جُرَيْجًا وَعِبَادَتَهُ وَكَانَتِ امْرَأَةٌ بَغِيٌّ يُتَمَثَّلُ بِحُسْنِهَا، فَقَالَتْ -لَمَّا رَأَتْهُمْ يَتَذَاكَرُونَهُ بِحُسْنِ السِّيرَةِ، وَحَلَاوَةِ السُّلُوكِ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ- إِنْ شِئْتُمْ لَأَفْتِنَنَّهُ لَكُمْ، قَالَ: فَتَعَرَّضَتْ لَهُ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهَا.
فَأَتَتْ رَاعِيًا كَانَ يَأْوِي إِلَى صَوْمَعَتِهِ، فَأَمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا، فَوَقَعَ عَلَيْهَا فَحَمَلَتْ، فَلَمَّا وَلَدَتْ قَالَتْ: هُوَ مِنْ جُرَيْجٍ، فَأَتَوْهُ فَاسْتَنْزَلُوهُ وَهَدَمُوا صَوْمَعَتَهُ وَجَعَلُوا يَضْرِبُونَهُ.
فَقَالَ: مَا شَأْنُكُمْ؟
قَالُوا: زَنَيْتَ بِهَذِهِ الْبَغِيِّ، فَوَلَدَتْ مِنْكَ.
فَقَالَ: أَيْنَ الصَّبِيُّ؟
فَجَاءُوا بِهِ، فَقَالَ: دَعُونِي حَتَّى أُصَلِّيَ، فَصَلَّى، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَتَى الصَّبِيَّ فَطَعَنَ فِي بَطْنِهِ، وَقَالَ: يَا غُلَامُ مَنْ أَبُوكَ؟
قَالَ: فُلَانٌ الرَّاعِي!!
قَالَ: فَأَقْبَلُوا عَلَى جُرَيْجٍ يُقَبِّلُونَهُ وَيَتَمَسَّحُونَ بِهِ - عِنْدَئِذٍ أَقْبَلُوا عَلَيْهِ يُقَبِّلُونَهُ عَلَى رَأْسِهِ وَيَدَيْهِ وَقَدَمَيْهِ فِيمَا يَتَصَوَّرُ الْمَرْءُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَاتِ، ثُمَّ قَالُوا لَهُ -يَسْتَرْضُونَهُ-: مُرْنَا بِأَيِّ شَيْءٍ تُرِيدُهُ، وَسَوْفَ تَجِدُنَا عِنْدَ حُسْنِ الظَّنِّ بِنَا- وَقَالُوا: نَبْنِي لَكَ صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ.
قَالَ: لَا، أَعِيدُوهَا مِنْ طِينٍ كَمَا كَانَتْ، فَفَعَلُوا)).
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَظِيمٌ عَلَى صَبْرِ هَذَا الرَّجُلِ؛ إِذْ صَبَرَ عَلَى مَا أَجْرَاهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهِ مِنَ الْمَقَادِيرِ الَّتِي جَرَتْ عَلَيْهِ؛ بِسَبَبِ إِقْبَالِهِ عَلَى صَلَاتِهِ -صَلَاةِ النَّفْلِ-، أَمَّا الْفَرْضُ فَلَا يَقْطَعُهُ الْمَرْءُ أَبَدًا مِنْ أَجْلِ أَحَدٍ.
وَأَمَّا النَّفْلُ فَإِذَا كُنْتَ فِي صَلَاةِ النَّفْلِ، وَدَعَاكَ أَبُوكَ أَوْ دَعَتْكَ أُمُّكَ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ مِنْهُمَا سَعَةَ الْأُفُقِ، وَتَرَى مِنْهُمَا رَحَابَةَ الصَّدْرِ، وَجَوْدَةَ التَّفْكِيرِ، فَلَا عَلَيْكَ أَلَّا تُجِيبَ، وَإِنَّما عَلَيْكَ أَنْ تَدُلَّ عَلَى حَالِكَ؛ بِأَنْ تَتَنَحْنَحَ، أَوْ تَرْفَعَ صَوْتَكَ بِالْقِرَاءَةِ أَوْ بِالذِّكْرِ وَأَنْتَ فِي صَلَاةِ النَّفْلِ، أَوْ تَقُولُ: سُبْحَانَ اللهِ سُبْحَانَ اللهِ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ مَا عَلَيْهِمَا مِنْ سَعَةِ الصَّدْرِ، وَمِنْ رَحَابَةِ الْأُفُقِ.
