الدرس السابع : «العَدْلُ»


«دُرُوسٌ مُهِمَّةٌ لِعُمُومِ المُسْلِمِينَ فِي رَمَضَانَ»

«الدرس السابع» 

«العَدْلُ»

إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.

وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.

وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

«الإسلامُ هو دينُ العدلِ والإِحْسَانِ»

فالإسلامُ هو دينُ العدلِ والإِحْسَانِ؛ دينُ العَدْلِ الذي أَمَرَ المُسْلِمِينَ أنْ يَعْدِلُوا مَع إِخْوَانِهِم وَغَيْرِ إِخْوَانِهِم, أَمَرَهُم أَنْ يَلْتَزِمُوا العَدْلَ في جَمِيعِ حَيَاتِهِم، وَأَنْ يُحسِنُوا إلى النَّاسِ, فهذه الآيةُ التي تُعْتَبَرُ مِن أَجْمَعِ مَا نَزَلَ في القُرْآنِ الكَرِيمِ هيَ: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل: 90].

وَقد قَرَنَ اللهُ تعالى العَدْلَ فيها بِالإِحْسَانِ؛ لأنَّ العَدْلَ وَحْدَهُ قد يُؤدِّي إلى الجَوْرِ, فَمَن أَرَادَ أَنْ يَسْتَوفِيَ حَقَّهُ كَامِلًا قَد يَقَعُ فِيمَا لا يَحِلُّ كُلُّهُ، لَكِنَّهُ إذا أَخَذَ العَدْلَ ومَعَهُ الإِحْسَانُ تَرَكَ بَعْضَ مَا يَسْتَحِقُّهُ رَغْبَةً فِيمَا حَثَّهُ اللهُ تعالى عليه مِن الإحسانِ.

قَالَ تَعَالَى: ﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [البقرة: 195].

وربُّنا -جَلَّ وَعَلَا- يَقُولُ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ﴾ [المائدة: 8].

أي: شُهَدَاءَ بِالعَدْلِ, تَقُولُونَ العَدْلَ وَتَعْمَلُونَ بهِ وتُطَبِّقُونَهُ عَلَى أَنْفُسِكِم وَعَلَى غَيْرِكِم.

قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المائدة: 8].

أي: لا تَحْمِلَنَّكُم عَدَاوَاتُكُم لِبَعْضِ النَّاسِ أَنْ تَجورُوا, ﴿اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾(1).

«أَمَرَ اللهُ بِأَدَاءِ الأَمَانَاتِ وَالحُكْمِ بِالعَدْلِ»

قالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)﴾ [النساء: ٥٨ ٥٩].

قَالَ العَلَّامَةُ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: الأَمَانَاتُ: كلُّ ما اؤتُمِنَ عليه الإنسانُ وَأُمِرَ بالقيامِ به، فَأَمَرَ اللهُ عِبَادَهُ بِأَدَائِهَا، أي: كَامِلَةً مُوَفَّرَةً، لا مَنْقُوصَةً وَلَا مَبْخُوسَةً، ولا مَمْطُولًا بِهَا، وَيَدْخُلُ في ذلك أَمَانَاتُ الولايَاتِ والأَمْوَالِ والأَسْرَارِ؛ والمَأْمُورَاتِ التي لا يَطَّلِعُ عليها إلَّا الله، وَقَد ذَكَرَ الفُقَهَاءُ أنَّ مَن اؤتُمِنَ أَمَانَةً وَجَبَ عليه حِفْظُهَا في حِرْزِ مِثْلِهَا، قَالوا: لأنه لا يُمْكِنُ أَدَاؤُهَا إِلَّا بِحِفْظِهَا؛ فَوَجَبَ ذَلِكَ.

 

وفي قَوْلِهِ: ﴿إِلَىٰ أَهْلِهَا﴾ دَلَالَةٌ على أَنَّهَا لا تُدْفَعُ وتُؤَدَّى لِغَيْرِ المُؤتَمِنِ، وَوَكِيلُهُ بِمَنْزِلَتِهِ؛ فَلَو دَفَعَهَا لِغَيْرِ صَاحِبِهَا لَم يَكُن مُؤدِّيًا لَهَا.

﴿وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾: وَهَذَا يَشْمَلُ الحُكْمَ بَيْنَهُم في الدِّمَاءِ, والأَمْوَالِ وَالأَعْرَاضِ، القَلِيلِ مِن ذَلِكَ وَالكَثِيرِ، عَلَى القَرِيبِ والبَعِيدِ، وَالبَرِّ والفَاجِرِ، والوَلِيِّ والعَدُوِّ.

والمُرَادُ بِالعَدْلِ الذي أَمَرَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بِالحُكْمِ به, هو مَا شَرَعَهُ اللهُ على لِسَانِ رَسُولِهِ مِنَ الحدُودِ والأَحْكَامِ، وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ مَعْرَفَةَ العَدْلِ لِيَحْكُمَ به، وَلَمَّا كانت هذه أَوَامِرَ حَسَنَةً عَادِلَةً قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: ﴿إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ وَهَذَا مَدحٌ مِنَ اللهِ لأَوَامِرِهِ وَنَواهِيهِ، لاشْتِمَالِهَا عَلَى مَصَالِحِ الدَّارَيْنِ وَدَفعِ مَضَارِّهِمَا، لأنَّ شَارِعَهَا السَّمِيعُ البَصِيرُ الذي لا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، يَعْلَمُ مِن مَصَالِحِ العِبَادِ مَا لَا يَعْلَمُونَ.

ثُمَّ أَمَرَ بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ، وذلك بامْتِثَالِ أَمْرِهِمَا الوَاجِبُ والمُسْتَحَبُّ، واجتنَابِ نَهْيِهِمَا، وَأَمَرَ بِطَاعَةِ أُولِي الأَمْرِ، وَهُم: الولاةُ على النَّاسِ، مِنَ الأُمَرَاءِ والحُكَّامِ والمُفْتِينَ، فَإِنَّهُ لا يَسْتَقِيمُ للنَّاسِ أَمْرُ دِينِهِم ودُنْيَاهُم إِلَّا بِطَاعَتِهِم والانْقِيَادِ لَهُم، طَاعَةً للهِ وَرَغْبَةً فِيمَا عِنْدَهُ، لَكِنْ بِشَرْطِ أَلَّا يَأْمُرُوا بِمَعْصِيَةِ اللهِ، فَإِنْ أَمَرُوا بذلك فَلَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ في مَعْصِيَةِ الخَالِقِ، وَلَعَلَّ هذا هو السِّرُّ في حَذْفِ الفِعْلِ عِنْدَ الأَمْرِ بِطَاعَتِهِم وَذِكْرِهِ مَعَ طَاعَةِ الرَّسُولِ، فَإِنَّ الرَّسُولَ لَا يَأمُرُ إلَّا بِطَاعَةِ اللهِ، وَمَنْ يُطِعْهُ فَقَد أَطَاعَ اللهَ، وَأَمَّا أُولُو الأَمْرِ فَشَرْطُ الأَمْرِ بِطَاعَتِهِم أَنْ لَا يَكُونَ مَعْصِيَةً.

 

 

ثُمَّ أَمَرَ بِرَدِّ مَا تَنَازَعَ النَّاسُ فيه مِن أُصُولِ الدِّينِ وفروعِهِ إلى اللهِ, وإلى الرسُولِ، أي: إلى كتابِ اللهِ وسُنَّةِ رَسُولِه؛ فَإِنَّ فيهما الفَصْلَ في جَمِيعِ المَسَائِلِ الخِلَافِيَّةِ، إِمَّا بِتَصْرِيحِهِمَا أو عُمُومِهِمَا؛ أو إيمَاءٍ، أو تَنْبِيهٍ، أو مَفْهُومٍ، أو عُمُومِ مَعْنىً يُقَاسُ عليه ما أَشْبَهَهُ؛ لأنَّ كِتابَ اللهِ وسُنَّةَ رسولِه عليهما بِنَاءُ الدِّينِ، ولا يَسْتَقِيمُ الإيمانُ إلَّا بِهِمَا.

فَالرَّدُّ إليهما شَرْطٌ في الإيمان؛ لهذا قالَ: ﴿إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ فَدَلَّ ذَلِكَ على أنَّ مَنْ لم يَرُدَّ إليهِمَا مَسَائِلَ النِّزَاعِ فَلَيْسَ بِمُؤمِنٍ حَقِيقَةً، بَلْ مُؤمِنٌ بِالطَّاغُوتِ، كَمَا ذكرَ في الآيةِ بَعْدَهَا.

﴿ذَٰلِكَ﴾ أي: الردُّ إلى اللهِ ورَسُولِهِ ﴿خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ فَإِنَّ حُكْمَ اللهِ وَرَسُولِهِ أَحْسَنُ الأَحْكَامِ وَأَعْدَلُهَا وَأَصْلَحُهَا للنَّاسِ في أَمْرِ دِينِهِم وَدُنيَاهُم وَعَاقَبَتِهِم.

هذا دينُ اللهِ، دِينُ الإسلامِ الذي جَاءَ به مُحَمَّدٌ ﷺ لا غَدْرَ فيه ولا خِيَانَةَ فيه، وإِنَّمَا هو عَدْلٌ مُطْلَقٌ, وَحَقٌ كَامِلٌ, وَأَمَانَةٌ شَامِلَةٌ.

«اتَّقُوا الظُّلْمَ وَعَوَاقِبِهِ الجَسِيمَةِ»

الإسلامُ حَرَّمَ الظُّلْمَ وَجَعَلهُ مِن كَبَائِرِ الذنوبِ وَتَوَعَّدَ الظَّالِمِينَ، فَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ﴾ [ابراهيم: 42-43].

وَهدَّدَ اللهُ جَلَّ وَعَلَا- الظَّالِمِينَ فَقَالَ -عزَّ مِن قَائِلٍ-: ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ﴾ [الشعراء: 227].

اللهُ تبارك وتعالى- يُبيِّنُ لنا أنَّ مَن أنعمَ اللهُ تبارك وتعالى- عليه بنعمةِ الإسلامِ؛ فأخلصَ الدين وأقامَ التوحيد؛ فلا خوفٌ عليهم ولا هُم يحزنون: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ﴾ [الأنعام: 82].

في «صحيح البخاري» وعند مسلم أيضًا من روايةٍ أخرى: أنَّ الصحابة رضي الله عنهم- لمَّا نزلت هذه الآية؛ فَزِعوا إلى رسولِ الله ﷺ، فقالوا: أيُّنا لم يظلم نفسَهُ يا رسول الله؟

فقال ﷺ: «لَيْسَ ذَاكَ، أَلَم تَسْمَعُوا قَوْلَ لُقْمَان لابْنِهِ: ﴿يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: 13]؟»

فَنَهَى اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَنِ الشِّرْكِ به، والشِّرْكُ به أَظْلَمُ الظُّلْمِ وَأَفْظَعُهُ وَأَعْظَمُهُ، وَأَمَرَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالعَدْلِ، وَأَعْدَلُ العَدْلِ وَأَفْخَمُهُ وَأَقْوَمُهُ: تَوْحِيدُ اللهِ جَلَّ وَعَلَا-.

لَقَد حَذَّرَ النبيُّ ﷺ الأمةَ من الظُّلمِ؛ لأن أَمْرَها لا يقومُ إلا على العدل، فالعدلُ أساسُ المُلك، وما حَمَى مَلِكٌ ولا سلطانٌ ولا حاكمٌ ولا أميرٌ مُلْكَهُ بمِثْلِ العدلِ.

إنَّ اللهَ يُقيمَ الدولةَ العادلةَ ولو كانت كافرة، ولا يُقيمُ الدولةَ الظالمةَ ولو كانت مسلمة.

قال رسول الله ﷺ: «الظلمُ ظلماتٌ يوم القيامة»، وهو حديثُ عبدِ اللهِ بنِ عُمرٍ رضي الله عنهما- في «الصحيحين».

ومن حديثِ جابر يقول: قال رسول الله ﷺ: «اتَّقُوا الظُّلْمَ؛ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».

يُبيِّنُ النبيُّ ﷺ أنَّ دعوةَ المظلوم ليس دونَها حجاب: «واتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ دُونَهَا حِجَابٌ».

اتقِ دعوةَ المظلومِ ولو كان فاجرًا، ففجورُهُ على نفسِهِ.

اتق دعوةَ المظلوم؛ فإنها تصعدُ إلى السماءِ كأنها شرارة.

اتقِ دعوةَ المظلومِ ولو كان كافرًا.

شيءٌ لم يرضهُ اللهُ تبارك وتعالى- لنفسِهِ، أفيرضاهُ من أحدٍ من خَلْقِهِ؟!

«يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا؛ فَلَا تَظَالَمُوا»، لا تظلموا أنفسَكم.

يقول الرسولُ ﷺ: «مَن ظلمَ قِيدَ شِبرٍ مِن الأرضِ؛ طُوِّقَهُ من سبعِ أَرَضِينَ يوم القيامة».

يقول النبيُّ ﷺ مُحَذِّرًا أنْ يركنَ الإنسانُ إلى المُهلة، فإنَّ اللهَ لا يعجلُ لعجلةِ أحد، ويُملي للظالمِ حتى إذا أخذَهُ لم يُفْلتهُ.

كما قال رسول الله ﷺ: «لَتُؤَدُّنَّ الحُقُوقَ إِلَى أهْلِهَا يَومَ القِيَامَةِ، حَتَّى يُقَادَ للشَّاةِ الجَلْحَاءِ مِنَ الشَّاةِ القَرْنَاءِ»، لأنَّ الشَّاةَ القَرْنَاءَ لَا شَكَّ تُؤلِمُ الجَلْحَاءَ أَكْثَرَ مِمَّا تُؤلِمُهَا أخْتُهَا.

يبعثُ اللهُ الخلائق ليُقيمَ العدل، وليرفعَ القسط، ويأتي بهذه الحيوانات إقامةً للعدل ورفعًا للقِسط، فتقتصُّ منها كما نطحتها في الدنيا، يقول الرسول ﷺ: « لَتُؤَدُّنَّ الحُقُوقَ إِلَى أهْلِهَا يَومَ القِيَامَةِ، حَتَّى يُقَادَ للشَّاةِ الجَلْحَاءِ مِنَ الشَّاةِ القَرْنَاءِ».

فاتَّقُوا اللهَ، لَا تَظْلِمُوا أَنْفُسَكُم، اتَّقُوا الظُّلْمَ؛ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ القِيَامَةِ، والظُّلْمُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ:

*نوعٌ لا يَغْفِرُ اللهُ منه شيئًا: وهو الشركُ باللهِ جلَّ وعلا-: فـ ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ﴾ [النساء: 48]، فهذا النوعُ لا يتركُ اللهُ منه شيئًا، وإنما يؤاخِذُ به ولا يغفرُ منه شيئًا، وإنما يُعذِّبُ به: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: 13].

*ونوعٌ لا يتركُ اللهُ تبارك وتعالى- منه شيئًا: وهو ظُلمُ العبادِ بعضِهم بعضًا: فلابد من إقامةِ العدل، ومَن لم يتحصل على حقِّهِ في هذه الحياة؛ فسوف يتحصلُ عليه حتمًا لا محالة.

كما قال رسول ﷺ: «مَن كان عنده مَظلمةٌ لأَخِيهِ مِن مَالٍ أو عِرْضٍ؛ فَلْيُؤدِّهَا في هذه الحَيَاةِ قَبْلَ ألَّا يَكُونَ دِرْهَمٌ ولا دِينَارٌ، وَإِنَّمَا هِيَ الحَسَنَاتُ والسَّيِّئَاتُ، فَيُؤخَذُ مِن حَسَنَاتِهِ ليُعْطَى مَن ظَلَمَهُ، فَإِنْ فَنِيَت حَسَنَاتُهُ؛ أُخِذَ مِن سَيِّئَاتِ المَظْلُومِ فَطُرِحَ عليه ثُمَّ طُرِحَ في النَّارِ».

اتقوا الله، حافظوا على أعمالِكم، لا تجعلوها نهبًا للخصوماتِ والقصاصِ يوم القيامة؛ لأن الرجلَ يُعرضُ عليه كتابُهُ، حتى إذا ما أحسَّ أنه قد نجا، يقومُ مَن يقولُ ممن ظلمَهُ: يا رب أعطني حقي عند عبدك هذا، فيُعطى من حسناتِهِ، فما تزالُ تجتمعُ عليه مُحقَّرات الذنوبِ حتى يُلقى في النارِ وبئس القرار.

حافظوا على أعمالِكم، فالعِبرةُ ليست بالعملِ الصالحِ وحده، وإنما في الحفاظِ عليه؛ فكم ممن عَمِلَ صالحًا ثم لم يجد شيئًا؟!!

«تدرون ما المُفلس؟»

قالوا: مَن لا درهم له ولا دينار.

قال: «لا، المفلسُ من أتى يوم القيامةِ بأعمالٍ عظيمةٍ كالجبال، فيأتي وقد ضربَ هذا، وشتمَ هذا، وأخذَ مالَ هذا، وظلمَ هذا، فيأخذُ هذا من حسناتِهِ، وهذا من حسناتِه، وهذا من حسناتِه، حتى إذا فَنيت حسناتُه؛ أُخِذَ من سيئاتهم، فطُرح عليه، ثم طُرِح في النار».

فَاتَّقِ اللهَ، لا تَظْلِم، إيَّاكَ أنْ تَحْسَبَ أَنَّكَ بَعِيدٌ عن المُؤاخَذَةِ دنيا وآخرة، مَن ظَلَمَ؛ يُؤاخَذُ بالشرعِ، فإنْ أَفْلَتَ فَبِعِقَابِ اللهِ دنيا قَبْلَ الآخرة؛ لأنه ما مِن ذَنْبٍ أَجْدَرُ أنْ تُعَجَّلَ له العقوبةُ في الدنيا مع مَا يُدَّخَرُ له مِن العَذَابِ في الآخرةِ مِن البَغْي وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ.

تَبْغِي؟!! مَن أَنْت؟!!

أَلَا تَنْظُرُ في نَفْسِكَ وَمَا يَحْمِلُ بَطْنُكَ؟!

مَن تَكُون؟!

إِنَّكَ لَا تَمْلِكُ لِنَفْسِكَ مِن نَفْسِكَ شَيْئًا... يُمْرِضُكَ؛ فَهَلْ تَمْلِكُ لِنَفْسِكَ حِيلَةً أَوْ دَفْعًا؟

يُمِيتُكَ؛ هَل يُمْكِنُ أَنْ تَعْتَرِضَ عَلَى رُسُلِ اللهِ الذين أَتَوْا لِيَقْبِضُوا رُوحَكَ؟!!

مَن تَكُون وَمَا تَكُون؟!!

اتَّقِ اللهَ في نَفْسِكَ، إِذَا أَخَذَكَ؛ فَلَن يُفْلِتْكَ.

اتَّقِ اللهَ، لا تَظْلِم، إِيَّاكَ أَنْ تَظْلِمَ، سَيَأخُذُكَ، وأنا على يقينٍ من ربِّي بأنَّ اللهَ حرَّم الظلمَ على نفسِهِ، أفيرضاهُ لك؟!!

مَن تكون أنت؟!!

اتق الله، أدِّ الحقوقَ إلى أربابِها، واضْبِط نَفْسَكَ، وَأَمْسِك لَفْظَكَ، وَاتَّقِّ اللهَ في بَصَرِكَ وَسَمْعِكَ، وفي مَطْعَمِكَ وَمَشْرِبِكَ.

وصلى اللهُ وسلم على نبيِّنا مُحمد وعلى آلِهِ وأصحابِهِ ومَن دعا بدعوتِهِ إلى يومِ الدين.

 المصدر:دُرُوسٌ مُهِمَّةٌ لِعُمُومِ المُسْلِمِينَ فِي رَمَضَانَ

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  الْمُسْلِمُونَ جَسَدٌ وَاحِدٌ
  كُنْ بَارًّا بِوَطَنِكَ وَفِيًّا لَهُ!!
  جُمْلَةٌ مِنْ عَلَامَاتِ حُسْنِ الْخَاتِمَةِ
  فَلْنَتَّقِ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا-، وَلْنُحَقِّقْ مَقْصُودَ الصِّيَامِ -التَّقْوَى-
  اسْتِقْبَالُ الْعَشْرِ بِتَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ وَالِاتِّبَاعِ
  تَقَرَّبُوا إِلَى اللهِ وَافْرَحُوا فِي عِيدِكُمْ
  مِنْ مَظَاهِرِ الْإِيجَابِيَّةِ: حُبُّ الْوَطَنِ الْإِسْلَامِيِّ وَالدِّفَاعُ عَنْهُ
  المَوْعِظَةُ الحَادِيَةَ عَشْرَةَ : ((رَمَضَانُ شَهْرُ الْأَحْدَاثِ وَالِانْتِصَارَاتِ الْعَظِيمَةِ))
  رِسَالَةٌ أَخِيرَةٌ مُهِمَّةٌ وَجَامِعَةٌ إِلَى الأُمَّةِ المِصْرِيَّةِ خَاصَّةً
  مُحَاسَبَةُ النَّفْسِ وَتَغْيِيرُهَا بِدَايَةُ طَرِيقِ إِصْلَاحِ الْأُمَّةِ
  سُلُوكُ الصَّائِمِينَ الْمُتَّقِينَ
  التَّثَبُّتُ فِي الْأَخْبَارِ وَخُطُورَةُ إِذَاعَةِ الْكَذِبِ
  الدَّعْوَةُ إِلَى إِفْرَادِ اللهِ بِالْعِبَادَةِ
  رَحْمَةُ الْإِسْلْامِ فِي فُتُوحَاتِهِ وَنَبْذُهُ لِلْعُنْفِ وَالْعُنْصُرِيَّةِ
  إِذَا انْهَارَتِ الْأَخْلَاقُ انْهَارَ الْمُجْتَمَعُ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان