((الْمَوْعِظَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ))
((فَضَائِلُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ))
الْحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَفِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ: لَيْلَةُ الْقَدْرِ الَّتِي شَرَّفَهَا اللهُ تَعَالَى عَلَى غَيْرِهَا، وَمَنَّ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ بِهَا، وَأَنْعَمَ عَلَيْهَا بِجَزِيلِ خَيْرِهَا، وَأَشَادَ اللهُ تَعَالَى بِفَضْلِهَا؛ فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: ﴿إِنَّا أَنْزَلنَاهُ فِي لَيلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ [الدخان: 3-4].
مِنْ بَرَكَةِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ: أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الْمُبَارَكَ أُنْزِلَ فِيهَا، وَقَدْ وَصَفَهَا اللهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ يُفْرَقُ فِيهَا كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ مِنْ أَوَامِرِ اللهِ الْمُحْكَمَةِ الْعَظِيمَةِ الْمُتْقَنَةِ، الَّتِي لَيْسَ فِيهَا خَلَلٌ وَلَا نَقْصٌ وَلَا بَاطِلٌ ﴿ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ﴾ [الأنعام: 96].
قَالَ تَعالَى فِي بَيَانِ فَضْلِ لَيلَةِ الْقَدْرِ: ﴿إِنَّا أَنْزَلنَاهُ فِي لَيلَةِ القَدْرِ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيلَةُ القَدْرِ * لَيلَةُ القَدْرِ خَيرٌ مِنْ أَلفِ شَهْرٍ* تَنَزَّلُ المَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ* سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الفَجْرِ﴾ [القدر: 1-5].
الْقَدْرُ: بِمَعْنَى الشَّرَفِ وَالتَّعْظِيمِ، أَوْ بِمَعْنَى التَّقْدِيرِ وَالْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ يُفْصَلُ فِيهَا مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ إِلَى الْكَتَبَةِ مَا هُوَ كَائِنٌ مِنْ أَمْرِ اللهِ سُبْحَانَهُ فِي تِلْكَ السَّنَةِ مِنَ الْأَرْزَاقِ، وَالْآجَالِ، وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ.
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى عَظِيمِ قَدْرِهَا، وَرِفْعَةِ شَأْنِها، وَجَلِيلِ قَدْرِهَا: أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ فِيهَا سُورَةً بِرَأْسِهَا؛ تُتْلَى، يُتَعَبَّدُ للهِ بِتِلَاوَتِهَا إِلَى أَنْ يَرْفَعَ اللهُ الْكِتَابَ الْمَجِيدَ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ مِنَ الصُّدُورِ وَالسُّطُورِ.
وَلَكِنْ مَتَى هِيَ تَحْدِيدًا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ؟
«لَا تَخْتَصُّ لَيْلَةُ الْقَدْرِ بِلَيْلَةٍ مُعيَّنَةٍ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ فِي جَمِيعِ الْأَعْوَامِ، بَلْ تَنْتَقِلُ، فَتَكُونُ فِي عَامٍ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ مَثَلًا، وَفِي عَامٍ لَيْلَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ، وَهَكَذَا...تَبَعًا لِمَشِيئَةِ اللهِ تَعَالَى، وَحِكْمَتِهِ.
وَدَلِيلُ ذَلِكَ: قَوْلُه ﷺ: «الْتَمِسُوهَا فِي تَاسِعَةٍ تَبْقَى، فِي سَابِعَةٍ تَبْقَى، فِي خَامِسَةٍ تَبْقَى» .
قَالَ الْحَافِظُ فِي «الفَتْحِ» : «الْأَرْجَحُ: أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ، وَأَنَّهَا تَنْتَقِلُ»» .
فَالْأَرْجَحُ عَلَى حَسَبِ دَلَالَاتِ النُّصُوصِ: أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَأَنَّهَا فِي أَوْتَارِ الْعَشْرِ، وَأَنَّهَا تَنْتَقِلُ؛ فَلَيْسَتْ فِي لَيْلَةٍ بِعَيْنِهَا، تَكُونُ ثَابِتَةً فِي كُلِّ عَامٍ؛ وَلَكِنَّهَا تَنْتَقِلُ كَمَا هُوَ الْأَرْجَحُ.
