«دُرُوسٌ مُهِمَّةٌ لِعُمُومِ المُسْلِمِينَ فِي رَمَضَانَ»
«الدرس الثاني عشر»
«الحَيَاءُ»
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
«الحَيَاءُ لَا يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ»
فَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» وَ«السُّنَنِ» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ –رضي الله عنه- قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَ وَسِتُّونَ أَوْ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً, فَأَعْلَاهَا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ, وَأَدْنَاهَا: إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ, وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ».
فَذَكَرَ النَّبِيُّ ﷺ شُعَبَ الإيمانِ عَلَى سَبِيلِ الإِجْمَالِ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ، وذَكَرَ النَّبِيُّ ﷺ سَقْفَ تِلْكَ الشُّعَبِ، وَذَكَرَ أَدْنَاهَا، وخَصَّ بِالذِّكْرِ شُعْبَةً مِنْ شُعَبِ الإِيمَانِ، وَهِيَ الحَيَاءُ، قَالَ: «وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ».
وَقَدْ يَتَسَاءَلُ الإِنْسَانُ: لِمَاذَا خَصَّ النَّبِيُّ ﷺ الحَيَاءَ بِالذِّكْرِ دُونَ سَائِرِ الشُّعَبِ الَّتِي لَمْ يَذْكُرْهَا؟
والجَوَابُ: أَنَّ الحَيَاءَ إِنَّمَا هُوَ كَالْأَسَاسِ الَّذِي تَقُومُ عَلَيْهِ سَائِرُ الشُّعَبِ؛ لِأَنَّ الِإنْسَانَ إِذَا كَانَ يَسْتَحْيِي مِنَ اللهِ –تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ فَإِنَّهُ لَنْ يَأْتِيَ بِمَا فِيهِ مَعْصِيَةٌ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِاللهِ –تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَوْ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْبَشَرِ، وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ لِكُلِّ دِينٍ خُلُقًا، وَأَنَّ خُلُقَ الإِسْلَامِ الْحَيَاءُ.
وَالْحَيَاءُ: خُلُقٌ يَبْعَثُ عَلَى عَدَمِ التَّقْصِيرِ فِي حَقِّ ذِي الحَقِّ، وَيَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَتَوَرَّطَ الإِنْسَانُ فِيمَا يَقْبُحُ أَوْ يَسُوءُ، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ ذَلِكَ البَاعِثُ الَّذِي يَبْعَثُهُ عَلَى إِعْطَاءِ كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ اللهِ –تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْ تَوْحِيدِهِ وَعِبَادَتِهِ، وَالْقِيَامِ بِمُعَامَلَتِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَلِيقُ بِهِ –جَلَّ وَعَلَا-، وَفِي الْوَقْتِ عَيْنِهِ فَإِنَّهُ لَا يَأْتِي بِمَا يَقْبُحُ أَوْ بِمَا يَسُوءُ وَقَدْ تَحَلَّى بِخُلُقِ الحَيَاءِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَخْلَاقِ الإِسْلَامِ.
وَقَدْ مَرَّ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ يَعِظُ رَجُلًا فِي الحَيَاءِ، يَعْنِي: وَجَدَ أَخَاهُ يَسْتَحْيِي، فَكَانَ يَعِظُهُ بِأَلَّا يَأْخُذَ بِهَذَا الخُلُقِ أَوْ نَحْوًا مِنْ هَذَا، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «دَعْهُ؛ فَإِنَّ الحَيَاءَ لَا يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ».
ومَفْهُومُ هذَا المَنْطُوقِ: أَنَّ مَنْ عُدِمَ الحَيَاءَ؛ فَإِنَّهُ لَا يَأْتِي مِنْهُ خَيْرٌ، «إِنَّ الْحَيَاءَ لَا يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ».
«إذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْت»
والنبيُّ ﷺ قَدْ بَيَّنَ لَنَا كما في حديثِ البُخَارِيِّ مِنْ روايةِ أَبِي مَسْعُودٍ البَدْرِيِّ، قَالَ –رضي الله عنه-: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الْأُولَى: إذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْت».
فهذا الأَمْرُ أَمْرٌ قَدِيمٌ في الناسِ، أَنْزَلَهُ اللهُ –تبارك وتعالى- في جميعِ الرِّسَالَاتِ، وَوَصَّى بِهِ جَمِيعَ الأَنْبِيَاءِ والمُرْسَلِينَ، وَصَّوْا بِخُلُقِ الحَيَاءِ؛ فَعَلَى الإنسانِ أنْ يَكُونَ آثِرًا لِذَلِكَ آخِذًا بِهِ، وَأَلَّا يُفَرِّطَ فيهِ؛ لأنَّ مَنْ عُدِمَ الحَيَاءَ؛ عُدِمَ الخَيْرَ كُلَّهُ.
«إنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الْأُولَى: إذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْت»: وهَذَا القولُ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ: «فَاصْنَعْ مَا شِئْت» إِنَّمَا هُوَ علَى سَبِيلِ التَّهْدِيدِ، لِيْسَ ذلك عَلَى المَعْنَى الَّذِي قَدْ يَتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ؛ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ يَأْمُرُ مَنْ لَمْ يَسْتَحِ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا يشاءُ، وَأَنْ يَفْعَلَ ما يُرِيدُ؛ ولَكِنَّهُ كَقَوْلِ رَبِّنَا –تبارك وتعالى-: ﴿اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ﴾ بِمَعْنَى: أنَّ اللهَ –تبارك وتعالى- يُهَدِّدُ أَنَّكُمْ إليهِ راجِعُون، وأَنَّكُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ مَسْئُولُونَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ –جل وعلا-: ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ [الكهف: 29] ليس هذا على سَبِيلِ الإِبَاحَةِ، يَعْنِي: لَا يُبِيحُ اللهُ –تبارك وتعالى- لِمَنْ أَرَادَ الكُفْرَ أَنْ يَكْفُرَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُؤَاخِذَهُ على ذلك، ولَكِنَّ هذا علَى سَبِيلِ التَّهْدِيدِ.
إنَّا إِلَى اللهِ رَاجِعُون، فَمَسْئُولُونَ عَنْ كُلِّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ، وتُمَحَّصُ أَعْمَالُنَا بَيْنَ يَدَيِ العليمِ الخبيرِ، وَسَيُحَاسِبُ اللهُ –تبارك وتعالى- عَمَّا يُسْفِرُ عَنْهُ التَّفْتِيشُ والتَّنْقِيبُ في السَّرَائِرِ ﴿يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ﴾ [الطارق: 9]، سَيَجْعَلُ اللهُ رَبُّ العالمينَ الأعمالَ مَعْرُوضَةً عَلَى المِحَكِّ، بِمَعْنَى أَنَّ العَمَلَ الظَّاهِرَ تَكُونُ وَرَاءَهُ نِيَّةٌ، هَذِهِ النِّيَّةُ يُحَاسَبُ علَيْهَا العَبْدُ.
كان المنافقون يُصَلُّونَ وَرَاءَ النَّبِيِّ، ويَشْهَدُونَ مَعَهُ بَعْضَ الغَزَوَاتِ، وَكَانُوا فِي الظَّاهِرِ مُسْلِمِينَ، وكَانُوا كُفَّارًا في الحَقِيقَةِ، حَتَّى إنَّ اللهَ –تبارك وتعالى- ذَكَرَ لِنَبِيِّهِ ﷺ أنَّ هؤلاء المنافِقِينَ إذا جَاءُوهُ، فَشَهِدُوا بَيْنَ يَدَيْهِ أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ؛ فَهُمْ كاذِبُون، بِمَعْنَى: أَنَّ هذا القولَ لا يُوَاطِئُ ما في قُلُوبِهِمْ؛ إِذْ هُمْ بِهِ ﷺ كافرون.
«إذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْت»: فهذا على سَبِيلِ التَّهْدِيدِ، وفيه مَعْنَىً آخَرُ، وهو أنَّ الإنسانَ ينبغي عليه أنْ يَنْظُرَ في الأَمْرِ قَبْلَ الإِقْدَامِ عَلَيْهِ، فَإِنْ كان مما يُرْضِي اللهَ –جل وعلا-، ويُرْضِي النَّبِيَّ ﷺ؛ فَلْيَفْعَلْهُ وَلَا يُبَالِي بِحَيَاءٍ مِنْ فِعْلِهِ مِنَ النَّاسِ؛ لأنَّ الناسَ لا تَرْضَى عنْ صُنْعِ الخَيْرِ في الجُمْلَةِ، لِذَلِكَ بَيَّنَ رَبُّنَا –تبارك وتعالى- أنَّ المُفْلِحِينَ هُمُ الذِينَ اتَّصَفُوا بِأَرْبَعِ صِفَاتٍ، فَقَالَ اللهُ –تبارك وتعالى- في سُورَةِ العَصْرِ: ﴿وَالْعَصْرِ﴾: والعَصْرُ هَاهُنَا هُوَ الزَّمَانُ الذي هو مَحَلُّ وُقُوعِ مَا يُحِبُّهُ اللهُ وَمَا يُبْغِضُهُ ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾: فَأَقْسَمَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ أَنَّ جِنْسَ الإِنْسَانِ فِي خُسْرَانٍ، ثُمَّ اسْتَثْنَى اللهُ –تبارك وتعالى- مَنِ اتَّصَفَ بِأَرْبَعِ صِفَاتٍ، قال: ﴿إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾:.
﴿تَوَاصَوْا بِالْحَقِّ﴾ أَيْ: وَصَّى بَعْضُكُمْ بَعْضًا بِمَا يُحِبُّهُ اللهُ وَيَرْضَاهُ، وَنَهَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَمَّا يُبْغِضُهُ اللهُ –تبارك وتعالى- وَلَا يُحِبُّهُ، إِذَا فَعَلَ الإِنْسَانُ ذَلِكَ، وَأَمَرَ بالمَعْرُوفِ، وَنَهَى عَنِ المُنْكَرِ؛ فلا بُدَّ أنْ يَقَعَ عليه الأَذَى، لِذَلِكَ أَتْبَعَ ذلك بقوله: ﴿وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾، لما جاء ذِكْرُ الصَّبْرِ هَاهُنَا؟
جاء ذِكْرُ الصبرِ هاهنا؛ لأنَّ الَّذِي يُوصِي بالخَيْرِ، ويَتَوَاصَى بِهِ مَعَ الناسِ؛ لا بُدَّ أنْ يَقَعَ عَلَيْهِ الإِيذَاءُ، كما قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: ﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ [لقمان: 17]، لأنَّ الذي يقولُ للناسِ: هذا حَرَامٌ، هذا لا يجوزُ؛ يُبْغِضُهُ أصحابُ الأهواءِ، الذي يَقُولُ للناسِ: اِفْعَلُوا هذا، فهو مما يُحِبُّه اللهُ، ويَأْتِي بالدليلِ عليه مِنْ كلامِ اللهِ، ومِنْ سُنَّةِ رسولِ اللهِ؛ يُبْغِضُهُ الناسُ ويُحَارِبُونَهُ؛ لأنَّ الأمرَ بالمعروفِ والنَّهْيَ عنِ المُنْكَرِ دَعْوَةٌ إلى الِالْتِزَامِ الظاهرِ والباطنِ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ على نَبِيِّهِ ﷺ، وهذا يُعَاكِسُ شَهَوَاتِ النُّفُوسِ؛ لأنَّ الدِّينَ في الجُمْلَةِ إِنَّمَا هُوَ إِخْرَاجُ العبدِ مِنْ دَاعِيَةِ هَوَاهُ إِلَى مَا يُحِبُّه اللهُ ويَرْضَاهُ، هذا هُوَ الدِّينُ.
وهذا يَتَطَلَّبُ الصبرَ على الأَلَمِ الَّذِي يَتَأَتَّى مِنَ البُعْدِ عنِ المَحْبُوبِ للنَّفْسِ المَبْغُوضِ لِلرَّبِّ، وكذلك في حَمْلِ النَّفْسِ على الإِتْيَانِ بالطاعَةِ، وقَدْ يَلُفُّهَا ويُحِيطُ بها بَعْضُ المَشَقَّاتِ.
«مَنْ لَمْ يَتَخَلَّقْ بِالْحَيَاءِ فَهُوَ مِنَ الخَاسِرِينَ»
فهذا الخُلُقُ العظيمُ مَنْ لَمْ يَتَخَلَّقْ بِهِ فَهُوَ مِنَ الخَاسِرِينَ، «إذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْت».
قال: «دَعْهُ؛ فَإِنَّ الحَيَاءَ لَا يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ».
قال: «إنَّ لِكُلِّ دِينٍ خُلُقًا، وإِنَّ خُلُقَ الإِسْلَامِ الحَيَاءُ».
قال النَّبِيُّ ﷺ: «الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَ وَسِتُّونَ أَوْ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً, فَأَعْلَاهَا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ, وَأَدْنَاهَا: إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ», ثُمَّ قَالَ وَخَصَّ مَا قَالَ بِالذِّكْرِ: «وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ».
وأَنْتَ تَرَى ذَلِكَ فِي الْأَطْفَالِ الصِّغَارِ، وَفِي البَنَاتِ خَاصَّةً الَّتِي لَا تُبَالِي بِكَشْفِ ما يُكْشَفُ مِنْ جَسَدِهَا، الَّتِي لَا تُبَالِي وَهِيَ صَغِيرَةٌ لَمْ تُدْرِكْ بَعْدُ، الَّتِي لَا تُبَالِي بِمَا يَقْبُحُ وَيَسُوءُ؛ فَقَدْ عُدِمَتِ الحَيَاءَ.
تَلْحَظُ هَذَا الخُلُقَ فِي هَؤُلَاءِ الصِّغَارِ؛ لأنَّ الحَيَاءَ وَهْبِيٌّ وَكَسْبِيٌّ، وَهْبِيٌّ بِمَعْنَى أَنْ يَطْبَعَكَ اللهُ عَلَيْهِ، وَكَسْبِيٌّ بِمَعْنَى أَنَّكَ تُجَاهِدُ نَفْسَكَ فِي التَّخَلُّقِ بِهَذَا الخُلُقِ، بِأَنْ تَكُونَ مُرَاقِبًا للهِ؛ لأنَّ اللهَ يَرَاكَ ويَسْمَعُكَ، فَتَسْتَحْي مِنَ اللهِ –تبارك وتعالى-، وَتَفْعَلُ ما يُحِبُّ، وتَبْعُدُ عَمَّا يُبْغِضُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يُكْسِبُكَ ذَلِكَ الحَيَاءَ، كَمَا قَالَ رسولُ اللهِ: «العِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، والحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ»، يَعْنِي: أَنَّ مِنْهُ مَا هُوَ كَسْبِيٌّ، فَاجْتَهِدْ في اكْتِسَابِ الفضائلِ، وفي البُعْدِ عَنِ الرَّذَائِلِ؛ فَإِنَّ الإنسانَ لا يُقَاسُ بِظَاهِرِهِ، وَلَا بِمَنْصِبِه، وَلَا بِمَالِهِ، وَلَا بِجَاهِهِ، وَلَا بِنَسَبِهِ، يَقُولُ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ؛ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ».
أَبُو لَهَبٍ عَمُّ رسولِ الله، قُرَشِيٌّ صَلِيبةً، وَكَانَ مِنْ سَادَاتِ قُرَيْشٍ فِي الجَاهِلِيَّةِ، وأبو لَهَبٍ في النارِ كما أَخْبَرَ العَلِيُّ الغَفَّارُ، وبِلَالٌ كان عَبْدًا حَبَشِيًّا، وبِلَالٌ يَقُولُ عنه عُمَرُ –رضي الله عنه-: «أبو بَكْرٍ سَيِّدُنَا، وَأَعْتَقَ سَيِّدَنَا»، يُرِيدُ بلالًا؛ لأنَّ أبا بَكْرٍ أَعْتَقَ بلالًا –رضي الله عنهما-، فَهَذَا إِنَّمَا رَفَعَهُ الدِّينُ ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: 13](1).
« الْحَيَاءَ حَاجِزٌ عَنِ الْوُقُوعِ فِيمَا حَرَّمَ اللهُ »
اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَخْبَرَنَا عَلَى لِسَانِ نَبِيِّنَا الْأَمِينِ ﷺ عَنْ عِظَمِ فَضِيلَةِ الْحَيَاءِ، وَأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ جَعَلَ هَذَا الْخُلُقَ خُلُقَ الْإِسْلَامِ، وَخَلَّقَ النَّبِيَّ ﷺ مِنْهُ بِالنَّصِيبِ الْأَوْفَى.
وَجَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْحَيَاءَ حَاجِزًا عَنِ الْوُقُوعِ فِيمَا حَرَّمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَجَعَلَ الْحَيَاءَ مِنْ خُلُقِ الْمَلَائِكَةِ الْمُطَهَّرِينَ.
وَالنَّبِيُّ ﷺ فِي وَصْفِهِ فِي خُلُقِ الْحَيَاءِ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ: «أَنَّهُ كَانَ أَحْيَا مِنَ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا ﷺ».
«إِذَا انْهَارَتِ الْأَخْلَاقُ انْهَارَ الْمُجْتَمَعُ»
الْمُجْتَمَعُ إِذَا مَا انْهَارَتْ أَخْلَاقُهُ، وَإِذَا مَا سَقَطَتْ أَخْلَاقُهُ فِي الْحَمْأَةِ الْوَبِيلَةِ، الْمُجْتَمَعُ إِذَا ظَهَرَتْ فِيهِ الْفَاحِشَةُ؛ انْهَارَ لَا مَحَالَةَ، وَقَدْ عَلِمَ أَعْدَاءُ الْإِسْلَامِ فِي دَاخِلٍ وَخَارِجٍ؛ أَنَّهُمْ لَنْ يَنَالُوا بِالْمُوَاجَهَةِ الْعَسْكَرِيَّةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا ذَا بَالٍ؛ وَلِذَلِكَ كَانَ التَّرْكِيزُ كُلُّهُ عَلَى بَثِّ الشُّبُهَاتِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَعَلَى إِثَارَةِ نَوَازِعِ الْعَصَبِيَّةِ بَيْنَ أَبْنَاءِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ، وَبِإِثَارَةِ الشَّهَوَاتِ وَبَعْثِ النَّزَوَاتِ مِنْ مَكَامِنِهَا، فَإِذَا انْهَارَتِ الْأَخْلَاقُ؛ انْهَارَ الْمُجْتَمَعُ لَا مَحَالَةَ.
«أَفِيقُوا...فالأُمَّةُ في مِحْنَةٍ تَارِيخِيَّةٍ»
يَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نُفِيقَ؛ لِأَنَّنَا فِي ظَرْفٍ تَارِيخِيٍّ مِنْ أَعْقَدِ الظُّرُوفِ الَّتِي مَرَّتْ بِهَا الْأُمَّةُ مُنْذُ كَانَتْ أُمَّةً إِلَى يَوْمِ النَّاسِ هَذَا، لَا نَجَاةَ لَنَا إِلَّا بِأَنْ نَتَحَابَّ وَنَتَضَامَّ، وَأَنْ نَكُونَ كَالْجَسَدِ الوَاحِدِ كَمَا أَخْبَرَ رَسُولُ اللهِ، أَمَّا إِذَا قَعَدَتْ بِنَا ثَارَاتُنَا وَأَهْوَاؤُنَا، وَتَخَلَّفَتْ بِنَا نَزَوَاتُنَا وَشَهَوَاتُنَا؛ فَلَيْسَ إِلَّا الدَّمَارُ وَالْبَوَارُ، نَسْأَلُ اللهَ العَافِيَةَ.
أَسْأَلُ اللهَ رَبَّ العَالَمِينَ أَنْ يَرْحَمَنَا أَجْمَعِينَ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ.
المصدر:دُرُوسٌ مُهِمَّةٌ لِعُمُومِ المُسْلِمِينَ فِي رَمَضَانَ