وَأَمَّا إِذَا كَانَا مِنْ كَزَازَةِ الطَّبْعِ بِمَكَانٍ، فَلَيْسَ لَكَ أَبَدًا أَنْ تَظَلَّ فِي صَلَاةِ النَّفْلِ وَأَبُوكَ أَوْ أُمُّكَ يَدْعُوَانِكَ أَوْ يَدْعُوكَ أَحَدُهُمَا، ثُمَّ تُقْبِلُ عَلَى الصَّلَاةِ وَلَا تُجِيبُ وَاحِدًا مِنْهُمَا، وَإِنَّمَا يَنْبَغِي عَلَيْكَ أَنْ تَقْطَعَ الصَّلَاةَ عِنْدَئِذٍ -صَلَاةَ النَّفْلِ-، وَتُجِيبَ أَبَاكَ أَوْ تُجِيبَ أُمَّكَ.
أَمَّا جُرَيْجٌ؛ فَإِنَّهُ كَمَا أَخْبَرَ نَبِيُّنَا ﷺ مَضَى فِي صَلَاتِهِ وَلَمْ يُجِبْ أُمَّهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مُتَكَرِّرَاتٍ، حَتَّى دَعَتْ عَلَيْهِ أُمُّهُ غَاضِبَةً.
إِنَّ الْإِنْسَانَ أَحْيَانًا تَتَعَسَّرُ عَلَيْهِ أُمُورُهُ، وَرُبَّمَا تَشْتَبِهُ عَلَيْهِ مَسَالِكُهُ، وَرُبَّمَا تَضِيقُ بِهِ سُبُلُ الْحَيَاةِ، وَرُبَّمَا يَجِدُ مِنَ الْعُسْرِ وَالْجَهْدِ وَالشِّدَّةِ فِي الْحَيَاةِ مَا يَجِدُ، ثُمَّ لَا يَدْرِي أَنَّ ذَلِكَ بِسَبَبِ أَنَّهُ عَاصٍ لِأَبِيهِ أَوْ لِأُمِّهِ أَوْ لَهُمَا مَعًا.
أَمَّا الثَّالِثُ فِي الَّذِينَ تَكَلَّمُوا فِي الْمَهْدِ فِيمَا أَخْبَرَنَا نَبِيُّنَا ﷺ: ((وَبَيْنَا صَبِيٌّ يَرْضَعُ مِنْ أُمِّهِ، فَمَرَّ رَجُلٌ رَاكِبٌ عَلَى دَابَّةٍ فَارِهَةٍ، وَشَارَةٍ حَسَنَةٍ -وَالصَّبِيُّ رَضِيعٌ، لَا يَفْقَهُ شَيْئًا، وَلَا يَمْلِكُ كَلَامًا بِبِنْتِ شَفَةٍ- فَقَالَتْ أُمُّهُ: اللهُمَّ اجْعَلِ ابْنِي مِثْلَ هَذَا، فَتَرَكَ الثَّدْيَ وَأَقْبَلَ إِلَيْهِ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: اللهُمَّ لَا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى ثَدْيِهِ فَجَعَلَ يَرْتَضِعُ)).
قَالَ -يَعْنِي رَاوِي الْحَدِيثِ-: فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ وَهُوَ يَحْكِي ارْتِضَاعَهُ بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ فِي فَمِهِ فَجَعَلَ يَمُصُّهَا.
قَالَ: ((وَمَرُّوا بِجَارِيَةٍ وَهُمْ يَضْرِبُونَهَا وَيَقُولُونَ: زَنَيْتِ، سَرَقْتِ، وَهِيَ تَقُولُ: حَسْبِيَ اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.
فَقَالَتْ أُمُّهُ -دَاعِيَةً لِابْنِهَا فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ-: اللهُمَّ لَا تَجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهَا، فَتَرَكَ الرَّضَاعَ وَنَظَرَ إِلَيْهَا -وَعِنْدَئِذٍ أَقْبَلَ الْغُلَامُ لَمَّا دَعَتْ أُمُّهُ أَلَّا يَجْعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَلَدَهَا مِثْلَ هَذِهِ الْجَارِيَةِ- فَقَالَ: اللهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا.
فَهُنَاكَ تَرَاجَعَا الْحَدِيثَ -أَيْ هَذَا الرَّضِيعُ وَأُمُّهُ- فَقَالَتْ: حَلْقَى مَرَّ رَجُلٌ حَسَنُ الْهَيْئَةِ فَقُلْتُ: اللهُمَّ اجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهُ، فَقُلْتَ -أَيْ لِرَضِيعِهَا هَذَا: اللهُمَّ لَا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ، وَمَرُّوا بِهَذِهِ الْأَمَةِ وَهُمْ يَضْرِبُونَهَا وَيَقُولُونَ زَنَيْتِ، سَرَقْتِ، فَقُلْتُ: اللهُمَّ لَا تَجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهَا فَقُلْتَ: اللهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا!!
قَالَ: إِنَّ ذَاكَ الرَّجُلَ كَانَ جَبَّارًا، فَقُلْتُ: اللهُمَّ لَا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ، وَإِنَّ هَذِهِ يَقُولُونَ لَهَا زَنَيْتِ وَلَمْ تَزْنِ، وَسَرَقْتِ وَلَمْ تَسْرِقْ فَقُلْتُ: اللهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا».
الْمَرْءُ يُمْكِنُ أَنْ تَتَعَسَّرَ عَلَيْهِ أُمُورُهُ، وَأَنْ تَتَبَدَّلَ عَلَيْهِ أَحْوَالُهُ؛ لِأَنَّهُ يَتَأَتَّى مِنْهُ ذَنْبٌ عَظِيمٌ يَعْصِي بِهِ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَهُوَ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ!!
وَهَذَا الْعَوَّامُ بْنُ حَوْشَبٍ -رَحِمَهُ اللهُ- يَقُولُ -كَمَا أَخْرَجَ الْأَصْبَهَانِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ، وَهُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى الْعَوَّامِ -رَحِمَهُ اللهُ-- يَقُولُ: نَزَلْتُ مَرَّةً حَيًّا مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ، وَبِجِوَارِ الْحَيِّ مَقْبَرَةٌ، فَلَمَّا أُذِّنَ لِصَلَاةِ الْعَصْرِ انْشَقَّ قَبْرٌ هُنَالِكَ، فَخَرَجَ مِنْهُ رَأْسُ حِمَارٍ عَلَى جَسَدِ إِنْسَانٍ، فَنَهَقَ ثَلَاثَ نَهْقَاتٍ، ثُمَّ انْطَبَقَ الْقَبْرُ عَلَيْهِ.
فَقَالَتْ امْرَأَةٌ فِي الْحَيِّ: تَرَى هَذِهِ الْعَجُوزَ الَّتِي تَجْلِسُ هُنَالِكَ، وَهِيَ تَغْزِلُ شَعْرًا أَوْ قَالَ صُوفًا.
قَالَ: مَا شَأْنُهَا؟
قَالَتْ: تِلْكَ أُمُّ ذَلِكَ.
فَقَالَ: وَمَا كَانَ مِنْ قِصَّتِهِ؟
فَقَالَتْ: إِنَّ هَذَا كَانَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ، وَكَانَتْ أُمُّهُ إِذَا مَا رَاحَ إِلَيْهَا مَخْمُورًا، وَقَدْ عَبَثَتِ الْخَمْرُ بِرَأْسِهِ، تَقُولُ لَهُ: يَا بُنِيَّ! إِلَى مَتَى تُقْبِلُ عَلَى هَذِهِ الْخَمْرِ، أَلَّا تَتَّقِي اللهَ وَتَدَعُ هَذِهِ الْخَمْرَ؟
فَيَقُولُ لَهَا: إِنَّمَا أَنْتِ تَنْهَقِينَ كَمَا يَنْهَقُ الْحِمَارُ.
