الدرس الثامن والعشرون : «الاسْتِغْفَــــارُ وَالتَّوْبَةُ»


«دُرُوسٌ مُهِمَّةٌ لِعُمُومِ المُسْلِمِينَ فِي رَمَضَانَ»

«الدرس الثامن والعشرون» 

«الاسْتِغْفَــــارُ وَالتَّوْبَةُ»

 

«الأَمْرُ بِالاسْتِغْفَارِ فِي القُرْآنِ وَثَمَرَاتُهُ»

فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [النساء: 106].

وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ مِمَّا هَمَمْتَ بِهِ، مِمَّا يُعَدُّ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْصِبِكَ الرَّفِيعِ ذَنْبًا؛ يَغْفِرُ اللهُ لَكَ، إِنَّ اللهَ كَانَ كَثِيرَ السَّتْرِ لِذُنُوبِ عِبَادِهِ، دَائِمَ الرَّحْمَةِ بِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْأَمْرُ فِي ظَاهِرِهِ لِلنَّبِيِّ ﷺ، وَهُوَ فِي عُمُومِهِ لِكُلِّ أُمَّتِهِ، وَلِكُلِّ قَاضٍ يَفْصِلُ بَيْنَ النَّاسِ.

وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمً﴾ [النساء: 110].

وَمَنْ يَعْمَلْ عَمَلًا سَيِّئًا مِنَ الصَّغَائِرِ أَوِ الْكَبَائِرِ؛ يُدْرِكِ النَّاسُ قُبْحَهُ، وَيَسُوؤُهُمْ أَنْ يَرْتَكِبَهُ، أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ بِارْتِكَابِ الْمَعَاصِي فِيمَا يَخْتَصُّ بِهِ، ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ مِنْ ذُنُوبِهِ وَظُلْمِ نَفْسِهِ بِمَعْصِيَةِ رَبِّهِ، مَعَ النَّدَمِ وَالْعَزْمِ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ؛ يَجِدِ اللهَ كَثِيرَ السَّتْرِ لَهُ، دَائِمَ الرَّحْمَةِ بِهِ، يَعْفُو عَنْ جَمِيعِ الذُّنُوبِ الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ.

وَقَالَ تَعَالَى: ﴿ وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ ﴾ [هود: 3].

وَاطْلُبُوا مِنْ رَبِّكُمُ السَّتْرَ لِسَالِفِ ذُنُوبِكُمْ، ثُمَّ ارْجِعُوا إِلَيْهِ بِالطَّاعَةِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، إِنَّكُمْ إِذَا فَعَلْتُمْ مَا أُمِرْتُمْ بِهِ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ، وَأَخْلَصْتُمُ الْعِبَادَةَ للهِ سُبْحَانَهُ؛ بَسَطَ عَلَيْكُمْ مِنَ الدُّنْيَا وَأَسْبَابِ الرِّزْقِ مَا تَعِيشُونَ بِهِ فِي أَمْنٍ وَسَعَةٍ وَخَيْرٍ إِلَى حِينِ المَوْتِ، وَإِلَى وَقْتِ انْقِضَاءِ آجَالِكُمْ، وَيُعْطِي كُلَّ ذِي زِيَادَةٍ مِنْ إِيمَانٍ وَعَمَلٍ صَالِحٍ فِي الدُّنْيَا أَجْرَهُ وَثَوَابَهُ فِي الآخِرَةِ، وَإِنْ تُدِيرُوا ظُهُورَكُمْ كَافِرِينَ، غَيْرَ مُسْتَجِيبِينَ لِمَا أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ مِنَ الْهُدَى؛ فَقُلْ لَهُمْ يَا رَسُولَ اللهِ: إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ النَّارِ فِي الآخِرَةِ.

«كَثْرَةُ اسْتِغْفَارِ النَّبِيِّ ﷺ، وَأَمْرُهُ الْأُمَّةَ بِهِ»

عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: «سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي، فَاغْفِرْ لِي؛ فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ.

إِذَا قَالَ ذَلِكَ حِينَ يُمْسِي فَمَاتَ دَخَلَ الْجَنَّةَ، أَوْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِذَا قَالَ حِينَ يُصْبِحُ فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ مِثْلَهُ».

الحديثُ صَحِيحٌ، أخرجه البخاريُّ رحمه الله-؛ وَلَكِنْ بِغَيْرِ هَذَا اللَّفْظِ بِتَغْيِيرٍ يَسِيرٍ فِيهِ.

هَذَا سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ، فَهُوَ أَكْثَرُ نَفْعًا لِمَنْ يَسْتَغْفِرُ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُرَاعِيَ المَرْءُ ذلك؛ فَإِنَّ النبيَّ ﷺ يَحْرِصُ على جَوَامِعِ الكَلِمِ، كَانَ النبيُّ ﷺ يَحْرِصُ على جَوَامِعِ الكَلِمِ.

«سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ»؛ لِأَنَّ المَرْءَ يُمْكِنُ أنْ يَسْتَغْفِرَ هَكَذَا، يَقُولُ: «أَسْتَغْفِرُ اللهَ»، وَيُمْكِنُ أنْ يَقُولَ: «أَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ»، فأَتَى بِاسْمٍ مِنْ أَسماءِ اللهِ مُتَضَمِّنٍ لِصِفَةٍ مِنْ صفاتِ رَبِّنَا، وَهِيَ العَظَمَةُ؛ فَلَا شَكَّ أَنَّ هذا أَعْلَى مِنَ الأَوَّلِ.

فَإِذَا قال: «أَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الحَيَّ القَيُّومَ، وَأَتُوبُ إِلَيْهِ»، لَوْ كانتْ ذُنُوبُهُ مِثْلَ زَبَدِ البَحْرِ؛ غَفَرَ اللهُ لَهُ، كَمَا قال الرسولُ ﷺ، فَهَذِهِ الصِّيغَةُ أَعْلَى.

فَإِذَا أَتَى بِسَيِّدِ الاستغفارِ: «اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي...»؛ كان أَعْلَى وَأَجَلَّ، إِذَا قَالَهَا وهي مِنْ أذكارِ الصَّبَاحِ- بِالصَّبَاحِ، فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ المَسَاءِ؛ دَخَلَ الجَنَّةَ، وَهِيَ أيضًا مِنْ أذكارِ المَسَاءِ، فإذا قَالَهَا مِنْ لَيْلَتِهِ، فَمَاتَ مِنْ لَيْلَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ؛ دَخَلَ الجَنَّةَ؛ لِمَا تَضَمَّنَ الحَدِيثُ مِنَ المَعَانِي الجَلِيلَةِ.

«وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ»؛ أي: أنَا على ما عَاهَدْتُكَ عليه مِنَ الإيمانِ بِكَ، وإِخْلَاصِ الطاعَةِ لَكَ، والتَّوَكُّلِ عَلَيْكَ مُقِيمٌ مَا اسْتَطَعْتُ.

 «أَبُوءُ لَكَ»؛ أي: أَعْتَرِفُ.

«أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي»: وهذا فيه جَنَاحَا السُّلُوكِ إِلَى اللهِ تعالى؛ لأنَّ السَّالِكَ إلى اللهِ تَعَالَى يَسْلُكُ بِجَنَاحَيْنِ:

أحدُهُمَا: مُطَالَعَةُ المِنَّةِ.

الثاني: مُطَالَعَةُ عَيْبِ النَّفْسِ.

«أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي»: الذَّنْبُ ذَنْبِي، والتَّقْصِيرُ تَقْصِيرِي، والإثْمُ مِنِّي، والنِّعْمَةُ مِنْكَ، والتَّفَضُّلُ والغُفْرَانُ مِنْكَ وَحْدَكَ، فَأَسْنَدَ إليهِ كُلَّ ما هُوَ لَهُ أَهْلٌ.

مِنْ شروطِ الِاسْتِغْفَارِ: صِحَّةُ النِّيَّةِ؛ لقولِهِ: «مُوقِنًا بها» فِي لَفْظٍ فِي «الصحِيحِ».

«مَنْ مات مُوقِنًا بِهَا»؛ أيْ: مُخْلِصًا للهِ مِنْ قَلْبِهِ، مُصَدِّقًا بِثَوَابِهَا.

مَا يُؤْخَذُ مِنَ الحَدِيثِ:

1*الحَثُّ على الِاسْتِغْفَارِ، وَبَيَانُ عَظِيمِ فَضْلِهِ.

2*الِإقْرَارُ للهِ وَحْدَهُ بِالْإِلَهِيَّةِ وَالعُبُودِيَّةِ.

3*الِاسْتِعَاذَةُ مِنْ شَرِّ مَا جَنَى العَبْدُ عَلَى نَفْسِهِ.

4*إِضَافَةُ النَّعْمَاءِ إلى مُوجِدِهَا والمُنْعِمِ بها، وإضَافَةُ الذَّنْبِ إِلَى نَفْسِهِ.

5*التَّوَجُّهُ إلى اللهِ، والْأَدَبُ مَعَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ-، والتَّأَدُّبُ في الدُّعَاءِ، وعَدَمُ التَّجَاوُزِ والِاعْتِدَاءِ.

عَنِ ابْنِ عُمَرَ قال: إِنَّا كُنَّا لَنَعُدُّ فِي المَجْلِسِ للنَّبِيِّ ﷺ: «رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ، إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» مِئَةَ مَرَّةٍ. أخرجه أحمدُ، وأبو دَاوُدَ، والتِّرْمِذِيُّ، وابْنُ مَاجَه، وصححه الألبانيُّ في «الصحيحةِ».

قولُهُ ﷺ: «رَبِّ اغْفِرْ لي»: استغفارُ الأنبياءِ، دَلَّ عليه ما كَانَ مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ؛ فإِنَّ الأنبياءَ عليهِمُ الصلاةُ والسلامُ- كَانُوا  يُكْثِرُونَ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ؛ لِإِظْهَارِ العُبُودِيَّةِ لِلْعَزِيزِ القَهَّارِ، وكَذَا بِالِاعْتِرَافِ بالعَجْزِ والقُصُورِ عَمَّا وَجَبَ عليهِمْ مِنْ أَدَاءِ حَقِّ الخَلَّاقِ العَظِيمِ، وَلِتَعْلِيمِ أُمَمِهِمْ ما ينبغي عَلَيْهِمْ مِنَ المَذَلَّةِ والخُضُوعِ والرُّكُونِ إلى اللهِ تبارك وتعالى-، والخُلُوصِ مِنْ حَظِّ النَّفْسِ، وَمِنَ الرُّكُونِ إليها.

«رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ»؛ أَيْ: اِرْجِعْ عَلَيَّ بالرحمةِ، وَوَفِّقْنِي لِلتَّوْبَةِ، أَوِ اقْبَلْ تَوْبَتِي.

 

«إنَّكَ أنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ»: ومِنَ المعلومِ: أنه مما ينبغي في الدُّعَاءِ، ومِنَ اسْتِعْمَالِ الأسماءِ الحُسْنَى فِيهِ: أنْ يَجْتَهِدَ الإنسانُ في الإتيانِ بما يُنَاسِبُ ما يَطْلُبُ مِنَ الأسماءِ الحُسْنَى، فإذا طَلَبَ مِنَ الله تبارك وتعالى- الرِّزْقَ؛ قال: اللهم ارزُقْنِي يا رَزَّاقُ يا كَرِيمُ، وإذا طَلَبَ مِنَ اللهِ تعالى الحِفْظَ؛ قَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْ ذلِكَ بِذِكْرِ اسْمِ اللهِ «الحَفِيظُ»؛ يَا حَفِيظُ احْفَظْنِي مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ وَمِنْ خَلْفِي، وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي وَمِنْ فَوْقِي، وَأَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي.

يا قَوِيُّ قَوِّنِي.

يَا عَلِيمُ عَلِّمْنِي.

فَالنَّبِيُّ ﷺ ذَكَرَ ما يُنَاسِبُ المَقَامَ في الطَّلَبِ فيما يَتَعَلَّقُ بالأَسْمَاءِ الحُسْنَى، فقالَ ﷺ مُسْتَغْفِرًا وَرَاجِعًا إِلَى اللهِ ومُنِيبًا إليه: «رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ علَيَّ، إنكَ أنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ».

قال ﷺ: «واللهِ إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي اليَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً». أخرجه البخاري.

وفي رِوَايَةٍ: «تُوبُوا إِلَى اللهِ؛ فَإِنِّي أَتُوبُ إِلَيْهِ كُلَّ يَوْمٍ مِئَةَ مَرَّةٍ». أخرجه مسلم.

فكَانَ ﷺ كَمَا دَلَّ هذا الحَدِيثُ يُكْثِرُ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ والتَّوْبَةِ إلى اللهِ؛ شُكْرًا على مَا أَنْعَمَ عليْهِ مِنَ النِّعَمِ الكَثِيرَةِ الَّتِي لَا تُحْصَى.

 

«التَّوْبَةُ الصَّادِقَةُ وَشُرُوطُهَا»

عِبَادَ اللهِ؛ إِنَّ العَمَلَ مَطْلُوبٌ أَصْلًا في دِينِ اللَّهِ –تبارك وتعالى- وأَسَاسه، وأمَّا الكَلَامُ فَكَثِيرٌ، إنَّ الكَلَامَ كَثِيرٌ، وَلَا يُعْتَدُّ مِنَ الكَلَامِ إِلَّا بما صَدَّقَهُ العَمَلُ، وإِلَّا فَهُوَ وَبَالٌ على المُتَكَلِّمِ بِهِ وَعَلَى السَّامِعِهِ أيضًا؛ لأنَّ السَّامِعَ مَتَى مَا عَلِمَ فَقَدْ أُلْزِمَ، والإِلزَامُ حَتْمٌ ووجوبٌ، وَإِذَنْ؛ فَيَنْبَغِي علينا أَنْ نَعُودَ إِلَى الأصلِ؛ أنْ نَتُوبَ والتَّوبةُ أوْبَةٌ، والتَّوبةُ رَجعَةٌ وعودةٌ، وأنْ تكونَ للّهِ خالصةً، فهذا شرطُها الأَولُ أن تكونَ الَّتوبةُ للّهِ-للهربِّ العالمِينَ-؛

لأنه المُسْتَحِقُّ بِأَنْ يُتَابَ إليهِ، ولأنَّه هو الذي يَتُوبُ على التَّائِبِينَ.

وأَنِينُ التَّائِبِينَ...أنِينُ المُخطِئِينَ...أَنِينُ المُجْتَرِحِينَ لِلسَّيِّئَاتِ والذُّنُوبِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ -ربِّ العَالَمِينَ- مِنْ زَجَلِ المُسَبِّحِينَ في أَجْوَافِ اللَّيَالِي، أَنِينُ التَّائِبِينَ أَحَبُّ إِلَى اللهِرَبِّ العَالَمِينَ- مِنْ زَجَلِ المُسَبِّحِينَ.

وفِي حَدِيثٍ عِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ –رحمةُ الله عليهِ-«في مُصنَّفِهِ» يَحكِي فيهِ النَّبيُّ ﷺ عن أغلَى قَطرَةٍ تكونُ، «وإنَّ قطرةً من دمعٍ لتُطفِئُ بحارًا من نيرانٍ» كما قال النبيُّ العَدْنَانُ ﷺ.

ولَكِنْ أينَ هي؟! أفَمَا إذَا عَصَرَ الإِنسَانُ حَجَرًا بَضَّ دَمْعًا؟!

أَفَمَا إِذَا سَحَقَ الإِنسَانُ جُلمُودَ صَخْرٍ؛ سَالَ مَاءًا؟! مِنْ أَينَ؟!

اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا أَعْيُنًا بَاكِيَةً مِنْ جَلَالِ خَشْيَتِكَ يَا ربَّ العَالمِينَ.

الإِخْلاصُ للَّهِ -جلَّ وعَلا- والإِقْلاعُ الفَوْرِيُّ عَمَّا هو عليِهِ مِنْ هذهِ الذُّنُوبِ المُلَوِّثَاتِ؛ لأنَّ اللَّهَ -رَبَّ العَالَمِينَ- أَرَادَنَا طَاهِرِينَ، وهو يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ.

فاللَّهُ رَبُّ العَالمِينَ لا يَقْبَلُ المُدَنَّسِينَ ولا المُتَدَنِّسينَ ولا المُدَنِّسـِينَ؛ كلُّ ذلك مـردودٌ عنـدَ ربِّ العَـالَمِينَ، وعـلى المَـرءِ أن يَندَمَ، وأن يَبكِي على مـا أجْـرَمَ.

وخُذْها إليكَ نَصِيحةً؛ ائتِ بورقةٍ بيضاءَ، أو إنْ شِئتَ فَسَوداءَ طَوْرًا وبيضاءَ طَوْرًا آخر، أو إنْ شِئتَ فأتِ بورقَتينِ بسَوداءَ وبَيضاءَ، فأمَّا السَّوداءُ؛ فاجعلها لحسنَاتِكَ، واكتُبْ عليْها بالبَيَاضِ رقُومًا، وأمَّا البَيْضَاءُ؛ فخُطَّ فيها سَوادَ سيئاتِكَ، واجلِسْ وحْدَكَ بَيْنَكَ وبين ربِّكَ، واستَعرِض حياتَكَ مُنذُ راهَقْتَ الحُلُمَ، مُنذُ شَرَعَ القَلَمُ يكتُبُ عَليكَ ما هُنالِكَ من المَأثَمِ والمَغرَمِ، وما أنتَ بهِ مُكَلَّفٌ، وما قد اجْتَرَحْتَهُ، وما أتيتَ بهِ أيْضًا من إحسانٍ.

اقْعُد هُنَالِكَ فِي خَلوَةٍ لَا جَلوَةَ فِيهَا؛ إِلَّا لِقَلْبٍ عَلَى عَطَاءِ وَعَطْفِ رَبٍّ، وَأَقْبِلْ عَلَيْهِ مُنِيبًا خَاشِعًا مُتَبَتِّلًا وَسَبِّحْ مَعِي ربًّا ودُودًا -سُبْحَانَ رَبِّيَ الوَدُود-، وَأَقْبِلْ عَلَيْهِ، وَتَأَمَّل في المَاضِي البَغِيضِ، مَاضٍ بَغِيضٍ!! أَتَحْسَبُ أَنَّ مَا اجْتَرَحْتَ قَد ذَهَبَ هَبَاءً، وَأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْكَ مَسْتُورًا، وَأَنَّك لَسْتَ عَنْهُ مَسْئُولًا؟! هَيْهَاتَ! ﴿إنَّا كنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ

نُسْخَةً كَأَنَّمَا قَدْ طُبِعَتْ طَبْعًا؛ مِنْ أَعْمَالٍ مُرْهِقَاتٍ لِكَاهِلِ الطَّاعةِ؛ بل هي داقَّةٌ لعُنُقِها وقَاسِمَةٌ لِظَهْرِها، وكلُّ ذلك يَأْتِي، وآخذٌ كتَابَهُ بيمِينهِ يقولُ: ﴿هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ﴾ بِفرحةٍ، تَمتَدُّ هكذا إلى أبْعَدِ ما يكونُ في المَوقِفِ بُعْدًا: ﴿هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ﴾ وتَأْتِي هَاءُ السَّكْتِ هَهُنا «كِتَابِيَه» هكذا، فَيُبْدَأُ بِهَا وَهِيَ مِنْ أَقْصَى الحَلْقِ، ويُنتَهِى بها وهي في أَقْصَاهُ: ﴿ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ﴾ [الحاقة: 19].

وأمَّا الآخَرُ؛ فَآخِذٌ بِشِمَالِهِ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ: ﴿يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ﴾ خَطْفًا ﴿يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ﴾ [الحاقة: 26] بِنَدَمٍ باهِظٍ للحِسِّ والقَلبِ والفُؤَادِ؛ وأين هو النَّدَمُ؟! نَدَمٌ ببُكاءٍ، وأين البُكاءُ؟!

يا لَحَسْرةَ القَلبِ الذي صَارَ صَخْرًا، ويَا حَسْرةَ الكَبِدِ التي عادَتْ حَجَرًا.

اللّهُمَّ اكْشِفْ الحِجَابَ، وارْفَعِ الحُجُبَ، وأَزِلِ الغِشَاوَةَ عن أَعْيُنِنَا يَا رَبَّ العَالَمِينَ.

النَّبيُّ ﷺ يَقولُ: «النَّدَمُ تَوبَة»، ولكنْ أين هو؟

والمَرْءُ يَعُدُّ سَيِّئَاتِهِ حَسَنَاتٍ، ويَجْعَلُ تَهْرِيجَهُ وتَهوِيشَهُ جِهادًا في سَبِيلِ اللّهِ، أيُّ خَلْقٍ وَأَيُّ قَلْبٍ لِمَوَازِينِ دِينٍ هو مُعتَدِلُ المَوَازِينِ، قائِمٌ على الجَادَّةِ لا يَرِيم، فَأَيُّ عبَثٍ، وأيُّ لَعِبٍ، وأيُّ طُغيَانٍ في أمرٍ لا يَنبَغِي أنْ يُمَسَّ في دينِ اللَّهِ ربِّ العالمينَ؟!!

ولَكِنْ النَّدَمُ تَوْبةٌ؛ فاللّهُمَّ مُنَّ بها يا رب العَالَمِينَ، فالإِقلاعُ عن الذَّنبِ، والنَّدمُ، والعَزْمُ بالجَزْمِ على ألَّا يَعُودَ المَرءُ إلى ذلك أبدًا، لا أنْ يكونَ على نِيَّةٍ مشْلُولَةٍ مفْكُوكَةِ الأَعضاءِ مُغمِضًا، فكأنه يُغضِي حينًا ليَستجدَّ له عَزمٌ على مُعاوَدةِ الذُّنُوبِ؛ فأيُّ عَزمٍ هذا؟! هو عزمٌ مَحْلُولٌ، فيا للَّه أين العَزمُ؟! وأين نَجِدُه؟! فاللّهَم مُنَّ بهِ يا ربَّ العَالَمِينَ، وأن تقع في هذه البَحْبُوحةِ في النَّفَسِ الخَارجِ الدَّاخلِ في هذه الحركةِ قبل يُشَلَّ اللِّسانُ، وتَتَوقَّف الأَعضاءُ قبلَ أن يَعودَ المَرءُ إلى التُّرابِ، نعم؛ ينبغي أن تَأتِي التَّوبةُ في وقتِها المضرُوبِ.

 فأمَّا على المُسْتَوَى الإِنسَانِي؛ فَقَبْلَ أَنْ تَبْلُغَ الرُّوحُ الحُلْقُومَ.

وأنت هَهُنَا لَم تَبلُغْ رُوحُكَ حُلْقُومَهَا، وَلَم تَصِلْ بَعْدُ إِلَى ذِرْوَتِها، فَبَابُ التَّوبَةِ مَا زَالَ مَفتُوحاً، وَأَمَّا فِي عُمُومِ الجِنْسِ الإِنْسَانِيِّ؛ فَحَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِن مَغْرِبِهَا، وقَبْلَ ذَلِكَ البَابُ مَفْتُوحٌ، والأَمْرُ مِنَ الرَّبِّ نَازِلٌ بِخَيْرٍ، ولا يَنْزِلُ مِنْهُ إلا الخَيرُ.

«إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ»

عَلَى العَبْدِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي الاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ عِنْدَ الوقُوعِ فِي المَعَاصِي وَالمَعَائِبِ.

وَعَلَى المُؤمِنِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي تَحْقِيقِ العِلْمِ وَالإِيمَانِ، وَلْيَتَّخِذِ اللهَ هَادِيًا وَنَصِيرًا وَحَاكِمًا وَوَلِيًّا؛ فَإِنَّهُ نِعْمَ المَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ، وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا.

فَيَا مَن عَزَمَ السَّفَرَ إِلَى اللهِ وَالدَّارِ الآخِرَةِ؛ قَد رُفِعَ لَكَ عَلَمٌ فَشَمِّرْ إِلَيْهِ, فَقَد أَمْكَنَ التَّشْمِيرَ، وَاجْعَل سَيْركَ بَيْنَ مُطَالَعَةِ مِنَّتِهِ, وَمُشَاهَدَةِ عَيْبِ النَّفْسِ وَالعَمَلِ وَالتَّقْصِيرِ، فَمَا أَبْقَى مَشْهَدُ النِّعْمَةِ وَالذَّنْبِ لِلْمُحْسِنِ مِن حَسَنَةٍ؛ يَقُولُ: هَذِهِ مُنجِيَتي مِن عَذَابِ السَّعِيرِ، وَمَا المُعَوَّلُ إِلَّا عَلَى عَفْوهِ وَمَغْفِرَتِهِ؛ فَكُلُّ أَحَدٍ إِلَيْهَا فَقِير، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلِيَّ، وَأَبُوأُ بِذَنْبِي؛ فَاغْفِر لِي, أَنَا المُذْنِبُ المسْكِينُ، وَأَنْتَ الرَّحِيمُ الغَفُورُ.

مَا تُسَاوِي أَعْمَالُكَ لَوْ سَلِمَت مِمَّا يُبْطِلُهَا أَدْنَى نِعْمَةٍ مِن نِعَمِهِ عَلَيْكَ، وَأَنْتَ مُرْتَهَنٌ بِشُكْرِهَا مِن حِينِ أَرْسَلَ بِهَا إِلَيْكَ؛ فَهَلْ رَعَيْتَهَا بِاللهِ حَقَّ رِعَايَتِهَا وَهِي فِي تَصْرِيفِكَ وَطَوْعَ يَدَيْكَ؟!

فَتَعَلَّقْ بِحَبْلِ الرَّجَاءِ، وَادْخُلْ مِنْ بَابِ التَّوْبَةِ وَالعَمَلِ الصَّالِحِ، إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ.

نَهَجَ للعبدِ طريقَ النَّجَاةِ، وفَتَحَ له أبوابَها، وعَرَّفَهُ طُرُقَ تحصيلِ السعادةِ، وأَعْطَاهُ أسبابَها، وحَذَّرَهُ مِنْ وَبَالِ معصيتِهِ، وأَشْهَدَهُ على نفسِه وعلى غيرِهِ شُؤْمَهَا وعِقَابَها، وقال: «إِنْ أَطَعْتَ فَبِفَضْلِى، وأنا أَشْكُر، وإنْ عَصَيْتَ فَبِقَضَائِي، وأنا أَغْفِر»، إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ.

وأَزَاحَ عنِ العبدِ العِلَل، وأَمَرَهُ أنْ يَسْتَعِيذَ به مِنَ العَجْزِ والكسلِ، ووَعَدَهُ أنْ يَشْكُرَ له القليلَ مِنَ العملِ، ويَغْفِرَ له الكثيرَ مِنَ الزَّلَلِ، إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ. أعطاه ما يَشْكُرُ عليه، ثم يَشْكُرُهُ على إحسانِهِ إلى نفسِهِ، لا على إحسانِهِ إليه، ووَعَدَهُ على إحسانِهِ لِنَفْسِهِ أنْ يُحْسِنَ جزَاءَهُ ويُقَرِّبَهُ لَدَيْهِ، وأنْ يَغْفِرَ له خَطَايَاهُ إذا تاب منها ولا يَفْضَحَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ.

وَثِقَتْ بِعَفْوِهِ هَفَوَاتُ المُذْنِبِينَ فَوَسِعَها، وعَكَفَتْ بِكَرَمِهِ آمَالُ المُحْسِنِينَ فما قَطَعَ طَمَعَها، وخَرَّقَتِ السَّبْعَ الطِّبَاقَ دَعَوَاتُ التائِبِينَ والسائلينَ فَسَمِعَها، ووَسِعَ الخلائقَ عَفْوُهُ ومغفرتُهُ ورِزْقُه، فـ﴿مَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا﴾، إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ.

يَجُودُ على عَبِيدِه بالنَّوَالِ قَبْلَ السؤال، ويُعْطِي سائِلَهُ ومُؤَمِّلَهُ فَوْقَ ما تَعَلَّقَتْ به منهمُ الآمَال، ويغفرُ لِمَنْ تاب إليه ولو بَلَغَتْ ذنُوبُهُ عَدَدَ الأمواجِ والحَصَى والترابِ والرِّمَالِ، إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ.

أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنَ الوالدةِ بِوَلَدِها، وأَفْرَحُ بتوبةِ التائِبِ مِنَ الفَاقِدِ لِرَاحلتِهِ التي عليها طعامُهُ وشَرَابُهُ في الأرضِ المُهْلِكَةِ إذا وَجَدَهَا، وأَشْكَرُ للقليلِ مِنْ جميعِ خَلْقِهِ، فمَنْ تَقَرَّبَ إليه بِمِثْقَالِ ذرةٍ مِنَ الخيرِ شَكَرَهَا وحَمِدَهَا، إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ.

تَعَرَّفَ إلى عبادِهِ بأسمائِهِ وصفاتِهِ، وتَحَبَّبَ إليهم بِحِلْمِهِ وآلَائِهِ، ولَمْ تَمْنَعْهُ مَعَاصِيهِمْ بِأَنْ جَادَ عليهم بآلَائِهِ، ووَعَدَ مَنْ تابَ إليه وأَحْسَنَ طاعتَهُ بمغفرةِ ذنوبِهِ يومَ لقائِهِ، إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ.

السعادةُ كلُّها في طاعتِهِ، والأَرْبَاحُ كُلُّها في مُعَامَلَتِه، والمِحَنُ والبَلَايَا كُلُّها في معصيتِه ومُخَالَفَتِه، فليس للعبدِ أَنْفَعُ مِنْ شُكْرِهِ وتوبتِهِ، إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ. أَفَاضَ على خلقِهِ النعمةَ، وكَتَبَ على نفسِهِ الرحمةَ، وضَمَّنَ الكتابَ الذي كَتَبَه: «إنَّ رحمتَهُ تَغْلِبُ غضَبَهُ»، إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ.

يُطَاعُ فَيَشْكُرُ، وطاعتُهُ مِنْ توفيقِهِ وفَضْلِهِ، ويُعْصَى فَيَحْلُمُ، ومعصيةُ العبدِ مِنْ ظُلْمِه وجهلِهِ، ويتوبُ إليه فاعِلُ القَبِيحِ فَيَغْفِرُ له؛ حتى كأنه لَمْ يَكُنْ قَطُّ مِنْ أهلِهِ، إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ.

الحسنةُ عندَهُ بعَشْرَةِ أَمْثَالِهَا، أو يُضَاعِفُها بلا عَدَدٍ ولا حُسْبَان، والسيئةُ عندَهُ بواحِدَةٍ، ومَصِيرُها إلى العَفْوِ والغُفْرَان، وبابُ التوبةِ مفتوحٌ لَدَيْهِ منذُ خَلَقَ السماواتِ والأرضَ إلى آخِرِ الزمانِ، إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ.

بابُهُ الكَرِيمُ مُنَاخُ الآمَالِ، ومَحَطُّ الأوْزَارِ، وسماءُ عَطَايَاهُ لا تُقْلِعُ عَنِ الغَيْثِ؛ بل هي مِدْرَارٌ، ويَمِينُهُ مَلْأَى لا تَغِيضُهَا نفقةٌ، سَحَّاءُ الليلَ والنهارَ، إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ.

لا يَلْقَى وَصَايَاهُ إلا الصابرون، ولا يَفُوزُ بِعَطَايَاهُ إلا الشاكرون، ولا يَهْلِكُ عليهِ إلا الهَالِكُون، ولا يَشْقَى بِعَذَابِهِ إلا المُتَمَرِّدُون، إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ.

فَإِيَّاكَ أَيُّهَا المُتَمَرِّدُ أنْ يَأْخُذَكَ على غِرَّةٍ فإنه غَيُور، وإذا أَقَمْتَ على معصيتِهِ وهو يَمُدُّكَ بنعمتِهِ فاحْذَرْ؛ فإنه لم يُهْمِلْكَ؛ لكنه صَبُور.

وبُشْرَاكَ أَيُّهَا التائِبُ بِمَغْفِرَتِهِ ورحمتِهِ، إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ.

مَنْ عَلِمَ أنَّ الرَّبَّ شَكُورٌ؛ تَنَوَّعَ في مُعَامَلَتِه، ومَنْ عَلِمَ أنه واسعُ المغفرةِ؛ تَعَلَّقَ بِأَذْيَالِ مَغْفِرَتِه، ومَنْ عَلِمَ أنَّ رَحْمَتَهُ سَبَقَتْ غَضَبَهُ؛ لَمْ يَيْأَسْ مِنْ رَحْمَتِه، إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ.

مَنْ تَعَلَّقَ بصِفَةٍ مِنْ صفاتِهِ؛ أَخَذَتْهُ بِيَدِهِ حتى تُدْخِلَهُ عليه، ومَنْ سَارَ إليه بأسمائِهِ الحُسْنَى؛ وَصَلَ إليه، ومَنْ أَحَبَّهُ؛ أَحَبَّ أسماءَهُ وصفاتِهِ، وكانت آثَرَ شيءٍ لَدَيْهِ.

حياةُ القلوبِ في مَعْرِفَتِهِ ومَحَبَّتِه، وكَمَالُ الجَوَارِحِ في التَّقَرُّبِ إليهِ بِطَاعَتِهِ، والقِيَامِ بِخِدْمَتِهِ، وكمالُ الأَلْسِنَةِ بِذِكْرِهِ والثَّنَاءِ عليهِ بأوصافِ مَدْحِهِ، فَأَهْلُ شُكْرِهِ أَهْلُ زِيَادَتِهِ، وأَهْلُ ذِكْرِه أهلُ مُجَالَسَتِه، وأهلُ طاعتِهِ أهلُ كَرَامَتِه، وأهلُ مَعْصِيَتِهِ لا يُقَنِّطُهُمْ مِنْ رَحْمَتِه، إنْ تَابُوا فهو حَبِيبُهُمْ، وإن لَمْ يَتُوبُوا فهو طَبِيبُهُمْ، يَبْتَلِيهِمْ بأنواعِ المصائبِ؛ لِيُكَفِّرَ عنهُمُ الخَطَايَا، ولِيُطَهِّرَهُمْ مِنَ المَعَائِبِ، إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ.

والأسماءُ الحُسْنَى والصِّفَاتُ العُلَا مُقْتَضِيَةٌ لِآثَارِهَا مِنَ العُبُودِيَّةِ والأمْرِ اقْتِضَاءَها لآثارِهَا مِنَ الخَلْقِ والتَّكْوِينِ، فَلِكُلِّ صِفَةٍ عُبُودِيَّةٌ خَاصَّةٌ هِيَ مِنْ مُوجِبَاتِهَا ومُقْتَضَيَاتِهَا أَيْ: مِنْ مُوجِبَاتِ العِلْمِ بِهَا، والتَّحَقُّقِ بِمَعْرِفَتِهَا-، وهذا مُطَّرِدٌ في جميعِ أنواعِ العُبُوديةِ التي على القلبِ والجَوَارِحِ.

فَعِلْمُ العَبْدِ بِتَفَرُّدِ الرَّبِّ تعالى بالضُّرِّ والنَّفْعِ، والعَطَاءِ والمَنْعِ، والخَلْقِ والرِّزْقِ، والإِحْيَاءِ والإِمَاتَةِ، يُثْمِرُ لَهُ عُبُودِيَّةَ التَّوَكُّلِ عليْهِ بَاطِنًا، ولَوَازِمَ التَّوَكُّلِ وَثَمَرَاتِهِ ظَاهِرًا.

وعِلْمُهُ بِسَمْعِهِ تعالى وبَصَرِهِ وعِلْمِهِ، وأَنَّهُ لَا يَخْفَى عليه مِثْقَالُ ذَرَّةٍ في السَّمَوَاتِ والأرضِ، وأنه يَعْلَمُ السِّرَّ وأَخْفَى، ويَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وما تُخْفِى الصُّدُورُ، يُثْمِرُ له حِفْظَ لِسَانِهِ وجَوَارِحِهِ وخَطَرَاتِ قَلْبِهِ عنْ كُلِّ ما لا يُرْضِي اللهَ، وأنْ يَجْعَلَ تَعَلُّقَ هذه الأعضاءِ بما يُحِبُّهُ اللهُ وَيَرْضَاهُ؛ فَيُثْمِرُ له ذلك الحَيَاءَ بَاطِنًا، ويُثْمِرُ له الحَيَاءُ اجْتِنَابَ المُحَرَّمَاتِ والقَبَائِحِ .

ومَعْرِفَتُهُ بِغَنَاهُ وجُودِهِ وكَرَمِهِ وَبِرِّهِ وإحسانِهِ ووَاسِعِ رَحْمَتِهِ، تُوجِبُ له سَعَةَ الرَّجَاءِ، ويُثْمِرُ له ذلك مِنْ أنواعِ العبوديةِ الظاهرةِ والبَاطِنَةِ بِحَسَبِ مَعْرِفَتِهِ وعِلْمِهِ.

وكذلك مَعْرِفَتُهُ بِجَلَالِ اللهِ وعَظَمَتِهِ وعِزِّهِ، تُثْمِرُ له الخُضُوعَ والِاسْتِكَانَةَ والمَحَبَّةَ، وتُثْمِرُ له تلك الأحوالُ البَاطِنَةُ أَنْوَاعًا مِنَ العُبُودِيَّةِ الظَّاهِرَةِ؛ هي مُوجِبَاتُهَا، وكذلك عِلْمُهُ بِكَمَالِهِ وجَمَالِهِ وصِفَاتِهِ العُلَى؛ يُوجِبُ له مَحَبَّةً خَاصَّةً بِمَنْزِلَةِ أنواعِ العبودِيَّةِ، فَرَجَعَتِ العُبُودِيَّةُ كُلُّها إلى مُقْتَضَى الأسماءِ والصِّفَاتِ، وارْتَبَطَتْ بها ارْتِبَاطَ الخَلْقِ بها.

فَخَلْقُهُ سبحانه وأَمْرُهُ هُوَ مُوجِبُ أسمائِهِ وصِفَاتِهِ في العَالَمِ وآثَارِها وَمُقْتَضَيَاتِها؛ لأنه لا يَتَزَيَّنُ مِنْ عبادِهِ بِطَاعَتِهِمْ، ولا تَشِينُهُ مَعْصِيَتُهُمْ، وتَأَمَّلْ قولَهُ ﷺ في الحديثِ الصحيحِ الذي يَرْوِيهِ عن رَبِّهِ -تبارك وتعالى-: «يَا عِبَادِي؛ إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي»، ذَكَرَ هذا عَقِبَ قَوْلِهِ: «يَا عِبَادِي؛ إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا؛ فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ».

 فَتَضَمَّنَ ذلك أنَّ ما يَفْعَلُهُ تعالى بِهِمْ؛ مِنْ غُفْرَانِ زَلَّاتِهِمْ، وإِجَابَةِ دَعَوَاتِهِمْ، وتَفْرِيجِ كُرُبَاتِهِمْ؛ ليس لِجَلْبِ منفعةٍ منهم، ولا لِدَفْعِ مَضَرَّةٍ يَتَوَقَّعُهَا منهم؛ كما هو عَادَةُ المَخْلُوقِ الذي يَنْفَعُ غَيْرَهُ لِيُكَافِئَهُ بِنَفْعٍ مِثْلِهِ، أوْ لِيَدْفَعَ عنه ضَرَرًا، فالرَّبُّ تعالى لَمْ يُحْسِنْ إلى عِبَادِهِ لِيُكَافِئُوهُ، ولا لِيَدْفَعُوا عنه ضَرَرًا.

فقال جلَّ وعلا-: «لَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، إِنِّي لَسْتُ إذا هَدَيْتُ مُسْتَهْدِيَكُمْ، وأَطْعَمْتُ مُسْتَطْعِمَكُمْ، وكَسَوْتُ مُسْتَكْسِيَكُمْ، وأَرْوَيْتُ مُسْتَسْقِيَكُمْ، وكَفَيْتُ مُسْتَكْفِيَكُمْ، وغَفَرْتُ لِمُسْتَغْفِرِكُمْ، بالذِي أَطْلُبُ مِنْكُمْ أنْ تَنْفَعُونِي أَوْ تَدْفَعُوا عَنِّي ضَرَرًا؛ فإنَّكُمْ لنْ تَبْلغوا ذلك وأنَا الغَنِيُّ الحَمِيدُ، فكيف والخَلْقُ عاجِزُونَ عما يَقْدِرُونَ عليه مِنَ الأفعالِ إِلَّا بِإِقْدَارِهِ وتَيْسِيرِهِ وخَلْقِهِ؛ فكيف بما لا يَقْدِرُونَ عليه؟! فكيفَ يَبْلُغُونَ نَفْعَ الغَنِيِّ الصَّمَدِ الذي يَمْتَنِعُ في حَقِّهِ أَنْ يَسْتَجْلِبَ مِنْ غَيْرِهِ نَفْعًا، أو يَسْتَدْفِعَ منه ضَرَرًا؛ بَلْ ذلك مُسْتَحِيلٌ في حَقِّه؟

«من كتاب: عدةُ الصَّابرينَ وذخيرةُ الشَّاكرِينَ لابنِ القيِّم -رحمهُ اللهُ-».

 

ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ هذا قَوْلَهُ: «يَا عِبَادِي؛ لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ؛ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِــي شَيْئًا، يَا عِبَادِي؛ لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ؛ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مـِنْ مُلْكِي شَيْئًا».

اللَّهُمَّ يَا رَبَّ العَالَمِينَ، يا أَكْرَمَ الأَكْرَمِينَ، يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، يا ذَا القُوَّةِ المَتِينَ، تُبْ عَلَيْنَا تَوْبَةً نَصُوحًا، اللَّهُمَّ تُبْ علينا تَوْبَةً نَصُوحًا، اللهمّ تُبْ عَلَيْنَا تَوْبَةً نَصُوحًا، اللَّهُمَّ تُبْ علينا لِنَتُوبَ، تُبْ عَلَيْنَا لِنَتُوبَ، تُبْ علينا لِنَتُوبَ، اللهمّ تُبْ عَلَيْنَا لِنَتُوبَ، تُبْ علينا لِنَتُوبَ، اللهمَ تُبْ علينا لِنَتُوبَ، اللّهُمَّ تُبْ عَلَيْنَا، تُبْ علينا، تُبْ علينا، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لنا وَارْحَمْنَا، اِغْفِرْ لنَا وارْحَمْنَا، اِغْفِرْ لَنَا مَا قَدَّمْنَا، ومَا أَخَّرْنَا، وَمَا أَسْرَرْنَا، ومَا أَعْلَنَّا، ومَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنَّا.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ .        

 

 المصدر:دُرُوسٌ مُهِمَّةٌ لِعُمُومِ المُسْلِمِينَ فِي رَمَضَانَ

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  حَثُّ النَّبِيِّ ﷺ عَلَى الْعَمَلِ التَّطَوُّعِيِّ
  أَجْرٌ عَظِيمٌ لِمَنْ فَرَّجَ كُرُبَاتِ الْمُسْلِمِينَ
  الْبِرُّ الْحَقِيقِيُّ بِالْأَبَوَيْنِ
  نَمَاذِجُ مِنْ وَرَعِ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، وَالتَّابِعِينَ
  المَوْعِظَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : ((جُمْلَةٌ مِنْ أُصُولِ الْعَقِيدَةِ لِعُمُومِ الْمُسْلِمِينَ(1) ))
  إِمْسَاكُ الْعَبْدِ عَنِ الشَّرِّ وَأَذَى الْخَلْقِ صَدَقَةٌ
  وَسَائِلُ صِلَةِ الرَّحِمِ
  تَقْصِيرُ أَبْنَاءِ الْأُمَّةِ فِي دَعْوَةِ الْعَالَمِ لِلْإِسْلَامِ
  تَعَلُّقُ الْخِيَانَةِ بِالضَّمِيرِ
  وَاجِبُ الْعَبْدِ عِنْدَ الِابْتِلَاءِ
  الْآثَارُ الْمُدَمِّرَةُ لِلسُّلُوكِيَّاتِ الْخَاطِئَةِ الْمُخَالِفَةِ لِلسُّنَّةِ
  مَظَاهِرُ النِّظَامِ فِي عِبَادَةِ الْحَجِّ
  التَّرْشِيدُ فِي حَيَاتِنَا.. وَالْمَاءُ مِثَالٌ
  دَوَاءُ الْقَلْبِ فِي مَحَبَّةِ الرَّبِّ -جَلَّ وَعَلَا-
  مَفْهُومُ الْحَيَاةِ وَالِابْتِلَاءِ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان