((أَعْلَى دَرَجَاتِ الْعَطَاءِ لِلْوَطَنِ: الدَّعْوَةُ إِلَى التَّوْحِيدِ))
قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور: 55].
فَلَا يَسْتَتِبُّ الْأَمْنُ، وَلَا يَحْصُلُ الِاسْتِقْرَارُ إِلَّا بِالتَّوْحِيدِ وَنَفْيِ الشِّرْكِ.
وَهَذِهِ الْمَطَالِبُ الْعَظِيمَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ؛ مِنَ الِاسْتِخْلَافِ فِي الْأَرْضِ، وَالتَّمْكِينِ لِلدِّينِ، وَالْإِتْيَانِ بِالْأَمْنِ.. كُلُّهَا لَا تَأْتِي إِلَّا بِعِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ {يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا}.
فَلَا تَجْتَمِعُ كَلِمَةُ الْأُمَّةِ، وَلَا يَصِحُّ بِنَاؤُهَا إِلَّا عَلَى كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ، وَإِلَّا عَلَى عَقِيدَةِ التَّوْحِيدِ الصَّحِيحَةِ.
أَمَّا إِذَا دَخَلَ الشِّرْكُ، وَتَفَشَّتِ الْبِدَعُ وَالْخُرَافَاتُ، وَقِيلَ: اتْرُكُوا النَّاسَ أَحْرَارًا فِي عَقَائِدِهِمْ، لَا تُنَفِّرُوهُمْ، وَلَا تُبَدِّدُوا جَمْعَهُمْ!! إِذَا وَقَعَ ذَلِكَ حَصَلَ الِاخْتِلَافُ، وَحَصَلَ التَّفَرُّقُ، وَدَخَلَ الشَّيْطَانُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَفَرَّقَ جَمَاعَتَهُمْ، وَأَوْهَى قُوَّتَهُمْ؛ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ فِي الدُّنْيَا الْيَوْمَ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَمَّا أَرْسَلَ نَبِيَّهُ ﷺ؛ لَمْ يَكُنْ فِي الْأَرْضِ مَنْ يَقُومُ بِهَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ كَمَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَامَ بِهِ، وَنَظَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ؛ فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ، إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي الدَّيَّارَاتِ وَالصَّوَامِعِ وَالْبِيَعِ، كَانُوا قَدْ قَرَؤُوا الْكِتَابَ الْأَوَّلَ، وَيَعْرِفُونَ النَّبِيَّ ﷺ بِشِيَاتِهِ وَصِفَاتِهِ، وَيَنْتَظِرُونَ مَقْدَمَهُ، وَأَطْبَقَتِ الْأَرْضُ عَلَى الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ.
فَلَمَّا جَاءَ النَّبِيُّ ﷺ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ، وَدَعَا إِلَى تَوْحِيدِ الْخَالِقِ الْعَظِيمِ، وَانْصَاعَتْ قُلُوبٌ إِلَى دَعْوَةِ التَّوْحِيدِ، وَأُسِّسَتِ الْمِلَّةُ عَلَيْهِ، وَانْتَشَرَ التَّوْحِيدُ فِي الْأَرْضِ.. عَمَّ فِيهَا الْخَيْرُ، وَقَلَّ فِيهَا الشَّرُّ.
وَكَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ -كَمَا فِي ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ)) مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ--: ((بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ؛ فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ)).
كُلَّمَا بَعُدَ الْعَهْدُ عَنْ عَصْرِ النُّبُوَّةِ.. كَثُرَ الشَّرُّ، وَقَلَّ الْخَيْرُ.
عِبَادَ اللهِ! إِذَا أَرَدْنَا الْإِصْلَاحَ حَقًّا؛ فَعَلَيْنَا أَنْ نَدْعُوَ النَّاسَ إِلَى إِفْرَادِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِالْعِبَادَةِ وَحْدَهُ، وَالْبَرَاءَةِ مِنَ الشِّرْكِ وَأَهْلِهِ.
وَهَذَا هُوَ التَّوْحِيدُ؛ هُوَ إِفْرَادُ اللهِ بِالْعِبَادَةِ.
إِنَّ الَّذِينَ يُلَبِّسُونَ عَلَى النَّاسِ الْيَوْمَ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ الْأُمَّةَ لَا تَحْتَاجُ الدَّعْوَةَ إِلَى التَّوْحِيدِ!! هَؤُلَاءِ يَخُونُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالْإِسْلَامَ الْعَظِيمَ!!
وَهُؤَلَاءِ مِنْ جُنْدِ أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنَجِّي الْمُسْلِمِينَ إِلَّا تَوْحِيدُهُمْ لِرَبِّهِمْ -جَلَّ وَعَلَا-، وَإِخْلَاصُهُمْ فِي الْعِبَادَةِ لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ.
الْمُرْسَلُونَ كُلُّهُمْ دَعَوْا إِلَى ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))، وَخَاتَمُهُمْ وَإِمَامُهُمْ وَأَفْضَلُهُمْ مُحَمَّدٌ ﷺ صَدَّقَهُمْ، وَدَعَا إِلَى التَّوْحِيدِ.
قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 21، 22].
قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۖ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 123].
فَالْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ: هِيَ إِفْرَادُ اللهِ -تَعَالَى- بِالْعِبَادَةِ، وَتَرْكُ عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ، وَالْبَرَاءَةُ مِنَ الشِّرْكِ وَأَهْلِهِ.
هَذِهِ مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، لَا يَنْجُو أَحَدٌ إِلَّا بِاتِّبَاعِهَا، وَلَا يَدْخُلُ أَحَدٌ الْجَنَّةَ إِلَّا إِذَا كَانَ مِنْ أَتْبَاعِهَا.
هُوَ أَمْرٌ عَظِيمٌ، هُوَ الْأَمْرُ الَّذِي لِأَجْلِهِ خَلَقَ اللهُ الْخَلْقَ، وَأَرْسَلَ الرُّسُلَ، وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ، وَبِسَبَبِهِ كَانَتِ الْمِحْنَةُ، وَوَقَعَتِ الْمَلْحَمَةُ بَيْنَ جُنْدِ الرَّحْمَنِ وَجُنْدِ الشَّيْطَانِ، هُوَ أَمْرُ الْعَقِيدَةِ، أَمْرُ التَّوْحِيدِ.
فَالتَّوْحِيدُ هُوَ الْأَسَاسُ، الْعَقِيدَةُ رَأْسُ الدِّينِ.
قَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((لَا يُصْلِحُ آخَرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا مَا أَصْلَحَ أَوَّلَهَا، وَقَدْ أَصْلَحَ أَوَّلَهَا الْإِيمَانُ وَالْيَقِينُ)) .
هَذِهِ الْأُمَّةُ إِذَا أَرَادَتْ الِاجْتِمَاعَ، وَأَرَادَتِ الْقُوَّةَ، وَأَرَادَتْ الِائْتِلَافَ.. فَإِنَّهُ لَا يُصْلِحُهَا إِلَّا مَا أَصْلَحَ أَوَّلَهَا، وَالَّذِي أَصْلَحَ أَوَّلَهَا هُوَ التَّوْحِيدُ.
لَا يُصْلِحُ آخِرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا التَّوْحِيدُ، وَالِاجْتِمَاعُ عَلَى كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ؛ الِاجْتِمَاعُ عَلَى كَلِمَةِ: ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ)).
فَالَّذِي يَجْمَعُ الْأُمَّةَ: الْعَقِيدَةُ الصَّحِيحَةُ، وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ؛ قَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} [التوبة: 33].
وَالْهُدَى: الْعِلْمُ النَّافِعُ، وَدِينُ الْحَقِّ: الْعَمَلُ الصَّالِحُ.
فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَجْتَمِعَ هَذِهِ الْأُمَّةُ إِلَّا بِالْعِلْمِ النَّافِعِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَأَسَاسُ ذَلِكَ: التَّوْحِيدُ، وَإِفْرَادُ اللهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بِالْعِبَادَةِ.
وَالْأَنْبِيَاءُ هُمُ الْمُصْلِحُونَ حَقًّا.. هُمُ الْمُصْلِحُونَ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَقَدْ بَعَثَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي أَقْوَامِهِمْ، وَقَدْ تَفَشَّتْ فِيهِمُ الْأَمْرَاضُ فَوْقَ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ وَالطُّغْيَانِ.
كَانَتْ عِنْدَهُمْ -أَيْضًا- أَمْرَاضٌ تَتَعَلَّقُ بِسِيَاسَاتِهِمْ، وَتَتَعَلَّقُ بِاقْتِصَادِهِمْ، وَتَتَعَلَّقُ بِمُجْتَمَعَاتِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.
وَمَعَ ذَلِكَ.. لَمْ يَبْدَأْ نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَا رَسُولٌ مِنَ الرُّسُلِ -وَهُمُ الْمُصْلِحُونَ حَقًّا، وَهُمُ الْمُصْلِحُونَ عَلَى الْحَقِيقَةِ-؛ لَمْ يَبْدَؤُوا دَعْوَةَ أَقْوَامِهِمْ بِشَيْءٍ قَبْلَ تَوْحِيدِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ: {اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59].
وَلَنَا فِيهِمُ الْأُسْوَةُ الْحَسَنَةُ، وَالْقُدْوَةُ الصَّالِحَةُ، وَهُوَ مَا فَعَلَهُ الرَّسُولُ ﷺ الَّذِي أَمَرَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنْ نَقْتَدِيَ بِهِ.
المصدر:دَرَجَاتُ الْعَطَاءِ وَمَنَازِلُ الشُّهَدَاءِ