فَلَمَّا مَاتَ -وَقَدْ مَاتَ فِي صَلَاةِ الْعَصْرِ- وَغُيِّبَ فِي ذَلِكَ الْقَبْرِ، مَا أُذِّنَ لِصَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَّا انْشَقَّ الْقَبْرُ عَنْهُ، فَخَرَجَ عَلَى الصُّورَةِ الَّتِي رَأَيْتَ، فَنَهَقَ ثَلَاثَ نَهْقَاتٍ كَمَا كَانَ يَقُولُ لِأُمِّهِ فِي الدُّنْيَا، يَقُولُ لَهَا: أَنْتِ إِنَّمَا تَنْهَقِينَ كَمَا يَنْهَقُ الْحِمَارُ.
فَعَاقَبَهُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- فِي الْبَرْزَخِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ بِهَذَا الْعِقَابِ الْعَظِيمِ.
الرَّأْسُ رَأْسُ حِمَارٍ وَالصَّوْتُ صَوْتُهُ، وَالْجَسَدُ جَسَدُ إِنْسَانٍ وَالْهَيْئَةُ هَيْئَتُهُ، وَالْقَبْرُ يَنْشَقُّ فِي سَاعَةِ الْمَمَاتِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ وَيَخْرُجُ الْحِمَارُ الْإِنْسِيُّ أَوِ الْإِنْسَانُ الْحِمَارِيُّ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَنْهَقَ ثَلَاثَ نَهْقَاتٍ بِمَسْمَعٍ مِنْ أُمِّهِ وَمَرْأَى!!
الْمَرْأَةُ تَسْمَعُ نَهِيقَ ابْنِهَا الَّتِي كَانَ يَنْبِزُهَا قَبْلُ بِأَنَّهَا إِنَّمَا تَنْهَقُ كَمَا يَنْهَقُ الْحِمَارُ.
هِيَ إِذَنْ -كَمَا رَأَيْتَ- نَتَائِجُ قَدْ رُتِّبَتْ عَلَى مُقَدِّمَاتِهَا، وَالْآيَةُ كُلُّ الْآيَةِ تَدُورُ عَلَى هَذَا الْمِحْوَرِ الَّذِي ذَكَرْتُ لَكَ: لَا تَظُنَّنَّ أَنَّ الْبِرَّ هُوَ الطَّاعَةُ فِيمَا تُحِبُّ، بَلْ إِنَّ الْبِرَّ كُلَّ الْبِرِّ الطَّاعَةُ فِيمَا تَكْرَهُ.
الطَّاعَةُ فِيمَا لَا تُحِبُّ حِيًّا وَمَيِّتًا؛ لِأَنَّ الْبِرَّ بِهِمْ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ تَمَامًا كَالْبِرِّ بِهِمْ بَعْدَ أَنْ يُغَيَّبُوا فِي بَاطِنِهَا.
وَلَقَدْ تُؤْتَ مِنْ قِبَلِ هَذَا الْمَأْتَى وَأَنْتَ لَا تَشْعُرُ وَلَا تَدْرِي.
إِذَا مَا أَمَرَا؛ فَسَمْعًا وَطَاعَةً، وَإِذَا مَا أَصْدَرَا قَرَارًا مِنَ الْقَرَارَاتِ التَّعَسُّفِيَّةِ -طَالَمَا أَنَّهُ لَا يُؤَثِّرُ فِي دِينٍ، وَلَا يَطْعَنُ فِي عَقِيدَةٍ، وَلَا يَجْرَحُ فِي إِسْلَامٍ؛ فَسَمْعًا وَطَاعَةً-.
المصدر:بِرُّ الْوَالِدَيْنِ وَإِكْرَامُ ذِي الشَّيْبَةِ رُؤْيَةٌ شَرْعِيَّةٌ وَإِنْسَانِيَّةٌ