((رَحْمَةُ النَّبِيِّ ﷺ بِالصِّغَارِ))
*حَثَّ النَّبِيُّ ﷺ الْكَبِيرَ أَنْ يَرْحَمَ الصَّغِيرَ:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا، وَيَعْرِفْ حَقَّ كَبِيرِنَا، فَلَيْسَ مِنَّا». وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَالْحَاكِمُ فِي «الْمُسْتَدْرَكِ»، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
قَوْلُهُ ﷺ: «فَلَيْسَ مِنَّا»: أَيْ: لَيْسَ عَلَى سُنَّتِنَا، أَوْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْكَمَالِ مِنَّا.
فِي الْحَدِيثِ: دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ حُسْنِ الْأَخْلَاقِ وَوُجُوبِ الرَّحْمَةِ، مِنْ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ لِبَعْضٍ، وَمِنْ مُقْتَضَى حُسْنِ الْخُلُقِ وَالرَّحْمَةِ أَنْ يُوَقِّرَ الصَّغِيرُ الْكَبِيرَ، لِوُجُودِ حُسْنِ الْخُلُقِ لَدَيْهِ، وَأَنْ يَرْحَمَ الْكَبِيرُ الصَّغِيرَ؛ لِأَنَّ الْكَبِيرَ قَدْ عَقَلَ مَا لَا يَعْقِلُ الصَّغِيرُ، وَعَلِمَ مَا لَا يَعْلَمُ الصَّغِيرُ.
*مِنْ رَحْمَةِ النَّبِيِّ ﷺ بِالْأَطْفَالِ: مُضَاحَكَتُهُمْ وَمُمَازَحَتُهُمْ، وَاعْتِنَاقُهُمْ، وَإِدْخَالُ السُّرُورِ عَلَيْهِمْ:
عَنْ يَعْلَى بْنِ مُرَّةَ أَنَّهُ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ ، وَدُعِينَا إِلَى طَعَامٍ فَإِذَا حُسَيْنٌ يَلْعَبُ فِي الطَّرِيقِ، فَأَسْرَعَ النَّبِيُّ ﷺ أَمَامَ الْقَوْمِ، ثُمَّ بَسَطَ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَمُرُّ مَرَّةً هَاهُنَا وَمَرَّةً هَاهُنَا، يُضَاحِكُهُ حَتَّى أَخَذَهُ، فَجَعَلَ إِحْدَى يَدَيْهِ فِي ذَقْنِهِ وَالْأُخْرَى فِي رَأْسِهِ، ثُمَّ اعْتَنَقَهُ فَقَبَّلَهُ، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «حُسَيْنٌ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ، أَحَبَّ اللَّهُ مَنْ أَحَبَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ، سِبْطَانِ مِنَ الْأَسْبَاطِ».
هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَسَلَكَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي «السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ».
قَوْلُهُ: «سِبْطَانِ مِنَ الْأَسْبَاطِ»: «السَّبْطُ»: الْأُمَّةُ مِنَ الْأُمَمِ فِي الْخَيْرِ، وَالْأَسْبَاطُ فِي أَوْلَادِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ بِمَنْزِلَةِ الْقَبَائِلِ فِي وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَأَحَدُ الْأَسْبَاطِ «سِبْطٌ»، وَهُوَ وَاقِعٌ عَلى الْأُمَّةِ وَاقِعَةٌ عَلَيْهِ.
«سِبْطَانِ»: «السِّبْطُ»: وَلَدُ الْبِنْتِ، مَأْخَذُهُ مِنَ «السَّبَطِ» بِالْفَتْحِ وَهِيَ شَجَرَةٌ لَهَا أَغْصَانٌ كَثِيرَةٌ وَأَصْلُهَا وَاحِدٌ، كَأَنَّ الْوَالِدَ بِمَنْزِلَةِ الشَّجَرَةِ، وَكَأَنَّ الْأَوْلَادَ بِمَنْزِلَةِ الْأَغْصَانِ.
قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: «السِّبْطُ»: الْأُمَّةُ مِنَ الْأُمَمِ فِي الْخَيْرِ.
قَالَ الْقَاضِي: «السِّبْطُ»: وَلَدُ الْوَلَدِ؛ أَيْ: هُوَ مِنْ أَوْلَادِ أَوْلَادِهِ.
حُسَيْنٌ يَلْعَبُ فِي الطَّرِيقِ، فَأَسْرَعَ ﷺ أَمَامَ الْقَوْمِ، ثُمَّ بَسَطَ يَدَيْهِ: يُرِيدُ أَنْ يَمْنَعَ الْحُسَيْنَ مِنَ الْحَرَكَةِ.
فِيهِ: تَوَاضُعُ النَّبِيِّ ﷺ وَشَفَقَتُهُ وَرَحْمَتُهُ بِالْأَطْفَالِ.
فِيهِ: صِلَتُهُ بِأَرْحَامِهِ.
«جَعَلَ الْغُلَامَ يَمُرُّ مَرَّةً هَاهُنَا وَمَرَّةً هَاهُنَا»: أَيْ: يُحَاوِلُ الْفِرَارَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ ﷺ.
فِيهِ: مُضَاحَكَةُ الصَّبِيِّ وَمُمَازَحَتُهُ وَاعْتِنَاقُهُ وَإِدْخَالُ السُّرُورِ عَلَيْهِ.
فِي الْحَدِيثِ: اسْتِحْبَابِ مُلَاطَفَةِ الصِّبِيِّ، وَاسْتِحْبَابِ مُدَاعَبَتِهِ رَحْمَةً لَهُ وَلُطْفًا بِهِ، وَبيَانُ خُلُقِ التَّوَاضُعِ مَعَ الْأَطْفَالِ وَغَيْرِهِمْ.
فَهَذا النَّبِيُّ الْكَرِيمُ ﷺ مَعَ عَظِيمِ مَسْئُولِيَّتِهِ، وَمَعَ جَلِيلِ مَا نَاطَهُ اللهُ تَعَالَى بِعُنُقِهِ، وَمَعَ مَا كَانَ فِيهِ مِنْ أَمْرِ الدَّعْوَةِ وَالْبَلَاغِ وَأَدَاءِ الرِّسَالَةِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى، يَجِدُ فِي صَدْرِهِ فُسْحَةً، وَمَا أَوْسَعَ صَدْرَهُ! لِكَيْ يُلَاطِفَ حُسَيْنًا عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ، وَهِيَ صُورَةٌ مُحَبَّبَةٌ، فِيهَا شَفَقَةٌ، وَفِيهَا رِقَّةٌ، وَفِيهَا رَحْمَةٌ، وَفِيهَا رَأْفَةٌ، فَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَى مَنْ وَصَفَهُ رَبُّهُ بِأَنَّهُ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ.
*وَمِنْ رَحْمَةِ النَّبِيِّ ﷺ بِالْأَطْفَالِ وَمُلَاطَفَتِهِ لَهُمْ: إِقْعَادُهُمْ عَلَى حِجْرِهِ، وَمَسْحُهُ عَلَى رُؤُوسِهِمْ:
عَنْ يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَامٍ قَالَ: سَمَّانِي رَسُولُ اللهِ ﷺ يُوسُفَ، وَأَقْعَدَنِي عَلَى حِجْرِهِ، وَمَسَحَ عَلَى رَأْسِي. وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي «الْمُسْنَدِ»، وَالتِّرْمِذِيُّ فِي «الشَّمَائِلِ»، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
قَوْلُهُ: «وَأَقْعَدَنِي.. وَمَسَحَ...»: الظَّاهِرُ أَنَّ الْإِقْعَادَ وَالْمَسْحَ كَانَا فِي مَجْلِسِ التَّسْمِيَةِ.
قَدْ يَقُولُ قَائِلٌ: وَكَيْفَ عَرَفَ ذَلِكَ؟!
يُقَالُ: خُبِّرَ بِهِ، فَإِنَّهُ لَمَّا وُلِدَ حُمِلَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَسَمَّاهُ يُوسُفَ، وَجَعَلَهُ فِي حَجْرِهِ وَمَسَحَ عَلَى رَأْسِهِ.
«عَلَى حِجْرِهِ»: «الْحِجْرُ»: الْحِضْنُ.
فِي هَذَا الْحَدِيثِ: مُلَاطَفَةُ الصَّبْيِّ وَالرِّفْقُ بِهِ، وَحُسْنُ خُلُقِ النَّبِيِّ ﷺ وَعَظِيمُ تَوَاضُعِهِ، وَجَوَازُ جُلُوسِ الصَّبِيِّ عَلَى حِجْرِ الرَّجُلِ، وَاسْتِحْبَابُ مَسْحِ الْعَالِمِ أَوْ الصَّالِحِ عَلَى رَأْسِ الصَّبِيِّ.
لَقَدْ كَانَ بَعْضُ الصِّبْيَانِ مِمَّنْ يُحْمَلُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَيَجَعْلُهُ فِي حِجْرِهِ يَبُولُ عَلَى ثِيَابِ الرَّسُولِ ﷺ، وَكَانَ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- يَأْتُونَ بِأَطْفَالِهِمْ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ لِيَحَنِّكَهُمْ، ولِيَمْسَحَ عَلَى رُءُوسِهِمْ، وَلِيُسَمِّيَهُمْ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَقَاصِدِ الْجَلِيلَةِ الَّتِي كَانُوا يُؤَمِّلُونَ الْخَيْرَ كُلَّهُ فِي الْوُصُولِ إِلَيْهَا بِتِلْكَ الْوَسَائِلِ الَّتِي يَتَوَسَّلُونَ بِهَا إِلَيْهَا.
المصدر: مُحَمَّدٌ ﷺ نَبِيُّ الرَّحْمَةِ، فَلْنَحْمَلْ رَحْمَتَهُ لِلْعَالَمِينَ