((أَسْبَابُ تَحْصِيلِ مَعِيَّةِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْخَاصَّةِ))
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! إِنَّ مَعِيَّةَ اللهِ هَذِهِ مِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الَّتِي يُنْعِمُ بِهَا عَلَى عَبْدِهِ، وَلَكِنْ لِهَذِهِ النِّعْمَةِ أَقْوَالٌ وَأَعْمَالٌ هِيَ السَّبَبُ الَّذِي تُنَالُ بِهِ.
وَاللهُ -سُبْحَانَهُ- سَمِيعٌ لِتِلْكَ الْأَقْوَالِ، عَلِيمٌ بِتِلْكَ الْأَفْعَالِ، وَهُو عَلِيمٌ بِمَنْ يَصْلُحُ لِهَذِهِ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ وَيَشْكُرُهَا، وَيَعْرِفُ قَدْرَهَا، وَيُحِبُّ الْمُنْعِمَ عَلَيْهِ بِهَا، فَتَصْلُحُ عِنْدَهُ هَذِهِ النِّعْمَةُ، وَيَصْلُحُ هُوَ بِهَا؛ كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا ۗ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 53].
فَإِذَا فَاتَتِ الْعَبْدَ نِعْمَةٌ مِنْ نِعَمِ رَبِّهِ فَلْيَقْرَأْ عَلَى نَفْسِهِ: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ}؛ لِأَنَّ اللهَ لَوْ عَلِمَ أَنَّكَ تَشْكُرُهُ عَلَى نِعْمَتِهِ لَأَفَاضَ عَلَيْكَ بِهَا، وَأَجْزَلَ لَكَ بِهَا الْعَطَاءَ، {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا}.
كَانَ الطُّغَاةُ يَنْظُرُونَ إِلَى أَتْبَاعِ الْمُرْسَلِينَ مِنَ الضُّعَفَاءِ وَالْمَسَاكِينِ الَّذِينَ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِمْ بِعَيْنِ الزِّرَايَةِ وَالِاحْتِقَارِ، حَتَّى إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ اشْتَرَطَ عَلَيْهِ بَعْضُ أُولَئِكَ الْكُبَرَاءِ أَنْ يَطْرُدَ أُولَئِكَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَا مَالَ لَهُمْ وَلَا جَاهَ حَتَّى يَكُونُوا عِنْدَهُ وَحَتَّى يَجْلِسُوا إِلَيْهِ لِيَسْمَعُوا مِنْهُ!
{وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا}: أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَا مَالَ لَهُمْ وَلَا جَاهَ وَلَا حَسَبَ وَلَا نَسَبَ وَلَا قِيمَةَ فِي الْحَيَاةِ وَلَا خَطَرَ؛ {أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا}: اخْتَارَ هَؤُلَاءِ وَتَرَكَنَا! يَقُولُ -تَعَالَى- مُعَقِّبًا عَلَى قَوْلِهِمْ: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ}.
فَإِذَا فَاتَتِ الْعَبْدَ نِعْمَةٌ مِنْ نِعَمِ رَبِّهِ فَلْيَقْرَأْ عَلَى نَفْسِهِ: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ}.
لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ، وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ.
وَمِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي يَتَحَصَّلُ الْعَبْدُ بِهَا عَلَى مَعِيَّةِ اللهِ الْخَاصَّةِ: التَّقْوَى وَالْإِحْسَانُ؛ فَإِذَا وُجِدَتِ التَّقْوَى أَوْ غَيْرُهَا مِنْ أَسْبَابِهَا فِي شَخْصٍ كَانَ اللهُ مَعَهُ.
{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ}.
وَالتَّقْوَى هِيَ وَصِيَّةُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لِلْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء: 131].
التَّقْوَى: هِيَ أَنْ تَتَّقِيَ اللهَ رَبَّ العَالَمِينَ بِفِعْلِ المَأْمُورِ وَتَرْكِ المَحْظُورِ.. فَهَذِهِ تَقْوَى اللهِ.
عَلَيْكَ بِتَقْوَى اللهِ فِي فِعْلِ أَمْرِهِ=وَتَجْتَنِبُ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ وَتَبْعُدُ
وَكُنْ مُخْلِصًا للهِ وَاحْذَرْ مِنَ الرِّيَا=وَتَابِعْ رَسُولَ اللهِ إِنْ كُنْتَ تَعْبُدُ
تَوَكَّلْ عَلَى الرَّحْمَنِ حَقًّا وَثِقْ بِهِ=لِيَكْفِيكَ مَا يُغْنِيكَ حَقًّا وَتَرْشُدُ
تَصَبَّرْ عَنِ الْعِصْيَانِ وَاصْبِرْ لِحُكْمِهِ=وَصَابِرْ عَلَى الطَّاعَاتِ عَلَّكَ تَسْعَدُ
وَالْإِحْسَانُ مِنْ أَسْبَابِ الْفَوْزِ بِمَعِيَّةِ اللهِ الْخَاصَّةِ؛ وَهُوَ: «أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ».
وَالْإِحْسَانُ فِي الْأَصْلِ نَوْعَانِ:
إِحْسَانٌ فِي عِبَادَةِ الْخَالِقِ الْعَظِيمِ.
وَإِحْسَانٌ فِي حُقُوقِ الْخَلْقِ؛ وَهُوَ نَوْعَانِ:
- إِحْسَانٌ وَاجِبٌ: وَهُوَ أَنْ تَقُومَ بِحُقُوقِهِمُ الْوَاجِبَةِ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ؛ كَبِرِّ الْوَالِدَيْنِ، وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ، وَالْإِنْصَافِ فِي جَمِيعِ الْمُعَامَلَاتِ، ويَدْخُلُ فِي هَذَا النَّوْعِ الْإِحْسَانُ إِلَى الْبَهَائِمِ، ثُمَّ الْإِحْسَانُ فِي الْقَتْلِ كَذَلِكَ، وفِي الذَّبْحِ كَذَلِكَ، كَمَا أَمَرَ الرَّسُولُ ﷺ بِأَمْرِ اللهِ.
- وَالْإِحْسَانُ الْمُسْتَحَبُّ: هُوَ مَا زَادَ عَلَى الْوَاجِبِ مِنْ بَذْلِ نَفْعٍ مَالِيٍّ، أَوْ بَدَنِيٍّ، أَوْ نَفْعٍ عِلْمِيٍّ.
وَمِنْ أَجَلِّ أَنْوَاعِ الْإِحْسَانِ: الْإِحْسَانُ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ.
قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ عُثَيْمِينَ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((الْإِحْسَانُ ضِدُّ الْإِسَاءَةِ؛ وَهُوَ أَنْ يَبْذُلَ الْإِنْسَانُ الْمَعْرُوفَ وَيَكُفَّ الْأَذَى، فَيَبْذُلُ الْمَعْرُوفَ لِعِبَادِ اللهِ فِي مَالِهِ، وَجَاهِهِ، وَعِلْمِهِ، وَبَدَنِهِ.
فَأَمَّا الْمَالُ: فَأَنْ يُنْفِقَ وَيَتَصَدَّقَ وَيُزَكِّيَ، وَأَفْضَلُ أَنْوَاعِ الْإِحْسَانِ بِالْمَالِ الزَّكَاةُ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ أَحَدُ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ وَمَبَانِيهِ الْعِظَامِ، وَلَا يَتِمُّ إِسْلَامُ الْمَرْءِ إِلَّا بِهَا، وَهِيَ أَحَبُّ النَّفَقَاتِ إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَيَلِي ذَلِكَ مَا يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ مِنْ نَفَقَةٍ لِزَوْجَتِهِ، وَأُمِّهِ، وَأَبِيهِ، وَذُرِّيَّتِهِ، وَإِخْوَانِهِ، وَبَنِي إِخْوَتِهِ وَأَخَوَاتِهِ، وَأَعْمَامِهِ، وَعَمَّاتِهِ، وَخَالَاتِهِ... إِلَى آخِرِ هَذَا، ثُمَّ الصَّدَقَةُ عَلَى الْمَسَاكِينِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ هُمْ أَهْلٌ لِلصَّدَقَةِ؛ كَطُلَّابِ الْعِلْمِ مَثَلًا.
وَأَمَّا بَذْلُ الْمَعْرُوفِ فِي الْجَاهِ: فَهُوَ أَنَّ النَّاسَ مَرَاتِبُ؛ مِنْهُمْ مَنْ لَهُ جَاهٌ عِنْدَ ذَوِي السُّلْطَانِ، فَيَبْذُلُ الْإِنْسَانُ جَاهَهُ، يَأْتِيهِ رَجُلٌ فَيَطْلُبُ مِنْهُ الشَّفَاعَةَ إِلَى ذِي سُلْطَانٍ يَشْفَعُ لَهُ عِنْدَهُ؛ إِمَّا بِدَفْعِ ضَرَرٍ عَنْهُ، أَوْ بِجَلْبِ خَيْرٍ لَهُ.
وَأَمَّا بِعِلْمِهِ: فَأَنْ يَبْذُلَ عِلْمَهُ لِعِبَادِ اللهِ؛ تَعْلِيمًا فِي الْحَلْقَاتِ وَالْمَجَالِسِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، حَتَّى لَوْ كُنْتَ فِي مَجْلِسِ قَهْوَةٍ، فَإِنَّ مِنَ الْخَيْرِ وَالْإِحْسَانِ أَنْ تُعَلِّمَ النَّاسَ.
وَأَمَّا الْإِحْسَانُ إِلَى النَّاسِ بِالْبَدَنِ: فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «...، وَتُعِينُ الرَّجُلَ فِي دَابَّتِهِ فَتَحْمِلُهُ عَلَيْهَا، أَوْ تَرْفَعُ لَهُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ.. صَدَقَةٌ»، فَهَذَا رَجُلٌ تُعِينُهُ تَحْمِلُ مَتَاعَهُ مَعَهُ، أَوْ تَدُلُّهُ عَلَى طَرِيقٍ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ فَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ الْإِحْسَانِ، هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلْإِحْسَانِ إِلَى عِبَادِ اللهِ.
وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْإِحْسَانِ فِي عِبَادَةِ اللهِ: فَأَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ.
وَهَذَا يَبْعَثُكَ عَلَى أَمْرَيْنِ:
عَلَى الْإِخْلَاصِ فِي الْعِبَادَةِ.
وَعَلَى الْإِتْقَانِ فِي تِلْكَ الْعِبَادَةِ الَّتِي تَتَعَبَّدُ بِهَا لِرَبِّكَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.
عِبَادَ اللهِ! أَهْلُ الْإِحْسَانِ هُمُ الصَّفْوَةُ، وَهُمُ الْخُلَّصُ مِنْ عِبَادِ اللهِ الْمُؤْمِنِينَ، نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنَا مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ.
{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} [النحل: 128].
الْآيَةُ فِيهَا بَيَانُ فَضْلِ الْمُحْسِنِينَ، وَبَيَانُ الْمَعِيَّةِ الْخَاصَّةِ الَّتِي تَكُونُ لِأَهْلِ الْإِحْسَانِ.
وَالْمَعِيَّةُ هُنَا خَاصَّةٌ مُقَيَّدَةٌ بِصِفَةٍ: كُلُّ مَنْ كَانَ مِنَ الْمُتَّقِينَ الْمُحْسِنِينَ فَاللهُ مَعَهُ.
وَهَذَا يُثْمِرُ لَنَا الْحِرْصَ عَلَى الْإِحْسَانِ وَالتَّقْوَى؛ فَإِنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ اللهُ مَعَهُ.
وَمِنَ الْأَسْبَابِ الْعَظِيمَةِ لِتَحْصِيلِ مَعِيَّةِ اللهِ: الصَّبْرُ؛ قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46].
وَالصَّبْرُ حَبْسُ النَّفْسِ عَلَى طَاعَةِ اللهِ، وَحَبْسُهَا عَنْ مَعْصِيَةِ اللهِ، وَحَبْسُهَا عَنِ التَّسَخُّطِ عَلَى أَقْدَارِ اللهِ؛ سَوَاءٌ بِاللِّسَانِ، أَوْ بِالْقَلْبِ، أَوْ بِالْجَوَارِحِ.
وَأَفْضَلُ أَنْوَاعِ الصَّبْرِ: الصَّبْرُ عَلَى طَاعَةِ اللهِ، ثُمَّ عَنْ مَعْصِيَةِ اللهِ؛ لِأَنَّ فِيهِمَا اخْتِيَارًا: إِنْ شَاءَ الْإِنْسَانُ فَعَلَ الْمَأْمُورَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَفْعَلْ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ الْمُحَرَّمَ وَإِنْ شَاءَ مَا تَرَكَهُ، ثُمَّ عَلَى أَقْدَارِ اللهِ؛ لِأَنَّ أَقْدَارَ اللهِ وَاقِعَةٌ شِئْتَ أَمْ أَبَيْتَ، فَإِمَّا أَنْ تَصْبِرَ صَبْرَ الْكِرَامِ، وَإِمَّا أَنْ تَسْلُوَ سُلُوَّ الْبَهَائِمِ.
وَالصَّبْرُ دَرَجَةٌ عَالِيَةٌ لَا تُنَالُ إِلَّا بِشَيْءٍ يُصْبَرُ عَلَيْهِ، أَمَّا مَنْ فُرِشَتْ لَهُ الْأَرْضُ وُرُودًا، وَصَارَ النَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَى مَا يُرِيدُ؛ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَنَالَهُ شَيْءٌ مِنَ التَّعَبِ النَّفْسِيِّ أَوِ الْبَدَنِيِّ الدَّاخِلِيِّ أَوِ الْخَارِجِيِّ.
وَلِهَذَا جَمَعَ اللهُ لِنَبِيِّهِ ﷺ بَيْنَ الشُّكْرِ وَالصَّبْرِ.
فَالشُّكْرُ: كَانَ يَقُومُ حَتَّى تَتَوَرَّمَ قَدَمَاهُ؛ فَيَقُولُ: ((أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟!)).
وَالصَّبْرُ: صَبْرٌ عَلَى مَا أُوذِيَ، فَقَدْ أُوذِيَ مِنْ قَوْمِهِ وَمِنْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْيَهُودِ وَالْمُنَافِقِينَ، وَمَعَ ذَلِكَ فَهُوَ صَابِرٌ.
*وَمِنْ أَسْبَابِ الْفَوْزِ بِمَعِيَّةِ اللهِ -تَعَالَى- الْخَاصَّةِ: نَصْرُهُ -سُبْحَانَهُ- بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عنِ الْمُنْكَرِ؛ قَالَ تَعَالَى: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}.
مَا دَامَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَنْصُرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مَنْ يَنْصُرُهُ لَا مَحَالَةَ.
{الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 41].
وَمِنَ الْأَسْبَابِ -أَيْضًا-: الدُّعَاءُ وَالتَّضَرُّعُ لَهُ سُبْحَانَهُ؛ قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186].
وَقَالَ تَعَالَى: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل: 62].
مَنْ هَذَا الْعَظِيمُ الَّذِي يُجِيبُ الْمَكْرُوبَ الْمَجْهُودَ إِذَا دَعَاهُ، وَيَكْشِفُ الضُّرَّ النَّازِلَ بِهِ؟!!
وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يَقُولُ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إِذَا دَعَانِي -أَوْ قَالَ: إِذَا ذَكَرَنِي-)).
عِبَادَ اللهِ!عَلَيْنَا أَنْ نَدْعُوَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَأَنْ نَعْلَمَ أَنَّ هَذَا هُوَ أَشْرَفُ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْعِبَادَةِ، يَتَعَبَّدُ بِهِ الْعَبْدُ الصَّالِحُ لِرَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «الدُّعَاءُ هُوَ العِبَادَةُ».
فَعَلَيْنَا أَنْ نَتَوَجَّهَ دَائِمًا وَأَبَدًا إِلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَأَنْ نُخْلِصَ الْقُلُوبَ لَهُ، وَأَنْ نَكُونَ مُوَحِّدِينَ؛ حَتَّى يَسْتَجِيبَ لَنَا رَبُّنَا رَبُّ الْعَالَمِينَ.
وَمِنَ الْوَسَائِلِ لِنَيْلِ مَعِيَّةِ اللهِ: التَّوَكُّلُ عَلَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ فَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فِي أَمْرِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ؛ بِأَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى اللَّهِ فِي جَلْبِ مَا يَنْفَعُهُ وَدَفْعِ مَا يَضُرُّهُ، وَيَثِقَ بِهِ فِي تَسْهِيلِ ذَلِكَ، فَهُوَ كَافِيهِ الْأَمْرَ الَّذِي تَوَكَّلَ عَلَيْهِ فِيهِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ فِي كَفَالَةِ الْغَنِيِّ الْقَوِيِّ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ، فَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى الْعَبْدِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ.
قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 2-3].
وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ فَيَعْمَلْ بِمَا أَمَرَهُ وَيَجْتَنِبْ مَا نَهَاهُ عَنْهُ؛ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ مَخْرَجًا وَمَخْلَصًا مِنْ هُمُومِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَيَرْزُقْهُ دَوَامًا، وَيُيَسِّرْ لَهُ أَسْبَابَ الرِّزْقِ مِنْ حَيْثُ لَا يَخْطُرُ عَلَى بَالِهِ وَلَا يَكُونُ فِي حُسْبَانِهِ.
وَمَنْ يَكِلْ أَمْرَهُ إِلَى اللهِ، فَهُوَ كَافِيهِ مَا أَهَمَّهُ فِي الدَّارَيْنِ.
وَمِنْ وَسَائِلِ تَحْصِيلِ مَعِيَّةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- الْخَاصَّةِ: تَحْقِيقُ الْعُبُودِيَّةِ للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36]؟ بَلَى كَافٍ!
وَتَكُونُ الْكِفَايَةُ عَلَى قَدْرِ الْعُبُودِيَّةِ؛ فَمَنْ جَاءَ بِعُبُودِيَّةٍ كَامِلَةٍ فَلَهُ مِنَ الْكِفَايَةِ بِحَسَبِهَا، وَمَنْ جَاءَ بِعُبُودِيَّةٍ نَاقِصَةٍ فَبِحَسَبِ مَا جَاءَ بِهِ تَكُونُ الْكِفَايَةُ.
وَمِنْ أَعْظَمِ سُبُلِ الْفَوْزِ بِمَعِيَّةِ اللهِ الْخَاصَّةِ: تَحْقِيقُ التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ؛ قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)} [الأنبياء: 87-88].
وَضَعْ فِي ذَاكِرَتِكَ -أَيُّهَا الْمُتَلَقِّي لِكَلَامِ رَبِّكَ- قِصَّةَ يُونُسَ بْنِ مَتَّى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- صَاحِبِ الْحُوتِ، حِينَ انْصَرَفَ عَنْ قَوْمِهِ مُغَاضِبًا لَهُمْ؛ مِنْ أَجْلِ دِينِ رَبِّهِ، ضَائِقًا صَدْرُهُ بِعِصْيَانِهِمْ، دُونَ أَنْ نَأْمُرَهُ بِفِرَاقِهِمْ.
وَظَنَّ بِاجْتِهَادٍ مِنْهُ أَنْ لَنْ نُضَيِّقَ عَلَيْهِ؛ عِقَابًا لَهُ عَلَى تَرْكِ قَوْمِهِ مِنْ غَيْرِ أَمْرِنَا، فَابْتَلَاهُ اللهُ بِشِدَّةِ الضِّيقِ وَالْحَبْسِ، وَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ فِي الْبَحْرِ.
فَنَادَى رَبَّهُ فِي الظُّلُمَاتِ -ظُلْمَةِ اللَّيْلِ، وَظُلْمَةِ الْبَحْرِ، وَظُلْمَةِ جَوْفِ فَمِ الْحُوتِ- تَائِبًا مُعْتَرِفًا بِذَنْبِهِ بِتَرْكِهِ الصَّبْرَ عَلَى قَوْمِهِ؛ قَائِلًا: لَا إِلَهَ مَعْبُودٌ بِحَقٍّ فِي الْوُجُودِ كُلِّهِ إِلَّا أَنْتَ، تَنَزَّهْتَ عَنْ كُلِّ شَرِيكٍ، وَعَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِرُبُوبِيَّتِكَ وَإِلَاهِيَّتِكَ.
أُؤَكِّدُ اعْتِرَافِي بِذَنْبِي؛ إِذْ ذَهَبْتُ مُغَاضِبًا قَوْمِي الَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لِي قَبْلَ أَنْ تَأْذَنَ لِي بِانْصِرَافِي عَنْهُمْ.
فَاسْتَجَبْنَا لَهُ دُعَاءَهُ، وَخَلَّصْنَاهُ مِنْ تِلْكَ الظُّلُمَاتِ، وَقَدَّرْنَا أَنْ يَلْفِظَهُ الْحُوتُ عَلَى الْيَابِسَةِ قَرِيبًا مِنْ شَاطِئِ الْبَحْرِ، فَفَعَلَ.
وَمِثْلُ هَذَا التَّخْلِيصِ مِنَ الْغَمِّ، نُخَلِّصُ سَائِرَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ كَامِلِي الْإِيمَانِ مِنَ الْكُرُوبِ، ضِمْنَ سُنَّتِنَا فِي تَصَارِيفِنَا بِعِبَادِنَا إِذَا دَعَوْنَا وَاسْتَغَاثُوا بِنَا.
هَذِهِ الدَّعْوَةُ الْمُبَارَكَةُ الَّتِي دَعَا بِهَا يُونُسُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَهُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ، فَرَّجَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَنْهُ بِهَا.
وَكَذَلِكَ يُفَرِّجُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَنِ الْمُؤْمِنِينَ، حَتَّى إِنَّ الْإِنْسَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَلْتَفِتَ إِلَى هَذِهِ الدَّعْوَةِ عِنْدَ الْكَرْبِ الْتِفَاتًا خَاصًّا، فَإِنَّهُ إِذَا دَعَا بِهَا ثُمَّ لَمْ يُفَرَّجْ عَنْهُ وَلَمْ يُنَجِّهِ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقِفَ طَوِيلًا مَعَ إِيمَانِهِ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَعَلَ نَجَاةَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا أَخَذُوا بِهَذِهِ الدَّعْوَةِ الصَّالِحَةِ الْمُبَارَكَةِ.. جَعَلَ هَذِهِ النَّجَاةَ كَنَجَاةِ يُونُسَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَمَّا دَعَا بِهَا وَهُوَ فِي بَاطِنِ الْحُوتِ.
((الْإِيمَانُ يُنَجِّي مِنَ الْأَهْوَالِ وَالشَّدَائِدِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنبياء: 88].
أَيْ: إِذَا وَقَعُوا فِي الشَّدَائِدِ؛ لِإِيمَانِهِمْ بِرَبِّهِمْ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.
وَمِنْ أَعْظَمِ سُبُلِ تَحْصِيلِ مَعِيَّةِ اللهِ الْخَاصَّةِ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ بِالسَّيْفِ وَالسِّنَانِ وَالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ؛ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَجَاهَدُوا أَعْدَاءَهُمْ، وَبَذَلُوا مَجْهُودَهُمْ فِي اتِّبَاعِ مَرْضَاتِهِ، لَنَهْدِيَنَّهُمُ الطُّرُقَ الْمُوصِلَةَ إِلَيْنَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ مُحْسِنُونَ، وَاللَّهُ مَعَ الْمُحْسِنِينَ بِالْعَوْنِ وَالنَّصْرِ وَالْهِدَايَةِ.
دَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ أَحْرَى النَّاسِ بِمُوَافَقَةِ الصَّوَابِ أَهْلُ الْجِهَادِ، وَعَلَى أَنَّ مَنْ أَحْسَنَ فِيمَا أُمِرَ بِهِ أَعَانَهُ اللَّهُ وَيَسَّرَ لَهُ أَسْبَابَ الْهِدَايَةِ.
وَعَلَى أَنَّ مَنْ جَدَّ وَاجْتَهَدَ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ، فَإِنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ مِنَ الْهِدَايَةِ وَالْمَعُونَةِ عَلَى تَحْصِيلِ مَطْلُوبِهِ أُمُورٌ إِلَهِيَّةٌ، خَارِجَةٌ عَنْ مُدْرَكِ اجْتِهَادِهِ، وَتُيَسِّرُ لَهُ أَمْرَ الْعِلْمِ، فَإِنَّ طَلَبَ الْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ مِنَ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، بَلْ هُوَ أَحَدُ نَوْعَيِ الْجِهَادِ الَّذِي لَا يَقُومُ بِهِ إِلَّا خَوَاصُّ الْخَلْقِ؛ وَهُوَ الْجِهَادُ بِالْقَوْلِ وَاللِّسَانِ لِلْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ، وَالْجِهَادُ عَلَى تَعْلِيمِ أُمُورِ الدِّينِ، وَعَلَى رَدِّ نِزَاعِ الْمُخَالِفِينَ لِلْحَقِّ، وَلَوْ كَانُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69].
وَالَّذِينَ جَاهَدُوا أَنْفُسَهُمْ مِنْ أَجْلِنَا بِالصَّبْرِ عَلَى الطَّاعَاتِ، وَمُخَالَفَةِ الْهَوَى، وَجَاهَدُوا الْمُشْرِكِينَ بِالصَّبْرِ عَلَى أَذَاهُمْ، وَاتِّخَاذِ السُّبُلِ لِلْهِجْرَةِ وَالْفِرَارِ بِدِينِهِمْ؛ لَنُوَفِّقَنَّهُمْ إِلَى سُبُلِ نَجَاتِهِمْ وَسَلَامَتِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُتَجَبِّرِينَ، وَتَيْسِيرِ طُرُقِ هِجْرَةٍ آمِنَةٍ مَعَهَا تَأْمِينُ رِزْقِهِمْ وَمَعَاشِهِمْ.
{وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}: مُصَاحِبٌ لَهُمْ بِالنَّصْرِ وَالْمَعُونَةِ وَالتَّأْيِيدِ.
المصدر:مَعِيَّةُ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَأَثَرُهَا فِي تَحْقِيقِ السَّلَامِ النَّفْسِيِّ