((الدَّعْوَةُ إِلَى إِفْرَادِ اللهِ بِالْعِبَادَةِ))
عِبَادَ اللهِ! إِذَا أَرَدْنَا الْإِصْلَاحَ حَقًّا؛ فَعَلَيْنَا أَنْ نَدْعُوَ النَّاسَ إِلَى إِفْرَادِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِالْعِبَادَةِ وَحْدَهُ، وَالْبَرَاءَةِ مِنَ الشِّرْكِ وَأَهْلِهِ.
وَهَذَا هُوَ التَّوْحِيدُ؛ هُوَ إِفْرَادُ اللهِ بِالْعِبَادَةِ، لَيْسَ مَا يَقُولُهُ بَعْضُ الْجُهَّالِ أَوِ الضُّلَّالِ؛ مِنَ أَنَّهُ هُوَ الْإِقْرَارُ بِوُجُودِ اللهِ، أَوِ الْإِقْرَارُ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْخَلَّاقُ الرَّزَّاقُ الْمُحْيِي الْمُمِيتُ!!
هَذَا تَوْحِيدٌ؛ وَلَكِنَّهُ لَيْسَ التَّوْحِيدَ الْمَطْلُوبَ؛ لِأَنَّ هَذَا قَدْ أَقَرَّ بِهِ الْمُشْرِكُونَ؛ وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يُدْخِلْهُمْ فِي الْإِسْلَامِ: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25].
وَقَالَ تَعَالَى: {أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [النمل: 64].
وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [المؤمنون: 84-85].
فَهُمْ مُقِرُّونَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْخَالِقُ الرَّزَّاقُ الَّذِي يَمْلِكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَنْ فِيهِنَّ؛ وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ مُشْرِكُونَ.
لَمَّا لَمْ يُفْرِدُوا اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالْعِبَادَةِ وَحْدَهُ، وَأَشْرَكُوا مَعَهُ غَيْرَهُ؛ اسْتُبِيحَتْ أَمْوَالُهُمْ، وَدِمَاؤُهُمْ، وَنِسَاؤُهُمْ، وَذَرَارِّيُّهُمْ، وَدُورُهُمْ، وَأَرْضُهُمْ.
وَلَمْ يُدْخِلْهُمْ ذَلِكَ فِي الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُمْ مَا أَقَرُّوا وَلَا اعْتَرَفُوا بِأَنَّ الْعِبَادَةَ حَقٌّ للهِ وَحْدَهُ، فَلَمْ يُفْرِدُوا اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- بِالْعِبَادَةِ، وَلَمْ يَتْرُكُوا عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ، وَلَمْ يَتَخَلَّوْا عَنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَعِبَادَةِ الْأَشْجَارِ وَالْأَحْجَارِ.
وَلَكِنْ لَوْ أَخْلَصُوا الْعِبَادَةَ للهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ لَصَارُوا حِينَئِذٍ مُسْلِمِينَ.
فَاقْتِصَارُ التَّوْحِيدِ عَلَى تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ لَا يَكْفِي؛ لِأَنَّ هَذَا أَقَرَّ بِهِ أَبُو جَهْلٍ رَأْسُ الْكُفْرِ، وَأَقَرَّ بِهِ أَبُو لَهَبٍ، وَأَقَرَّ بِهِ كُلُّ الْكَفَرَةِ، أَقَرُّوا بِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْخَالِقُ، وَأَنَّهُ الرَّزَّاقُ، الْمُحْيِي الْمُمِيتُ، الَّذِي يُدَبِّرُ الْأَمْرَ؛ وَلَكِنْ عَبَدُوا مَعَ اللهِ غَيْرَهُ؛ مِنْ أَصْنَامِهِمْ وَأَوْثَانِهمْ؛ كَاللَّاتِ، وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ.
فَصَارُوا مُقِرِّينَ مُوَحِّدِينَ بِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَمُشْرِكِينَ فِي تَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ، وَلَا يَنْفَعُ تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ بِدُونِ تَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ تَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ الَّذِي هُوَ: إِفْرَادُ اللهِ تَعَالَى بِالْعِبَادَةِ وَحْدَهُ، وَتَرْكُ عِبَادَةِ مَا وَمَنْ سِوَاهُ، كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].
وَقَالَ تَعَالَى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36].
مَا قَالَ: ((أَقِرُّوا أَنَّ اللهَ هُوَ الْخَلَّاقُ الرَّزَّاقُ الْمُحْيِي الْمُمِيتُ!!))؛ لِأَنَّ هَذَا مُسْتَقِرٌّ فِي الْفِطَرِ، يُقِرُّونَ بِهِ؛ وَلَكِنَّهُ لَا يَكْفِي هَذَا الْإِقْرَارُ وَحْدَهُ.
فَالَّذِينَ يَقُولُونَ: التَّوْحِيدُ هُوَ الْإِقْرَارُ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْخَالِقُ، الرَّزَّاقُ، الْمُحْيِي الْمُمِيتُ، الْمُدَبِّرُ؛ يُقَالُ لَهُمْ: إِنْ وَقَفْتُمْ عِنْدَ حُدُودِ ذَلِكَ؛ فَهَذَا تَوْحِيدُ أَبِي جَهْلٍ، وَهَذَا تَوْحِيدُ أَبِي لَهَبٍ؛ لِأَنَّهُمْ مَا ادَّعَوْا قَطُّ أَنَّ هُبَلَ أَوْ مَنَاةَ أَوِ الْعُزَّى؛ لَمْ يُقِرُّوا أَبَدًا وَلَمْ يُصَرِّحُوا -بَلْ وَلَمْ يَعْتَقِدُوا- أَنَّ شَيْئًا مِنْ أَصْنَامِهِمْ يَخْلُقُ شَيْئًا، أَوْ يَرْزُقُ أَحَدًا، أَوْ يُدَبِّرُ أَمْرًا.
وَإِنَّمَا شِرْكُهُمُ الَّذِي صَارُوا بِهِ مُخَلَّدِينَ فِي النَّارِ، وَاسْتُبِيحَتْ بِهِ دِمَاؤُهُمْ، وَأَمْوَالُهُمْ، وَذُرِّيَّاتُهُمْ، وَدُورُهُمْ، وَأَرْضُهُمْ، وَخُلِّدُوا بِهِ فِي النَّارِ؛ أَنَّهُمْ كَانُوا مَعَ إِقْرَارِهِمْ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْخَالِقُ، الرَّزَّاقُ، الْمُحْيِي الْمُمِيتُ؛ يَعْبَدُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ، وَمَا ادَّعَوْا قَطُّ أَنَّ شَيْئًا مِنْ أَصْنَامِهِمْ يَخْلُقُ، أَوْ يَرْزُقُ، أَوْ يُدَبِّرُ.
شِرْكُهُمْ فِي قَوْلِهِمْ: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىٰ} [الزمر: 3].
شِرْكُهُمْ فِي قَوْلِهِمْ: {هَٰؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ} [يونس: 18].
وَهُوَ بِعَيْنِهِ مَا تَقَعَ فِيهِ طَوَائِفُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ!!
طَوَائِفُ كَبِيرَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ الصَّالِحِينَ مِنْ أَوْلِيَائِهِمْ، وَمِمَّنْ يَعْتَقِدُونَ فِيهِمُ الصَّلَاحَ مِنَ الْمَقْبُورِينَ!! يَقُولُونَ: هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ؛ فَهُمْ قَوْمٌ صَالِحُونَ، وَلَهُمْ عِنْدَ اللهِ وَجْهٌ، فَنَجْعَلُهُمْ شُفَعَاءَ عِنْدَ اللهِ، وَنَتَّخِذُهُمْ وَسَائِطَ تُقَرِّبُنَا إِلَى اللهِ!!
لَقَدْ أَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ، وَعَدَمِ الشِّرْكِ بِهِ: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36].
فَالَّذِينَ يُلَبِّسُونَ عَلَى النَّاسِ الْيَوْمَ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ الْأُمَّةَ لَا تَحْتَاجُ الدَّعْوَةَ إِلَى التَّوْحِيدِ!! هَؤُلَاءِ يَخُونُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالْإِسْلَامَ الْعَظِيمَ!!
وَهُؤَلَاءِ مِنْ جُنْدِ أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنَجِّي الْمُسْلِمِينَ إِلَّا تَوْحِيدُهُمْ لِرَبِّهِمْ -جَلَّ وَعَلَا-، وَإِخْلَاصُهُمْ فِي الْعِبَادَةِ لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ.
الْمُرْسَلُونَ كُلُّهُمْ دَعَوْا إِلَى ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))، وَخَاتَمُهُمْ وَإِمَامُهُمْ وَأَفْضَلُهُمْ مُحَمَّدٌ ﷺ صَدَّقَهُمْ، وَدَعَا إِلَى التَّوْحِيدِ.
وَلَوْ كَانَ يَكْفِي أَنْ يَقُولَ: إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّازِقُ الْخَالِقُ، الْمَالِكُ لِلْمُلْكِ، الْمُدَبِّرُ لِلْأَمْرِ؛ لَمَا قَالَ لَهُمْ: ((قُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)).
لَوْ كَانَ مَعْنَى ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)): الْإِقْرَارُ بِالْخَالِقِ الرَّزَّاقِ؛ لَمَا قَالَ لَهُمْ: ((قُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)).
فَدَلَّ عَلَى أَنَّ هَذَا سِوَى هَذَا، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إِفْرَادِ اللهِ تَعَالَى بِالْعِبَادَةِ وَحْدَهُ.
قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}[البقرة: 21، 22].
قال تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۖ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 123].
فَالْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ: هِيَ إِفْرَادُ اللهِ تَعَالَى بِالْعِبَادَةِ، وَتَرْكُ عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ، وَالْبَرَاءَةُ مِنَ الشِّرْكِ وَأَهْلِهِ.
هَذِهِ مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، لَا يَنْجُو أَحَدٌ إِلَّا بِاتِّبَاعِهَا، وَلَا يَدْخُلُ أَحَدٌ الْجَنَّةَ إِلَّا إِذَا كَانَ مِنْ أَتْبَاعِهَا.
هُوَ أَمْرٌ عَظِيمٌ، هُوَ الْأَمْرُ الَّذِي لِأَجْلِهِ خَلَقَ اللهُ الْخَلْقَ، وَأَرْسَلَ الرُّسُلَ، وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ، وَبِسَبَبِهِ كَانَتِ الْمِحْنَةُ، وَوَقَعَتِ الْمَلْحَمَةُ بَيْنَ جُنْدِ الرَّحْمَنِ وَجُنْدِ الشَّيْطَانِ، هُوَ أَمْرُ الْعَقِيدَةِ، أَمْرُ التَّوْحِيدِ.
فَالْكُفَّارُ -مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْوَثَنِيِّينَ- يُدْعَوْنَ إِلَى التَّوْحِيدِ.
فَالتَّوْحِيدُ هُوَ الْأَسَاسُ.. الْعَقِيدَةُ رَأْسُ الدِّينِ.
المصدر:سُبُلُ بِنَاءِ الْأُمَمِ وَدَوْرُ الْفَرْدِ فِيهَا