((ثَمَرَاتُ الْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ وَالْعُهُودِ))
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! إِنَّ لِلْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ قِيمَةً إِنْسَانِيَّةً وَأَخْلَاقِيَّةً عُظْمَى؛ لِأَنَّهُ يُرْسِي دَعَائِمَ الثِّقَةِ فِي الْأَفْرَادِ وَيُؤَكِّدُ أَوَاصِرَ التَّعَاوُنِ فِي الْمُجْتَمَعِ.
قَالَ الرَّاغِبُ فِي ذَلِكَ: ((الْوَفَاءُ أَخُو الصِّدْقِ وَالْعَدْلِ، وَالْغَدْرُ أَخُو الْكَذِبِ وَالْجَوْرِ؛ ذَلِكَ أَنَّ الْوَفَاءَ صِدْقُ اللِّسَانِ وَالْفِعْلِ مَعًا، وَالْغَدْرَ كَذِبٌ بِهِمَا؛ لِأَنَّ فِيهِ مَعَ الْكَذِبِ نَقْضٌ لِلْعَهْدِ.
وَالْوَفَاءُ يَخْتَصُّ بِالْإِنْسَانِ، فَمَنْ فُقِدَ فِيهِ الْوَفَاءُ فَقَدِ انْسَلَخَ مِنَ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَقَدْ جَعَلَ اللهُ -تَعَالَى- الْعَهْدَ مِنَ الْإِيمَانِ، وَصَيَّرَهُ قِوَامًا لِأُمُورِ النَّاسِ، فَالنَّاسُ مُضْطَرُّونَ إِلَى التَّعَاوُنِ، وَلَا يَتِمُّ تَعَاوُنُهُمْ إِلَّا بِمُرَاعَاةِ الْعَهْدِ وَالْوَفَاءِ بِهِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَتَنَافَرَتِ الْقُلُوبُ وَارْتَفَعَ التَّعَايُشُ، وَلِذَلِكَ عَظَّمَ اللهُ -تَعَالَى- أَمْرَهُ فَقَالَ: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة: 40]، وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4]؛ أَيْ: نَزِّهْ نَفْسَكَ عَنِ الْغَدْرِ.
وَقَدْ عُظِّمَ حَالُ السَّمَوْأَلِ فِيمَا الْتَزَمَ بِهِ مِنَ الْوَفَاءِ بِدُرُوعِ امْرِئِ الْقَيْسِ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَفَاءَ قِيمَةٌ عَظِيمَةٌ قَدَّرَهَا عَرَبُ الْجَاهِلِيَّةِ، وَقَدْ أَقَرَّهُمُ الْإِسْلَامُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ إِلَّا الْقَلِيلُونَ، وَلِقِلَّةِ وُجُودِ ذَلِكَ فِي النَّاسِ قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ} [الأعراف: 103].
وَقَدْ ضُرِبَ بِهِ الْمَثَلُ فِي الْعِزَّةِ؛ فَقَالَتِ الْعَرَبُ: «هُوَ أَعَزُّ مِنَ الْوَفَاءِ»؛ أَيْ: أَنْدَرُ مِنْهُ، بِحَيْثُ إِنَّكَ رُبَّمَا لَمْ تَرَهُ حَيَاتَكَ كُلَّهَا.
*وَمِنْ أَعْظَمِ ثَمَرَاتِ رِعَايَةِ الْأَمَانَاتِ وَالْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ: الْفَلَاحُ وَالْفَوْزُ بِأَعْلَى الْجَنَّةِ؛ قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ}.. ثُمَّ ذَكَرَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- أَوْصَافَهُمْ؛ وَمِنْهَا: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 8 - 11].
وَالَّذِينَ هُمْ قَائِمُونَ بِحِفْظِ كُلِّ مَا اؤْتُمِنُوا عَلَيْهِ، مُوفُونَ بِمَا عَاهَدُوا اللهَ -تَعَالَى- وَالنَّاسَ عَلَيْهِ؛ كَالتَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ، وَالْأَمْوَالِ الْمُودَعَةِ، وَالْأَيْمَانِ، وَالنُّذُورِ، وَالْعُقُودِ وَنَحْوِهَا.
الَّذِينَ يَرِثُونَ أَعْلَى الْجَنَّاتِ وَأَفْضَلَهَا، هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ لَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا وَلَا يَمُوتُونَ، وَلَا يَنْقَطِعُ نَعِيمُهُمْ وَلَا يَزُولُ.
*وَرَتَّبَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- عَلَى الْوَفَاءِ بِعَهْدِ اللهِ الْأَجْرَ الْعَظِيمَ، وَالنَّعِيمَ الْمُقِيمَ؛ قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 10].
وَمَنْ أَتَمَّ الْعَمَلَ بِكُلِّ مَا عَاهَدَ عَلَيْهِ اللهَ فِي مُبَايَعَتِهِ الَّتِي بَايَعَ عَلَيْهَا؛ فَسَيُعْطِيهِ اللهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَجْرًا عَظِيمًا فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْجَنَّةُ.
*مِنْ أَعْظَمِ ثَمَرَاتِ الْوَفَاءِ بِالْعَقْدِ وَالْعَهْدِ أَيْضًا: أَنَّ اللهَ وَصَفَ الْمُوفِينَ بِعُهُودِهِمْ بِالصِّدْقِ وَالتَّقْوَى؛ قَالَ تَعَالَى: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177].
وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا اللهَ أَوِ النَّاسَ، وَأَخُصُّ بِالْمَدْحِ الصَّابِرِينَ فِي الْفَقْرِ وَالْجُوعِ، وَالْمَصَائِبِ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ، وَحِينَ شِدَّةِ الْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ ارْتَقَوْا بِصَبْرِهِمْ إِلَى مَرْتَبَةِ الْبِرِّ.
أُولَئِكَ الْمُتَّصِفُونَ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ هُمُ الَّذِينَ صَدَقُوا فِي إِيمَانِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ، وَأولَئِكَ هُمُ الَّذِينَ اتَّقَوْا عِقَابَ اللهِ فَتَجَنَّبُوا مَعَاصِيَهُ.
*وَمِنْ ثَمَرَاتِ الْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ: التَّقْوَى وَمَحَبَّةُ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ قال -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 7].
عَلَى أَيِّ حَالٍ يَكُونُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ النَّاقِضِينَ لِلْعُهُودِ مِرَارًا عَهْدٌ مُحْتَرَمٌ عِنْدَ اللهِ وَرَسُولِهِ.. عَلَى أَيِّ حَالٍ يَكُونُ ذَلِكَ كَذَلِكَ؟!!
فَلَا تَأْخُذُوا بِعُهُودِهِمْ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنْهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْهُمْ نُكْثٌ، فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ عَلَى الْعَهْدِ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ عَلَى الْوَفَاءِ.
إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُوفُونَ بِالْعَهْدِ إِذَا عَاهَدُوا، وَيَتَّقُونَ نَقْضَهُ، وَيُثِيبُهُمْ عَلَى تَقْوَاهُمْ، وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتِهِ؛ لِأَنَّ مَنْ أَحَبَّهُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- ضَاعَفَ لَهُ الثَّوَابَ عَلَى أَعْمَالِهِ وَزَادَهُ مِنْهُ قُرْبًا، وَغَمَرَهُ بِفُيُوضِ عَطَاءَاتِهِ وَإِحْسَانِهِ.
*وَمِنْ ثَمَرَاتِ الْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ وَالْعُهُودِ: أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَثْنَى عَلَى الْمُوفِينَ بِعَهْدِ اللهِ؛ فَوَصَفَهُمْ أَنَّهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الْعُقُولِ الْكَامِلَةِ؛ قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ} [الرعد: 19-20].
أَصْحَابُ الْعُقُولِ الْكَامِلَةِ لَهُمْ صِفَاتٌ؛ مِنْهَا: الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ الَّذِي عَاهَدَهُمْ عَلَيْهِ؛ فَيُتِمُّونَ فِعْلَ مَا أَوْصَاهُمْ بِهِ مِنْ أَوَامِرَ وَمَا نَهَاهُمْ عَنْهُ مِنْ نَوَاهٍ، وَأَنَّهُمْ لَا يَنْقُضُونَ أَيَّ عَهْدٍ مُؤَكَّدٍ يُعْطُونَهُ لِأَحَدٍ؛ سَوَاءٌ أَكَانَ مَعَ اللهِ أَمْ مَعَ عِبَادِ اللهِ.
*وَمِنْ أَكْبَرِ ثَمَرَاتِ الْوَفَاءِ بِعَهْدِ اللهِ وَأَجْمَعِهَا: الْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ فِي الدُّنْيَا، وَحُسْنُ الثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ؛ قَالَ اللهُ سُبْحَانَهُ: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة: 40].
وَامْتَثِلُوا أَمْرِي وَأَدُّوهُ وَافِيًا، فَإِنْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ أُوفِ بِمَا عَاهَدْتُكُمْ عَلَيْهِ؛ مِنْ طِيبٍ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَحُسْنِ الثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ.
المصدر:الْوَفَاءُ بِالْعُقُودِ وَالْعُهُودِ