((مِنْ مَعَالِمِ الرَّحْمَةِ فِي خُطْبَةِ الْوَدَاعِ:
نَبْذُ وَهَدْمُ الْعُنْصُرِيَّةِ وَالْعَصَبِيَّةِ))
إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ -فِي ذَلِكَ الْمَوْقِفِ- بَيَّنَ لِلْمُسْلِمِينَ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونُوا عَلَيْهِ مِنَ التَّرَابُطِ وَالتَّعَاوُنِ وَالتَّنَاصُحِ، وَالتَّشَاوُرِ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا فَضْلَ لِأَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ إِلَّا بِالتَّقْوَى: ((فَلَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا عَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا لِأَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى)) .
وَالتَّقْوَى هِيَ الْمِيزَانُ الَّذِي بِهِ التَّفَاضُلُ، وَهِيَ فِعْلُ الْمَأْمُورِ وَتَرْكُ الْمَحْظُورِ.
*اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- كَرَّمَ بَنِي آدَمَ، وَفَضَّلَهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ تَفْضِيلًا عَظِيمًا؛ فَقَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70].
وَنُقْسِمُ مُؤَكِّدِينَ أَنَّنَا كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ بِالْعَقْلِ، وَالنُّطْقِ، وَالتَّمْيِيزِ، وَاعْتِدَالِ الْقَامَةِ، وَحُسْنِ الصُّورَةِ، وَبِتَسْخِيرِ جَمِيعِ مَا فِي الْأَرْضِ لَهُمْ، وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ عَلَى الدَّوَابِّ وَالْمَرَاكِبِ الَّتِي هَدَيْنَاهُمْ إِلَى صُنْعِهَا، وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَحْرِ عَلَى السُّفُنِ، وَرَزَقْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ لَذِيذِ الْمَطَاعِمِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَنَاكِحِ، وَمُمْتِعَاتِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَسَائِرِ الْحَوَاسِّ، وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ تَفْضِيلًا عَظِيمًا.
*اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- خَلَقَ النَّاسَ جَمِيعًا مِنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ، وَجَعَلَ أَرْفَعَهُمْ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَتْقَاهُمْ لَهُ؛ فَقَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لحجرات: 13].
يَا أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ آدَمَ وَحَوَّاءَ، فَالْمَجْمُوعَةُ الْبَشَرِيَّةُ كُلُّهَا تَلْتَقِي عَلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ، وَبَيْنَ النَّاسِ أُخُوَّةٌ إِنْسَانِيَّةٌ عَامَّةٌ.
وَجَعَلْنَاكُمْ جُمُوعًا عَظِيمَةً وَقَبَائِلَ مُتَعَدِّدَةً؛ لِيَعْرِفَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فِي قُرْبِ النَّسَبِ وَبُعْدِهِ، لَا لِلتَّفَاخُرِ بِالْأَنْسَابِ وَالتَّعَالِي بِالْأَحْسَابِ، إِنَّ أَرْفَعَكُمْ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَتْقَاكُمْ لَهُ.
إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ عِلْمًا كَامِلًا شَامِلًا بِظَوَاهِرِكُمْ، وَيَعْلَمُ أَنْسَابَكُمْ، خَبِيرٌ عَلَى سَبِيلِ الشُّهُودِ وَالْحُضُورِ بِبَوَاطِنِكُمْ، لَا تَخْفَى عَلَيْهِ أَسْرَارُكُمْ، فَاجْعَلُوا التَّقْوَى زَادَكُمْ إِلَى مَعَادِكُمْ.
لَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ النَّاسَ جَمِيعًا سَوَاسِيَةٌ كَأَسْنَانِ الْمُشْطِ، وَأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ عَرَبِيٍّ وَعَجَمِيٍّ، وَلَا فَضْلَ لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، إِلَّا بِتَقْوَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَطَاعَتِهِ.
وَأَعْلَنَ النَّبِيُّ ﷺ حُرْمَةَ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ، وَفِي يَوْمِ النَّحْرِ، وَفِي أَوْسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ: ((إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ؛ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا)).
وَأَشْهَدَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى الْبَلَاغِ الْمُبِينِ: ((اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ)).
فَيَقُولُونَ: نَعَمْ.
يَرْفَعُ إِصْبَعَهُ السَّبَّاحَةَ إِلَى السَّمَاءِ، وَيَنْكُتُهَا إِلَيْهِمْ: ((اللَّهُمَّ فَاشْهَدْ، اللَّهُمَّ فَاشْهَدْ، اللَّهُمَّ فَاشْهَدْ)) .
فَبَلَّغَ النَّبِيُّ ﷺ الْبَلَاغَ الْمُبِينَ.
وَأَخْرَجَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَى يَدَيْهِ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، فَصَارُوا عَابِدِينَ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مُوَحِّدِينَ.
وَأَعْلَمَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ -كَمَا أَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي ((مُسْنَدِهِ)) : ((أَيُّهَا النَّاسُ! كُلُّكُمْ لِآدَمَ، وَآدَمُ خُلِقَ مِنَ التُّرَابِ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا لِأَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِتَقْوَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)).
وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ اللهَ قَدْ أَرْسَى دَعَائِمَ الدِّينِ، وَأَقَامَ أَسَاسَ الْمِلَّةِ الْمَتِينَ، وَأَنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَأِسَ أَنْ يُعْبَدَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ، بَعْدَ أَنْ أَرْسَى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مَعَالِمَ الْمِلَّةِ الْغَرَّاءِ.
وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ الْمَحَجَّةَ وَأَقَامَ الْحُجَّةَ، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَلَا لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ)).
وَأَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ بِالْأُخُوَّةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَعْظَمِ مَشْهَدٍ شَهِدَهُ ﷺ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ حُرْمَةَ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ، وَنَادَى النَّبِيُّ ﷺ النَّاسَ أَجْمَعِينَ: ((أَيُّهَا النَّاسُ!))، فَتَوَجَّهَ النَّبِيُّ ﷺ بِالْخِطَابِ إِلَى النَّاسِ، وَمَا كَانَ حَاضِرًا مَعَهُ إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ، وَلَكِنَّهُ ﷺ كَأَنَّمَا يُشِيرُ أَنَّهُ لَا فَلَاحَ لِلْبَشَرِيَّةِ وَلَا سَعَادَةَ لَهَا إِلَّا بِاتِّبَاعِ نَهْجِهِ ﷺ.
وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَالْبُنْيَانِ الْمَرْصُوصِ، كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ، ((مَثَلُ الْمُسْلِمِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ)) .
وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ ((أَنَّ الْمُسْلِمَ لِلْمُسْلِمِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا -وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ ﷺ-)) .
*تَحْذِيرٌ شَدِيدٌ مِنَ النَّبِيِّ الرَّشِيدِ ﷺ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ:
إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَدْ حَذَّرَ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَبَيَّنَ أَنَّ ((مَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عُمِّيَّةٍ، يُقَاتِلُ لِلْعَصَبِيَّةِ، وَيَقْتُلُ لِلْعَصَبِيَّةِ، فَقِتْلَتُهُ جَاهِلِيَّةٌ)) .
وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ الْعَصَبِيَّةَ مُنْتِنَةٌ، وَأَنَّهَا مِنْ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي ((صَحِيحَيْهِمَا)) ، عَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: كُنَّا فِي غَزَاةٍ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ، فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ كَانَ لَعَّابًا رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ -كَسَعَهُ: أَيْ ضَرَبَهُ عَلَى دُبُرِهِ أَوْ عَلَى عَجِيزَتِهِ بِيَدِهِ أَوْ بِرِجْلِهِ أَوْ بِعُرْضِ سَيْفِهِ-، فَغَضِبَ الْأَنْصَارِيُّ غَضَبًا شَدِيدًا حَتَّى تَدَاعَى الْقَوْمُ.
فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: يَا لَلْأَنْصَارِ! وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ!
وَسَمِعَهَا النَّبِيُّ الْأَمِينُ ﷺ، فَخَرَجَ، فَقَالَ: ((مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ؟)).
فَلَمَّا أُخْبِرَ ﷺ، قَالَ: ((دَعُوهَا؛ فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ)).
حَوْلَ هَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ -حَوْلَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ تَدَاعَى كَلَقَبَيْنِ- تَدَاعَى مَنْ تَدَاعَى عَصَبِيَّةً، فَرَفَضَ النَّبِيُّ ﷺ ذَلِكَ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا، وَقَدْ مَدَحَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْمُهَاجِرِينَ فِي كِتَابِهِ، وَمَدَحَ الْأَنْصَارَ، وَمَدَحَ النَّبِيُّ ﷺ الْأَنْصَارَ فِي صَحِيحِ سُنَّتِهِ، وَمَدَحَ الْمُهَاجِرِينَ.
وَلَكِنْ لَمَّا تَدَاعَوْا حَوْلَ الِاسْمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ عَصَبِيَّةً؛ غَضِبَ ﷺ، وَقَالَ: ((مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ؟! دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ)).
((الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ؛ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، وَكَفَى بِالْمُسْلِمِ إِثْمًا أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ)) .
إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ جَعَلَ الْإِسْلَامَ لُحْمَةً وَسُدًى بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمُسْلِمُونَ شِعَارُهُمْ الَّذِي يَتَعَصَّبُونَ حَوْلَهُ هُوَ الْإِسْلَامُ الْعَظِيمُ.
*نَهْيُ النَّبِيِّ ﷺ عَنِ الْفَخْرِ بِالْأَنْسَابِ:
وَالنَّبِيُّ ﷺ قَدْ أَخْبَرَنَا: ((أَنَّ أَقْوَامًا سَيَفْتَخِرُونَ بِآبَائِهِمُ الَّذِينَ مَاتُوا إِنَّمَا هُمْ فَحْمُ جَهَنَّمَ))، فَبَيَّنَ ﷺ أَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَإِنَّمَا ((هُوَ كَالْجُعَلِ يُدَهْدِهُ الْخُرْءَ بِفِيهِ)).
فَجَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ مَنْزِلَتَهُ عَلَى هَذَا النَّحْوِ كَالْجُعَلِ؛ وَهُوَ الْجِعْرَانُ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ الْعَامَّةِ، ((يُدَهْدِهُ)): أَيْ يُدَحْرِجُ الْخُرْءَ -أَعَزَّكُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ- ((بِفِيهِ))؛ مِنْ وَضَاعَتِهِ وَحَقَارَتِهِ.
((لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ يَفْتَخِرُونَ بِآبَائِهِمُ الَّذِينَ مَاتُوا، وَإِنَّمَا هُمْ فَحْمُ جَهَنَّمَ، أَوْ لَيَكُونُنَّ عِنْدَ اللهِ أَهْوَنَ مِنَ الْجُعَلِ الَّذِي يُدَهْدِهُ الْخُرْءَ بِفِيهِ)) .
بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ خُطُورَةَ الْعَصَبِيَّةِ، وَخُطُورَةَ الِانْتِمَاءِ إِلَى الشَّعَارَاتِ الْحِزْبِيَّةِ، وَإِلَى الِانْتِمَاءَاتِ الضَّيِّقَةِ الرَّدِيَّةِ.
قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((مَنْ تَعَزَّى بِعَزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَعِضُّوهُ وَلَا تُكَنُّوهُ)).
وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ: ((فَأَعِضُّوهُ بِهَنِ أَبِيهِ وَلَا تُكَنُّوا)) .
فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ مَنِ انْتَمَى أَوِ انْتَسَبَ إِلَى الْجَاهِلِيَّةِ عَصَبِيَّةً بِشِعَارٍ مِنْ شِعَارَاتِ الْعَصَبِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَهَذَا جَزَاؤُهُ عِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُوَحِّدِينَ، ((فَأَعِضُّوهُ -فَأَمِصُّوهُ- بِهَنِ أَبِيهِ وَلَا تُكَنُّوهُ))، هَكَذَا ظَاهِرًا، وَمَا أَحَدٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يُدْعَى لِفُحْشٍ، وَلَكِنْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى مَا هُنَالِكَ مِنْ قُبْحِ الْعَصَبِيَّةِ بِانْتِمَائِهَا.
إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَدْ بَيَّنَ أَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ لِآدَمَ، وَأَنَّ آدَمَ قَدْ خُلِقَ مِنَ التُّرَابِ، ((كُلُّكُمْ لِآدَمَ، وَآدَمُ مَخْلُوقٌ مِنْ تُرَابٍ، فَلَا يَفْخَرَنَّ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ)) .
قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «.., وَإِنَّ اللهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يَبْغِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ».
وَ«لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ» .
*لَا عُنْصُرِيَّةَ فِي الْإِسْلَامِ، وَمِيزَانُ التَّفْضِيلِ عِنْدَ اللهِ هُوَ التَّقْوَى:
إِنَّ الَّذِينَ كَانُوا يَتَعَصَّبُونَ إِلَى الْعَصَبِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ، مَقَتَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ؛ ((إِذْ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ، عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ، إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ))، حَتَّى جَاءَ مُحَمَّدٌ ﷺ، وَهُوَ يَرُدُّ الْأَمْرَ إِلَى نِصَابِهِ .
لَمَّا عَيَّرَ أَبُو ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بِلَالًا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَيَّرَهُ بِلَوْنِ أُمِّهِ، فَقَالَ: يَا ابْنَ السَّوْدَاءِ.
وَاشْتَكَى بِلَالٌ أَبَا ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- إِلَى الرَّسُولِ ﷺ، فَقَالَ: ((إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ)).
النَّبِيُّ ﷺ بَيَّنَ أَنَّ ((مَنْ دَعَا بِدَعْوَى الْعَصَبِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ؛ أَوْرَدَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ النَّارَ)).
قَالُوا: وَإِنْ صَلَّى وَإِنْ صَامَ يَا رَسُولَ اللهِ؟
قَالَ: ((وَإِنْ صَلَّى وَإِنْ صَامَ وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ)) .
لَا انْتِمَاءَ إِلَّا إِلَى دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ، أَعَزَّنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهِ، وَلَيْسَ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَنْتَمِي إِلَى عَائِلَةٍ وَلَا قَبِيلَةٍ وَلَا شَعْبٍ وَلَا وَطَنٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَمَرَنَا أَنْ نَتَعَلَّمَ مِنْ أَنْسَابِنَا مَا نَصِلُ بِهِ أَرْحَامَنَا، فَقَالَ: ((تَعَلَّمُوا مِنْ أَنْسَابِكُمْ مَا تَصِلُونَ بِهِ أَرْحَامَكُمْ)) ، وَلَكِنْ لَا عَصَبِيَّةَ، وَلَا انْتِمَاءَ إِلَى الْجَاهِلِيَّةِ بِالْعَصَبِيَّةِ.
وَإِنَّمَا الِانْتِمَاءُ إِلَى دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الَّذِي أَخْرَجَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهِ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ؛ لِكَيْ يَعْلَمَ النَّاسُ كُلُّ النَّاسِ أَنَّهُمْ لِآدَمَ، وَأَنَّ آدَمَ مَخْلُوقٌ مِنْ تُرَابٍ، وَأَنَّهُ لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا لِأَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِتَقْوَى اللهِ، إِلَّا بِطَاعَةِ اللهِ .
وَنَبِيُّكُمْ ﷺ يُخْبِرُكُمْ مُنْذِرًا وَمُحَذِّرًا، فَيَقُولُ ﷺ: ((مَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ، لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ)) .
وَقَدْ نَادَى النَّبِيُّ ﷺ الْعَبَّاسَ -عَمَّ رَسُولِ اللهِ ﷺ- وَنَادَى عَمَّتَهُ صَفِيَّةَ، وَنَادَى ابْنَتَهُ فَاطِمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَعَنِ الصَّحَابَةِ وَالْآلِ أَجْمَعِينَ-: ((اعْمَلُوا لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا، يَا فَاطِمَةُ سَلِينِي مِنْ مَالِي مَا شِئْتِ، لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئًا)) .
لَا أَحْسَابَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا أَنْسَابَ، وَإِنَّمَا هُوَ الدِّينُ، فَمَنْ جَاءَ رَبَّهُ مُسْلِمًا مُوقِنًا مُحْسِنًا؛ فَلَهُ الْمَقَامُ الْأَسْنَى عِنْدَ رَبِّهِ وَهُوَ مُعَزَّزٌ مُكَرَّمٌ، وَمَنْ جَاءَ -وَلَوْ كَانَ شَرِيفًا قُرَشِيًّا- بِالْعَمَلِ الطَّالِحِ؛ فَلَهُ الْمَكَانُ الْأَرْدَى وَلَا كَرَامَةَ؛ لِأَنَّهُ لَا تَفَاضُلَ عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ إِلَّا بِالْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.
فَاجْتَهِدْ فِي اكْتِسَابِ الْفَضَائِلِ، وَفِي الْبُعْدِ عَنِ الرَّذَائِلِ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُقَاسُ بِظَاهِرِهِ، وَلَا بِمَنْصِبِه، وَلَا بِمَالِهِ، وَلَا بِجَاهِهِ، وَلَا بِنَسَبِهِ، يَقُولُ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ؛ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ)).
أَبُو لَهَبٍ عَمُّ رَسُولِ اللهِ ﷺ، قُرَشِيٌّ صَلِيبَةً، وَكَانَ مِنْ سَادَاتِ قُرَيْشٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَبُو لَهَبٍ فِي النَّارِ كَمَا أَخْبَرَ الْعَلِيُّ الْغَفَّارُ.
وَبِلَالٌ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا، وبِلَالٌ يَقُولُ عَنْهُ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَبُو بَكْرٍ سَيِّدُنَا، وَأَعْتَقَ سَيِّدَنَا)) ؛ يُرِيدُ بِلَالًا؛ لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَعْتَقَ بِلَالًا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، فَهَذَا إِنَّمَا رَفَعَهُ الدِّينُ: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الِانْتِمَاءَ إِنَّمَا هُوَ إِلَى دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ، إِلَى تَوْحِيدِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، سَوَّى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بَيْنَنَا جَمِيعًا فِي الْحُقُوقِ، وَرَفَعَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بَعْضَنَا عَلَى بَعْضٍ دَرَجَاتٍ بِالتَّقْوَى وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَمَنْ كَانَ تَقِيًّا -وَلَوْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا-؛ كَانَتْ لَهُ الْمَنْزِلَةُ عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَوْقَ مَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ -وَلَوْ كَانَ شَرِيفًا قُرَشِيًّا-.
المصدر:مَعَالِمُ الرَّحْمَةِ فِي خُطْبَةِ الْوَدَاعِ