((مِنْ أَبْوَابِ الْعَمَلِ التَّطَوُّعِيِّ:
زِرَاعَةُ الْأَشْجَارِ، وَسَقْيُ الْمَاءِ))
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، قَالَ «إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَلَّا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا». وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ.
وَ«فَسِيلَةٌ»: هِيَ النَّخْلَةُ الصَّغِيرَةُ.
هَذَا فِيهِ مُبَالَغَةٌ فِي الْحَثِّ عَلَى غَرْسِ الْأَشْجَارِ وَحَفْرِ الْأَنْهَارِ؛ لِتَبْقَى هَذِهِ الدَّارُ عَامِرَةً إِلَى آخِرِ أَمَدِهَا الْمَحْدُودِ الْمَعْلُومِ عِنْدَ خَالِقِهَا، فَكَمَا غَرَسَ لَكَ غَيْرُكَ فَانْتَفَعْتَ بِهِ، فَاغْرِسْ أَنْتَ لِمَنْ يَجِيءُ بَعْدَكَ لِيَنْتَفِعَ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا صُبَابَةٌ، وَذَلِكَ بِهَذَا الْقَصْدِ لَا يُنَافِي الزُّهْدَ وَالتَّقَلُّلَ مِنَ الدُّنْيَا.
وَالنَّبِيُّ ﷺ ذَكَرَ أَحَادِيثَ فِي اسْتِثْمَارِ الْأَرْضِ وَزَرْعِهَا، وَالْحَثِّ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا أَدَلَّ عَلَى الْحَضِّ عَلَى الِاسْتِثْمَارِ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الْكَرِيمَةِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي مَعَنَا؛ فَإِنَّ فِيهِ تَرْغِيبًا عَظِيمًا عَلَى اغْتِنَامِ آخِرِ فُرْصَةٍ مِنَ الْحَيَاةِ فِي سَبِيلِ زَرْعِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَيُجْرَى لَهُ أَجْرُهُ، وَتُكْتَبُ لَهُ صَدَقَتُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
قَوْلُهُ: «فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَلَّا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا»، وَهَذَا -كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ- يَتَطَلَّبُ زَمَانًا مَمْدُودًا لِكَيْ يَتَحَصَّلَ الْمَرْءُ عَلَى نَتِيجَتِهِ وعَائِدِهِ؛ لِأَنَّ النَّخْلَةَ يَسْتَمِرُّ نُمُوُّهَا حَتَّى إِثْمَارِهَا سَنَوَاتٍ، وَمَعَ ذَلِكَ فَالنَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: «إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَلَّا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا».
مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا يَقِينًا حِينَئِذٍ، وَلَكِنَّهُ ﷺ يَحُثُّ عَلَى غَرْسِ الْأَشْجَارِ وَحَفْرِ الْأَنْهَارِ، وَعَلى الْعَمَلِ الصَّالِحِ النَّافِعِ بِصِفَةٍ عَامَّةٍ، وَإِنْ ظَهَرَتْ نَتَائِجُهُ وَعَوَاقِبُهُ عَلَى الْمَدَى الْبَعِيدِ، وَكَانَتْ نَتَائِجُهُ وَثِمَارُهُ بَطِيئَةً جِدًّا.
فِي هَذَا الْحَدِيثِ: التَّرْغِيبُ الْعَظِيمُ عَلَى اغْتِنَامِ آخِرِ فُرْصَةٍ مِنَ الْحَيَاةِ فِي سَبِيلِ زَرْعِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَيُجْرَى لَهُ أَجْرُهُ وَتُكْتَبُ لَهُ صَدَقَتُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالْحَثُّ عَلَى الطَّاعَةِ إِلَى آخِرِ لَحْظَةٍ مِنَ الْحَيَاةِ.
((وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ فَقَالَ: إِنِّي أَنْزِعُ في حَوْضِي، حَتَّى إِذَا مَلَأْتُهُ لِإِبَلِي وَرَدَ عَلَيَّ الْبَعِيرُ لِغَيْرِي فَسَقَيْتُهُ، فَهَلْ لِي في ذَلِكَ مِنْ أَجْرٍ؟
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ حَرَّى أَجْرٌ». رَوَاهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
وَعَنْ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ، أَنَّ سُرَاقَةَ بْنَ جُعْشُمٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! الضَّالَّةُ تَرِدُ عَلَى حَوْضِي؛ فَهَلْ لِي فِيهَا مِنْ أَجْرٍ إِنْ سَقَيْتُهَا؟
قَالَ: «اسْقِهَا؛ فَإِنَّ فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ حَرَّى أَجْرًا». رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
سَقْيُ الْمَاءِ حَتَّى وَلَوْ لِلْكِلَابِ! حَتَّى وَلَوْ كَانَ لِلْكَلْبِ الضَّالِّ؛ فِيهِ أَجْرٌ عِنْدَ الْكَبِيرِ الْمُتَعَالِ؛ فَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْحَرُّ, فَوَجَدَ بِئْرًا فَنَزَلَ فِيهَا, فَشَرِبَ ثُمَّ خَرَجَ، فَإِذَا كَلْبٌ يَلْهَثُ، يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ الْعَطَشِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الْكَلْبَ مِنَ الْعَطَشِ مِثْلُ الَّذِي كَانَ بَلَغَ مِنِّي، فَنَزَلَ الْبِئْرَ، فَمَلَأَ خُفَّهُ، ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ حَتَّى رَقِيَ -أَيْ: صَعِدَ- فَسَقَى الْكَلْبَ، فَشَكَرَ اللهُ لَهُ، فَغَفَرَ لَهُ».
قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ أَجْرًا؟
قَالَ: «فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ».
«فَشَكَرَ اللهُ لَهُ؛ فَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ». فِي رِوَايَةِ ابْنِ حِبَّانَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
«فَشَكَرَ اللهُ؛ فَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ»؛ لِأَنَّهُ سَقَى كَلْبًا كَانَ يَلْهَثُ مِنْ شِدَّةِ الْعَطَشِ؛ يَأْكُلُ الثَّرَى مِنْ عَطَشِهِ -وَالثَّرَى: التُّرَابُ الْمُنَدَّى-.
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «سَبْعٌ تَجْرِي لِلْعَبْدِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَهُوَ فِي قَبْرِهِ: مَنْ عَلَّمَ عِلْمًا، أَوْ كَرَى نَهْرًا، أَوْ حَفَرَ بِئْرًا، أَوْ غَرَسَ نَخْلًا، أَوْ بَنَى مَسْجِدًا، أَوْ وَرَّثَ مُصْحَفًا، أَوْ تَرَكَ وَلَدًا يَسْتَغْفِرُ لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ». رَوَاهُ الْبَزَّارُ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي «الْحِلْيَةِ»، وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ لِغَيْرِهِ.
«لَيْسَ صَدَقَةٌ أَعْظَمَ أَجْرًا مِنْ مَاءٍ». رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ لِغَيْرِهِ.
يَحْفِرُ بِئْرًا، يَجْعَلُ لِلنَّاسِ صُنْبُورًا فِي سَبِيلٍ، يَبْذُلُ الْمَاءَ لِابْنِ السَّبِيلِ وَالْعَطْشَانِ؛ «لَيْسَ صَدَقَةٌ أَعْظَمَ أَجْرًا مِنْ مَاءٍ».
عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ سَعْدًا أَتَى النَّبِيَّ ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ أُمِّي تُوُفِّيَتْ وَلَمْ تُوصِ، أَفَيَنْفَعُهَا أَنْ أَتَصَدَّقَ عَنْهَا؟
قَالَ: «نَعَمْ، وَعَلَيْكَ بِالْمَاءِ». رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي «الْأَوْسَطِ» بِسَنَدٍ صَحِيحٍ.
فَاخْتَارَ لَهُ الْمَاءَ؛ أَنْ يَحْفِرَ لَهَا بِئْرًا، أَنْ يَجْعَلَ لَهَا سَبِيلًا؛ «وَعَلَيْكَ بِالْمَاءِ».
عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ، فَأَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟
قَالَ: «الْمَاءُ».
فَحَفَرَ بِئْرًا، وَقَالَ: هَذِهِ لِأُمِّ سَعْدٍ.
رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ لِغَيْرِهِ.
وَفِي رِوَايَةٍ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟
قَالَ: «سَقْيُ الْمَاءِ».
عَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَنْ حَفَرَ مَاءً؛ لَمْ يَشْرَبْ مِنْهُ كَبِدٌ حَرَّى مِنْ جِنٍّ وَلَا إِنْسٍ وَلَا طَائِرٍ إِلَّا آجَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» » .
سَقْيُ الْمَاءِ.. وَالنَّاسُ يُعَانُونَ فِي هَذَا الزَّمَانِ مِنْ شُحِّ الْمَاءِ؛ حَتَّى لِرَيِّ زُرُوعِهِمْ، فَمَنْ جَعَلَ لَهُمْ وَسِيلَةً إِلَى رَيِّ زُرُوعِهِمْ بِمَا يَتَّخِذُهُ النَّاسُ فِي هَذَا الْعَصْرِ مِنْ وَسَائِلَ، فَقَدْ فَعَلَ فِعْلًا مِنْ أَفْضَلِ مَا يُحِبُّهُ اللهُ وَيَرْضَاهُ وَيُثِيبُ عَلَيْهِ.
تَلَوُّثُ الْمِيَاهِ شَائِعٌ ذَائِعٌ لَا يَخْفَى، وَتَدِبُّ بِسَبَبِهِ أَمْرَاضٌ تَفْتِكُ بِالْأَجْسَادِ وَتَفْرِيهَا فَرْيًا، فَمَنْ شَارَكَ أَوْ صَنَعَ لَهُمْ صَنِيعًا يَكُونُ مَاؤُهُ بَعِيدًا عَنْ هَذَا التَّلَوُّثِ؛ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْحَدِيثِ، وَقَدْ أَتَى بِأَعْظَمِ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَقَرَّبَ بِهِ عَبْدٌ إِلَى اللهِ.
المصدر:خِدْمَةُ الْمُجْتَمَعِ بَيْنَ الْعَمَلِ التَّطَوُّعِيِّ وَالْوَاجِبِ الْكِفَائِيِّ وَالْعَيْنِيِّ