((مَعَانِي الْيَأْسِ وَالْقُنُوطِ وَحُكْمُهُمَا))
*مَعْنَى الْيَأْسِ وَحُكْمُهُ:
((قَالَ الْمُنَاوِيُّ: ((الْيَأْسُ: الْقَطْعُ بِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يَكُونُ، وَالْيَأْسُ ضِدُّ الرَّجَاءِ)).
وَقَالَ الْعِزُّ: ((الْيَأْسُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ: هُوَ اسْتِصْغَارٌ لِسَعَةِ رَحْمَتِهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَلِمَغْفِرَتِهِ، وَذَلِكَ ذَنْبٌ عَظِيمٌ، وَتَضْيِيقٌ لِفَضَاءِ جُودِهِ)).
الْيَأْسُ انْقِطَاعُ الرَّجَاءِ.
وَقَالَ الرَّاغِبُ: ((هُوَ انْتِفَاءُ الطَّمَعِ)).
وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: ((الْقَطْعُ عَلَى أَنَّ الْمَطْلُوبَ لَا يُتَحَصَّلُ؛ لِتَحَقُّقِ فَوَاتِهِ)).
فَهَذَا هُوَ الْيَأْسُ.
وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْيَأْسَ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: الْقُنُوطُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87].
وَإِنَّمَا عَبَّرَ بِالْيَأْسِ عَنِ الْقُنُوطِ؛ لِأَنَّ الْقُنُوطَ ثَمَرَةُ الْيَأْسِ.
الثَّانِي: الْيَأْسُ: الْعِلْمُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا} [الرعد: 31]؛ أَيْ: أَفَلَمْ يَعْلَمُوا؟!!
وَقَدْ عَدَّ ابْنُ حَجَرٍ الْيَأْسَ مِنْ رَحْمَتِهِ تَعَالَى مِنَ الْكَبَائِرِ؛ مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87].
وَبَعْدَ أَنْ ذَكَرَ عَدَدًا مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمُبَشِّرَةِ بِسَعَةِ رَحْمَتِهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، قَالَ: ((عَدُّ هَذَا كَبِيرَةً هُوَ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ لِمَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ)))).
فَالْيَأْسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ، وَالْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- مِنْ كَبَائِرِ الْإِثْمِ، وَمِنْ عَظَائِمِ الذُّنُوبِ.
*مَعْنَى الْقُنُوطِ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ وَحُكْمُهُ:
الْقُنُوطُ: مَصْدَرُ قَوْلِهِمْ: قَنَطَ يَقْنُطُ، إِذَا يَئِسَ يَأْسًا شَدِيدًا، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ مَادَّةِ (ق ن ط) الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الْيَأْسِ مِنَ الشَّيْءِ؛ يُقَالُ: قَنَطَ يَقْنِطُ قُنُوطَا مِثْلُ: جَلَسَ يَجْلِسُ جُلُوسًا.
وَكَذَلِكَ قَنَطَ يَقْنُطُ مِثْلُ: قَعَدَ يَقْعُدُ فَهُوَ قَانِطٌ.
وَفِيهِ لُغَةٌ ثَالِثَةٌ: قَنِطَ يَقْنَطُ قَنَطًا مِثْلُ: تَعِبَ يَتْعَبُ تَعَبًا، وَقَنَاطَةً فَهُوَ قَنِطٌ.
قَالَ تَعَالَى: {فَلَا تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ} [الحجر: 55]؛ أَيْ: الْيَائِسِينَ مِنَ الْوَلَدِ.
قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: ((الْقُنُوطُ هُوَ أَشَدُ الْيَأْسِ مِنَ الشَّيْءِ)).
وَقِيلَ: الْقُنُوطُ: الْيَأْسُ مِنَ الْخَيْرِ.
وَقِيلَ: أَشَدُّ الْيَأْسِ مِنَ الشَّيْءِ.
وَقِيلَ: شَرُّ النَّاسِ الِّذِينَ يُقَنِّطُونَ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ -أَيْ يُؤَيِّسُونَهُمْ-.
فِي ((فَتْحِ الْمَجِيدِ)) : ((الْقُنُوطُ هُوَ اسْتِبْعَادُ الْفَرَجِ وَالْيَأْسِ مِنْهُ، وَهُوَ يُقَابِلُ الْأَمْنَ مِنْ مَكْرِ اللهِ، وَكِلَاهُمَا ذَنْبٌ عَظِيمٌ، وَيُنَافِيَانِ كَمَالَ التَّوْحِيدِ)).
قَالَ الْمُنَاوِيُّ: ((الْقُنُوطُ: هُوَ الْيَأْسُ مِنَ الرَّحْمَةِ)).
وَقَالَ الْعِزُّ: ((الْقُنُوطُ اسْتِصْغَارٌ لِسَعَةِ رَحْمَةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَمَغْفِرَتِهِ، وَذَلِكَ ذَنْبٌ عَظِيمٌ، وَتَضْيِيقٌ لِفَضَاءِ جُودِهِ تَعَالَى)).
وَأَمَّا حُكْمُ الْقُنُوطِ:
فَقَدْ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: ((سُوءُ الظَّنِّ بِاللهِ تَعَالَى وَالْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَتِهِ مِنَ الْكَبَائِرِ)).
وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ -جَلَّ وَعَلَا- فِي الْقُنُوطِ: {وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحِجر: 56].
وَقَالَ: عَدُّ سُوءِ الظَّنِّ وَالْقُنُوطِ كَبِيرَتَيْنِ مُغَايِرَتَيْنِ لِلْيَأْسِ هُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجَلَالُ الْبُلْقِينِيُّ وَغَيْرُهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْقُنُوطَ أَبْلَغُ مِنَ الْيَأْسِ؛ لِلتَّرَقِّي إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ} [فصلت: 49].
وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الشَّخْصَ الَّذِي يَئِسَ مِنْ وُقُوعِ شَيْءٍ مِنَ الرَّحْمَةِ لَهُ مَعَ إِسْلَامِهِ، فَالْيَأْسُ فِي حَقِّهِ كَبِيرَةٌ اتِّفَاقًا، ثُمَّ هَذَا الْيَأْسُ قَدْ يَنْضَمٌّ إِلَيْهِ حَالَةٌ هِيَ أَشَدُّ مِنْهُ، وَهِيَ التَّصْمِيمُ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِ الرَّحْمَةِ لَهُ وَهُوَ الْقُنُوطُ، ثُمَّ قَدْ يَنْضَمُّ إِلَى ذَلِكَ أَنَّ اللهَ يُشَدِّدُ عِقَابَهُ لَهُ كَالْكُفَّارِ، وَهَذَا هُوَ الْمَرَادُ بِسُوءِ الظَّنِّ هُنَا)).
وَلَقَدْ نَهَى اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عَنْ هَذَا الْيَأْسِ وَذَلِكَ الْقُنُوطِ مَهْمَا كَانَتِ الْحَالُ الَّتِي وَصَلَ إِلَيْهَا الْعَبْدُ وَاسْتَقَرَّتْ فِيهَا الشِّدَّةُ.
قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53].
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ ۚ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} [الشورى: 28].
لَقَدْ ذَكَرَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- أَحْوَالًا لِعِبَادِهِ بَلَغَ فِيهَا بَعْضُهُمْ مَبْلَغَ الْحَرَجِ، وَكَادُوا فِيهَا أَنْ يَسْتَسْلِمُوا لِلْيَأْسِ فَجَاءَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ الْفَرَجُ، وَأَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ بِتَبْدِيدِ الشَّدَائِدِ، وَإِزَالَةِ الْكُرَبِ.
عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ: الْإِشْرَاكُ بِاللهِ، وَالْأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللهِ، وَالْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ، وَالْيَأْسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ)) .
فَاعْلَمْ أَيُّهَا الْأَخُ الْحَبِيبُ! أَنَّ الْيَأْسَ مِنْ رَوْحِ اللهِ، وَأَنَّ الْقُنُوطَ مِنْ رَحْمَتِهِ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ، وَمِنْ عَظَائِمِ الْإِثْمِ، فَإِنْ تَوَرَطْتَ فِي ذَلِكَ تَوَرَطْتَ فِي كَبِيرَةٍ مِنْ كَبَائِرِ الْإِثْمِ، وَعَظِيمَةٍ مِنْ عَظَائِمِ الذُّنُوبِ.
المصدر:الْأَمَلُ