((الدُّنْيَا دَارُ بَلَاءٍ وَابْتِلَاءٍ!))
وَمِنَ الْجَهْلِ أَنْ يَخْفَى عَلَى الْإنْسَانِ مُرَادُ التَّكْلِيفِ، فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ عَلَى عَكْسِ الأَغْرَاضِ، فَيَنْبَغِي لِلْعاَقِلِ أَنْ يَأْنَسَ بِانْعِكَاسِ الْأَغْرَاضِ، فَإِنْ دَعَا وَسَأَلَ بُلُوغَ غَرَضِهِ تَعَبَّدَ اللهَ بِالدُّعَاءِ، فَإِنْ أُعْطِيَ مُرَادَهُ شَكَرَ وَإن لَّمْ يَنَلْ مُرَادَهُ فَيَنْبَغِي أَن يُّلِحَّ فِي الطَّلَبِ، مَعَ عِلْمِهِ أَنَّ الدُّنْيَا لَيْسَتْ لِبُلُوغِ الْأغْرَاضِ، وَلْيَقُلْ لِنَفْسِهِ: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}: [البقرة: 216].
وَمِنْ أَعْظَمِ الْجَهْلِ أَن يَمْتَعِضَ فِي بَاطِنِهِ لِانْعِكَاسِ أغْرَاضِهِ، وَرُبَّمَا اعْتَرَضَ فِي الْبَاطِنِ أَوْ رُبَّمَا قَالَ حُصُولُ غَرَضِي لَا يَضُرُّ وَدُعَائِي لَمْ يُسْتَجَبْ، وَهَذَا كُلُّهُ دَلِيلٌ عَلَى جَهْلِهِ وَقِلَّةِ إِيمَانِهِ وَتَسْلِيمِهِ لِلْحِكْمَةِ، وَمَنِ الَّذِي حَصَلَ لَهُ غَرَضٌ ثُمَّ لَمْ يُكَدَّرْ؟!!
هَذَا آدَمُ طَابَ عَيْشُهُ فِي الْجَّنَّةِ وَأُخْرِجَ مِنْهَا، وَنُوحٌ سَأَلَ فِي ابْنِهِ فَلَمْ يُعْطَ مُرَادَهُ، وَالْخَلِيلُ ابْتُلِيَ بِالنَّارِ، وَإِسْمَاعِيلُ بِالذَّبْحِ، وَيَعْقُوبُ بِفَقْدِ الْوَلَدِ، وَيُوسُفُ بِمُجَاهَدَةِ الْهَوَى، وَأَيُّوبُ بِالْبَلَاءِ، وَدَاوُودُ وَسُلَيْمَانُ بِالْفِتْنَةِ، وَجَمِيعُ الْأنْبِيَّاءِ عَلَى هَذَا.
وَأَمَّا مَا لَقِيَ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ ﷺ مِنَ الْجُوعِ وَالْأَذَى وَكَدَرِ الْعَيْشِ فَمَعْلُومٌ مَعْلُومٌ، فَالدُّنْيَا وُضِعَتْ لِلْبَلَاءِ، فَيَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَن يُوَطِّنَ نَفْسَهُ عَلَى الصّبْرِ، وَأَن يَعْلَمَ أنَّ مَا حَصَلَ مِنَ الْمُرَادِ فَلُطْفٌ، وَمَا لَمْ يَحْصُلْ فَعَلَى أَصْلِ الْخَلْقِ وَالْجِبِلَّةِ لِلدُّنْيَا، كَمَا قِيلَ:
طُبِعَتْ عَلَى كَدَرٍ وَأَنْتَ تُرِيدُهَا * صَفْوًا مِنَ الْأَقْذَاءِ وَالْأكْدَارِ
وَمُكَلِّفُ الْأَيَّـامِ ضِـدَّ طِبَاعِهَـا * مُتَطَلِّبٌ فِي الْمَاءِ جَذْوَةَ نَارٍ.
*سُبُلُ الصَّبْرِ عَلَى الِابْتِلَاءِ:
وَهَاهُنَا تَتَبَيَّنُ قُوَّةُ الْإِيمَانِ وَضَعْفُهُ، فَلْيَسْتَعْمِلِ الْمُؤْمِنُ مِنْ أَدْوِيَةِ هَذَا الْمَرَضِ التَّسْلِيمَ لِلْمَالِكِ وَالتَّحْكِيمَ لِحِكْمَتِهِ، وَلْيَقُلْ قَدْ قِيلَ لِسَيِّدِ الْكُلِّ {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ}، ثُمَّ لِيُسَلِّ نَفْسَهُ بِأَنَّ الْمَنْعَ لَيْسَ عَنْ بُخْلٍ وَإِنَّمَا هُوَ لِمَصْلَحَةٍ لَا يَعْلَمُهَا، وَلِيُؤْجَرَ الصَّابِرُ عَنْ أغْرَاضِهِ، وَلْيَعْلَمَ اللهُ الَذِينَ سَلَّمُوا وَرَضُوا، وَأَنَّ زَمَنَ الاِبْتِلَاءِ مِقْدَارٌ يَسِيرٌ، وَأَنَّ الْأَغْرَاضَ مُدَّخَرَةٌ تُلْقَى بَعْدَ قَلِيلٍ، وَكَأَنَّهُ بِالظُّلْمَةِ قَدِ انْجَلَتِ، وَبِفَجْرِ الْأَجْرِ قَدْ طَلَعَ.
وَمَتَى ارْتَقَى فَهْمُهُ إِلَى أَنَّ مَا جَرَى مُرَادُ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ اقْتَضَى إِيمَانُهُ أَنْ يُرِيدَ مَا يُرِيدُ وَيَرْضَى بِمَا يُقَدِّرُ، إِذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَانَ خَارِجًا عَنْ حَقِيقَةِ الْعُبُودِيَةِ فِي الْمَعْنَى، وَهَذَا أَصْلٌ يَنْبَغِي أَن يُتَأَمَّلَ وَيُعْمَلَ بِهِ فِي كُلِّ غَرَضٍ انْعَكَسَ.
مِنْ خُطْبَةِ: ((دَوَاءُ الْكَرْبِ وَعِلَاجُ الْهَمِّ وَالْغَمِّ)) - الْجُمُعَةُ 22 مِنَ الْمُحَرَّمِ 1439هـ / 13-10-2017م.
((تَفْرِيغُ مَجْمُوعَةِ: بَنَاتُ خَدِيجَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ الْجَزَائِرِيَّات))