((الْأَثَرُ الْمُدَمِّرُ لِأَكْلِ الْحَرَامِ في الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ))
فَإِنَّ أَكْلَ الْحَرَامِ يُثْمِرُ هَذَا الثَّمَرَ الخَبِيثَ، وَهُوَ قَطْعُ الدُّعَاءِ؛ فَلَا اسْتِجَابَةَ، وَلَوْ ظَلَّ يَدْعُو حَتَّى تَفْنَى نَفْسُهُ في الدُّعَاءِ لَا يُسْتَجَابُ لَهُ، وَلَوْ مَدَّ يَدَهُ إِلَى السَّحَابِ، إِلَى عَنَانِ السَّمَاءِ وَهُوَ يَأْكُلُ مِنَ الْحَرَامِ، فِي بَطْنِهِ الْحَرَامُ، وَعَلى ظَهْرِهِ الْحَرَامُ، يُكْسَى مِنَ الْحَرَامِ، وَفِي بَيْتِهِ الْحَرَامُ، لَا يُسْتَجَابُ لَهُ.
أَكْلُ الْحَرَامِ يُثْمِرُ ثَمَرًا آخَرَ خَبِيثًا مُرًّا، وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ النَّبِيُّ ﷺ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «إنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَى الْجَنَّةِ كُلَّ لَحْمٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ، كُلُّ لَحْمٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ -مِنْ حَرَامٍ- فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ» .
لَقَدْ ضَرَبَ اللهُ الْأَمْثَالَ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ؛ لِلدَّلَالَةِ عَلَى شُؤْمِ الْمَعْصِيَةِ، وَعَلَى خُطُورَةِ مُخَالَفَةِ الرَّسُولِ الْأَكْرَمِ ﷺ.
وَلِلْمَعْصِيَةِ آثَارٌ عَظِيمَةٌ جِدًّا فِي حَالِ الْإِنْسَانِ، وَفِي كَوْنِهِ فِي حَيَاتِهِ الدُّنْيَا وَفِي بَرْزَخِهِ مِنْ بَعْدِ مَمَاتِهِ إِلَى أَنْ تَقُومَ قِيَامَتُهُ.
وَفِي الْقِيَامَةِ فِي عَرَصَاتِهَا عِنْدَ الْعَرْضِ عَلَى رَبِّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ فِي النَّارِ، وَبِئْسَ الْقَرَارُ -نَسْأَلُ اللهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ-.
*عُقُوبَاتُ أَكْلِ الرِّبَا فِي الدُّنْيَا، وَالْبَرْزَخِ وَالْآخِرَةِ:
لَوْ أَخَذْتَ عَلَى ذَلِكَ مِثَالًا مَا ذَكَرَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنْ أَثَرِ مَعْصِيَةِ الرِّبَا، وَالِاجْتَرَاءِ عَلَى هَذَا الْمُحَرَّمِ الْعَظِيمِ، وَأَثَرِهِ الْفَاعِلِ الْفَعَّالِ فِي الْخَلْقِ مِمَّنْ تَوَرَّطُوا فِيهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِمْ؛ لَكَفَاكَ فِي ذَلِكَ قَوْلُ رَبِّكَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البَقَرَة: 279].
وَلَكَ أَنْ تَتَصَوَّرَ إِنْسَانًا دَخَلَ حَرْبًا مَعَ مَالِكِ الْقُوَى وَالْقُدَرِ!
مَعَ الَّذِي يَقُولُ لِلشَّيْءِ: كُنْ فَيَكُونُ!
مَعَ الْخَلَّاقِ الْعَظِيمِ الَّذِي أَمْرُهُ بَعْدَ الْكَافِ وَالنُّونِ، الَّذِي يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ بِمَا يُرِيدُ.
لَكَ أَنْ تَتَصَوَّرَ أَثَرَ هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ الَّتِي ذَكَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَثَرَهَا فِي الْفَرْدِ وَفِي الْمُجْتَمَعِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ، وَفِي دُنْيَا اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مِنْ قَبْلِ الْمَمَاتِ، لَكَ أَنْ تَتَصَوَّرَ ذَلِكَ فِي قَوْلِ رَبِّكَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 279].
وَالَّذِي يَدْخُلُ فِي الْحَرْبِ مَعَ اللهِ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- وَمَعَ رَسُولِهِ ﷺ، لَكَ أَنْ تَتَصَوَّرَ اضْطِرَابَ نَفْسِهِ، وَقَلَقَ قَلْبِهِ، وَعَدَمَ اسْتِقْرَارِ حَيَاتِهِ.
وَلَكَ أَنْ تَتَصَوَّرَ اخْتِلَافَ قَلْبِهِ عَلَيْهِ، وَتَمَرُّدَ ذَاتِهِ عَلَى وُجُودِهِ، لَكَ أَنْ تَتَصَوَّرَ كَيْفَ يَكُونُ كَالرِّيشَةِ فِي مَهَابِّ الرِّيَاحِ الْأَرْبَعِ، لَيْسَ لَهُ مِنَ اسْتِقْرَارٍ، وَلَا قَرَارٍ يَقَرُّ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لَهُ مِنَ اطْمِئْنَانٍ يُمْكِنُ أَنْ يَعُودَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي حَرْبٍ مَعَ اللهِ وَرَسُولِهِ ﷺ، هَذَا فِي الدُّنْيَا.
وَأَمَّا فِي الْبَرْزَخِ: فَإِنَّ الرَّسُولَ ﷺ كَمَا فِي حَدِيثِ الْمَنَامِ الطَّوِيلِ الَّذِي رَوَاهُ سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ الرَّسُولِ ﷺ -وَهُوَ فِي ((صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ)) -رَحِمَهُ اللهُ-- : ((رَأَى النَّبِيُّ ﷺ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ عِنْدَمَا أَتَاهُ آتِيَانِ فَأَخَذَا بِيَدَيْهِ، ثُمَّ انْطَلَقَا إِلَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، فَرَأَى رَجُلًا يَسْبَحُ فِي نَهْرٍ مِنْ دَمٍ.
وَرَأَى رَجُلًا يَقِفُ عَلَى الشَّاطِئِ، وَعِنْدَهُ حِجَارَةٌ، فَيَسْبَحُ السَّابِحُ مَا يَسْبَحُ، ثُمَّ يَأْتِي فَيَفْغَرُ فَاهُ -يَعْنِي يَفْتَحُ فَمَهُ إِلَى آخِرِهِ- عِنْدَ ذَلِكَ الْوَاقِفِ عَلَى شَاطِئِ نَهْرِ الدِّمَاءِ هَذَا، فَيَأْخُذُ الرَّجُلُ الْوَاقِفُ عَلَى الشَّاطِئِ حَجَرًا مِنَ الْحِجَارَةِ الَّتِي عِنْدَهُ، فَيَجْعَلُهَا فِي فَمِهِ، ثُمَّ يَأْخُذُهَا -يَأْخُذُ هَذَا الْحَجَرَ فِي فَمِهِ-، ثُمَّ يَسْبَحُ فِي نَهْرِ الدَّمِ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَسْبَحَ، ثُمَّ يَعُودُ، فَيَفْغَرُ فَاهُ -يَفْتَحُ فَمَهُ- فَيُلْقَمُ بَعْدَ ذَلِكَ حَجَرًا، يَظَلُّ كَذَلِكَ إِلَى أَنْ يُقِيمَ اللهُ السَّاعَةَ)). فَهَذَا عِقَابُهُ فِي الْبَرْزَخِ.
وَأَمَّا فِي الْقِيَامَةِ: فَإِنَّهُ كَمَا وَصَفَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، يَقُومُ النَّاسُ مِنْ قُبُورِهِمْ يُوفِضُونَ -يَنْطَلِقُونَ مُسْرِعِينَ-، وَأَمَّا هَذَا -أَيْ آكِلُ الرِّبَا- فَلَا يَقُومُ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ؛ يَقُولُ ابْنُ عَبَّاسٍ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((إِنَّ آكِلَ الرِّبَا يَقُومُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَجْنُونًا يُخْنَقُ)) .
{وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [الحَديد: 20]. -نَسْأَلُ اللهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ-.
إِنَّ الرِّبَا يُوَلِّدُ فِي النَّاسِ حُبَّ الذَّاتِ، فَلَا يَعْرِفُ الْمَرْءُ إِلَّا نَفْسَهُ، وَلَا يُهِمُّهُ إِلَّا مَصْلَحَتُهُ وَمَنْفَعَتُهُ، وَبِذَلِكَ تَنْعَدِمُ رُوحُ التَّضْحِيَةِ وَالْإِيثَارِ، وَتَنْعَدِمُ مَعَانِي حُبِّ الْخَيْرِ لِلْأَفْرَادِ وَالْمُجْتَمَعَاتِ، وَتَحُلُّ مَحَلَّهَا رُوحُ حُبِّ الذَّاتِ، وَالْأَثَرَةُ، وَالْأَنَانِيَةُ، وَتَتَلَاشَى الرَّوَابِطُ الْأَخَوِيَّةُ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَأَخِيهِ الْإِنْسَانِ.
وَأَيْضًا، فَإِنَّ الرِّبَا يُوَلِّدُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغَضَاءَ بَيْنَ أَفْرَادِ الْمُجْتَمَعِ، وَيَدْعُو إِلَى تَفْكِيكِ الرَّوَابِطِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَالِاجْتَمَاعِيَّةِ بَيْنَ طَبَقَاتِ النَّاسِ، وَيَقْضِي عَلَى كُلِّ مَظَاهِرِ الشَّفَقَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَالتَّعَاوُنِ وَالْإِحْسَانِ فِي نُفُوسِ الْبَشَرِ.
وَلِلْمَعَاصِي فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآثَارِ الْعَظِيمَةِ الشَّيْءُ الْكَبِيرُ، مِنْهَا:
*أَنَّ الْإِنْسَانَ يَنْتَكِسُ، يَرْتَكِسُ قَلْبُهُ، فَلَا يَقُومُ مِنْ بَعْدِهَا أَبَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصَّفّ: 5].
*ثُمَّ إِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يُعَاقِبُ صَاحِبَ الْمَعْصِيَةِ بِنِسْيَانِ نَفْسِهِ {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحَشْر: 19].
*وَيُعَاقِبُهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِنِسْيَانِهِمْ؛ يَعْنِي بِتَرْكِهِمْ، فَإِنَّ رَبَّكَ لَا يَضِلُّ وَلَا يَنْسَى {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67].
*ثُمَّ مَا يُحِيطُ بِهِ مِنَ اِجْتِرَاءِ مَنْ لَمْ يَكُنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ قَبْلُ، يَقُولُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ: ((إِنِّي لَأَعْصِي اللهَ فَأَجِدُ ذَلِكَ فِي خُلُقِ دَابَّتِي وَامْرَأَتِي)) .
فَيَجْتَرِئُ عَلَى الْعَاصِي مَا لَمْ يَكُنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ قَبْلُ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ قَبْلُ؛ إِذْ يَرْفَعُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ حِجَابَ الْهَيْبَةِ عَنْهُ بِمَعْصِيَتِهِ وَقَدْ هَتَكَهُ، وَيُخَلِّي اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ، فَهُوَ الْعَنَاءُ الدَّائِمُ وَالنَّصَبُ الْمُقِيمُ -نَسْأَلُ اللهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ-.
فَمَا مِنْ هَمٍّ، وَلَا غَمٍّ، وَلَا أَلَمٍ، وَلَا نَصَبٍ، وَلَا وَصَبٍ يُصِيبُ الْعَبْدَ فِي حَيَاتِهِ إِلَّا بِذَنْبٍ أَذْنَبَهُ، وَبِمَعْصِيَةٍ أَسْلَفَهَا.
*عُقُوبَاتُ الْغُلُولِ فِي الدُّنْيَا، وَالْقَبْرِ، وَالْآخِرَةِ:
لَوْ أَخَذْتَ مَعْصِيَةً أُخْرَى؛ لِكَيْ تَنْظُرَ فِي عُقُوبَتِهَا فِي حَالِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَفِي الْبَرْزَخِ مِنْ بَعْدِ الْوَفَاةِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، ثُمَّ فِي الْقِيَامَةِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ فِي النَّارِ وَبِئْسَ الْقَرَارُ، لَعَرَفْتَ صِدْقَ ذَلِكَ يَقِينًا، فَخُذِ الْغُلُولَ مِثَالًا:
وَالْغُلُولُ فِي الْأَصْلِ هُوَ الْخِيَانَةُ، وَأَصْلُهُ: هُوَ أَنْ يَأْخُذَ الْإِنْسَانُ شَيْئًا مِنَ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْمَقَاسِمِ.
وَهُوَ فِي زَمَانِنَا -كَمَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا-: الْمَالُ الْعَامُّ.
فَالْمَالُ الْعَامُّ مَا أُخِذَ مِنْهُ فَهُوَ غُلُولٌ، وَالَّذِي يَتَنَزَّلُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الرَّسُولُ ﷺ مِنَ الْغُلُولِ هُوَ بِعَيْنِهِ مَا يَتَنَزَّلُ عَلَى الْمَالِ الْعَامِّ؛ لِأَنَّ الْمَالَ الْعَامَّ كَالْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، تَتَعَلَّقُ بِهِ ذِمَمُ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، فَلِكُلِّ الْمُسْلِمِينَ فِيهِ حَقٌّ.
وَالِاعْتِدَاءُ عَلَى الْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ كَالِاعْتِدَاءِ عَلَى الْمَالِ الْعَامِّ بِغَيْرِ حَقٍّ، هُوَ اعْتِدَاءٌ عَلَى مَا يَخُصُّ جَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ.
فَالتَّوَرُّطُ فِي الْمَالِ الْعَامِّ بِأَخْذِ مَا لَا يَحِلُّ، أَوْ إِتْلَافِ مَا لَا يَصِحُّ أَنْ يُتْلَفَ كَالْأَخْذِ مِنَ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْمَقَاسِمِ، هُوَ أَكْبَرُ مِنَ الِاعْتَدَاءِ عَلَى الْمَالِ الْخَاصِّ؛ لِأَنَّ الْمَالَ الْخَاصَّ إِنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِهِ ذِمَّةُ فَرْدٍ بِعَيْنِهِ، وَأَمَّا الْمَالُ الْعَامُّ، وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْمَقَاسِمِ فَهُوَ أَمْرٌ تَتَعَلَّقُ بِهِ ذِمَمُ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ.
فَعُقُوبَةُ الغُلُولِ كَمَا قَالَ اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [آل عِمْرَان: 161].
*وَأمَّا عُقُوبَتُهُ فِي الْقَبْرِ: فَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» : أنَّ النبيَّ ﷺ أَخْبَرَ عَنِ الرَّجُلِ الَّذِي غَلَّ شَمْلَةً يَوْمَ خَيْبَرٍ، فَقَالَ: «والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَخَذَهَا يَوْمَ خَيْبَرٍ مِنَ المَغَانِمِ قَبْلَ المَقَاسِمِ تَشْتَعِلُ عَلَيْهِ فِي قَبْرِهِ نَارًا».
وَالشَّمْلةُ: تَلْفِيعَةٌ، أَوْ هِيَ كِسَاءٌ يُمْكِنُ أنْ يُحِيطَ بِهِ المَرْءُ بَدَنَهُ.
وَالنَّبِيُّ ﷺ كَمَا في «الصَّحِيحَيْنِ» عَنْ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مَرَّ مَعَ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- على قُبُورٍ، فَقَالَ الصَّحَابَةُ: فُلَانٌ شَهِيدٌ، ثُمَّ قَالُوا: فُلَانٌ شَهِيدٌ، ثُمَّ قَالُوا: فُلَانٌ شَهِيدٌ.
فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ لِلْقَبْرِ الثَّالِثِ: «كلَّا، إِنِّي رَأَيْتُهُ في النَّارِ في بُرْدَةٍ غَلَّهَا أَوْ عَبَاءَةٍ».
إِذَنْ؛ الْغُلُولُ: هُوَ الْأَخْذُ مِنَ الْمَالِ الْعَامِّ، يُعَاقَبُ بِهِ الْمُرْءُ في قَبْرِهِ؛ اِشْتِعَالًا لَهُ عَلَيْهِ في قَبْرِهِ كَمَا أَخْبَرَ الرَّسُولُ ﷺ.
*وَكَذَلِكَ الْعُقُوبَةُ بِهِ فِي الْمَوْقِفِ: فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ذَاتَ يَوْمٍ، فَذَكَرَ الْغُلُولَ فَعَظَّمَهُ وَعَظَّمَ أَمْرَهُ، ثُمَّ قَالَ: «لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ، يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ، لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ فَرَسٌ لَهُ حَمْحَمَةٌ -وَهُوَ صَوْتُ الْفَرَسِ فِيمَا دُونَ الصَّهِيلِ-، فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ.
لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ شَاةٌ لَهَا ثُغَاءٌ، يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ. لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ نَفْسٌ لَهَا صِيَاحٌ، فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ.
لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ رِقَاعٌ تَخْفِقُ -يَعْنِي غَلَّ ثِيَابًا أَوْ مَا يَسِيرُ مَسَارَ ذَلِكَ، وَيُدْرَجُ فِي سِلْكِهِ-، فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ، لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ صَامِتٌ -يَعْنِي ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً-، فَيَقُولُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَغِثْنِي، فَأَقُولُ : لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ».
وَعظَّمَ الرَّسُولُ ﷺ، وَشَدَّدَ فِي أَمْرِ الْغُلُولِ وَهُوَ الْأَخْذُ مِنَ الْمَالِ الْعَامِّ؛ لِأَنَّ الْمَالَ الْعَامَّ تَتَعَلَّقُ بِهِ ذِمَمُ جَمِيعِ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ، فَمَنْ أَخَذَ شَيْئًا مِنَ الْمَالِ الْعَامِّ سَرِقَةً وَاغْتِصَابًا، وَنَهْبًا فَكَأَنَّمَا سَرَقَ مِنْ جَمِيعِ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ؛ لِأَنَّ الْمَسْرُوقَ الْمَغْلُولَ الْمُغْتَصَبَ الْمَنْهُوبَ يَتَعَلَّقُ بِذِمَمِ جَمِيعِ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ، وَأَمَّا الَّذِي يَسْرِقُ مِنْ فُلَانٍ بِعَيْنِهِ فَقَدْ تَعَلَّقَت ذِمَّتُهُ بِهَذَا الَّذِي سَرَقَ مِنْهُ وَحْدَهُ.
أَعَلِمْتَ لِمَاذَا يُشَدِّدُ الدِّينُ فِي سَرِقَةِ الْمَالِ الْعَامِّ؟!
أَعَلِمْتَ لِمَ يُشَدِّدُ الدِّينُ فِي مُوَاقَعَةِ الْمَرْءِ لِلْحَدَائِقِ الْعَامَّةِ تَخْرِيبًا وَإِفْسَادًا؟!!
وَلِمَ يُشَدِّدُ الدِّينُ فِي نَهْبِ وَسَلْبِ الْمُمْتَلَكَاتِ الْعَامَّةِ فِي الْمُؤَسَّسَاتِ، فِي الْمُسْتَشْفَيَاتِ، وَفِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، وَفِي الْمُوَصِّلَاتِ الْعَامَّةِ؟!
لِأَنَّهُ مَالُ الْأُمَّةِ، وَهَلْ رَأَيْتَ عَاقِلًا يَسْرِقُ نَفْسَهُ؟!!
فَالَّذِي يَسْرِقُ مِنَ الْمَالِ الْعَامِّ، وَالَّذِي يُخَرِّبُ فِي الْمَالِ الْعَامِّ إِنَّمَا يُخَرِّبُ فِي مَالِ نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا يُعَجِّلُ بِدَمَارِ أُمَّتِهِ -وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ-.
النَّبِيُّ ﷺ إِنَّمَا جَاءَ بِالْخَيْرِ وَبِالْحَقِّ، فَاتَّبِعُوهُ تَهْتَدُوا.
*أَكْلُ الْحَرَامِ يُثْمِرُ أَجْيَالًا مُشَوَّهَةً، وَمُجْتَمَعَاتٍ عَلَى شَفَا هَلَكَةٍ:
إِنَّ الَّذِينَ لَا يَتَحَرُّونَ حَلَالًا مِنْ حَرَامٍ هُمُ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمُ النَّبِيُّ ﷺ الْهُمَامُ ﷺ: «يَأْتِي عَلىٰ النَّاسِ زَمَانٌ لَا يُبَالِي الْوَاحِدُ مِنْهُمْ مِنْ حَرَامٍ أَخَذَ أَمْ مِنْ حَلَالٍ» . فَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.
يَأْكُلُ الْمَرْءُ مِنْ حَرَامٍ، فَتَتَخَلَّقُ نُطْفَتُهُ مِنْ حَرَامٍ، وَيُطْعِمُ أَهْلَهُ مِنْ حَرَامٍ، فَتَتَخَلَّقُ بُوَيْضَتُهَا مِنْ حَرَامٍ، ثُمَّ تَتَغَذَّى الْمَرْأَةُ مِنْ حَرَامٍ، فَيَدُورُ الدَّمُ بِالْغِذَاءِ إِلَى الْجَنِينِ فِي الرَّحِمِ يُغَذِّي الْجَنِينَ مِنْ حَرَامٍ، ثُمَّ تُرْضِعُ الْوَلِيدَ اللَّبَنَ الْحَرَامَ، ثُمَّ يُطْعَمُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْحَرَامِ، ثُمَّ تَرْجُو بَعْدَ ذَلِكَ نَجَابَةَ الْوَلَدِ؟؟!
هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ!! دُونَ ذَلِكَ خَرْطُ الْقَتَادِ!!
فَلَا تَعْجَبَنَّ مِمَّا يَحْدُثُ لِتِلْكَ الْأَجْيَالِ الَّتِي انْفَلَتَتْ، فَإِنَّمَا هِيَ مِمَّنْ خُلِّقَ مِنْ حَرَامٍ، وَمِمَّنْ غُذِّيَ بِالْحَرَامِ، وَلَا يَتَوَرَّعُ وُلَاةُ أُمُورِهِمْ عَنِ الْأَكْلِ مِنَ الْحَرَامِ، وَلَا يَتَوَقُّونَ وَلَا يَتَحَرُّونَ الْحَلَالَ الصِّرْفَ الْمَحْضَ.
لَا يَتَوَرَّعُ الْمَرْءُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ حَرَامٍ، لَا يَتَوَرَّعُ الْمَرْءُ أَنْ يَأْكُلَ مِمَّا فِيهِ شُبْهَةٌ، وَلَا يَتَوَرَّعُ الْمَرْءُ وَلَا يُمْسِكُ عَنِ الْحَرَامِ، فَقُلْ لِي بِرَبِّكَ مَا الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يُتَحَصَّلَ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ؟!
أَعْظَمُ بَابٍ فِي الدِّينِ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَالْيَقِينِ هُوَ أَكْلُ الْحَلَالِ.
إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ جَعَلَ مِنْ أَعْظَمِ أَبْوَابِ الدِّينِ: أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ آخِذًا بِالْحَلَالِ الصِّرْفِ الْمَحْضِ الَّذِي لَا شُبْهَةَ فِيهِ.
فَاللهَ اللهَ فِي أَنْفُسِكِمْ عِبَادَ اللهِ، أَدُّوا أَعْمَالَكُمْ عَلَى الْوَجْهِ الْمَرْضِيِّ عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
اللَّهُمَّ أَطْعِمْنَا مِنَ الْحَلَالِ الطَّيِّبِ الَّذِي لَا شُبْهَةَ فِيهِ.
اللَّهُمَّ أَطْعِمْنَا مِنَ الْحَلَالِ، وَيَسِّرْ لَنَا الْحَلَالَ.
اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشُّبُهَاتِ.
اللَّهُمَّ يَسِّرْ لَنَا الْحَلَالَ.
اللَّهُمَّ يَسِّرْ لَنَا الْحَلَالَ الْمَحْضَ.
اللَّهُمَّ أَبْعِدْ عَنَّا الشُّبُهَاتِ، وَأَبْعِدْ عَنَّا الْحَرَامَ.
اللَّهُمَّ أَحْسِنْ خِتَامَنَا يَا رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
المصدر: المال الحرام وأثره المدمر على الفرد والمجتمع