«وَقَدْ أَخْفَى اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَنِ الْعِبَادِ تَحْدِيدَ لَيْلَةِ الْقَدْرِ بِقَطْعٍ؛ رَحْمَةً بِهِمْ؛ لِيَكْثُرَ عَمَلُهُم فِي طَلَبِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فِي تِلْكَ اللَّيَالِي الْفَاضِلَةِ، بِالذِّكْرِ وَالصَّلَاةِ، وَبِالدُّعَاءِ وَالْإِخْبَاتِ، وَبِالبُكَاءِ وَالْإِنَابَةِ؛ لِيَزْدَادُوا مِنَ اللهِ قُرْبًا، وَلِيَكْثُرَ لَهُمْ مِنَ اللهِ الثَّوَابُ، وَلِيُعْلَمَ مَنْ كَانَ جَادًّا فِي طَلَبِهَا، حَرِيصًا عَلَيْهَا مِمَّنْ كَانَ كَسْلَانَ مُتَهَاوِنًا» .
قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيرًا لَكُمْ» ؛ أَيْ: لِتَزْدَادُوا اجْتِهَادًا فِي الْعِبَادَةِ وَالطَّلَبِ، وِلِأَنَّكُمْ إِذَا عَلِمْتُمْ تَحْدِيدَهَا بقَطْعٍ فِي لَيْلَةٍ مُحَدَّدَةٍ؛ تَوَفَّرْتُمْ عَلَى الْعِبَادَةِ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ، ثُمَّ كَسِلْتُمْ بَعْدَ ذَلِكَ، وَفَتَرْتُمْ عَنِ الْعِبَادَةِ وَالذِّكْرِ، وَلَا كَذَلِكَ فِعْلُ الْمُتَّقِينَ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ الْأَمِينَ ﷺ مَعَ أَنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- قَدْ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ قَدْ غَفَرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ؛ إِلَّا أَنَّهُ «كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ حَتَّى تَتَوَرَّمَ قَدَمَاهُ» ، «حَتَّى تَتَفَطَّرَ قَدَمَاهُ» ، فَلَمَّا رُوجِعَ فِي ذَلِكَ قَالَ: «أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟!!» ﷺ.
قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «الْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ وَالسَّابِعَةِ وَالخَامِسَةِ»: بَيَّنَ أَبُو سَعِيدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ التَّاسِعَةَ هِيَ: الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ، وَالسَّابِعَةُ هِيَ: الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ، وَالْخَامِسَةُ هِيَ: السَّادِسَةُ وَالعِشْرُونَ .
فَفَهِمَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ قَدْ تَكُونُ فِي الْأَشْفَاعِ كَمَا قَدْ تَكُونُ فِي الْأَوْتَارِ مِنَ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ- .
«فِي تَاسِعَةٍ تَبْقَى، فِي سَابِعَةٍ تَبْقَى، فِي خَامِسَةٍ تَبْقَى، فِي ثَالِثَةٍ تَبْقَى »: إِذَا كَانَ الشَّهْرُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ.
وَإِذَا كَانَ الشَّهْرُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا؛ فَيَصْدُقُ أَنْ تَكُونَ فِي الْأَوْتَارِ، كَمَا يَصْدُقُ أَنْ تَكُونَ فِي الْأَشْفَاعِ.
وَعَلَيْهِ: فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُصِيبَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ كُلِّهَا مِنْ غَيْرِ مَا تَمْيِيزٍ، وَإِنْ خَصَّ الْأَوْتَارَ بِمَزِيدِ عِنَايَةٍ فَلَا بَأْسَ؛ لِدَلَالَةِ النُّصُوصِ عَلَى ذَلِكَ.
((دُعَاءٌ نَبَوِيٌّ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ))
مَاذَا يُقَالُ عِنْدَ تَحَرِّي لَيْلَةِ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ؟
يُسْأَلُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ - وَفِي كُلِّ حِينٍ- الْعَفْوَ وَالْمُعَافَاةَ.
يَسْأَلُ الْعَبْدُ رَبَّهُ -جَلَّ وَعَلَا- فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ الْعَفْوَ وَالْمُعَافَاةَ؛ قَالَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- -كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ-: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَرَأَيْتَ إِنْ وَافَقْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ؛ مَا أَقُولُ فِيهَا؟ قَالَ: «قُولِي: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ العَفْوَ؛ فَاعْفُ عَنِّي» .
فَلَوْ كَانَ هُنَاكَ طَلَبٌ هُوَ أَعْلَى مِنْ هَذَا؛ لَذَكَرَهُ النَّبِيُّ ﷺ لِعَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-.
فَاحْرِصْ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ عَلَى التَّصْفِيَةِ وَالتَّزْكِيَةِ، عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَمِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ، وَخَلِّفْ دُنْيَاكَ وَرَاءَكَ، وَأَقْبِلْ صَحِيحًا؛ حَتَّى تَصِيرَ مُعَافًى.
فاللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنَّا.
((صِدْقُ الْعَزِيمَةِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ))
إِنَّ الرَّسُولَ ﷺ كَانَ يَسْتَعِدُّ وَيُعِدُّ، يُعِدُّ الْعُدَّةَ لِهَذِهِ اللَّيَالِي الْمُبَارَكَاتِ؛ لِيُدْرِكَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ؛ لِأَنَّ مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَهُوَ الْمَحْرُومُ حَقًّا ، وَفِيهَا مِنْ فُيُوضِ الْعَطَاءَاتِ مَا لَا يَدْرِي قَدْرَهُ وَلَا يَعْلَمُهُ إِلَّا رَبُّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ.
فَقَطْ عَلَيْكَ أَنْ تَعْرِضَ نَفْسَكَ عَلَى الطَّبِيبِ، وَمَنْ هُوَ؟
إِنَّهُ اللهُ.
يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ لِرَجُلٍ: «مَنْ أَنْتَ؟».
قَالَ: أَنَا طَبِيبُهَا.
قَالَ: «طَبِيبُهَا اللهُ» .
اللهُ الطَّبِيبُ، فَيَأْتِي الْعَبْدُ الْمَكْلُومُ بِحَسْرَةِ الْقَلْبِ، بِحُزْنِ الْفُؤادِ، يَأْتِي الْعَبْدُ الَّذِي لَوَّثَتْ صَفْحَتَهُ هَذِهِ الذُّنُوبُ، وَتَكَاثَرَتْ عَلَيْهِ الْمَعَائِبُ، وَانْدَلَقَتْ عَلَى أُمِّ رَأْسِهِ قَاذُورَاتُ الْعُيُوبِ.
يَأْتِي الْعَبْدُ إِلَى سَيِّدِهِ إِلَى طَبِيبِهِ؛ إِنَّ الْعِلَّةَ قَدْ بَلَغَتْ بِي مَبَالِغَهَا، وَإِنَّ الْمَرَضَ قَدْ أَسْقَمَ فُؤَادِي فَأَذَلَّهُ، أَذَلَّهُ لِكُلِّ مَنْ هُوَ ذَلِيلٌ فِي الْأَرْضِ، وَأَنْتَ أَنْتَ الْعَزِيزُ.
أَلَا تَنْظُرُ إِلَيَّ نَظْرَةَ الرَّحْمَةِ الَّتِي لَا يَحِلُّ عَلَيَّ بَعْدَهَا سَخَطٌ أَبَدًا؟
أَلَا تَأْخُذُ بِيَدَيَّ وَأَنْتَ أَنْتَ الْكَرِيمُ؟
قَدْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَيْكَ فَلَا تَرُدَّنِي خَائِبًا!!
يَنْطَرِحُ عُبَيْدُكَ الْمُسَيْكِينُ عَلَى الْعَتَبَاتِ يَقُولُ: وَاللهِ، لَا أَعُودُ حَتَّى تَغْفِرَ لِي الذُّنُوبَ، وَتَسْتُرَ الْمَعَائِبَ وَالْعُيُوبَ، وَأَنْتَ أَنْتَ الْجَوَادُ الْكَرِيمُ.
عَرِّضْ نَفْسَكَ لِهَذِهِ النَّفْحَاتِ؛ فَإِنَّهَا إِنْ ذَهَبَتْ لَا تَعُودُ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمْ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.