اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ


 ((اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ))

((إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي رَحْمَتِهِ، وَأَحْسَنَ إِلَى خَلْقِهِ بِأَنْوَاعِ الْإِحْسَانِ، وَتَحَبَّبَ إِلَيْهِمْ بِصُنُوفِ النِّعَمِ، وَوَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا، وَأَوْسَعَ كُلَّ مَخْلُوقٍ نِعْمَةً وَفَضْلًا، فَوَسِعَتْ رَحْمَتُهُ كُلَّ شَيْءٍ، وَوَسِعَتْ نِعْمَتُهُ كُلَّ حَيٍّ، وَعَمَّ إِحْسَانُهُ الْبَرَايَا، وَوَصَلَ جُودُهُ إِلَى جَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ؛ فَلَا تَسْتَغْنِي عَنْ إِحْسَانِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ وَلَا أَقَلَّ مِنْهَا، فَبَلَغَتْ رَحْمَتُهُ حَيْثُ بَلَغَ عِلْمُهُ؛  قَالَ رَبُّنَا -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: 7]، فَبَلَغَتْ رَحْمَتُهُ حَيْثُ بَلَغَ عِلْمُهُ.

وَأَخْبَرَنَا -سُبْحَانَهُ- أَنَّهُ ذُو الرَّحْمَةِ؛ فَكَانَ صَاحِبَ الرَّحْمَةِ الْحَقِيقِيَّةِ الْعَظِيمَةِ الْوَاسِعَةِ؛ قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ} [الأنعام: 133].

وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ} [الأنعام: 147].

وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ} [الكهف: 58].

فَلَا مَخْلُوقَ إِلَّا وَقَدْ وَصَلَتْ إِلَيْهِ رَحْمَةُ اللهِ، وَغَمَرَهُ فَضْلُهُ -تَعَالَى- وَإِحْسَانُهُ)) .

وَسَمَّى -جَلَّ وَعَلَا- نَفْسَهُ (( ((الرَّحْمَنَ))، وَهَذَا الِاسْمُ دَالٌّ عَلَى سَعَةِ رَحْمَتِهِ، وَعُمُومِ إِحْسَانِهِ، وَجَزِيلِ بِرِّهِ، وَوَاسِعِ فَضْلِهِ)) .

((وَ((الرَّحْمَنُ)): دَالٌّ عَلَى الصِّفَةِ الْقَائِمَةِ بِهِ سُبْحَانَهُ.

وَ((الرَّحِيمُ)): دَالٌّ عَلَى تَعَلُّقِهَا بِالْمَرْحُومِ، فَـ((الرَّحْمَنُ)) لِلْوَصْفِ، وَ((الرَّحِيمُ)) لِلْفِعْلِ.

فَـ((الرَّحْمَنُ)): دَالٌّ عَلَى أَنَّ الرَّحْمَةَ صِفَتُهُ، وَ((الرَّحِيمُ)): دَالٌ عَلَى أَنَّهُ يَرْحَمُ خَلْقَهُ؛ قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 43].

وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 117]، وَلَمْ يَجِئْ قَطُّ رَحْمَنٌ بِهِمْ؛ فَعُلِمَ أَنَّ ((الرَّحْمَنَ)): هُوَ الْمَوْصُوفُ بِالرَّحْمَةِ، وَ((الرَّحِيمَ)): هُوَ الرَّاحِمُ بِرَحْمَتِهِ)) ؛ كَثِيرُ الرَّحْمَةِ، عَظِيمُهَا، بَلِيغُهَا وَوَاسِعُهَا.

وَرَحْمَةُ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: عَامَّةٌ وَخَاصَّةٌ.

فَأَمَّا الْعَامَّةُ: فَهِيَ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ، فَكُلُّ الْخَلْقِ مَرْحُومُونَ بِرَحْمَةِ اللهِ، وَلَوْلَا رَحْمَةُ اللهِ مَا أَكَلُوا وَمَا شَرِبُوا وَمَا اكْتَسَوْا وَمَا سَكَنُوا، وَلَكِنَّ اللهَ رَحِمَهُمْ؛ فَهَيَّأَ لَهُمْ مَا تَقُومُ بِهِ أَبْدَانُهُمْ مِنَ الْمَعِيشَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ؛ فَهَذِهِ هِيَ الرَّحْمَةُ الْعَامَّةُ.

وَأَمَّا رَحْمَتُهُ الْخَاصَّةُ: فَهِيَ خَاصَّةٌ بِالْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ تَسْتَمِرُّ رَحْمَتُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ فَفِي الدُّنْيَا رَحِمَهُمُ اللهُ -تَعَالَى- بِحُصُولِ مَا تَقُومُ بِهِ أَبْدَانُهُمْ، وَفِي الْآخِرَةِ رَحِمَهُمُ اللهُ -تَعَالَى- بِحُصُولِ مَا تَقُومُ بِهِ أَدْيَانُهُمْ.

((وَرَحْمَتُهُ -سُبْحَانَهُ- مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ؛ كَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَحَيَاتِهِ وَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَإِحْسَانِهِ، فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ.

وَلَيْسَ كَذَلِكَ غَضَبُهُ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ، وَلَا يَكُونُ غَضْبَانَ دَائِمًا غَضَبًا لَا يُتَصَوَّرُ انْفِكَاكُهُ؛ بَلْ يَقُولُ رُسُلُهُ وَأَعْلَمُ الْخَلْقِ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا فِي ((حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ)) -وَهُوَ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) -: ((قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ)).

كَذَا يَقُولُ الْأَنْبِيَاءُ فِي الْمَوْقِفِ عِنْدَمَا يَطْلُبُ الْخَلْقُ مِنْهُمُ الشَّفَاعَةَ عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِبَدْءِ الْحِسَابِ؛ فَيَقُولُ كُلٌّ: ((إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ)).

فَالْغَضَبُ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ وَلَيْسَ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ، وَصِفَةُ الْفِعْلِ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمَشِيئَةِ، صِفَاتُ الْفِعْلِ هِيَ الَّتِي إِذَا شَاءَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَتَى بِهَا، وَإِذَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَأْتِ بِهَا، فَهَذِهِ صِفَاتُ الْفِعْلِ؛ وَمِنْهَا الْغَضَبُ، وَمِنْهَا الضَّحِكُ، وَمِنْهَا الرِّضَا، وَمِنْهَا النُّزُولُ، وَمِنْهَا الِاسْتِوَاءُ؛ فَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمَشِيئَةِ، فَكُلُّ صِفَةٍ تَعَلَّقَتْ بِالْمَشِيئَةِ فَهِيَ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ.

وَأَمَّا صِفَاتُ الذَّاتِ: فَهِيَ لَا يَنْفَكُّ عَنْهَا اتِّصَافُ الذَّاتِ بِهَا وَلَا تَنْفَكُّ هِيَ عَنِ الذَّاتِ.. صِفَاتُ الذَّاتِ لَا تَنْفَكُّ عَنْ رَبِّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِحَالٍ، فَهِيَ مُلَازِمَةٌ لِلذَّاتِ، وَمِنْهَا صِفَةُ الرَّحْمَةِ، فَإِنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، وَأَمَّا صِفَةُ الْغَضَبِ فَهَذِهِ صِفَةُ فِعْلٍ؛ وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمَشِيئَةِ، فَإِذَا وُجِدَ سَبَبُهَا وَغَضِبَ الرَّبُّ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فَهَذِهِ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ، لَا يَكُونُ غَضْبَانَ دَائِمًا غَضَبًا لَا يُتَصَوَّرُ انْفِكَاكُهُ؛ بَلْ ((إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ)).

رَحْمَةُ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، وَغَضَبُهُ لَمْ يَسَعْ كُلَّ شَيْءٍ، وَهُوَ -سُبْحَانَهُ- كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ، وَلَمْ يَكْتُبْ عَلَى نَفْسِهِ الْغَضَبَ، وَوَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا، وَلَمْ يَسَعْ كُلَّ شَيْءٍ غَضَبًا وَانْتِقَامًا)) ، -سُبْحَانَهُ- هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ.

وَهَذَا هُوَ اللَّائِقُ اللَّيِّقُ بِشَأْنِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكُنَّا جَمِيعًا خَاسِرِينَ هَالِكِينَ، نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ غَضَبِ اللهِ وَمِنْ سَخَطِهِ وَمِنْ أَلِيمِ عِقَابِهِ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَرْجُو رَحْمَتَهُ وَكَرَمَهُ وَفَضْلَهُ وَلُطْفَهُ.

فَسُبْحَانَ رَبِّي الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الَّذِي عَمَّتْ رَحْمَتُهُ أَهْلَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ، وَوَسِعَتْ جَمِيعَ الْخَلْقِ فِي كُلِّ الْآنَاتِ وَاللَّحَظَاتِ، وَسَعَةُ رَحْمَتِهِ  تَتَضَمَّنُ أَنَّهُ لَا يَهْلِكُ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ تَوْحِيدِهِ وَمَحَبَّتِهِ؛ فَإِنَّهُ وَاسِعُ الرَّحْمَةِ، لَا يَخْرُجُ عَنْ دَائِرَةِ رَحْمَتِهِ إِلَّا الْأَشْقِيَاءُ الْمَحْرُومُونَ، وَلَا أَشْقَى مِمَّنْ لَمْ تَسَعْهُ رَحْمَتُهُ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ.

يَكْفِيكَ مَنْ وَسِعَ الْخَلَائِقَ رَحْمَةً   =    وَكِفَايَةً ذُو الْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ

قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- -وَهُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ-: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54].

وَهَذَا وَعْدٌ مِنَ اللهِ، وَهُوَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ وَلَا يُخْلِفُ الْوَعْدَ، وَهُوَ خَبَرٌ مِنْهُ لِعِبَادِهِ، وَهُوَ صَادِقُ الْمَقَالِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، إِنَّهُ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَخَيْرُ الرَّاحِمِينَ، وَرَحْمَتُهُ اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ خَيْرٍ؛ أَرْحَمُ بِنَا مِنْ كُلِّ رَاحِمٍ، أَرْحَمُ بِنَا مِنْ آبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا وَأَوْلَادِنَا وَأَنْفُسِنَا.

((فَكُلُّ رَاحِمٍ  لِلْعَبْدِ؛ فَاللهُ أَرْحَمُ بِهِ مِنْهُ، إِنَّهُ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، لَوْ جُمِعَتْ رَحَمَاتُ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ لَكَانَتْ رَحْمَةُ اللهِ أَشَدَّ وَأَعْظَمَ، وَمَا تَبْلُغُ هَذِهِ الرَّحْمَاتُ مِنْ رَحْمَةِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ ﷺ رَجُلٌ وَمَعَهُ صَبِيٌّ؛ فَجَعَلَ يَضُمُّهُ إِلَيْهِ؛ رَحْمَةً بِهِ وَحَنَانًا وَبِرًّا.

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَتَرْحَمُهُ؟)).

قَالَ: نَعَمْ.

قَالَ: ((فَاللهُ أَرْحَمُ بِكَ مِنْكَ بِهِ، وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)) . وَهَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ))، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

أَرْحَمُ مَا يَكُونُ مِنَ الْخَلْقِ بِالْخَلْقِ الْأُمُّ بِوَلَدِهَا؛ فَإِنَّ رَحْمَةَ الْأُمِّ وَلَدَهَا لَا يُسَاوِيهَا شَيْءٌ مِنْ رَحْمَةِ النَّاسِ أَبَدًا، حَتَّى الْأَبُ لَا يَرْحَمُ أَوْلَادَهُ مِثْلَ أُمِّهِمْ فِي الْغَالِبِ.

عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ سَبْيٌ، فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ السَّبْيِ تَحْلِبُ تَسْقِي، إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ.

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَتَرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ؟)).

قُلْنَا: لَا -وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَلَّا تَطْرَحَهُ-.

فَقَالَ: ((اللهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا)) . وَالْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).

وَأَيْنَ تَقَعُ رَحْمَةُ الْوَالِدَةِ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ؛ فَهُوَ أَرْحَمُ بِالْعَبْدِ مِنَ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا الرَّفِيقَةِ بِهِ فِي حَمْلِهِ وَرَضَاعِهِ وَفِصَالِهِ.

كُلُّ الرَّاحِمِينَ إِذَا اجْتَمَعَتْ رَحَمَاتُهُمْ كُلِّهُمْ؛ فَلَيْسَتْ بِشَيْءٍ عِنْدَ رَحْمَةِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَيَدُلُّكَ عَلَى هَذَا قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ -وَالْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) - قَالَ ﷺ: ((جَعَلَ اللهُ الرَّحْمَةَ مِائَةَ جُزْءٍ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ جُزْءًا، وَأَنْزَلَ فِي الْأَرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا، فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ تَتَرَاحَمُ الْخَلْقُ، حَتَّى تَرْفَعَ الْفَرَسُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ)) )) .

هَذِهِ هِيَ الرَّحْمَةُ الَّتِي هِيَ صِفَةُ فِعْلٍ.

وَأَمَّا الرَّحْمَةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ صِفَةُ ذَاتٍ؛ فَإِنَّهَا لَا تَنْقَسِمُ، فَالرَّحْمَةُ صِفَةُ ذَاتٍ بِاعْتِبَارِ تَعَلُّقِهَا بِالذَّاتِ، حَيْثُ لَا تَنْفَكُّ عَنِ الذَّاتِ وَلَا تَنْفَكُّ عَنْهَا الذَّاتُ، وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ تَعَلُّقُ الرَّحْمَةِ بِالْمَشِيئَةِ وَإِعْمَالُ هَذِهِ الرَّحْمَةِ لِمَنْ يَرْحَمُهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فَهَذِهِ صِفَةُ فِعْلٍ، فَهِيَ هُنَا مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمَشِيئَةِ.

 هُنَاكَ صِفَاتٌ تَكُونُ صِفَةَ ذَاتٍ بِاعْتِبَارٍ وَصِفَةَ فِعْلٍ بِاعْتِبَارٍ:

صِفَةُ الْخَلْقِ: صِفَةُ ذَاتٍ بِاعْتِبَارِ تَعَلُّقِهَا بِالذَّاتِ، فَذَاتُ الرَّبِّ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مَوْصُوفَةٌ بِصِفَةِ الْخَلْقِ وَلَا مَخْلُوقَ، فَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَظِيمُ وَلَهُ هَذِهِ الصِّفَةُ الْعَظِيمَةُ، وَأَمَّا عِنْدَ خَلْقِ الْخَلْقِ وَبَرْئِهِمْ وَتَعَلُّقِ هَذِهِ الصِّفَةِ بِالْمَشِيئَةِ بِخَلْقِهِمْ؛ فَهِيَ -حِينَئِذٍ- تَكُونُ صِفْةَ فِعْلٍ.

كَذَلِكَ صِفْةُ الْكَلَامِ: فَذَاتُ رَبِّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مَوْصُوفَةٌ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَأَمَّا إِذَا تَكَلَّمَ بِالْوَحْيِ -جَلَّ وَعَلَا- وَبِمَا شَاءَ مِنْ أَمْرٍ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-؛ فَهِيَ صِفَةُ فِعْلٍ لِتَعَلُّقِ الصِّفَةِ بِالْمَشِيئَةِ.

هَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي مَعَنَا: فِيهِ انْقِسَامُ صِفَةِ الرَّحْمَةِ إِلَى مِائَةِ جُزْءٍ، جَعَلَ اللهُ الرَّحْمَةَ فِي مِائَةِ جُزْءٍ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ جُزْءًا وَأَنْزَلَ فِي الْأَرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا، فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ تَتَرَاحَمُ الْخَلْقُ حَتَّى تَرْفَعَ الْفَرَسُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ.

صِفَةُ الْفِعْلِ: هِيَ الَّتِي تَقْبَلُ هَذِهِ الْقِسْمَةَ.

وَأَمَّا صِفَةُ الذَّاتِ: فَهِيَ مَوْصُوفٌ بِهَا الذَّاتُ لَا تَنْفَكُّ عَنِ الذَّاتِ وَلَا تَنْفَكُّ عَنْهَا الذَّاتُ.

لَا يُمْكِنُ لِلْوَاصِفِينَ أَنْ يُعَبِّرُوا عَنْ جُزْءٍ يَسِيرٍ جِدًّا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ الَّتِي بَثَّهَا وَنَشَرَهَا عَلَى الْعِبَادِ، وَأَنْتَ لَوْ تَأَمَّلْتَ الْعَالَمَ بِعَيْنِ الْبَصِيرَةِ؛ لَرَأَيْتَهُ مُمْتَلِئًا بِهَذِهِ الرَّحْمَةِ الْوَاحِدَةِ كَامْتِلَاءِ الْبَحْرِ بِمَائِهِ وَالْجَوِّ بِهَوَائِهِ.

وَمِنْ آثَارِ هَذِهِ الرَّحْمَةِ الَّتِي أَنْزَلَهَا: أَنَّ الدَّابَّةَ تَرْفَعُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ، وَقَدْ أَعْطَاكَ اللهُ -تَعَالَى- مِنَ الرَّحْمَةِ الْوَاحِدَةِ عَطَايَا كَرِيمَةً عَزِيزَةً؛ فَقَدْ أَنْعَمَ عَلَيْكَ ابْتِدَاءً بِأَجْزَلِ الْمَوَاهِبِ وَأَفْضَلِ الْعَطَايَا؛ مِنْ حُسْنِ الصُّورَةِ، وَكَمَالِ الْخِلْقَةِ، وَقِوَامِ الْبِنْيَةِ، وَإِعْدَادِ الْآلَةِ، وَإِتْمَامِ الْإِرَادَةِ، وَتَعْدِيلِ الْقَامَةِ، وَتَمَامِ الْأَدَاةِ.

وَمَا مَتَّعَكَ مِنْ رُوحِ الْحَيَاةِ، وَفَضَّلَكَ بِهِ مِنْ حَيَاةِ الْأَرْوَاحِ، وَمَا أَكْرَمَكَ بِهِ مِنْ قَبُولِ الْعِلْمِ، وَهَدَاكَ إِلَى مَعْرِفَتِهِ -سُبْحَانَهُ- الَّتِي هِيَ أَسْنَى جَوَائِزِهِ، وَمَنَّ عَلَيْكَ بِالْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ -وَهُمَا أَجَلُّ النِّعَمِ عَلَى الْإِطْلَاقِ- وَالْكَوْنِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْمَرْحُومَةِ، وَمَنَّ عَلَيْكَ بِمَعْرِفَةِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، إِلَى سَائِرِ مَا لَدَيْكَ مِنَ النِّعَمِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ.

 فَمَرْجُوٌّ مِنْ فَضْلِهِ وَكَرَمِهِ أَنْ يُتِمَّ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ مَنْ بَدَا بِالْإِحْسَانِ فَعَلَيْهِ الْإِتْمَامُ، وَيَجْعَلُ لَكَ مِنْ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ رَحْمَةً الْحَظَّ الْوَافِرَ.

 أَسْأَلُ اللهَ -تَعَالَى- أَلَّا يُخَيِّبَ آمَالَنَا مِنْ فَضْلِهِ الْعَظِيمِ بِفَضْلِهِ، إِنَّهُ الْجَوَادُ الْكَرِيمُ الرَّاحِمُ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ.

((وَبِرَحْمَتِهِ اسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ بِاسْمِ الرَّحْمَنِ؛ قَالَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: {الرَّحْمَٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ} [طه: 5]؛  لِأَنَّ الْعَرْشَ مُحِيطٌ بِالْمَخْلُوقَاتِ، قَدْ وَسِعَهَا، وَالرَّحْمَةُ مُحِيطَةٌ بِالْخَلْقِ وَاسِعَةٌ لَهُمْ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156].

فَاسْتَوَى عَلَى أَوْسَعِ الْمَخْلُوقَاتِ بِأَوْسَعِ الصِّفَاتِ؛ فَلِذَلِكَ وَسِعَتْ رَحْمَتُهُ كُلَّ شَيْءٍ، اسْتَوَى -تَعَالَى- عَلَى عَرْشِهِ، وَقَالَ -سُبْحَانَهُ- وَهُوَ الرَّحْمَنُ: {الرَّحْمَٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ} [طه: 5].

وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156].

فَكَمَا أَنَّ الْعَرْشَ مُحِيطٌ بِالْمَخْلُوقَاتِ، وَهُوَ مِنْ خَلْقِهِ؛ فَرَحْمَتُهُ -تَعَالَى- مُحِيطَةٌ بِالْخَلْقِ وَاسِعَةٌ لَهُمْ: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}؛ فَاسْتَوَى عَلَى أَوْسَعِ الْمَخْلُوقَاتِ بِأَوْسَعِ الصِّفَاتِ، فَلِذَلِكَ وَسِعَتْ رَحْمَتُهُ كُلَّ شَيْءٍ.

وَلَمَّا اسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ بِهَذَا الِاسْمِ: ((الرَّحْمَنِ)) الَّذِي اشْتَقَّهُ مِنْ صِفَتِهِ وَتَسَمَّى بِهِ دُونَ خَلْقِهِ؛ كَتَبَ بِمُقْتَضَاهُ عَلَى نَفْسِهِ يَوْمَ اسْتِوَائِهِ عَلَى عَرْشِهِ حِينَ قَضَى الْخَلْقَ.. كَتَبَ كِتابًا؛ فَهُوَ عِنْدَهُ وَضَعَهُ عَلَى عَرْشِهِ: أَنَّ رَحْمَتَهُ سَبَقَتْ غَضَبَهُ.

وَكَانَ هَذَا الْكِتَابُ الْعَظِيمُ الشَّأْنِ كَالْعَهْدِ مِنْهُ -سُبْحَانَهُ- لِلْخَلِيقَةِ كُلِّهَا بِالرَّحْمَةِ لَهُمْ، وَالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ عَنْهُمْ، وَالْمَغْفِرَةِ وَالتَّجَاوُزِ، وَالسَّتْرِ وَالْإِمْهَالِ، وَالْحِلْمِ وَالْأَنَاةِ؛ فَكَانَ قِيَامُ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ بِمَضْمُونِ هَذَا الْكِتَابِ، الَّذِي لَوْلَاهُ لَكَانَ لِلْخَلْقِ شَأْنٌ آخَرُ)) .

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِيمَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ فِي ((صَحِيحَيْهِمَا)) ؛ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَمَّا قَضَى اللهُ الْخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابِهِ، فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ عَرْشِهِ: إِنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ غَضَبِي)).

وَفِي كَوْنِهِ عِنْدَهُ -سُبْحَانَهُ- زِيَادَةُ تَشْرِيفٍ وَتَكْرِيمٍ وَتَعْظِيمٍ وَتَفْخِيمٍ، فَبِرَحْمَتِهِ أَرْسَلَ إِلَيْنَا رَسُولَهُ ﷺ، وَأَنْزَلَ عَلَيْنَا كِتَابَهُ، وَعَلَّمَنَا مِنَ الْجَهَالَةِ، وَهَدَانَا مِنَ الضَّلَالَةِ، وَبَصَّرَنَا مِنَ الْعَمَى، وَأَرْشَدَنَا مِنَ الْغَيِّ، فَشَرْعُهُ وَأَمْرُهُ نَزَلَ بِالرَّحْمَةِ وَاشْتَمَلَ عَلَى الرَّحْمَةِ، وَأَوْصَلَ إِلَى الرَّحْمَةِ الْأَبَدِيَّةِ وَالسَّعَادَةِ السَّرْمَدِيَّةِ.

فَبِنِعْمَتِهِ عَلَى عِبَادِهِ: بِإِرْسَالِ رُسُلِهِ إِلَيْهِمْ، وَإِنْزَالِ كُتُبِهِ عَلَيْهِمْ، وَتَعْرِيفِهِمْ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ، وَمَا يُحِبُّهُ وَمَا يُبْغِضُهُ؛ أَعْظَمُ النِّعَمِ وَأَجَلُّهَا وَأَعْلَاهَا وَأَفْضَلُهَا، بَلْ لَا نِسْبَةَ لِرَحْمَتِهِمْ بِالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْغَيْثِ وَالنَّبَاتِ إِلَى رَحْمَتِهِمْ بِالْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ وَالشَّرَائِعِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَأَيْنَ هَذِهِ مِنْ تِلْكَ؟!

وَبِرَحْمَتِهِ عَرَّفَنَا أَسْمَاءَهُ وَصِفَاتِهِ، فَعَرَفْنَا أَسْمَاءَهُ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالَهُ، عَرَّفَنَا رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْ ذَلِكَ مَا عَرَفْنَا بِهِ رَبَّنَا وَمَوْلَانَا.

وَبِرَحْمَتِهِ عَلَّمَنَا مَا لَمْ نَكُنْ نَعْلَمُ، وَأَرْشَدَنَا لِمَصَالِحِ دِينِنَا وَدُنْيَانَا، وَبِرَحْمَتِهِ -تَعَالَى- أَدَرَّ عَلَيْنَا النِّعَمَ وَصَرَفَ عَنَّا النِّقَمَ، وَبِرَحْمَتِهِ وُجِدَتِ الْمَخْلُوقَاتُ، وَبِرَحْمَتِهِ حَصَلَتْ لَهَا أَنْوَاعُ الْكَمَالَاتِ، وَبِرَحْمَتِهِ أَطْلَعَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، وَجَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَبَسَطَ الْأَرْضَ، وَجَعَلَهَا مِهَادًا وَفِرَاشًا، وَكِفَاتًا لِلْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ، وَبِرَحْمَتِهِ سَخَّرَ لَنَا الْخَيْلَ وَالْإِبِلَ وَالْأَنْعَامَ؛ وَذَلَّلَهَا مُنْقَادَةً لِلرُّكُوبِ وَالْحَمْلِ وَالْأَكْلِ وَالدَّرِّ.

وَمِنْ رَحْمَتِهِ مَا قَالَهُ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ: {وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف: 32]؛ أَيْ: رَحْمَةُ اللهِ بِخَلْقِهِ خَيْرٌ لَهُمْ مِمَّا بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الْأَمْوَالِ وَمَتَاعِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.

وَمِنْ رَحْمَتِهِ أَنَّهُ لَا يُؤَاخِذُنَا بِالْغَفْلَةِ عَنْ شُكْرِ نِعَمِهِ وَالْقُصُورِ عَنْ إِحْصَائِهَا وَالْعَجْزِ عَنِ الْقِيَامِ بِأَدْنَاهَا، وَمِنْ رَحْمَتِهِ إِدَامَتُهَا عَلَيْنَا وَإِدْرَارُهَا فِي كُلِّ لَحْظَةٍ وَعِنْدَ كُلِّ نَفَسٍ نَتَنَفَّسُهُ وَحَرَكَةٍ نَتَحَرَّكُهَا؛ قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النحل: 18].

وَمَا أَحْسَنَ مَا خَتَمَ بِهِ هَذَا الِامْتِنَانَ الَّذِي لَا يَلْتَبِسُ عَلَى إِنْسَانٍ؛ بِالْإِشَارَةِ إِلَى عَظِيمِ غُفْرَانِهِ وَسَعَةِ رَحْمَتِهِ: {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النحل: 18]، فَمَا أَحْسَنَ مَا خَتَمَ بِهِ هَذَا الِامْتِنَانَ، الَّذِي لَا يَلْتَبِسُ عَلَى إِنْسَانٍ؛ بِالْإِشَارَةِ إِلَى عَظِيمِ غُفْرَانِهِ وَسَعَةِ رَحْمَتِهِ، وَمَا أَوْقَعَ هَذَا التَّذْيِيلَ الْجَلِيلَ؛ وَهُوَ قَوْلُهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}، بَعْدَ امْتِنَانِهِ بِنِعَمِهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَهِيَ لَا تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى: {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}، مَا أَوْقَعَ هَذَا التَّذْيِيلَ الْجَلِيلَ وَأَحَبَّهُ إِلَى قُلُوبِ الْعَارِفِينَ بِأَسْرَارِ التَّنْزِيلِ.

وَمِنْ رَحْمَتِهِ مَا قَالَهُ عَنْ نَفْسِهِ: {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ} [الأنعام: 133].

فَهُوَ مَعَ كَوْنِهِ غَنِيًّا عَنْ خَلْقِهِ؛ فَهُوَ ذُو رَحْمَةٍ بِهِمْ، لَا يَكُونُ غِنَاهُ عَنْهُمْ مَانِعًا مِنْ رَحْمَتِهِ لَهُمْ، وَمَا أَحْسَنَ هَذَا الْكَلَامَ الرَّبَّانِيَّ وَأَبْلَغَهُ، وَمَا أَقْوَى الِاقْتِرَانَ بَيْنَ الْغِنَى وَالرَّحْمَةِ فِي هَذَا الْمَقَامِ؛ {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ}، فَإِنَّ الرَّحْمَةَ لَهُمْ مَعَ الْغِنَى عَنْهُمْ هِيَ غَايَةُ التَّفَضُّلِ وَالتَّطَوُّلِ.

وَمِنْ رَحْمَتِهِ مَا قَالَهُ لِرَسُولِهِ ﷺ: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر: 49-50].

وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ لَطَائِفُ؛ مِنْهَا: أَنَّهُ أَكَّدَ ذِكْرَ الرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِمُؤَكِّدَاتٍ ثَلَاثَةٍ، أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ (أَنِّي)، وَثَانِيهَا (أَنَا)، وَثَالِثُهَا (التَّعْرِيفُ) فِي (الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى تَغْلِيبِ جَانِبِ الرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ وَلَمْ يَقُلْ فِي ذِكْرِ الْعَذَابِ: إِنِّي أَنَا الْمُعَذِّبُ! وَلَمْ يَصِفْ نَفْسَهُ بِذَلِكَ -جَلَّ وَعَلَا-؛ بَلْ قَالَ عَلَى سَبِيلِ الْإِخْبَارِ: {وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ}.

وَأَمَّا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِرَحْمَتِهِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِغُفْرَانِهِ، فَقَدْ أَتَى بِهِ وَاصِفًا بِهِ نَفْسَهُ مُؤَكِّدًا ذَلِكَ فِي ذِكْرِهِ بِقَوْلِهِ -جَلَّ وَعَلَا-: (أَنِّي)، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: (أَنَا)، وَكَذَلِكَ بِـ(التَّعْرِيفِ) فِي قَوْلِهِ: (الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)؛ {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}، فَالْغُفْرَانُ صِفَتُهُ، وَالْمَغْفِرَةُ وَالرَّحْمَةُ صِفَتُهُ -جَلَّ وَعَلَا-، وَأَمَّا الْعَذَابُ فَقَدْ أَخْبَرَ عَنْهُ، وَلَمْ يَصِفْ نَفْسَهُ بِهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-؛ فَلَمْ يَقُلْ: إِنِّي أَنَا الْمُعَذِّبُ! وَإِنَّمَا قَالَ عَلَى سَبِيلِ الْإِخْبَارِ وَلَمْ يَصِفْ نَفْسَهُ بِذَلِكَ: {وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ}.

 وَمِنْ رَحْمَتِهِ أَنْ خَلَقَ لِلذَّكَرِ مِنَ الْحَيَوَانِ أُنْثَى مِنْ جِنْسِهِ، وَأَلْقَى بَيْنَهُمَا الْمَحَبَّةَ وَالرَّحْمَةَ لِيَقَعَ بَيْنَهُمَا التَّوَاصُلُ الَّذِي بِهِ دَوَامُ التَّنَاسُلِ، وَانْتِفَاعُ الزَّوْجَيْنِ، وَتَمَتُّعُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِصَاحِبِهِ.

وَمِنْ رَحْمَتِهِ أَحْوَجَ الْخَلْقَ بَعْضَهُمْ إِلَى بَعْضٍ لِتَتِمَّ بَيْنَهُمْ مَصَالِحُهُمْ، وَلَوْ أَغْنَى بَعْضَهُمْ عَنْ بَعْضٍ لَتَعَطَّلَتْ مَصَالِحُهُمْ وَفَسَدَ نِظَامُهُمْ.

وَمِنْ رَحْمَتِهِ بِهِمْ أَنْ جَعَلَ فِيهِمُ الْغَنِيَّ وَالْفَقِيرَ، وَالْعَزِيزَ وَالذَّلِيلَ، وَالْعَاجِزَ وَالْقَادِرَ، وَالرَّاعِيَ وَالْمَرْعِيَّ، ثُمَّ أَفْقَرَ الْجَمِيعَ إِلَيْهِ، ثُمَّ عَمَّ الْجَمِيعَ بِرَحْمَتِهِ.

 

المصدر: عَفْوُ اللهِ الْكَرِيمِ

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  خُطُورَةُ الْكَذِبَةِ تَبْلُغُ الْآفَاقَ وَعَوَاقِبُهَا
  سَبَبُ امْتِيَازِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ بِأَفْضَلِيَّةِ الطَّاعَاتِ فِيهَا
  الدَّعْوَةُ إِلَى إِفْرَادِ اللهِ بِالْعِبَادَةِ
  حُبُّ الْوَطَنِ غَرِيزَةٌ مُتَأَصِّلَةٌ فِي النُّفُوسِ السَّوِيَّةِ
  كِبَارُ السِّنِّ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ
  لِمَاذَا يُدَمِّرُونَ دِمَشْقَ الْخِلَافَةَ؟!!
  الْبَذْلُ وَقَضَاءُ الْحَوَائِجِ عِنْدَ سَادَةِ الْبَشَرِ
  بِرُّ الْوَالِدَيْنِ مِنْ أَكْبَرِ أَسْبَابِ تَمَاسُكِ الْأُسْرَةِ
  مِنْ حُقُوقِ الطِّفْلِ فِي الْإِسْلَامِ: الرَّضَاعَةُ
  حُرْمَةُ قَتْلِ الْمُسْتَأْمَنِينَ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ
  حُسْنُ مُعَامَلَةِ وَاسْتِقْبَالِ الْوُفُودِ وَحَدِيثِي الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ
  مِنْ مَظَاهِرِ الْإِيجَابِيَّةِ: مُرَاعَاةُ حُقُوقِ إِخْوَانِكَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ
  مَفْهُومُ الْجِهَادِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالِادِّعَاءِ
  دِينُ الرَّحْمَةِ وَالْأَخْلَاقِ
  كُبْرَى مُقَدَّسَاتِ الْمُسْلِمِينَ فِي خَطَرٍ عَظِيمٍ الْيَوْمَ!
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان