((آدَابُ الطُّرُقِ وَالْأَمَاكِنِ الْعَامَّةِ))
لَقَدْ جَعَلَ الْإِسْلَامُ لِلطَّرِيقِ حُقُوقًا يَنْبَغِي أَنْ تُؤَدَّى؛ وَمَا أَحْوَجَ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الْوَقْتِ مِنْ تَارِيخِهِمْ إِلَى مَعْرِفَةِ الْآدَابِ الَّتِي دَلَّهُمْ عَلَيْهَا دِينُهُمْ, وَأَرْشَدَتْهُمْ إِلَيْهَا سُنَّةُ نَبِيِّهِمْ ﷺ.
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ بِالطُّرُقَاتِ)).
فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! مَا لَنَا مِنْ مَجَالِسِنَا بُدٌّ نَتَحَدَّثُ فِيهَا.
فَقَالَ: ((فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلَّا الْمَجْلِسَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ)).
قَالُوا: وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ يَا رَسُولَ اللهِ؟
قَالَ: ((غَضُّ الْبَصَرِ, وَكَفُّ الْأَذَى, وَرَدُّ السَّلَامِ, وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ, وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ فِي هَذَا الْحَدِيثِ حَقَّ الطَّرِيقِ.
فَإِذَا أَرَادَ الْمُسْلِمُ الْجُلُوسَ فِي الطُّرُقَاتِ؛ فَإِنَّهُ يُرَاعِي الْآدَابَ الْآتِيَةَ:
غَضُّ الْبَصَرِ: فَلَا يُرْسِلُ بَصَرَهُ فِي مَارَّةٍ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ, أَوْ وَاقِفَةٍ بِبَابِهَا, أَوْ مُسْتَشْرِفَةٍ عَلَى شُرُفَاتِ مَنْزِلِهَا, أَوْ مُطِلَّةٍ عَلَى نَافِذَتِهَا لِحَاجَةٍ.
كَمَا لَا يُرْسِلُ نَظَرَهُ حَاسِدًا لِأَحَدٍ, أَوْ زَارِيًا مُحْتَقِرًا أَحَدًا, وَأَنْ يَكُفَّ أَذَاهُ عَنِ الْمَارَّةِ مِنْ سَائِرِ النَّاسِ, فَلَا يُؤْذِي أَحَدًا بِلِسَانِهِ شَاتِمًا أَوْ عَائِبًا مُقَبِّحًا, وَلَا بِيَدِهِ ضَارِبًا لَاكِمًا, وَلَا سَالِبًا مَالَ غَيْرِهِ غَاصِبًا, وَلَا مُعْتَرِضًا فِي الطَّرِيقِ صَادًّا الْمَارَّةَ قَاطِعًا سَبِيلَهُمْ.
وَأَنْ يَرُدَّ سَلَامَ كُلِّ مَنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ مِنَ الْمَارَّةِ؛ لِأَنَّ رَدَّ السَّلَامِ وَاجِبٌ؛ لِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86].
وَأَنْ يَأْمُرَ بِمَعْرُوفٍ تُرِكَ أَمَامَهُ وَأُهْمِلَ شَأْنُهُ وَهُوَ يُشَاهِدُهُ؛ إِذْ هُوَ مَسْئُولٌ فِي هَذِهِ الْحَالِ عَنِ الْأَمْرِ بِهِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ، وَلَا يَسْقُطُ إِلَّا بِالْقِيَامِ بِهِ أَوِ الْعَجْزِ عَنْهُ.
وَمِثَالُهُ: أَنْ يُنَادَى لِلصَّلَاةِ وَلَا يُجِيبُ الْحَاضِرُونَ مِنْ أَهْلِ الْمَجْلِسِ, فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِإِجَابَةِ الْمُنَادِي لِلصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنَ الْمَعْرُوفِ, فَلَمَّا تُرِكَ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْمُرَ بِهِ.
وَمِثَالٌ آخَرُ: أَنْ يَمُرَّ جَائِعٌ أَوْ عَارٍ؛ فَإِنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُطْعِمَهُ أَوْ يَكْسُوَهُ إِنْ قَدَرَ, وَإِلَّا أَمَرَ بِإِطْعَامِهِ أَوْ كِسْوَتِهِ؛ إِذْ إِطْعَامُ الْجَائِعِ وَكِسْوَةُ الْعَارِي مِنَ الْمَعْرُوفِ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُؤْمَرَ بِهِ إِذَا تُرِكَ.
وَعَلَيْهِ أَنْ يَنْهَيَ عَنْ كُلِّ مُنْكَرٍ يُشَاهِدُهُ يُرْتَكَبُ أَمَامَهُ؛ إِذْ تَغْيِيرُ الْمُنْكَرِ كَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَظِيفَةُ كُلِّ مُسْلِمٍ؛ لِقَوْلِ الرَّسُولِ ﷺ: ((مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).
وَمِثَالُهُ: أَنْ يَبْغِيَ أَمَامَهُ أَحَدٌ عَلَى آخَرَ, فَيَضْرِبُهُ أَوْ يَسْلُبُهُ مَالَهُ؛ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ أَنْ يُغَيِّرَ الْمُنْكَرَ, فَيَقِفُ فِي وَجْهِ الظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ فِي حُدُودِ طَاقَتِهِ وَوُسْعِهِ.
وَعَلَى الَّذِي يَجْلِسُ فِي الطُّرُقَاتِ أَنْ يُرْشِدَ الضَّالَّ, فَلَوِ اسْتَرْشَدَهُ أَحَدٌ فِي بَيَانِ مَنْزِلٍ, أَوْ هِدَايَةٍ إِلَى طَرِيقٍ, أَوْ تَعْرِيفٍ بِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ؛ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُ الْمَنْزِلَ, أَوْ يَهْدِيَهُ الطَّرِيقَ, أَوْ يُعَرِّفَهُ بِمَنْ يُرِيدُ مَعْرِفَتَهُ.
كُلُّ هَذَا مِنْ آدَابِ الْجُلُوسِ فِي الطُّرُقَاتِ؛ كَأَنْ يَجْلِسَ أَمَامَ الْمَنْزِلِ، أَوْ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ، أَوْ مَا أَشْبَهَ.
وَأَمَّا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-, عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((لَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا يَتَقَلَّبُ فِي الْجَنَّةِ فِي شَجَرَةٍ قَطَعَهَا مِنْ ظَهْرِ الطَّرِيقِ كَانَتْ تُؤْذِي النَّاسَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَالنَّبِيُّ ﷺ قَيَّدَ بِقَوْلِهِ: ((كَانَتْ تُؤْذِي النَّاسَ))؛ فَلَا يَذْهَبَنَّ أَحَدٌ إِلَى شَجَرَةٍ لَهَا ظِلٌّ يَفِيءُ إِلَيْهِ النَّاسُ, ثُمَّ يَقُولُ: لَئِنْ قَطَعْتُ هَذِهِ فَلَأَتَحَصَّلَنَّ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الرَّسُولُ, بَلْ إِنَّهُ يَكُونُ آثِمًا.
إِنَّ مِمَّا يَحْرُمُ فِعْلُهُ عَلَى مَنْ أَرَادَ قَضَاءَ الْحَاجَةِ: الْبَوْلَ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ؛ لِحَدِيثِ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: «أَنَّهُ نَهَى عَنِ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ».
وَ((الرَّاكِدُ)): السَّاكِنُ الَّذِي لَا يَجْرِي.
هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ كَسَائِرِ مَسَائِلِ هَذَا الدِّينِ الْعَظِيمِ مِنْ مَحَاسِنِهِ، فَالنَّبِيُّ ﷺ نَهَى عَنِ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ، وَكَذَلِكَ يَكُونُ الشَّأْنُ مَعَ الْمَاءِ الْجَارِي، الْإِنْسَانُ لَا يُلَوِّثُ الْمَوَارِدَ، وَكَمَا سَيَأْتِي فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَلَاعِنِ الَّتِي يَتَّقِيهَا الْإِنْسَانُ مِنْ ظِلِّ النَّاسِ وَطَرِيقِهِمْ وَمَوَارِدِهِمْ -مَوَاضِعِ شُرْبِهِمْ-.
هَذَا شَيْءٌ مُهِمٌّ، بَلْ هُوَ مُتَعَلِّقٌ -أَيْضًا- بِالنَّظَافَةِ الْعَامَّةِ، وَمُتَعَلِّقٌ -أَيْضًا- بِالثِّقَةِ الَّتِي تَكُونُ فِي الْبُيُوتِ، فَالْمَرْأَةُ مَثَلًا مَسْئُولَةٌ عَنْ إِعْدَادِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَهِيَ لَا تُتَابَعُ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا تَكُونُ وَحْدَهَا فِيمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ رَبِّهَا، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ عَلَى دَرَجَةٍ بِوَعْيٍ يَقِظٍ فِي اتِّبَاعِ سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ لَمْ تُؤْمَنْ أَنْ تُبَاشِرَ النَّجَاسَةَ ثُمَّ تَضَعَ يَدَهَا الَّتِي بَاشَرَتِ النَّجَاسَةَ فِي طَعَامِ أَوْلَادِهَا وَزَوْجِهَا، وَهَلْ يَرَاهَا مِنْ أَحَدٍ سِوَى اللهِ؟!
وَأَمَّا الْتِزَامُ السُّنَّةِ فَشَيْءٌ آخَرُ.. هَذَا مُهِمٌّ!
يَحْرُمُ عَلَى مَنْ أَرَادَ قَضَاءَ الْحَاجَةِ الْبَوْلُ أَوِ الْغَائِطُ فِي الطَّرِيقِ، أَوْ فِي الظِّلِّ، أَوْ فِي الْحَدَائِقِ الْعَامَّةِ، أَوْ تَحْتَ شَجَرَةٍ مُثْمِرَةٍ، أَوْ مَوَارِدِ الْمِيَاهِ.. لِمَا رَوَى مُعَاذٌ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((اتَّقُوا الْمَلَاعِنَ الثَّلَاثَةَ: الْبَرَازَ فِي الْمَوَارِدِ، وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ، وَالظِّلِّ)).
مَا الَّذِي أَتَى بِهِ أَهْلُ الْعَصْرِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ مِمَّا لَا يَعْلَمُونَهُ؟!!
نَحْنُ الَّذِينَ عَلَّمْنَا الدُّنْيَا النَّظَافَةَ..
وَنَحْنُ الَّذِينَ عَلَّمْنَا الدُّنْيَا النِّظَامَ..
وَمَا عِنْدَ الْآخَرِينَ مِنْ شَيْءٍ مِنْ خَيْرٍ؛ فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ آثَارِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ مِمَّا أَخَذُوهُ مِنَّا..
نَحْنُ عَلَّمْنَا الدُّنْيَا كُلَّهَا النَّظَافَةَ وَالنِّظَامَ..
وَعَلَّمْنَا الدُّنْيَا كُلَّهَا هَذِهِ الْأُصُولَ الْعَامَّةَ الَّتِي يَسْلَمُ الْإِنْسَانُ بِهَا فِي الْحَيَاةِ..
((اتَّقُوا الْمَلَاعِنَ الثَّلَاثَةَ: الْبَرَازَ فِي الْمَوَارِدِ -وَهِيَ طُرُقُ الْمَاءِ-، وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ -قَارِعَةُ الطَّرِيقِ: وَسَطُهَا-، وَالظِّلِّ)).
وَلِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((اتَّقُوا اللَّاعِنَيْنِ)).
قَالُوا: وَمَا اللَّاعِنَانِ يَا رَسُولَ اللهِ؟
اللَّاعِنَانِ: الْأَمْرَانِ الْمُوجِبَانِ لِلَّعْنِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ فَعَلَهُمَا لُعِنَ وَشُتِمَ، فَصَارَ هَذَا سَبَبًا، ثُمَّ أُضِيفَ إِلَيْهِمَا الْفِعْلُ فَكَانَا كَأَنَّهُمَا اللَّاعِنَانِ، وَإِنَّمَا هُمَا مُسْتَجْلِبَانِ لِلَّعْنِ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لُعِنَ وَشُتِمَ.
((قَالُوا: وَمَا اللَّاعِنَانِ يَا رَسُولَ اللهِ؟!))؛ وَمَا الْأَمْرَانِ الْمُسْتَجْلِبَانِ لِلَعْنِ مَنْ فَعَلَهُمَا يَا رَسُولَ اللهِ؟!!
قَالَ ﷺ: ((الَّذِي يَتَخَلَّى –أَيْ: يَقْضِي حَاجَتَهُ- فِي طَرِيقِ النَّاسِ أَوْ فِي ظِلِّهِمْ))، فَإِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا ذَلِكَ لَعَنُوا فَاعِلَهُ وَشَتَمُوهُ وَسَبُّوهُ.
قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ آذَى الْمُسْلِمِينَ فِي طُرُقِهِمْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ لَعْنَتُهُمْ)).
وَقَالَ ﷺ: ((لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ)).
هَذِهِ كُلُّهَا مِنَ الْآدَابِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالطَّرِيقِ, فَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُرَاعِيَهَا؛ لِأَنَّ أَكْثَرَهَا إِذَا خُولِفَتْ وَقَعَ الْمُسْلِمُ بِمُخَالَفَتِهَا فِي الْحَرَامِ, فَأَكْثَرُهَا مِنَ الْوَاجِبِ الَّذِي أَوْجَبَهُ اللهُ وَأَوْجَبَهُ رَسُولُهُ ﷺ.
المصدر: الْآدَابُ وَالْحُقُوقُ الْعَامَّةُ لِلْمُجْتَمَعِ وَأَثَرُهَا فِي رُقِيِّهِ وَبِنَاءِ حَضَارَتِهِ