((مَعَالِمُ الْعَمَلِ الْجَمَاعِيِّ فِي الْعِبَادَاتِ))
إِنَّ الْمُتَدَبِّرَ فِي الْعِبَادَاتِ الَّتِي شَرَعَهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يُدْرِكُ رُوحَ الْعَمَلِ الْجَمَاعِيِّ وَأَهَمِّيَّتَهُ وَثَمَرَاتِهِ فِي تِلْكَ الْعِبَادَاتِ، وَأَوَّلُهَا الْأَمْرُ بِتَوْحِيدِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَعِبَادَتِهِ؛ فَهُوَ أَمْرٌ عَامٌّ لِكُلِّ النَّاسِ، بِأَمْرٍ عَامٍّ، وَهُوَ الْعِبَادَةُ الْجَامِعَةُ، لِامْتِثَالِ أَوَامِرِ اللَّهِ، وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ، وَتَصْدِيقِ خَبَرِهِ، فَأَمَرَهُمْ -تَعَالَى- بِمَا خَلَقَهُمْ لَهُ، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم وَالَّذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ} [البقرة: 21].
وَتَتَبَدَّى -أَيْضًا- أَهَمِّيَّةُ وَثَمَرَاتُ الِاجْتِمَاعِ فِي شَعِيرَةٍ مِنْ أَعْظَمِ شَعَائِرِ الدِّينِ وَهِيَ الصَّلَاةُ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا} [النساء: 103]؛ أَيْ: مَفْرُوضًا فِي الْأَوْقَاتِ الَّتِي بَيَّنَهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ بِقَوْلِهِ وَبِفِعْلِهِ.
قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ} [البينة: 5].
وَقَالَ تَعَالَى: {قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ} [إبراهيم: 31].
وَقَدْ وَرَدَتْ أَدِلَّةٌ كَثِيرَةٌ فِي بَيَانِ فَضْلِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ؛ فَمِنْهَا:
عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ، قَالَ: «صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي الْجَمَاعَةِ تَضْعُفُ عَلَى صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ وَفِي سُوقِهِ خَمْسًا وَعِشْرِينَ ضِعْفًا)) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
*وَشُرِعَتْ صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْمَصَالِحِ الْعَظِيمَةِ؛ فَمِنْ ذَلِكَ: التَّوَاصُلُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بِالْإِحْسَانِ, وَالْعَطْفِ وَالرِّعَايَةِ, وَالتَّوَادُدِ وَالتَّحَابُبِ بَيْنَهُمْ فِي الْقُلُوبِ وَالْأَرْوَاحِ.
*وَلِأَجْلِ أَنْ يَعْرِفَ بَعْضُهُمْ أَحْوَالَ بَعْضٍ؛ فَيَقُومُوا بِعِيَادَةِ الْمَرْضَى, وَتَشْيِيعِ الْجَنَائِزِ, وَإِغَاثَةِ الْمَلْهُوفِينَ.
*وَلِأَجْلِ إِظْهَارِ قُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَتَعَارُفِهِمْ وَتَلَاحُمِهِمْ, فَيَغِيظُونَ بِذَلِكَ أَعْدَاءَهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ.
*وَلِأَجْلِ إِزَالَةِ مَا نَسَجَهُ بَيْنَهُمْ شَيَاطِينُ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ مِنَ الْعَدَاوَةِ وَالتَّقَاطُعِ وَالْأَحْقَادِ؛ فَيَحْصُلُ الِائْتِلَافُ, وَاجْتِمَاعُ الْقُلُوبِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((لَا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ)) رَوَاهُ مُسْلِمٌ, مِنْ حَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- .
وَمِنْ فَوَائِدِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ أَيْضًا: تَعْلِيمُ الْجَاهِلِ, وَمُضَاعَفَةُ الْأَجْرِ, وَالنَّشَاطُ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ عِنْدَمَا يُشَاهِدُ الْمُسْلِمُ إِخْوَانَهُ الْمُسْلِمِينَ يُزَاوِلُونَ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ فَيَقْتَدِي بِهِمْ.
وَفِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ, عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-, عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: «صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ عَلَى صَلَاةِ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً» , وَفِي رِوَايَةٍ: ((بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ)) .
وَكَذَلِكَ عِبَادَةُ الزَّكَاةِ تَتَجَسَّدُ فِيهَا رُوحُ الْعَمَلِ الْجَمَاعِيِّ، وَلَهَا عَظِيمُ الْأَثَرِ عَلَى مَجْمُوعِ الْأُمَّةِ؛ غَنِيِّهَا وَفَقِيرِهَا، قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 110].
((وَلِلزَّكَاةِ فَوَائِدُ عَظِيمَةٌ عَلَى الْأَفْرَادِ وَالْمُجْتَمَعَاتِ؛ مِنْهَا: أَنَّهَا تَجْعَلُ الْمُجْتَمَعَ الْإِسْلَامِيَّ كَأَنَّهُ أُسْرَةٌ وَاحِدَةٌ، يُضْفِي فِيهِ الْقَادِرُ عَلَى الْعَاجِزِ، وَالْغَنِيُّ عَلَى الْمُعْسِرِ، فَتُصْبِحُ حِينَئِذٍ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ ظَاهِرَةً، وَيُصْبِحُ الْإِنْسَانُ يَشْعُرُ بِأَنَّ لَهُ إِخْوَةً يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُحْسِنَ إِلَيْهِمْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْهِ، {وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ} [القصص: 77].
فَتُصْبِحُ الْأُمَّةُ الْإِسْلَامِيَّةُ وَكَأَنَّهَا أُسْرَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهَذَا مَا يُعْرَفُ عِنْدَ الْمُعَاصِرِينَ بِالتَّكَافُلِ الِاجْتِمَاعِيِّ.
وَمِنْ ثَمَرَاتِ الزَّكَاةِ وَفَوَائِدِهَا: أَنَّ الزَّكَاةَ تُطْفِئُ حَرَارَةَ ثَوْرَةِ الْفُقَرَاءِ؛ لِأَنَّ الْفَقِيرَ قَدْ يَغِيظُهُ أَنْ يَجِدَ هَذَا الرَّجُلَ يَرْكَبُ مَا شَاءَ مِنَ الْمَرَاكِبِ، وَيَسْكُنُ مَا شَاءَ مِنْ الْقُصُورِ، وَيَأْكُلُ مَا يَشْتَهِي مِنَ الطَّعَامِ.
وَأَمَّا هَذَا الْفَقِيرُ؛ فَلَا يَرْكَبُ إِلَّا رِجْلَيْهِ، وَلَا يَنَامُ إِلَّا عَلَى الْأَسْمَالِ وَمَا أَشْبَهَ؛ لَا شَكَّ أَنَّهُ يَجِدُ فِي نَفْسِهِ شَيْئًا، فَإِذَا جَادَ الْأَغْنِيَاءُ عَلَى الْفُقَرَاءِ؛ كَسَرُوا ثَوْرَتَهُمْ، وَهَدَّأُوا غَضْبَتَهُمْ، وَقَالُوا: لَنَا إِخْوَةٌ يَعْرِفُونَنَا فِي الشِّدَّةِ، فَيَأْلَفُونَ الْأَغْنِيَاءَ وَيُحِبُّونَهُمْ.
وَمِنْ ثَمَرَاتِ الزَّكَاةِ: أَنَّهَا تَمْنَعُ الْجَرَائِمَ الْمَالِيَّةَ، كَالسَّرِقَاتِ وَالنَّهْبِ وَالسَّطْوِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْفُقَرَاءَ يَأْتِيهِمْ مَا يَسُدُّ شَيْئًا مِنْ حَاجَتِهِمْ، وَيَعْذِرُونَ الْأَغْنِيَاءَ لِكَوْنِهِمْ يُعْطُونَهُمْ مِنْ مَالِهِمْ، يُعْطُونَ رُبُوعَ الْعُشْرِ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْعُرُوضِ، وَالْعُشْرَ أَوْ نِصْفَهُ فِي الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ.
وَفِي الْمَوَاشِي يُعْطُونَهُمْ نِسْبَةً كَبِيرَةً، فَيَرَوْنَ أَنَّهُمْ مُحْسِنُونَ إِلَيْهِمْ فَلَا يَعْتَدُونَ عَلَيْهِمْ)) .
وَعِبَادَةُ الْحَجِّ مِنْ أَعْظَمِ الْعِبَادَاتِ الَّتِي تَتَجَسَّدُ فِي مَنَاسِكِهِ رُوحُ الْعَمَلِ الْجَمَاعِيِّ، قَالَ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97].
وَقَالَ ﷺ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) : ((أَيُّهَا النَّاسُ، قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ فَحُجُّوا)).
وَالِاجْتِمَاعُ فِي الْحَجِّ لَهُ أَهْدَافٌ عَظِيمَةٌ؛ مِنْهَا: أَنَّ فِي الْحَجِّ إِعْلَانًا عَمَلِيًّا لِمَبْدَأِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ النَّاسِ، وَذَلِكَ حِينَمَا يَقِفُ النَّاسُ جَمِيعًا مَوْقِفًا وَاحِدًا فِي صَعِيدِ عَرَفَاتٍ، لَا تَفَاضُلَ بَيْنَهُمْ فِي أَيِّ عَرَضٍ مِنْ أَعْرَاضِ الدُّنْيَا.
وَمِنْ أَهْدَافِ الْحَجِّ: أَنَّهُ تَوْثِيقٌ لِمَبْدَأِ التَّعَارُفِ وَالتَّعَاوُنِ؛ حَيْثُ يَقْوَى التَّعَارُفُ، وَيَتِمُّ التَّشَاوُرُ، وَيَحْصُلُ تَبَادُلُ الْآرَاءِ، وَذَلِكَ بِالنُّهُوضِ بِالْأُمَّةِ وَرَفْعِ مَكَانَتِهَا الْقِيَادِيَّةِ بَيْنَ الْأُمَمِ.
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ -رَحِمَهُ اللهُ- : ((وَأَمَّا الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ، وَالْمَبِيتُ بِمُزْدَلِفَةَ ثُمَّ فِي مِنًى، فَلْيَتَذَكَّرْ بِمَا يَرَى مِنَ ازْدِحَامِ الْخَلْقِ، وَارْتِفَاعِ أَصْوَاتِهِمْ، وَاخْتِلَافِ لُغَاتِهِمْ، فَلْيَتَذَكَّرْ بِذَلِكَ مَوْقِفَ الْقِيَامَةِ، وَاجْتِمَاعَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ فِي ذَلِكَ الْمَوْطِنِ وَمَا فِيهِ مِنْ أَهْوَالٍ وَشَدَائِدَ: {يَقُولُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13)} [القيامة: 10-13])).
وَتَظْهَرُ -أَيْضًا- رُوحُ الْعَمَلِ الْجَمَاعِيِّ فِي الْجِهَادِ، وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ هُوَ أَعْظَمُ الْأَعْمَالِ وَأَزْكَاهَا, وَهُوَ أَيْسَرُ الطُّرُقِ إِلَى رِضْوَانِ اللهِ -تَعَالَى- وَالْجَنَّةِ . قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 111].
إِنَّ اللهَ اشْتَرَى شِرَاءً جَازِمًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمُ الَّتِي خَلَقَهَا، وَأَمْوَالَهُمُ الَّتِي رَزَقَهُمْ إِيَّاهَا، بِأَنْ يَبْذُلُوا طَائِعِينَ مُخْتَارِينَ الْمَالَ؛ لِإِعْدَادِ وَسَائِلِ الْجِهَادِ، وَنَشْرِ الْإِسْلَامِ فِي الْأَرْضِ، وَيَبْذُلُوا النُّفُوسَ لِلْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَقَمْعِ الْكَفَرَةِ الْمُحَارِبِينَ لِلْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ، مُقَابِلَ ثَمَنٍ يَدْفَعُهُ لَهُمْ جَزْمًا هُوَ الْجَنَّةُ.
يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ؛ لِإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ، وَإِظْهَارِ دِينِهِ، فَيَقْتُلُونَ أَعْدَاءَ اللهِ، وَيُسْتَشْهَدُونَ فِي سَبِيلِهِ، ذَلِكَ الْوَعْدُ الَّذِي وَعَدَهُ اللهُ تَعَالَى لِلْمُجَاهِدِينِ فِي سَبِيلِهِ قَدْ أَثْبَتَهُ اللهُ فِي التَّوْرَاةِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَفِي الْإِنْجِيلِ الْمُنَزَّلِ عَلَى عِيسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، كَمَا أَثْبَتَهُ فِي الْقُرْآنِ الْمُنَزَّلِ عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ.
وَلَا أَحَدَ أَوْفَى بِالْعَهْدِ مِنَ اللهِ لِمَنْ وَفَّى بِمَا عَاهَدَ اللهَ عَلَيْهِ، فَافْرَحُوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ الْمُبَايِعُونَ، وَاسْتَمْتِعُوا بِالسُّرُورِ الَّذِي يَنْزِلُ بِكُمْ؛ بِسَبَبِ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ فِي الْجَنَّةِ الَّذِي تَنَالُونَهُ عِوَضًا عَمَّا تَبْذُلُونَهُ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ رَبَّكُمْ.
وَذَلِكَ الْعِوَضُ الرَّفِيعُ الْمَنْزِلَةِ هُوَ وَحْدَهُ الرِّبْحُ الْكَبِيرُ، وَالظَّفَرُ الْعَظِيمُ الَّذِي لَا يُسَاوِيهِ وَلَا يَفُوقُهُ فَوْزٌ آخَرُ.
وَتَتَجَسَّدُ رُوحُ الْعَمَلِ الْجَمَاعِيِّ فِي حَمْلِ الْجِنَازَةِ، واتِّبَاعِهَا، وَالصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ، وَدَفْنِهِ، وَعِيَادَةِ الْمَرِيضِ، وَإِجَابَةِ الدَّاعِي، وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ، وَإِفْشَاءِ السَّلَامِ؛ فَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ بِسَبْعٍ, وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ؛ أَمَرَنَا بِاتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ، وَعِيَادَةِ الْمَرِيضِ، وَإِجَابَةِ الدَّاعِي -إِلَى وَلِيمَةٍ وَنَحْوِهَا-، وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ، وَإِبْرَارِ الْقَسَمِ، وَرَدِّ السَّلَامِ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ)). وَالْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَكَذَلِكَ تَظْهَرُ بِوُضُوحٍ رُوحُ الْعَمَلِ الْجَمَاعِيِّ فِي الْمُعَامَلَاتِ بَيْنَ النَّاسِ؛ ((فَقَدْ نَظَّمَ الْإِسْلَامُ الْعَلَاقَاتِ بَيْنَ النَّاسِ فِي أَسْوَاقِهِمْ، وَمَزَارِعِهِمْ، وَأَسْفَارِهِمْ، وَبُيُوتِهِمْ، وَشَوَارِعِهِمْ، وَلَمْ يَدَعْ شَيْئًا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي شُئُونِهِمُ الْحَيَاتِيَّةِ إِلَّا أَحْصَاهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا، وَبَيَّنَهُ بِأَعْدَلِ نِظَامٍ، وَأَحْسَنِ تَرْتِيبٍ، وَأَتَمِّ تَفْصِيلٍ.
وَالنَّاسُ يَحْتَاجُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ -كَمَا قَالُوا- مَدَنِيٌّ بِطَبْعِهِ؛ يَحْتَاجُ إِلَى صَاحِبِهِ، وَصَاحِبُهُ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ، وَلَا يَعِيشُ وَحْدَهُ)) .
وَتَظْهَرُ رُوحُ الْعَمَلِ الْجَمَاعِيِّ فِي الْأَعْمَالِ التَّطَوُّعِيَّةِ، وَمُسَاعَدَةِ الضُّعَفَاءِ وَالْمُحْتَاجِينَ؛ فَقَدْ جَعَلَ اللهُ فِي الْمَالِ حُقُوقًا نَحْوَ: مُوَاسَاةِ الْقَرَابَةِ، وَصِلَةِ إِخْوَانِكَ، وَإِعْطَاءِ سَائِلٍ، وَإِعَارَةِ مُحْتَاجٍ، وَإِنْذَارِ مُعْسِرٍ، وَإِقْرَاضِ مُقْتَرِضٍ.
قَالَ تَعَالَى: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات: 19].
وَيَجِبُ إِطْعَامُ الْجَائِعِ، وَقِرَى الضَّيْفِ، وَكُسْوَةُ الْعَارِي، وَسَقْيُ الظَّمْآنِ، بَلْ ذَهَبَ الْإِمَامُ مَالِكٌ -رَحِمَهُ اللهُ- إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِدَاءُ أَسْرَاهُمْ، وَإِنِ اسْتَغْرَقَ ذَلِكَ أَمْوَالَهُمْ كُلَّهَا.
هَذِهِ كُلُّهَا مِنْ مَحَاسِنِ دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ؛ لِأَنَّهُ دِينُ الْمُوَاسَاةِ وَالرَّحْمَةِ، دِينُ التَّعَاوُنِ وَالتَّآخِي فِي اللهِ، فَمَا أَجْمَلَهُ! وَمَا أَجَلَّهُ! وَمَا أَحْكَمَ تَشْرِيعَهُ!
المصدر:رُوحُ الْعَمَلِ الْجَمَاعِيِّ وَضَوَابِطُهُ