((الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَالْحَذَرُ مِنَ الْوُقُوعِ فِي الشُّبُهَاتِ))
إِنَّ اللهَ تَعَالَى أَنْزَلَ عَلَى نَبِيِّهِ الْكِتَابَ، وَبَيَّنَ فِيهِ لِلْأُمَّةِ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ حَلَالٍ أَوْ حَرَامٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]؛ قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: لِكُلِّ شَيْءٍ أُمِرُوا بِهِ أَوْ نُهُوا عَنْهُ.
وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ ﷺ وَمَا طَائِرٌ يُحَرِّكُ جَنَاحَيْهِ فِي السَّمَاءِ إِلَّا وَذَكَرَ لَنَا مِنْهُ عِلْمًا)) ، كَمَا أَخْرَجَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي ((الْمُسْنَدِ)) .
عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ، فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فقد اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ؛ كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى؛ أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ)) . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
قَوْلُهُ ﷺ: ((الْحَلَالُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ)): مَعْنَاهُ أَنَّ الْحَلَالَ الْمَحْضَ بَيِّنٌ لَا اشْتِبَاهَ فِيهِ، وَكَذَلِكَ الْحَرَامُ الْمَحْضُ، وَلَكِنْ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ أُمُورٌ تَشْتَبِهُ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، هَلْ هِيَ مِنَ الْحَلَالِ أَمْ مِنَ الْحَرَامِ؟
وَأَمَّا الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ فَلَا يَشْتَبِهُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، وَيَعْلَمُونَ مِنْ أَيِّ الْقِسْمَيْنِ هِيَ.
*صُنُوفٌ مِنَ الْحَلَالِ الطَّيِّبِ، وَمِنَ الْحَرَامِ وَالسُّحْتِ، وَالْمُشْتَبِهِ:
فَأَمَّا الْحَلَالُ الْمَحْضُ فَمِثْلُ: أَكْلِ الطَّيِّبَاتِ مِنَ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ، وَبَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، وَشُرْبِ الْأَشْرِبَةِ الطَّيِّبَةِ، وَلِبَاسِ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْقُطْنِ وَالْكِتَّانِ، أَوِ الصُّوفِ، أَوِ الشَّعْرِ، وَكَالنِّكَاحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَهَذَا كُلُّهُ مِنْ قِسْمِ الْحَلَالِ الْمَحْضِ.
وَأَمَّا الْحَرَامُ الْمَحْضُ: فَكَأَكْلِ الْمَيْتَةِ، وَالدَّمِ، وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَنِكَاحِ الْمَحَارِمِ، وَلِبَاسِ الْحَرِيرِ لِلرِّجَالِ، وَمِثْلِ الْأَكْسَابِ الْمُحَرَّمَةِ: كَالرِّبَا، وَالْمَيْسِرِ، وَثَمَنِ مَا لَا يَحِلُّ بَيْعُهُ، وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ الْمَغْصُوبَةِ بِسَرِقَةٍ أَوْ غَصْبٍ أَوْ تَدْلِيسٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.
وَأَمَّا الْمُشْتَبِهُ: فَمِثْلُ أَكْلِ بَعْضِ مَا اخْتُلِفَ فِي حِلِّهِ أَوْ تَحْرِيمِهِ:
إِمَّا مِنَ الْأَعْيَانِ: كَالْخَيْلِ، وَالْبِغَالِ، وَالْحَمِيرِ، وَالضَّبِّ، وَشُرْبِ مَا اخْتُلِفَ فِي تَحْرِيمِهِ مِنَ الْأَنْبِذَةِ الَّتِي يُسْكِرُ كَثِيرُهَا، وَلَيْسَ مَا اخْتُلِفَ فِي إِبَاحَةِ لُبْسِهِ مِنْ جُلُودِ السِّبَاعِ وَنَحْوِهَا.
وَإِمَّا مِنَ الْمَكَاسِبِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا: كَمَسَائِلِ الْعِينَةِ وَالتَّوَرُّقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
فَأَمَّا الْعِينَةُ: فَهِيَ أَنْ يَشْتَرِيَ الرَّجُلُ الشَّيْءَ بِثَمَنٍ إِلَى أَجَلٍ، ثُمَّ يَبِيعُهُ عَلَى صَاحِبِهِ نَقْدًا بِأَقَلَّ مِمَّا اشْتَرَاهُ مِنْهُ، فَتَدْخُلُ السِّلْعَةُ وَتَخْرُجُ وَيَبْقَى عَلَيْهِ فِي ذِمَّتِهِ إِلَى أَجَلٍ، يَبْقَى عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِمَّا أَخَذَ نَقْدًا.
وَأَمَّا التَّوَرُّقُ: فَهُوَ أَنْ يَحْتَاجَ إِلَى نَقْدٍ فَيَشْتَرِيَ مَا يُسَاوِي مِئَةً بِأَكْثَرَ لِيَتَوَسَّعَ بِثَمَنِهِ.
فَفِي الْجُمْلَةِ مَا تَرَكَ اللهُ وَرَسُولُهُ حَلَالًا إِلَّا مُبَيَّنًا، وَلَا حَرَامًا إِلَّا مُبَيَّنًا، لَكِنْ بَعْضُهُ كَانَ أَظْهَرَ بَيَانًا مِنْ بَعْضٍ، فَلَا بُدَّ فِي الْأُمَّةِ مِنْ عَالِمٍ يُوَافِقُ قَوْلُهُ الْحَقَّ؛ فَيَكُونُ هُوَ الْعَالِمُ بِهَذَا الْحُكْمِ، وَغَيْرُهُ يَكُونُ الْأَمْرُ مُشْتَبِهًا عَلَيْهِ، وَلَا يَكُونُ عَالِمًا بِهَذَا، فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ، وَلَا يَظْهَرُ أَهْلُ بَاطِلِهَا عَلَى أَهْلِ حَقِّهَا.
فَلَا يَكُونُ الْحَقُّ مَهْجُورًا غَيْرَ مَعْمُولٍ بِهِ فِي جَمِيعِ الْأَمْصَارِ وَالْأَعْصَارِ، قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ فِي مَصْرٍ مِنَ الْأَمْصَارِ أَوْ فِي عَصْرٍ مِنَ الْأَعْصَارِ، وَلَكِنْ لَا يَظْهَرُ أَهْلُ بَاطِلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى أَهْلِ حَقِّهَا أَبَدًا.
وَلِهَذَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي الْمُشْتَبِهَاتِ: ((لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ))؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْلَمُهَا، وَإِنَّمَا هِيَ مُشْتَبِهَةٌ عَلَى مَنْ لَا يَعْلَمُهَا، وَلَيْسَتْ مُشْتَبِهَةً فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَهَذَا هُوَ السَّبَبُ الْمُقْتَضِي لِاشْتِبَاهِ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ.
وَقَدْ فَسَّرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ الشُّبْهَةَ بِأَنَّهَا مَنْزِلَةٌ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، يَعْنِي الْحَلَالَ الْمَحْضَ وَالْحَرَامَ الْمَحْضَ، وَقَالَ: مَنِ اتَّقَاهَا فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ. وَفَسَّرَهَا تَارَةً بِاخْتِلَاطِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا مُعَامَلَةُ مَنْ فِي مَالِهِ حَلَالٌ وَحَرَامٌ مُخْتَلِطٌ.
فَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ مَالِهِ الْحَرَامَ فَقَالَ أَحْمَدُ: ((يَنْبَغِي أَنْ يَجْتَنِبَهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ شَيْئًا يَسِيرًا، أَوْ شَيْئًا لَا يُعْرَفُ)).
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْحَنَابِلَةُ فِي ذَلِكَ هَلْ هُوَ مَكْرُوهٌ أَوْ مُحَرَّمٌ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ مَالِهِ الْحَلَالَ جَازَتْ مُعَامَلَتُهُ وَالْأَكْلُ مِنْ مِالِهِ.
وَالْعُلَمَاءُ يُفَرِّقُونَ أَيْضًا بَيْنَ الْحَرَامِ عَلَى التَّعْيِينِ، وَبَيْنَ الْحَرَامِ عَلَى الْكَسْبِ فَمَا كَانَ حَرَامًا عَلَى سَبِيلِ الْكَسْبِ فَحُرْمَتُهُ عَلَى كَاسِبِهِ، وَيَجُوزُ لِغَيْرِهِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ مَالِهِ، وَأَنْ يَتَمَتَّعَ بِهِ إِذَا وَصَلَهُ بِهِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، هَذَا مِنْ حَيْثُ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ، وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ الْوَرَعُ فَإِنَّ الصَّالِحِينَ يَتَوَرَّعُونَ عَنِ الْوُقُوعِ فِي مِثْلِ هَذَا.
وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ وَأَصْحَابُهُ يُعَامِلُونَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلَ الْكِتَابِ، مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَجْتَنِبُونَ الْحَرَامَ كُلَّهُ، وَإِنِ اشْتَبَهَ الْأَمْرُ فَهُوَ شُبْهَةٌ، وَالْوَرَعُ تَرْكُهُ، قَالَ سُفْيَانُ: لَا يُعْجِبُنِي ذَلِكَ، وَتَرْكُهُ أَعْجَبُ إِلَيَّ.
وَمَتَى عَلِمَ أَنَّ عَيْنَ الشَّيْءِ حَرَامٌ؛ أُخِذَ بِوَجْهٍ مُحَرَّمٍ؛ فَإِنَّه يَحْرُمُ تَنَاوُلُهُ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْحَرَامُ عَلَى التَّعْيِينِ وَقَدْ حَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ.
وَالْأُمُورُ الْمُشْتَبِهَةُ الَّتِي لَا تَتَبَيَّنُ أَنَّهَا حَلَالٌ أَوْ حَرَامٌ لِكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ قَدْ يَتَبَيَّنُ لِبَعْضِ النَّاسِ أَنَّهَا حَلَالٌ أَوْ حَرَامٌ؛ لِمَا عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ مَزِيدِ عِلْمٍ.
وَكَلَامُ النَّبِيِّ ﷺ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْمُشْتَبِهَاتِ، مِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْلَمُهَا، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ لَا يَعْلَمُهَا، وَقَوْلُهُ ﷺ: ((فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ -أَيْ صَانَ دِينَهُ وَحَمَى عِرْضَهُ مِنْ وُقُوعِ النَّاسِ فِيهِ- وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ)).
وَقَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: ((كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ)). هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ النَّبِيُّ ﷺ لِمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ، وَأَنَّهُ يُقَرِّبُ وُقُوعَهُ فِي الْحَرَامِ الْمَحْضِ.
فَجَعَل النَّبِيُّ ﷺ مَثَلَ الْمُحَرَّمَاتِ كَالْحِمَى الَّذِي تَحْمِيهِ الْمُلُوكُ، وَيَمْنَعُونَ غَيْرَهُمْ مِنْ قُرْبَانِهِ.
وَاللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- حَمَى هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَمَنَعَ عِبَادَهُ مِنْ قُرْبَانِهَا، وَسَمَّاهَا حُدُودَهُ فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [البقرة: 187].
وَهَذَا فِيهِ بَيَانُ أَنَّهُ حَدَّ لَهُمْ مَا أَحَلَّ لَهُمْ وَمَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ، فَلَا يَقْرَبُوا الْحَرَامَ وَلَا يَتَعَدَّوُا الْحَلَالَ، وَجَعَلَ مَنْ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ جَدِيرًا بِأَنْ يَدْخُلَ الْحِمَى وَيَرْتَعَ فِيهِ؛ فَكَذَلِكَ مَنْ تَعَدَّى الْحَلَالَ وَوَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ فَإِنَّهُ قَدْ قَارَبَ الْحَرَامَ غَايَةَ الْمُقَارَبَةِ، فَمَا أَخْلَقَهُ بِأَنْ يُخَالِطَ الْحَرَامَ الْمَحْضَ وَيَقَعَ فِيهِ.
الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ الْبَيِّنَانِ لَا يَخْفَى أَمْرُهُمَا عَلَى النَّاسِ، فَيَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَجْتَنِبَ الْحَرَامَ، وَلَهُ أَنْ يَتَمَتَّعَ بِمَا أَحَلَّ اللهُ لَهُ مِنَ الْحَلَالِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ تَحْرِيمُ مَا أَحَلَّ اللهُ.
وَقَدْ عَاتَبَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ نَبِيَّهُ ﷺ لَمَّا حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَهُ مِنَ الْعَسَلِ فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ۖ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} [التحريم: 1].
مِنْ حِكْمَةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- أَنَّهُ يَبْتَلِي عِبَادَهُ بِأُمُورٍ مُشْتَبِهَةٍ يَخْفَى حُكْمُهَا عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، سَوَاءٌ كَانَتْ فِي الْمَآكِلِ أَوِ الْمَشَارِبِ أَوْ غَيْرِهِمَا، لِيَتَبَيَّنَ الْمُؤْمِنُ الْمُنْقَادُ لِأَوَامِرِ اللهِ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ، وَهَذِهِ الْأُمُورُ الْمُشْتَبِهَةُ يَقَعُ الِاشْتِبَاهُ فِيهَا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَحَمَلَةِ الشَّرِيعَةِ لِأَسْبَابٍ ذَكَرَهَا الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ مِنْهَا:
أَنْ يَكُونَ النَّصُّ خَفِيًّا عَلَيْهِ لَمْ يَنْقُلْهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنَ النَّاسِ، فَلَمْ يَبْلُغْ جَمِيعَ حَمَلَةِ الْعِلْمِ.
وَمِنْهَا مَا لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ صَرِيحٌ؛ وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْ عُمُومِ أَوْ مَفْهُومِ أَوْ قِيَاسِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْعُلَمَاءُ؛ فَتَخْتَلِفُ أَفْهَامُ الْعُلَمَاءِ فِي هَذَا كَثِيرًا، وَهُنَاكَ أَسْبَابٌ أُخْرَى سِوَى مَا مَرَّ ذِكْرُهُ.
مَفْهُومُ الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْلَمُهَا، وَإِنَّمَا هِيَ مُشْتَبِهَةٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَعْلَمْهَا، وَلَيْسَتْ مُشْتَبِهَةً فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَهُوَ كَذَلِكَ لِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ ﷺ: ((لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ))، فَمَفْهُومُهُ أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَهَا.
فَيَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ إِذَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ شَيْءٌ أَهُوَ حَلَالٌ أَمْ حَرَامٌ أَنْ يَدَعَهُ لِكَيْ يَسْلَمَ دِينُهُ مِنَ النَّقْصِ، وَلِيَسْلَمَ عِرْضُهُ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ فِيهِ، وَفِي الْحَدِيثِ: ((لَا يَكْمُلُ إِيمَانُ الْمَرْءِ حَتَّى يَدَعَ مَا لَا بَأْسَ بِهِ حَذَرًا مِمَّا بِهِ بَأْسٌ))، كَمَا عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ، وَابْنِ مَاجَه.
وَحِينَئِذٍ مَنِ ارْتَكَبَ الشُّبُهَاتِ فَقَدْ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِلْقَدْحِ فِيهِ وَالطَّعْنِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: مَنْ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِلتُّهَمِ فَلَا يَلُومَنَّ مَنْ أَسَاءَ بِهِ الظَّنَّ.
النَّبِيُّ ﷺ يُقَرِّرُ الْمَعْنَى بِضَرْبِ الْمَثَلِ، وَالْأَمْثَالُ تُقَرِّبُ الْمَعَانِيَ لِلْأَفْهَامِ قَالَ ﷺ: ((كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى)).
فَجَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ مَثَلَ الْمُحَرَّمَاتِ كَالْحِمَى الَّذِي تَحْمِيهِ الْمُلُوكُ لِأَنْفُسِهِمْ، أَوْ لِمَوَاشِي الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ مَنِ اقْتَرَبَ مِنْهَا بِمَوَاشِيهِ يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ، فَكَذَلِكَ مَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ كَأَنَّهُ يَقْرُبُ وُقُوعُهُ فِي الْمُحَرَّمَاتِ.
وَاللَّهُ -جَلَّ وَعَلَا- جَعَلَ لِمَحَارِمِهِ حِمًى حَتَّى لَا يَقَعَ الْمُسْلِمُ فِيهَا، كَمَا قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا} [البقرة: 187]، وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229].
وَالنَّبِيُّ ﷺ قَالَ: ((اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ)). أَيْ كُونُوا أَنْتُمْ فِي جَانِبٍ وَهَذِهِ السَّبْعَ فِي جَانِبٍ آخَرَ، وَهَذَا مَعْنَى اجْتَنِبُوا، كَمَا دَعَا إِبْرَاهِيمُ رَبَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِقَوْلِهِ: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35]؛ أَيِ اجْعَلْنِي وَبَنِيَّ فِي جَانِبٍ، وَالْأَصْنَامَ وَعِبَادَتَهَا فِي جَانِبٍ آخَرَ.
فَيَنْبَغِي عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يُرَاعِيَ ذَلِكَ، وَأَلَّا يَقْتَرِبَ مِنَ الْحَرَامِ، وَأَلَّا يُوَاقِعَ الشُّبُهَاتِ؛ لِأَنَّهُ إِنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ.
المصدر: أَكْلُ السُّحْتِ وَسُوءُ عَاقِبَتِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