جُمْلَةٌ مِنْ سُبُلِ الِارْتِقَاءِ بِالِاقْتِصَادِ


((جُمْلَةٌ مِنْ سُبُلِ الِارْتِقَاءِ بِالِاقْتِصَادِ))

إِنَّ الِاقْتِصَادَ الْقَوِيَّ مِنْ أَهَمِّ دَعَائِمِ الدَّوْلَةِ وَرَكَائِزِهَا الْأَسَاسِيَّةِ الَّتِي لَا تَقُومُ وَلَا تُبْنَى إِلَّا بِهَا.

إِنَّ الْمَالَ مِنْ نِعَمِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِذَا كَانَ مِنْ حَلَالٍ، وَصُرِّفَ فِي طَاعَةِ اللهِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ وَالْوَلَدَ لَا يَنْفَعَانِ إِنْ لَمْ يُعِينَا عَلَى طَاعَةِ اللهِ، كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [سبأ: 37].

وَالْعَبْدُ يَنْبَغِي لَهُ إِذَا أَعْجَبَهُ شَيْءٌ مِنْ مَالِهِ أَوْ وَلَدِهِ؛ أَنْ يُضِيفَ النِّعْمَةَ إِلَى مُولِيهَا وَمُسْدِيهَا، وَأَنْ يَقُولَ: {مَا شَاء اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ} [الكهف: 39]؛ لِيَكُونَ شَاكِرًا لِلهِ مُتَسَبِّبًا لِبَقَاءِ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِ، لِقَوْلِهِ: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} [الكهف: 39].

قَالَ تَعَالَى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 46].

الْمَالُ الْكَثِيرُ الْوَفِيرُ، وَالْبَنُونَ الْكَثِيرُونَ؛ زِينَةُ هَذِهِ الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ.

وَجَعَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الرِّزْقَ بِالْمَالِ الْكَثِيرِ مِنْ ثَمَرَاتِ قُرْبَةٍ مِنْ أَعْظَمِ الْقُرُبَاتِ وَهِيَ التَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ؛ قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا} [نوح: 10-12].

فَقُلْتُ -يَعْنِي نُوحًا -عَلَيْهِ السَّلَامُ-- لِقَوْمِي: اطْلُبُوا مِنْ رَبِّكُمْ أَنْ يَغْفِرَ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ بِتَوْبَتِكُمْ عَمَّا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ كُفْرٍ وَفُسُوقٍ، إِنَّهُ كَانَ -وَلَمْ يَزَلْ- كَثِيرَ الْمَغْفِرَةِ لِذُنُوبِ مَنْ يَرْجِعُ إِلَيْهِ مِنْ عِبَادِهِ بِالْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ.

إِنْ تُؤْمِنُوا وَتُسْلِّمُوا، وَتَسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ، وَتَتُوبُوا إِلَيْهِ؛ يُرْسِلْ عَلَى أَرْضِكُمْ وَبِلَادِكُمْ مَاءَ السَّمَاءِ كَثِيرًا مُتَتَابِعًا فِي مَنَافِعِكُمْ وَسُقْيَاكُمْ، وَيُكَثِّرْ أَمْوَالَكُمْ وَأَوْلَادَكُمْ، وَيَجْعَلْ لَكُمْ بَسَاتِينَ تَنْعَمُونَ بِجَمَالِهَا وَثِمَارِهَا، وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا جَارِيَةً؛ لِإِمْتَاعِ نُفُوسِكُمْ وَأَعْيُنِكُمْ، وَلِسُقْيَا الْأَشْجَارِ وَالزُّرُوعِ.

 ((وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ؛ رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللهُ مَالًا فَهُوَ يُنْفِقُهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ)) ؛ فَجَعَلَ الْغِنَى مَعَ الْإِنْفَاقِ بِمَنْزِلَةِ الْقُرْآنِ مَعَ الْقِيَامِ بِهِ.

وَقَدْ سَمَّى -سُبْحَانَهُ- الْمَالَ خَيْرًا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ}، وَقَوْلِهِ: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات: 8]، وَأَخْبَرَ رَسُولُ اللهِ ((أَنَّ الْخَيْرَ لَا يَأْتِي إِلَّا بِالْخَيْرِ)) ، وَإِنَّمَا يَأْتِي بِالشَّرِّ مَعْصِيَةُ اللهِ فِي الْخَيْرِ؛ لَا نَفْسُهُ.

وَأَعْلَمَ اللهُ -سُبْحَانَهُ- أَنَّهُ جَعَلَ الْمَالَ قِوَامًا لِلْأَنْفُسِ، وَأَمَرَ بِحِفْظِهَا، وَنَهَى أَنْ يُؤْتَى السُّفَهَاءَ مِنَ النِّسَاءِ وَالْأَوْلَادِ وَغَيْرِهِمْ، وَمَدَحَهُ النَّبِيُّ بِقَوْلِهِ: ((نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ مَعَ الْمَرْءِ الصَّالِحِ)) .

وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: ((لَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يُرِيدُ جَمْعَ الْمَالِ مِنْ حِلِّهِ، يَكُفُّ بِهِ وَجْهَهُ عَنِ النَّاسِ، وَيَصِلُ بِهِ رَحِمَهُ، وَيُعْطِي حَقَّهُ)) .

وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ: ((كَانُوا يَرَوْنَ السَّعَةَ عَوْنًا عَلَى الدِّينِ)) .

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ: ((نِعْمَ الْعَوْنُ عَلَى التُّقَى الْغِنَى)) .

وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: ((الْمَالُ فِي زِمَانِنَا هَذَا سِلَاحُ الْمُؤْمِنِ)) .

وَقَالَ يُوسُفُ بْنُ أَسْبَاطٍ: ((مَا كَانَ الْمَالُ فِي زَمَانٍ مُنْذُ خُلِقَتِ الدُّنْيَا أَنْفَعَ مِنْهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ)) ، وَالْخَيْرُ كَالْخَيْلِ؛ لِرَجُلٍ أَجْرٌ، وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ، وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ.

وَقَدْ جَعَلَ اللهُ -سُبْحَانَهُ- الْمَالَ سَبَبًا لِحِفْظِ الْبَدَنِ، وَحِفْظُهُ سَبَبٌ لِحِفْظِ النَّفْسِ الَّتِي هِيَ مَحَلُّ مَعْرِفَةِ اللهِ، وَالْإِيمَانِ بِهِ، وَتَصْدِيقِ رُسُلِهِ، وَمَحَبَّتِهِ، وَالْإِنَابَةِ إِلَيْهِ؛ فَهُوَ سَبَبُ عِمَارَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

وَإِنَّمَا يُذَمُّ مِنْهُ مَا اسْتُخْرِجَ مِنْ غَيْرِ وَجْهِهِ، وَصُرِفَ فِي غَيْرِ حَقِّهِ، وَاسْتَعْبَدَ صَاحِبَهُ، وَمَلَكَ قَلْبَهُ، وَشَغَلَهُ عَنِ اللهِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ، فَيُذَمُّ مِنْهُ مَا يَتَوَسَّلُ بِهِ صَاحِبُهُ إِلَى الْمَقَاصِدِ الْفَاسِدَةِ أَوْ شَغَلَهُ عَنِ الْمَقَاصِدِ الْمَحْمُودَةِ، فَالذَّمُّ لِلْجَاعِلِ لَا لِلْمَجْعُولِ، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ)) ؛ فَذَمَّ عَبْدَهُمَا دُونَهُمَا)) .

 

المصدر: الْبِنَاءُ الِاقْتِصَادِيُّ السَّدِيدُ وَأَثَرُهُ فِي اسْتِقْرَارِ الْمُجْتَمَعِ

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  اهْتِمَامُ الْإِسْلَامِ بِالطِّفْلِ قَبْلَ وِلَادَتِهِ
  نَهْيُ الْإِسْلَامِ عَنِ الْغُلُوِّ وَالتَّطَرُّفِ الْفِكْرِيِّ
  انْتِصَارُ الْجَيْشِ الْمِصْرِيِّ فِي السَّادِسِ مِنْ أُكْتُوبَر
  الْهَدَفُ مِنْ خَلْقِ الْخَلْقِ وَإِقَامَةِ الْمُجْتَمَعَاتِ عِبَادَةُ اللهِ وَتَوْحِيدُهُ
  الْخُلُوصُ مِنَ الشِّرْكِ وَطَهَارَةُ الْقَلْبِ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ
  ثَمَرَاتُ حُسْنِ الْخُلُقِ
  سَعَادَةُ الْعَالَمِ وَصَلَاحُهُ فِي اتِّبَاعِ الْوَحْيِ
  حِكَمُ تَشْرِيعِ الزَّكَاةِ
  مِنْ دُرُوسِ قِصَّةِ الْخَلِيلِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: ثَنَاءُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَيْهِ
  الْمَوْعِظَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : ((رَمَضَانُ مَدْرَسَةُ تَعْلِيمٍ وَتَهْذِيبٍ))
  عَاقِبَةُ الْيَأْسِ وَالْقُنُوطِ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ
  مِنْ أَعْظَمِ مُوجِبَاتِ الْعِتْقِ مِنَ النَّارِ فِي رَمَضَانَ: تَقْوَى اللهِ
  الدرس الثاني عشر : «الحَيَاءُ»
  الْمَعْنَى الْحَقُّ لِاسْتِفْتَاءِ الْقَلْبِ
  الْمُقَارَنَةُ بَيْنَ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ وَالْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان