((نَهْيُ الْإِسْلَامِ عَنِ الْغُلُوِّ وَالتَّطَرُّفِ الْفِكْرِيِّ))
((لَقَدْ نَهَى اللهُ عَنِ الغُلُوِّ بِقَوْلِهِ: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [المائدة:77].
وَالغُلُوُّ نَوْعَانِ:
نَوْعٌ يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ مُطِيعًا، كَمَنْ زَادَ فِي الصَّلَاةِ رَكْعَةً، أَوْ صَامَ الدَّهْرَ مَعَ أَيَّامِ النَّهْي.
وَغُلُوٌّ يُخَافُ مِنْهُ الانْقِطَاعُ وَالاسْتِحْسَارُ، كَقِيامِ اللهِ كُلِّهِ، وَسَرْدِ الصِّيَامِ الدَّهْرَ أَجْمَعَ بِدُونِ صَوْمِ أَيَّامِ النَّهْيِ)) .
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ: أَيُّ الأَدْيَانِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟
قَالَ: ((الحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ)). وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالبُخَارِيُّ فِي ((الأَدَبِ المُفْرَدِ)).
وَالحَدِيثُ نَصٌّ فِي أَنَّ الإِسْلَامَ حَنِيفِيَّةٌ سَمْحَةٌ، وَالسَّمَاحَةُ تَتَنَافَى مَعَ الغُلُوِّ وَالتَّشَدُّدِ فِيهِ.
قَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ أَبْوَابِ السُّنَّةِ هُمْ وَسَطٌ؛ لِأَنَّهُمْ مُتَمَسِّكُونَ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ ج، وَمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانِ)).
فَلَا تَشْدِيدَ وَلَا غُلُوَّ لَدَيْهِمْ، وَلَا تَرَخُّصَ وَلَا جَفَاءَ عِنْدَهُمْ، وَلَا يَأْتُونَ بِعِلَلٍ تُوهِنُ الانْقِيَادَ.
قَالَ ابْنُ القَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((مِنْ كَيْدِ الشَّيْطَانِ العَجِيبِ أَنَّهُ يَشَامُّ النَّفْسَ حَتَّى يَعْلَمَ أَيَّ القُوَّتَيْنِ تَغْلِبُ عَلَيْهَا: أَقُوَّةُ الإِقْدَامِ، أَمْ قُوَّةُ الانْكِفَافِ وَالإِحْجَامِ وَالمَهَانَةِ، وَقَدْ وَقَعَ أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا أَقَلَّ القَلِيلِ فِي هَذَيْنِ الوَادِيَيْنِ: وَادِي التَّقْصِيرِ، وَوَادِي المُجَاوَزَةِ وَالتَّعَدِّي.
وَالقَلِيلُ مِنْهُمْ جِدًّا الثَّابِتُ عَلَى الصِّرَاطِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَهُوَ الوَسَطُ)).
وَقَالَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: ((وَالفَرْقُ بَيْنَ الاقْتِصَادِ وَالتَّقْصِيرِ: أَنَّ الاقْتِصَادَ هُوَ التَّوَسُّطُ بَيْنَ طَرَفَي الإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ، وَلَهُ طَرَفَانِ هُمَا ضِدَّانِ لَهُ، وَهُمَا تَقْصِيرٌ وَمُجَاوَزَةٌ.
فَالمُقْتَصِدُ قَدْ أَخَذَ بِالوَسَطِ وَعَدَلَ عَنِ الطَّرَفَيْنِ، قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان:67]. وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء:29]. وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} [االأعراف:31].
وَالدِّينُ كُلُّهُ بَيْنَ هَذَيْنِ الطَّرَفَيْنِ، بَلِ الإِسْلَامُ قَصْدٌ بَيْنَ المِلَلِ، وَالسُّنَّةُ قَصْدٌ بَيْنَ البِدَعِ، وَدِينُ اللهِ بَيْنَ الغَالِي فِيهِ وَالجَافِي عَنْهُ، وَكَذَلِكَ الاجْتِهَادُ: هُوَ بَذْلُ الجُهْدِ فِي مُوَافَقَةِ الأَمْرِ، وَالغُلُوُّ: مُجَاوَزَتُهُ وَتَعَدِّيهِ.
وَمَا أَمَرَ اللهُ بِأَمْرٍ إِلَّا وَلِلشَّيْطَانِ فِيهِ نَزْغَتَانِ: فَإِمَّا إِلَى غُلُوٍّ وَمُجَاوَزَةٍ، وَإِمَّا إِلَى تَفْرِيطٍ وَتَقْصِيرٍ - وَأَسْعَدُ النَّاسِ مَنْ كَانَ وَسَطًا عَلَى أَثَرِ النَّبِيِّ ﷺ يَسِيرُ -.
وَالغُلُوُّ وَالمُجَاوَزَةُ، وَالتَّفْرِيطُ وَالتَّقْصِيرُ، آفَتَانِ لَا يَخْلُصُ مِنْهُمَا فِي الاعْتِقَادِ، وَالقَصْدِ، وَالعَمَلِ، إِلَّا مَنْ مَشَى خَلْفَ رَسُولِ اللهِ ص وَتَرَكَ أَقْوَالَ النَّاسِ وَآرَاءَهُمْ، لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ، لَا مَنْ تَرَكَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ لِأَقْوَالِ النَّاسِ وَآرَائِهِمْ وَمَا ابْتَدَعُوهُ فِي دِينِ اللهِ رَبِّ العَالَمِينَ.
وَهَذَانِ المَرَضَانِ الخَطِرَانِ قَدِ اسْتَوْلَيَا عَلَى أَكْثَرِ بَنِي آدَمَ وَلِهَذَا حَذَّرَ السَّلَفُ مِنْهُمَا أَشَدَّ التَّحْذِيرِ، وَخَوَّفُوا مَنْ بُلِيَ بِأَحَدِهِمَا بِالهَلَاكِ، وَقَدْ يَجْتَمِعَانِ فِي الشَّخْصِ الوَاحِدِ كَمَا هُوَ حَالُ أَكْثَرِ الخَلْقِ يَكُونُ مُقَصِّرًا مُفَرِّطًا فِي بَعْضِ دِينِهِ، غَالِيًا مُتَجَاوِزًا فِي بَعْضِهِ، وَالمَهْدِيُّ مَنْ هَدَاهُ اللهُ)).
*مَعْنَى الْغُلُوِّ -وَيَدْخُلُ فِيهِ التَّطَرُّفُ الْفِكْرِيُّ-:
الغُلُوُّ فِي اللُّغَةِ: مُجَاوَزَةُ الحَدِّ وَالقَدْرِ، وَالغَيْنُ وَاللَّامُ وَالحَرْفُ المُعْتَلُّ أَصْلٌ يَدُلُّ عَلَى ارْتِفَاعِ وَمُجَاوَزَةِ قَدْرٍ.
وَاصْطِلَاحًا: ((الغُلُوُّ: مُجَاوَزَةُ الحَدِّ بِأَنْ يُزَادَ فِي الشَّيءِ، فِي حَمْدِهِ أَوْ ذَمِّهِ، عَلَى مَا يَسْتَحِقُّ، وَنَحْوَ ذَلِكَ)).
بِهَذَا عَرَّفَهُ شَيْخُ الإِسْلَامِ فِي ((اقْتِضَاء الصِّرَاط المُسْتَقِيم)) (1/289).
وَعَرَّفَهُ الشَّاطِبِيُّ فِي الاعْتِصَامِ (3/304)، وَابْنُ حَجَرٍ فِي ((الفَتْحِ)) (13/278) بِأَنَّهُ: ((المُبَالَغَةُ فِي الشَّيءِ وَالتَّشْدِيدُ فِيهِ حَتَّى يَتَجَاوَزَ الحَدَّ)).
فَالغُلُوُّ هُوَ تَجَاوُزُ الحَدِّ الشَّرْعِيِّ بِالزِّيَادَةِ، وَ((الحُدُودُ: هِيَ النِّهَايَاتُ لِمَا يَجُوزُ مِنَ المُبَاحِ المَأْمُورِ بِهِ، وَغَيْرِ المَأْمُورِ بِهِ)). كَذَا قَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ فِي ((مَجْمُوع الفَتَاوَى)) (3/362).
قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [المائدة:77].
وَفِي الحَدِيثِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ ﷺ غَدَاةَ الْعَقَبَةِ، وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ: ((هَاتِ، الْقُطْ لِي)).
فَلَقَطْتُ لَهُ حَصَيَاتٍ، هُنَّ حَصَى الْخَذْفِ، فَلَمَّا وَضَعْتُهُنَّ فِي يَدِهِ قَالَ: ((بِأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ فِي الدِّين))(). وَالحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَه، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا وَبَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا)) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((إِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ)).
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((هَلَكَ المُتَنَطِّعُونَ ... هَلَكَ المُتَنَطِّعُونَ ... هَلَكَ المُتَنَطِّعُونَ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَالمُتَنَطِّعُونَ هُمْ: المُتَعَمِّقُونَ، الغَالُونَ، المُجَاوِزُونَ الحُدُودَ فِي أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، وَهُمُ المُشَدِّدُونَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ التَّشْدِيدِ، وَالحَدِيثُ ظَاهِرُهُ خَبَرٌ عَنْ حَالِ المُتَنَطِّعِينَ، إِلَّا أَنَّهُ فِي مَعْنَى النَّهْي عَنِ التَّنَطُّعِ، فَهُوَ خَبَرِيٌّ لَفْظًا إِنْشَائِيٌّ مَعْنًى، وَفِيهِ مَعْنَى النَّهْيِ عَنِ التَّنَطُّعِ، وَعَنِ الغُلُوِّ، وَعَنِ التَّعَمُّقِ، وَعَنِ المُجَاوَزَةِ لِلْحَدِّ فِي الأَقْوَالِ وَالأَعْمَالِ؛ لِأَنَّ دِينَ اللهِ يُسْرٌ، وَاللهُ رَبُّ العَالَمِينَ لَمْ يَتَعَبَّدْنَا بِمَا لَا نَسْتَطِيعُ، وَإِنَّمَا جَعَلَ لَنَا دَائِمًا مِنْ أَمْرِنَا فَرَجًا وَمَخْرَجًا، وَهُوَ الوَدُودُ الرَّحِيمُ.
وَالنَّبِيُّ ﷺ بَيَّنَ لَنَا ذَلِكَ كُلَّهُ فِي جَمِيعِ أُمُورِنَا مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ وَالدُّنْيَا مَعًا.
وَالحَيَاةُ عَلَى هَذَا المِنْهَاجِ؛ مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ، سَمْحَةٌ سَهْلَةٌ، لَيْسَ فِيهَا تَعْقِيدٌ؛ لِأَنَّهَا تَسِيرُ عَلَى وَفْقِ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ ص مِنَ الوَحْي المَعْصُومِ، وَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْزَلَ إِلَيْنَا الدِّينَ، وَأَمَرَنَا وَنَهَانَا سُبْحَانَهُ، وَهُوَ الَّذِي خَلَقَنَا وَهُوَ أَعْلَمُ بِنَا مِنَّا، {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14].
فَاللهُ رَبُّ العَالَمِينَ شَرَعَ لَنَا مَا يُصْلِحُنَا، وَشَرْطُ صَلَاحِنَا أَنْ نَكُونَ سَائِرِينَ خَلْفَ نَبِيِّنَا ﷺ، وَلَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إِلَّا بِمُتَابَعَةِ أَصْحَابِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإحْسَانٍ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ، الَّذِينَ يَتَمَسَّكُونَ بِهَا؛ يَعْتَقِدُونَهَا وَيَجْتَمِعُونَ عَلَيْهَا، وَيَدْعُونَ إِلَيْهَا.
وَأَمَّا أَهْلُ البِدْعَةِ، فَإِنَّ الحَيَاةَ مَعَهُمْ فِي جَحِيمٍ، بَلْ إِنَّهُمْ قَدْ حَوَّلُوا الحَيَاةَ إِلَى جَحِيمٍ، لَمَّا مَاجَتْ بِهِمُ الدُّنْيَا؛ سَالَتِ الدِّمَاءُ وَانْتُهِكَتِ الأَعْرَاضُ، وَخُرِّبَتِ البُيُوتُ، وَنُهِبَتِ الثَّرْوَاتُ، وَوَقَعَ مَا وَقَعَ فِي دِيَارِ الإِسْلَامِ، وَكَانَتْ قَبْلَهُمْ آمِنَةً.
فَلا تُفَرِّطْ وَلا تُفْرِطْ وَكُنْ وَسَطًا وَمِثْلَ مَا أَمَرَ الرَّحْمَنُ فَاسْتَقِمِ
سَدِّدْ وَقَارِبْ وَأَبْشِرْ وَاسْتَعِنْ بِغُدُوٍ وَالرَّوَاحِ وَأَدْلِجْ قَاصِــدًا وَدُمِ
فَمِثْلَ مَا خَانَتِ الْكَسْلانَ هِمَّتُهُ فَطَالَمَا حُرِمَ المُنْبَتُّ بِالسَّأَمِ
المصدر: مَخَاطِرُ التَّطَرُّفِ الْفِكْرِيِّ وَالِانِفْلَاتِ الْأَخْلَاقِيِّ