((ثَمَرَاتُ الِاقْتِصَادِ الْقَوِيِّ عَلَى الْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ))
إِنَّ الِاقْتِصَادَ الْقَوِيَّ يُمَكِّنُ الدُّوَلَ مِنَ الْوَفَاءِ بِالْتِزَامَاتِهَا الْمَحَلِّيَّةِ وَالدَّوْلِيَّةِ وَتَوْفِيرِ حَيَاةٍ كَرِيمَةٍ لِمُوَاطِنِيهَا.
((لَقَدْ مَدَحَ اللهُ -سُبْحَانَهُ- فِي كِتَابِهِ أَعْمَالًا وَأَثْنَى عَلَى أَصْحَابِهَا، وَلَا تَحْصُلُ إِلَّا بِالْغِنَى كَالزَّكَاةِ وَالْإِنْفَاقِ فِي وُجُوهِ الْبِرِّ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ بِالْمَالِ، وَتَجْهِيزِ الْغُزَاةِ، وَإِعَانَةِ الْمَحَاوِيجِ، وَفَكِّ الرِّقَابِ، وَالْإِطْعَامِ فِي زَمَنِ الْمَسْغَبَةِ.
وَنَفْعُ الْغَنِيِّ بِمَالِهِ يَكُونُ فِي نُصْرَةِ دِينِ اللهِ، وَإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ، وَكَسْرِ أَعْدَائِهِ.
وَهَذَا الصِّدِّيقُ وَشِرَاؤُهُ الْمُعَذَّبِينَ فِي اللهِ، وَإِعْتَاقُهُمْ، وَإِنْفَاقُهُ عَلَى نُصْرَةِ الْإِسْلَامِ حِينَ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((مَا نَفَعَنِي مَالُ أَحَدٍ مَا نَفَعَنِي مَالُ أَبِي بَكْرٍ)) .
وَإِنْفَاقُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ تِلْكَ النَّفَقَاتِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي قَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ فِي بَعْضِهَا: ((مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا فَعَلَ بَعْدَ الْيَوْمِ))، ثُمَّ قَالَ: ((غَفَرَ اللهُ لَكَ يَا عُثْمَانُ مَا أَسْرَرْتَ وَمَا أَعْلَنْتَ وَمَا أَخْفَيْتَ وَمَا أَبْدَيْتَ)) .
وَقَدْ ذَكَرَ اللهُ -سُبْحَانَهُ- أَصْنَافَ السُّعَدَاءِ؛ فَبَدَأَ بِالْمُتَصَدِّقِينَ أَوَّلَهُمْ فَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} [الحديد: 18، 19].
فَهَؤُلَاءِ أَصْنَافُ السُّعَدَاءِ، وَمَقَدَّمُوهُمُ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ.
وَفِي الصَّدَقَةِ فَوَائِدُ وَمَنَافِعُ لَا يُحْصِيهَا إِلَّا اللهُ؛ فَمِنْهَا: أَنَّهَا تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ، وَتَدْفَعُ الْبَلَاءَ حَتَّى إِنَّهَا لَتَدْفَعُ عَنِ الظَّالِمِ.
قَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعَيُّ: ((وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ الصَّدَقَةَ تَدْفَعُ عَنِ الرَّجُلِ الظُّلُومَ، وَتُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ، وَتَحْفَظُ الْمَالَ، وَتَجْلِبُ الرِّزْقَ، وَتُفْرِحُ الْقَلْبَ، وَتُوجِبُ الثِّقَةَ بِاللهِ وَحُسْنَ الظَّنِّ بِهِ كَمَا أَنَّ الْبُخْلَ سُوءُ الظَّنِّ بِاللهِ.
وَتُرْغِمُ الشَّيْطَانَ -يَعْنِي الصَّدَقَةَ-، وَتُزَكِّي النَّفْسَ وَتُنَمِّيهَا، وَتُحَبِّبُ الْعَبْدَ إِلَى اللهِ وَإِلَى خَلْقِهِ، وَتَسْتُرُ عَلَيْهِ كُلَّ عَيْبٍ، كَمَا أَنَّ الْبُخْلَ يُغَطِّيَ عَلَيْهِ كُلَّ حَسَنَةٍ، وَتَزِيدُ فِي الْعُمُرِ، وَتَسْتَجْلِبُ أَدْعِيَةَ النَّاسِ وَمَحْبَّتَهُمْ.
((وَتَدْفَعُ عَنْ صَاحِبِهَا عَذَابَ الْقَبْرِ، وَتَكُونُ عَلَيْهِ ظِلًّا يَوْمَ الْقِيَامَةِ)) .
وَتَشْفَعُ لَهُ عِنْدَ اللهِ، وَتُهَوِّنُ عَلَيْهِ شَدَائِدَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَتَدْعُوهُ إِلَى سَائِرِ أَعْمَالِ الْبِرِّ فَلَا تَسْتَعْصِي عَلَيْهِ، وَفَوَائِدُهَا وَمَنَافِعُهَا أَضْعَافُ ذَلِكَ.
وَيَكْفِي فِي فَضْلِ النَّفْعِ الْمُتَعَدِّي بِالْمَالِ أَنَّ الْجَزَاءَ عَلَيْهِ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، ((فَمَنْ كَسَى مُؤْمِنًا كَسَاهُ اللهُ مِنْ حُلَلِ الْجَنَّةِ، وَمَنْ أَشْبَعَ جَائِعًا أَشْبَعَهُ اللهُ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ، وَمَنْ سَقَى ظَمْآنًا سَقَاهُ اللهُ مِنْ شَرَابِ الْجَنَّةِ)) ، ((وَمَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً أَعْتَقَ اللهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنَ النَّارِ حَتَّى فَرْجَهُ بِفَرْجِهِ)) .
((وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ)) .
وَمِنْ فَوَائِدِ الْمَالِ أَنَّهُ قِوَامُ الْعِبَادَاتِ وَالطَّاعَاتِ، وَبِهِ قَامَ سُوقُ بِرِّ الْحَجِّ وَالْجِهَادِ، وَبِهِ حَصَلَ الْإِنْفَاقُ الْوَاجِبُ وَالْمُسْتَحَبُّ، وَبِهِ حَصَلَتْ قُرُبَاتُ الْعِتْقِ، وَالْوَقْفِ، وَبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ، وَالْقَنَاطِرِ، وَغَيْرِهَا.
وَبِالْمَالِ يُتَوَصَّلُ إِلَى النِّكَاحِ الَّذِى هُوَ أَفْضَلُ مِنَ التَّخَلِّي لِنَوَافِلِ الْعِبَادَةِ، وَعَلَيْهِ قَامَ سُوقُ الْمُرُوءَةِ، وَبِالْمَالِ ظَهَرَتْ صِفَةُ الْجُودِ وَالسَّخَاءِ، وَبِالْمَالِ وُقِيَتِ الْأَعْرَاضُ، وَبِالْمَالِ اكْتُسِبَ الْإِخْوَانُ وَالْأَصْدِقَاءُ، وَبِالْمَالِ تَوَصَّلَ الْأَبْرَارُ إِلَى الدَّرَجَاتِ الْعُلَى وَمُرَافَقَةِ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ، فَالْمَالُ مِرْقَاةٌ يُصْعَدُ بِهَا إِلَى أَعْلَى غُرَفِ الْجَنَّةِ، وَيُهْبَطُ مِنْهَا إِلَى أَسْفَلِ سَافِلِينَ، وَهُوَ مُقِيمُ مَجْدِ الْمَاجِدِ، كَمَا أَنَّ بَعْضَ السَّلَفِ يَقُولُ: ((لَا مَجْدَ إِلَّا بِفَعَالٍ، وَلَا فَعَالَ إِلَّا بِمَالٍ)) .
وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي مِنْ عِبَادِكَ الَّذِينَ لَا يُصْلِحُهُمْ إِلَّا الْغِنَى)) .
وَالْمَالُ مِنْ أَسْبَابِ رِضَا اللهِ عَنِ الْعَبْدِ، كَمَا كَانَ مِنْ أَسْبَابِ سَخَطِهِ عَلَيْهِ.
وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللهِ عَنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ ، وَأَخْبَرَ ((أَنَّ تَرْكَ الرَّجُلِ وَرَثَتَهُ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ تَرْكِهِمْ فُقَرَاءَ.. وَأَخْبَرَ: أَنَّ صَاحِبَ الْمَالِ لَنْ يُنْفِقَ نَفَقَةً يَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللهِ إِلَّا ازْدَادَ بِهَا دَرَجَةً وَرِفْعَةً)) .
وَقَدِ اسْتَعَاذَ رَسُولُ اللهِ مِنَ الْفَقْرِ، وَقَرَنَ الْفَقْرَ بِالْكُفْرِ، فَقَالَ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْكُفْرِ وَالْفَقْرِ)) .
فَإِنَّ الْخَيْرَ نَوْعَانِ؛ خَيْرُ الْآخِرَةِ وَالْكُفْرُ يُضَادُّهُ، وَخَيْرُ الدُّنْيَا وَالْفَقْرُ يُضَادُّهُ، فَالْفَقْرُ سَبَبُ عَذَابِ الدُّنْيَا، وَالْكُفْرُ سَبَبُ عَذَابِ الْآخِرَةِ)) .
إِنَّ قُوَّةَ اقْتِصَادِ الدَّوْلَةِ وَأَفْرَادِهَا يُثْمِرُ زِيَادَةً فِي أَمْوَالِ الزَّكَاةِ، وَمِنْ فَوَائِدِ الزَّكَاةِ: أَنَّهَا تَجْعَلُ الْمُجْتَمَعَ الْإِسْلَامِيَّ كَأَنَّهُ أُسْرَةٌ وَاحِدَةٌ، يُضْفِي فِيهِ الْقَادِرُ عَلَى الْعَاجِزِ، وَالْغَنِيُّ عَلَى الْمُعْسِرِ، فَتُصْبِحُ حِينَئِذٍ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ ظَاهِرَةً، وَيُصْبِحُ الْإِنْسَانُ يَشْعُرُ بِأَنَّ لَهُ إِخْوَةً يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُحْسِنَ إِلَيْهِمْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْهِ، {وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ} [القصص: 77]، فَتُصْبِحُ الْأُمَّةُ الْإِسْلَامِيَّةُ وَكَأَنَّهَا أُسْرَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهَذَا مَا يُعْرَفُ عِنْدَ الْمُعَاصِرِينَ بِالتَّكَافُلِ الِاجْتِمَاعِيِّ.
وَالزَّكَاةُ هِيَ خَيْرُ مَا يَكُونُ لِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يُؤَدِّي بِهَا فَرِيضَةً وَيَنْفَعُ إِخْوَانَهُ.
وَمِنْ ثَمَرَاتِ الزَّكَاةِ وَفَوَائِدِهَا: أَنَّ الزَّكَاةَ تُطْفِئُ حَرَارَةَ ثَوْرَةِ الْفُقَرَاءِ؛ لِأَنَّ الْفَقِيرَ قَدْ يَغِيظُهُ أَنْ يَجِدَ هَذَا الرَّجُلَ يَرْكَبُ مَا شَاءَ مِنَ الْمَرَاكِبِ، وَيَسْكُنُ مَا شَاءَ مِنْ الْقُصُورِ، وَيَأْكُلُ مَا يَشْتَهِي مِنَ الطَّعَامِ.
وَأَمَّا هَذَا الْفَقِيرُ؛ فَلَا يَرْكَبُ إِلَّا رِجْلَيْهِ، وَلَا يَنَامُ إِلَّا عَلَى الْأَسْمَالِ وَمَا أَشْبَهَ؛ لَا شَكَّ أَنَّهُ يَجِدُ فِي نَفْسِهِ شَيْئًا، فَإِذَا جَادَ الْأَغْنِيَاءُ عَلَى الْفُقَرَاءِ؛ كَسَرُوا ثَوْرَتَهُمْ، وَهَدَّأُوا غَضْبَتَهُمْ، وَقَالُوا لَنَا إِخْوَةٌ يَعْرِفُونَنَا فِي الشِّدَّةِ، فَيَأْلَفُونَ الْأَغْنِيَاءَ وَيُحِبُّونَهُمْ.
وَمِنْ ثَمَرَاتِ الزَّكَاةِ: أَنَّهَا تَمْنَعُ الْجَرَائِمَ الْمَالِيَّةَ، كَالسَّرِقَاتِ وَالنَّهْبِ وَالسَّطْوِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْفُقَرَاءَ يَأْتِيهِمْ مَا يَسُدُّ شَيْئًا مِنْ حَاجَتِهِمْ، وَيَعْذِرُونَ الْأَغْنِيَاءَ لِكَوْنِهِمْ يُعْطُونَهُمْ مِنْ مَالِهِمْ، يُعْطُونَ رُبُوعَ الْعُشْرِ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْعُرُوضِ، وَالْعُشْرَ أَوْ نِصْفَهُ فِي الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ.
وَفِي الْمَوَاشِي يُعْطُونَهُمْ نِسْبَةً كَبِيرَةً، فَيَرَوْنَ أَنَّهُمْ مُحْسِنُونَ إِلَيْهِمْ فَلَا يَعْتَدُونَ عَلَيْهِمْ.
إِنَّ الِاسْتِغْفَارَ سَبَبٌ لِحُصُولِ الْخَيْرَاتِ، وَنُزُولِ الْبَرَكَاتِ، وَتَفْرِيجِ الْكُرُبَاتِ، وَالْإِخْرَاجِ مِنَ الْمُلِمَّاتِ.
نَسْأَلُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَنْ يَجْعَلَ الدُّنْيَا فِي أَيْدِينَا لَا فِي قُلُوبِنَا، وَأَنْ يَقِيَنَا شُحَّ أنْفُسِنَا، إِنَّهُ هُوَ الْجَوَادُ الْكَرِيمُ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
المصدر:الْبِنَاءُ الِاقْتِصَادِيُّ السَّدِيدُ وَأَثَرُهُ فِي اسْتِقْرَارِ الْمُجْتَمَعِ