((عَدَمُ مُبَالَاةِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ!!))
النَّاسُ يَسْتَغْرِبُونَ الْكَلَامَ فِي مَوْضُوعِ أَكْلِ الْحَلَالِ وَأَكْلِ الْحَرَامِ، لَا لِصُعُوبَةِ تَحْصِيلِ الْحَلَالِ مَعْرِفَةً لَدَيْهِمْ، فَهُمْ يَعْلَمُونَ صُعُوبَةَ تَحْصِيلِ الْحَلَالِ، وَلَا لِصُعُوبَةِ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، فَالتَّمْيِيزُ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مِنْ أَيْسَرِ مَا يَكُونُ، جَعَلَهُ اللهُ فِطْرَةً فِي النَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَغَرِيزَةً جُبِلَ عَلَيْهَا الْبَشَرُ.
وَالنَّاسُ لَا يَسْتَغْرِبُونَ الْكَلَامَ عَنِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ أَكْلًا وَتَحْصِيلًا، وَالْكَلَامُ حَوْلَ هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ فِي دِينِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، لَا يَسْتَغْرِبُونَ الْكَلَامَ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ لِأَنَّهُمْ يَجْهَلُونَ عُقُوبَةَ مَا جَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَهُ عُقُوبَةً لِأَكْلِ الْحَرَامِ.
فَمَا الَّذِي يَجْعَلُ النَّاسَ يَسْتَغْرِبُونَ الْحَدِيثَ فِي أَمْرِ أَكْلِ الْحَلَالِ وَأَكْلِ الْحَرَامِ؟!!
الَّذِي يَجْعَلُ النَّاسَ كَذَلِكَ، مَا ذَكَرَهُ الرَّسُولُ ﷺ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الصَّحِيحِ))، يَقُولُ فِيهِ النَّبِيُّ ﷺ: ((يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يُبَالِي فِيهِ الْمَرْءُ أَمِنْ حَلَالٍ أَخَذَ أَمْ مِنْ حَرَامٍ)).
إِذَنْ؛ السَّبَبُ هُوَ الِاسْتِهْتَارُ وَعَدَمُ الْمُبَالَاةِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ النَّبِيُّ الْمُخْتَارُ ﷺ.
فَعَدَمُ الْمُبَالَاةِ، وَعَدَمُ أَخْذِ الْأَمْرِ بِجِدٍّ كَمَا هُوَ شَأْنُ النَّبِيِّ ﷺ وَشَأْنُ الصَّالِحِينَ مِنْ بَعْدِ النَّبِيِّ الْأَمِينِ ﷺ، هَذِهِ اللَّامُبَالَاةُ هِيَ الَّتِي تَجْعَلُ النَّاسَ يَسْتَغْرِبُونَ الْكَلَامَ فِي أَكْلِ الْحَلَالِ وَأَكْلِ الْحَرَامِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا مُلْتَفِتِينَ إِلَى هَذَا الْأَمْرِ كَأَصْلِ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ.
وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ الرَّجُلَ الصَّالِحَ قَالَ: ((إِنَّ الشَّابَّ إِذَا تَعَبَّدَ، قَالَ الشَّيْطَانُ لِأَعْوَانِهِ: انْظُرُوا إِلَى مَطْعَمِهِ، فَإِنْ كَانَ مَطْعَمُهُ مَطْعَمَ سُوءٍ، قَالَ: دَعُوهُ، فَقَدْ كَفَاكُمْ نَفْسَهُ، فَإِنَّهُ لَا تُقْبَلُ لَهُ عِبَادَةٌ مَعَ أَكْلِ الْحَرَامِ)).
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الْحَلَالَ يَأْتِي كَفَافًا، وَالْحَرَامَ يَأْتِي جُزَافًا، وَقَدْ أَوْضَحَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ، فَذَكَرَ قِصَّةَ أَصْحَابِ السَّبْتِ: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ ۙ لَا تَأْتِيهِمْ ۚ كَذَٰلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 163].
فَأَوْضَحَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّ الْيَوْمَ الَّذِي أَبَاحَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِيهِ الصَّيْدَ، لَا يَأْتِيهِمْ فِيهِ شَيْءٌ، وَالْيَوْمَ الَّذِي حَرَّمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهِمْ فِيهِ الصَّيْدَ، تَأْتِيهِمُ الْحِيتَانُ مِنْ كُلِّ صَوْبٍ: {تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ} وَقَدْ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ فِيهِ الصَّيْدَ، تَأْتِيهِمْ فِي هَذَا الْيَوْمِ {شُرَّعًا}، {وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ ۙ لَا تَأْتِيهِمْ}.
الْحَلَالُ يَأْتِي كَفَافًا، وَالْحَرَامُ يَأْتِي جُزَافًا، وَالنَّبِيُّ ﷺ أَوْضَحَ هَذَا بِأَجْلَى بَيَانٍ كَمَا فِي ((صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ)) عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شِعَافَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الْفِتَنِ)).
((يُوشِكُ)): أَيْ اقْتَرَبَ ((أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ)): الْغَنَمُ: اسْمُ جِنْسٍ يَصْدُقُ عَلَى الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ مَعًا، وَيَصْدُقُ عَلَى الذُّكُورِ وَحْدَهَا، وَعَلَى الْإِنَاثِ وَحْدَهَا، ((يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شِعَافَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ)): يَعْنِي يَتْبَعُ بِغَنَمِهِ رُؤُوسِ الْجِبَالِ ((وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ)): يَعْنِي مَوَاقِعَ الْمَطَرِ، بُطُونَ الْأَوْدِيَةِ، ((يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الْفِتَنِ)).
قَالَ الرَّسُولُ ﷺ هَذَا الْكَلَامَ مِنْ قُرُونٍ مُتَطَاوِلَاتٍ، وَهُوَ يَقُولُ ﷺ: ((يُوشِكُ)): يَعْنِي اقْتَرَبَ، فَاقْتَرَبَ ذَلِكَ مُنْذُ عَهْدِ النَّبِيِّ ﷺ.
((النَّبِيُّ ﷺ كَانَتْ أَبْيَاتُهُ تَظَلُّ الْهِلَالَ فِي إِثْرِ الْهِلَالِ، فِي إِثْرِ الْهِلَالِ، فِي إِثْرِ الْهِلَالِ لَا يُوقَدُ فِيهَا نَارٌ)).
كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَعِيشُ هَكَذَا، ثَلَاثَةُ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ -كَمَا تَقُولُ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- لِعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ -ابْنِ أُخْتِهَا -رُضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا-، تَقُولُ: ((كُنَّا نَظَلُّ نَمْكَثُ الْهِلَالَ فِي إِثْرِ الْهِلَالِ، فِي إِثْرِ الْهِلَالِ، فِي إِثْرِ الْهِلَالِ، ثَلَاثَةُ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ لَا يُوقَدُ فِي أَبْيَاتِ النَّبِيِّ ﷺ نَارٌ)).
قَالَ: فَمَا كَانَ يُقِيتُكُمْ يَا خَالَةُ -فَمَا كَانَ قُوتُكُمْ إِذَنْ-؟!!
فَقَالَتْ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((قُوتُنَا الْأَسْوَدَانِ؛ التَّمْرُ وَالْمَاءُ)).
وَلَكِنْ كَانَ لِأَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ مِنَ الْأَنْصَارِ مَنَائِحُ، فَكَانُوا يُهْدُونَ النَّبِيَّ ﷺ بَعْضَ اللَّبَنِ، فَهَذَا أَعْلَى مَا يَصِلُ بَيْتَ رَسُولِ اللهِ ﷺ!!
لَمْ يَكُنْ هَذَا مِنَ النَّبِيِّ ﷺ عَنْ ضِيقِ ذَاتِ يَدٍ، وَإِنَّمَا كَانَ تَعَفُّفًا وَضَرْبًا لِلْمِثَالِ -بِأَبِي هُوَ وَأُمِّي ﷺ-.
النَّبِيُّ ﷺ لَمْ يَرَ بِعَيْنِهِ شَاةً سَمِيطًا قَطُّ، وَلَمْ يَأْكُلِ النَّبِيُّ ﷺ خُبْزًا مُرَقَّقًا أَبَدًا، وَهُوَ الَّذِي يَطْعَمُهُ النَّاسُ الْيَوْمَ، فَإِذَا فَضَلَ عَنْ حَاجَتِهِمْ جَعَلُوهُ طَعَامًا رُبَّمَا لِكِلَابِهِمْ!!
وَأَمَّا الْمُخْتَارُ ﷺ خَيْرُ الْأَنْبِيَاءِ وَخَيْرُ الْخَلْقِ جَمِيعًا ﷺ فَلَمْ يَأْكُلْ خُبْزًا مُرَقَّقًا قَطُّ، وَإِنَّمَا كَانَ الشَّعِيرُ يُجْعَلُ بَيْنَ شِقِّيِ الرَّحَى، ثُمَّ يُؤْخَذُ مِنْ فَوْقِ الثِّفَالِ -وَهُوَ مَا يَكُونُ بَيْنَ الرَّحَى وَالْأَرْضِ؛ حَتَّى لَا يُصِيبَ الْمَطْحُونَ شَيْءٌ مِنْ تُرَابٍ-.
تَقُولُ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((كُنَّا نَأْخُذُ الشَّعِيرَ بَعْدَ طَحْنِهِ -لِأَنَّهُ كَانَ يُطْحَنُ بِقِشْرِهِ-، فَتَقُولُ: فَنَنْفُخُهُ، فَيَطِيرُ مِنْ قِشْرِهِ مَا يَطِيرُ، وَيَبْقَى مِنْ قِشْرِهِ مَا يَبْقَى، ثُمَّ نَأْخُذُ مَا تَبَقَّى فَنُثَرِّيهِ بِالْمَاءِ -نَجْعَلُ عَلَيْهِ الْمَاءَ- ثُمَّ نَعْجِنُهُ، فَنَخْبِزُهُ، فَهَذَا طَعَامُ رَسُولِ اللهِ ﷺ )).
النَّبِيُّ ﷺ عَلَّمَ الْأُمَّةَ الزُّهْدَ وَالْوَرَعَ، وَهَا هُوَ -كَمَا فِي ((الصَّحِيحِ)) يَقُولُ: ((إِنِّي لِأَجِدُ التَّمْرَةَ عَلَى فِرَاشِي، فَأَرْفَعُهَا إِلَى فِي -إِلَى فَمِي، وَرُبَّمَا أَدْخَلَهَا فِي فَمِهِ ﷺ- ثُمَّ أَخْشَى أَنْ تَكُونَ مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ فَأَطْرَحُهَا -فَأَلْقِيهَا-)).
مَعَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا بَعِيدٌ الْوُقُوعِ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَمَا الَّذِي يَأْتِي بِتَمْرَةٍ مِنْ تَمْرٍ الصَّدَقَةِ إِلَى فِرَاشِ الرَّسُولِ ﷺ، لَا إِلَى مُطْلَقِ الْبَيْتِ، وَإِنَّمَا مَا تَزَالُ التَّمْرَةُ تَنْحَدِرُ حَتَّى تَكُونَ عَلَى فِرَاشِ رَسُولِ اللهِ ﷺ!! وَلَكِنْ أَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ بَابَ الِاحْتِمَالَاتِ إِذَا فُتِحَ فَلَا يُسَدُّ إِلَّا بِيَقِينٍ قَاطِعٍ.
الرَّسُولُ ﷺ يَتَحَرَّى الْحَلَالَ هَذَا التَّحَرِّي، وَأَصْحَابُهُ كَذَلِكَ كَانُوا يَفْعَلُونَ، وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَتَابِعُوا التَّابِعِينَ، وَأَتْبَاعُ التَّابِعِينَ، وَتَبَعُ الْأَتْبَاعِ، وَالْفُقَهَاءُ -رُضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ-.
المصدر: أَكْلُ السُّحْتِ وَسُوءُ عَاقِبَتِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