حصر النَّبِيُّ الْغَايَةَ مِنَ الْبَعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ فِى تَمَامِ صَالِحِ الْأَخْلَاقِ، فَقَالَ: (إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِى (الْأَدَبِ).
فَلَا عَجَبَ إِذَنْ أَنْ يَكُونَ حُسْنُ الْخُلُقِ غَايَةَ الْغَايَاتِ فِى سَعْيِ الْعَبْدِ لِاسْتِكْمَالِ الصِّفَاتِ عَلَى أَسَاسٍ مِنَ التَّوْحِيدِ الْمَكِينِ، وَثَابِتِ الْإِخْلَاصِ وَالْيَقِينِ.
وَقَدْ كَانَ إِمَامُ الْأَنْبِيَاءِ فِى (حُسْنِ الْخُلُقِ) عَلَى الْقِمَّةِ الشَّامِخَةِ، وَفَوْقَ الْغَايَةِ وَالْمُنْتَهَى، فَكَانَ كَمَا قَالَ عَنْهُ رَبُّهُ- عَزَّ وَجَلَّ-: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} «القلم: 4».
وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَا يَنْفَكُّ يَدْعُو رَبَّهُ فِى قِيَامِ اللَّيْلِ بِقَوْلِهِ: (اللهم اهْدِنِى لأَحْسَنِ الأَخْلاقِ، فَإِنَّهُ لا يَهْدِى لأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّى سَيِّئِهَا لَا يَصْرِفُ عَنِّى سَيِّئَهَا إلَّا أَنْتَ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ عَلِيٍّ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
يَطْلُبُ مِنْ رَبِّهِ أَنْ يُرْشِدَهُ لِصَوَابِ الْأَخْلَاقِ، وَيُوَفِّقَهُ لِلتَّخَلُّقِ بِهِ، وَأَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ قَبِيحَ الْأَخْلَاقِ وَمَذْمُومَ الصِّفَاتِ، وَيُبْعِدَ ذَلِكَ عَنْهُ، مَعَ أَنَّهُ عَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ، وَمَعَ أَنَّ خُلَقَهُ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ.
أَخْبَرَ سَعْدُ بْنُ هِشَامٍ بْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ- رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، فَقَالَ: (قُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، أَنْبِئِينِى عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ.
قَالَتْ: أَلَسْتَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟
قُلْتُ: بَلَى.
قَالَتْ: فَإِنَّ خُلُقَ نَبِيِّ اللَّهِ الْقُرْآنُ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَمَعْنَى أَنَّ خُلُقَهُ الْقُرْآنُ أَنَّهُ يَعْمَلُ بِهِ، وَيَقِفُ عِنْدَ
حُدُودِهِ، وَيَتَأَدَّبُ بِآدَابِهِ، وَيَعْتَبِرُ بِأَمْثَالِهِ وَقَصَصِهِ، وَيَتَدَّبَرُهُ، وَيُحْسِنُ تِلَاوَتَهُ.
وَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ، وَهُوَ- مَعَ ذَلِكَ- يَسْأَلُ الْهِدَايَةَ لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ، وَيَسْتَعِيذُ مِنْ سَيِّئِهَا، فَكَيْفَ يَصْنَعُ مَنْ خُلُقُهُ إِلَى خُلُقِ النَّبِيِّ كَقَطْرَةٍ فِى بَحْرٍ أَوْ دُونَ ذَلِكَ؟!
وَلَا رَيْبَ أَنَّ حَاجَةَ الْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ إِلَى حُسْنِ الْخُلُقِ كَحَاجَتِهِ إِلَى الْهَوَاءِ، بَلْ أَشَدُّ؛ لِأَنَّ فَقْدَ الْهَوَاءِ يَعْنِى مَوْتَ الْبَدَنِ، وَفَقْدَ الْخُلُقِ الْحَسَنِ يَعْنِى مَوْتَ الْقَلْبِ، وَفِى مَوْتِ الْقَلْبِ فَقْدُ الدِّينِ، وَهَلَاكُ الْأَبَدِ.
وَلَمَّا كَانَ النَّبِيُّ أَكْمَلَ النَّاسِ خُلُقًا، وَأَحْسَنَهُم أَخْلَاقًا، كَانَ أَوْلَى النَّاسِ بِالْحُبِّ وَالْقُربِ مِنْهُ مَنْ بَلَغَ فِى حُسْنِ الْخُلُقِ مَبْلَغًا مَرْضِيًّا، وَتَسَنَّمَ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ مَكَانًا عَلِيًّا، فَعَنْ جَابِرٍ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ قَالَ: (مِن أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقرَبِكُم مِنِّى مَجلِسًا يَوْمَ الْقِيامَةِ: أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًا). صَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِى (صَحِيحِ سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ).