رَمَضَانُ شَهْرُ الْإِيمَانِ وَصِنَاعَةِ الرِّجَالِ

رَمَضَانُ شَهْرُ الْإِيمَانِ وَصِنَاعَةِ الرِّجَالِ

((رَمَضَانُ شَهْرُ الْإِيمَانِ

وَصِنَاعَةِ الرِّجَالِ))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.

وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ, وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((نِعْمَةُ الْإِيمَانِ))

فَالْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي غَرَسَ شَجَرَةَ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ الْأَخْيَارِ، وَسَقَاهَا وَغَذَّاهَا بِالْعُلُومِ النَّافِعَةِ، وَالْمَعَارِفِ الصَّادِقَةِ، وَاللَّهَجِ بِذِكْرِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَجَعَلَهَا تُؤْتِي أُكُلَهَا وَبَرَكَتَهَا كُلَّ حِينٍ مِنَ الْخَيْرَاتِ وَالنِّعَمِ الْغِزَارِ.

إِنَّ الْإِيمَانَ هُوَ أَجَلُّ نِعَمِ اللهِ عَلَى الْعَبْدِ، حَيْثُ يَقُولُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ( 7) فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحجرات: 7- 8].

هَذِهِ أَكْبَرُ الْمِنَنِ: أَنْ يُحَبِّبَ الْإِيمَانَ لِلْعَبْدِ، وَيُزَيِّنَهُ فِي قَلْبِهِ، وَيُذِيقَهُ حَلَاوَتَهُ، وَتَنْقَادَ جَوَارِحُهُ لِلْعَمَلِ بِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ؛ وَيُبَغِّضَ اللهُ إِلَيْهِ أَصْنَافَ الْمُحَرَّمَاتِ.

 ((حَقِيقَةُ الْإِيمَانِ))

إِنَّ الْإِيمَانَ الْحَقِيقِيَّ تَصْدِيقٌ بِكُلِّ مَا جَاءَ عَنِ اللهِ -سُبْحَانَهُ-، وَالْعَمَلُ بِمُقْتَضَى ذَلِكَ، وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- الْمَشْهُورِ بَيَانُ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَتَجَسَّدَ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ، حِينَمَا سَأَلَ النَّبِيَّ ﷺ عَنِ الْإِيمَانِ، فَقَالَ ﷺ: ((أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ)) .

فَلَيْسَ الْإِيمَانُ كَلِمَةً تُقَالُ بِاللِّسَانِ فَقَطْ، وَلَكِنَّ الْإِيمَانَ مَا وَقَرَ فِي الْقَلْبِ وَصَدَّقَهُ الْعَمَلُ، يَقُولُ -سُبْحَانَهُ-: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 2-4] .

وَقَالَ ﷺ: ((الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

مِنْ أُصُولِ عَقِيدَةِ السَّلَفِ الصَّالِحِ -أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ-: أَنَّ الْإِيمَانَ عِنْدَهُمْ: ((تَصْدِيقٌ بِالْجَنَانِ، وَقَوْلٌ بِاللِّسَانِ، وَعَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ وَالْأَرْكَانِ، يَزِيدُ بِطَاعَةِ الرَّحْمَنِ، وَيَنْقُصُ بِاتِّبَاعِ الشَّيْطَانِ؛ بِالْإِتْيَانِ بِالْمَعَاصِي وَالْبُهْتَانِ)).

وَالْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ؛ قَوْلُ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ, وَعَمَلُ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَالْجَوَارِحِ.

فَقَوْلُ الْقَلْبِ: اعْتِقَادُهُ، وَتَصْدِيقُهُ، وَإِقْرَارُهُ، وَيَقِينُهُ.

وَقَوْلُ اللِّسَانِ: إِقْرَارُهُ بِالْعَمَلِ؛ يَعْنِي: النُّطْقَ بِالشَّهَادَتَيْنِ مَعَ الْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهُمَا.

وَعَمَلُ الْقَلْبِ: نِيَّتُهُ، وَتَسْلِيمُهُ، وَإِخْلَاصُهُ، وَإِذْعَانُهُ, وَحُبُّهُ، وَإِرَادَتُهُ لِلْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ.

وَعَمَلُ اللِّسَانِ وَالْجَوَارِحِ: فِعْلُ الْمَأْمُورَاتِ، وَتَرْكُ الْمَنْهِيَّاتِ.

((وَلَا إِيمَانَ إِلَّا بِالْعَمَلِ، وَلَا قَوْلَ وَلَا عَمَلَ إِلَّا بِنِيَّةٍ، وَلَا قَوْلَ وَلَا عَمَلَ وَلَا نِيَّةَ إِلَّا بِمُوَافَقَةِ السُّنَّةِ)) .

وَقَدْ أَطْلَقَ اللهُ -تَعَالَى- صِفَةَ الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا فِي الْقُرْآنِ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا، وَعَمِلُوا بِمَا آمَنُوا بِهِ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ، وَظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ, وَظَهَرَتْ آثَارُ هَذَا الْإِيمَانِ فِي عَقَائِدِهِمْ، وَأَقْوَالِهِمْ وَأَعْمَالِهِمُ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّاۚلَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 2-4]

وَقَدْ قَرَنَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- الْإِيمَانَ مَعَ الْعَمَلِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْآيَاتِ فِي الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ، فَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا} [الكهف: 107].

وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا} [فصلت: 30].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف: 72].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1 - 3].

وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((قُلْ آمَنْتُ بِاللهِ؛ ثُمَّ اسْتَقِمْ)) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَقَالَ ﷺ: ((الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً؛ فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ)) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

فَالْعِلْمُ وَالْعَمَلُ مُتَلَازِمَانِ لَا يَنْفَكُّ أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ، وَالْعَمَلُ صُورَةُ الْعِلْمِ وَجَوْهَرُهُ.

 ((دَلَائِلُ زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَنُقْصَانِهِ))

لَقَدْ وَرَدَتْ أَدِلَّةٌ كَثِيرَةٌ فِي الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ دَرَجَاتٌ وَشُعَبٌ، يَزِيدُ وَيَنْقُصُ، وَأَنَّ أَهْلَ الْإِيمَانِ يَتَفَاضَلُونَ فِيهِ.

قَالَ تَعَالَى: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدثر: 31].

وَقَالَ تَعَالَى: {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَٰذِهِ إِيمَانًا ۚ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [التوبة: 124].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2].

وَقَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح: 4].

وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ أَحَبَّ لِلهِ، وَأبْغَضَ لِلهِ؛ فَقَدِ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ)) . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ.

وَقَالَ ﷺ: ((مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ)) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَهَكَذَا تَعَلَّمَ الصَّحَابَةُ وَفَهِمُوا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ؛ أَنَّ الْإٍيمَانَ اعْتِقَادٌ وَقَوْلٌ وَعَمَلٌ، يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ، وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ.

قَالَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((الصَّبْرُ مِنَ الْإِيمَانِ بِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ مِنَ الْجَسَدِ، مَنْ لَا صَبْرَ لَهُ لَا إِيمَانَ لَهُ)) .

وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((اللَّهُمَّ زِدْنَا إِيمَانًا وَيَقِينًا وَفِقْهًا)) .

وَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو هُرَيْرَةُ، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-  يَقُولُونَ: ((الْإِيمَانُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ)).

وَقَالَ وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((أَهْلُ السُّنَةِ يَقُولُونَ: الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ)) .

وَهَذِهِ الْآثَارُ أَخْرَجَهَا اللَّالَكَائِيُّ فِي ((شَرْحِ أُصُولِ اعْتِقَادِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ)) بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ.

وَقَالَ إِمَامُ أَهْلِ السُّنَّةِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((الْإِيمَانُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ؛ فَزِيَادَتُهُ بِالْعَمَلِ، وَنُقْصَانُهُ بِتَرْكِ الْعَمَلِ)) .

وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((لَيْسَ الْإِيمَانُ بِالتَّحَلِّي وَلَا بِالتَّمَنِّي، وَلَكِنْ مَا وَقَرَ فِي الْقُلُوبِ وَصَدَّقَتْهُ الْأَعْمَالُ)) .

وَقَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ، يَزِيدُ وَيَنْقُصُ، يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ، ثُمَّ تَلَا قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدثر: 31])) .

وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي ((التَّمْهِيدِ)) : ((أَجْمَعَ أَهْلُ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ، وَلَا عَمَلَ إِلَّا بِنِيَّةٍ، وَالْإِيمَانُ عِنْدَهُمْ يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ، وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ، وَالطَّاعَاتُ كُلُّهَا عِنْدَهُمْ إِيمَانٌ)).

وَعَلَى هَذَا كَانَ جَمِيعُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاءِ وَأَئِمَّةِ الدِّينِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ، وَلَمْ يُخَالِفْهُمْ أَحَدٌ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ؛ إِلَّا الَّذِينَ مَالُوا عَنِ الْحَقِّ فِي هَذَا الْأَمْرِ.

 ((أَسْبَابُ زِيَادَةِ الْإِيمَانِ))

«إِنَّ الْإِيمَانَ هُوَ كَمَالُ الْعَبْدِ، وَبِهِ تَرْتَفِعُ دَرَجَاتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَهُوَ السَّبَبُ وَالطَّرِيقُ لِكُلِّ خَيْرٍ عَاجِلٍ وَآجِلٍ، وَلَا يَحْصُلُ، وَلَا يَقْوَى، وَلَا يَتِمُّ إِلَّا بِمَعْرِفَةِ مَا مِنْهُ يُسْتَمَدُّ، وَإِلَى يَنْبُوعِهِ وَأَسْبَابِهِ وَطُرُقِهِ.

وَاللهُ -تَعَالَى- قَدْ جَعَلَ لِكُلِّ مَطْلُوبٍ سَبَبًا وَطَرِيقًا يُوصِلُ إِلَيْهِ، وَالْإِيمَانُ أَعْظَمُ الْمَطَالِبِ وَأَهَمُّهَا وَأَعَمُّهَا؛ وَقَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُ مَوَادَّ كَبِيرَةً تَجْلِبُهُ وَتُقَوِّيهِ، كَمَا كَانَ لَهُ أَسْبَابٌ تُضْعِفُهُ وَتُوهِيهِ.

وَمَوَادُّهُ الَّتِي تَجْلِبُهُ وَتُقَوِّيهِ أَمْرَانِ: مُجْمَلٌ، وَمُفَصَّلٌ:

* أَمَّا الْمُجْمَلُ فَهُوَ:

التَّدَبُّرُ لِآيَاتِ اللهِ الْمَتْلُوَّةِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ وَالتَّأَمُّلُ لِآيَاتِهِ الْكَوْنِيَّةِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا؛ وَالْحِرْصُ عَلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ الَّذِي خُلِقَ لَهُ الْعَبْدُ؛ وَالْعَمَلُ بِالْحَقِّ؛ فَجَمِيعُ الْأَسْبَابِ مَرْجِعُهَا إِلَى هَذَا الْأَصْلِ الْعَظِيمِ.

* وَأَمَّا التَّفْصِيلُ: فَالْإِيمَانُ يَحْصُلُ وَيَقْوَى بِأُمُورٍ كَثِيرَةٍ:

1- مِنْهَا -بَلْ أَعْظَمُهَا-: مَعْرِفَةُ أَسْمَاءِ اللهِ الْحُسْنَى الْوَارِدَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَالْحِرْصُ عَلَى فَهْمِ مَعَانِيهَا، وَالتَّعَبُّدُ لِلهِ فِيهَا.

فَقَدْ ثَبَتَ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» عَنْهُ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ لِلهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا -مِائَةً إِلَّا وَاحِدًا- مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ»؛ أَيْ: مَنْ حَفِظَهَا، وَفَهِمَ مَعَانِيَهَا، وَاعْتَقَدَهَا، وَتَعَبَّدَ لِلهِ بِهَا.. دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَالْجَنَّةُ لَا يَدْخُلُهَا إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ.

فَعُلِمَ: أَنَّ ذَلِكَ أَعْظَمُ يَنْبُوعٍ وَمَادَّةٍ لِحُصُولِ الْإِيمَانِ وَقُوَّتِهِ وَثَبَاتِهِ؛ وَمَعْرِفَةُ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى هِيَ أَصْلُ الْإِيمَانِ، وَالْإِيمَانُ يَرْجِعُ إِلَيْهَا.

وَمَعْرِفَتُهَا تَتَضَمَّنُ أَنْوَاعَ التَّوْحِيدِ الثَّلَاثَةَ: تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ، وَتَوْحِيدُ الْإِلَهِيَّةِ، وَتَوْحِيدُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ.

وَهَذِهِ الْأَنْوَاعُ هِيَ رُوحُ الْإِيمَانِ وَرَوْحُهُ، وَأَصْلُهُ وَغَايَتُهُ، فَكُلَّمَا ازْدَادَ الْعَبْدُ مَعْرِفَةً بِأَسْمَاءِ اللهِ وَصِفَاتِهِ، ازْدَادَ إِيمَانُهُ، وَقَوِيَ يَقِينُهُ.

فَيَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَبْذُلَ مَقْدُورَهُ وَمُسْتَطَاعَهُ فِي مَعْرِفَةِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَتَكُونُ مَعْرِفَتُهُ سَالِمَةً مِنْ دَاءِ التَّعْطِيلِ، وَمِنْ دَاءِ التَّمْثِيلِ؛ اللَّذَيْنِ ابْتُلِيَ بِهِمَا كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ؛ بَلْ تَكُونُ الْمَعْرِفَةُ مُتَلَقَّاةً مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَمَا رُوِيَ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، فَهَذِهِ الْمَعْرِفَةُ النَّافِعَةُ الَّتِي لَا يَزَالُ صَاحِبُهَا فِي زِيَادَةٍ فِي إِيمَانِهِ، وَقُوَّةِ يَقِينِهِ، وَطُمَأْنِينَةٍ فِي أَحْوَالِهِ.

2- وَمِنْهَا -مِنْ أَسْبَابِ حُصُولِ الْإِيمَانِ وَقُوَّتِهِ-: تَدَبُّرُ الْقُرْآنِ عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ: فَإِنَّ الْمُتَدَبِّرَ لَا يَزَالُ يَسْتَفِيدُ مِنْ عُلُومِ الْقُرْآنِ وَمَعَارِفِهِ؛ مَا يَزْدَادُ بِهِ إِيمَانًا، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2]. 

3- وَكَذَلِكَ مَعْرِفَةُ أَحَادِيثِ النَّبِيِّ ﷺ، وَمَا تَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ عُلُومِ الْإِيمَانِ وَأَعْمَالِهِ: كُلُّهَا مِنْ مُحَصِّلَاتِ الْإِيمَانِ وَمُقَوِّيَاتِهِ.

فَكُلَّمَا ازْدَادَ الْعَبْدُ مَعْرِفَةً بِكِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، ازْدَادَ إِيمَانُهُ وَيَقِينُهُ، وَقَدْ يَصِلُ فِي عِلْمِهِ وَإِيمَانِهِ إِلَى مَرْتَبَةِ الْيَقِينِ.

4- وَمِنْ طُرُقِ مُوجِبَاتِ الْإِيمَانِ وَأَسْبَابِهِ: مَعْرِفَةُ النَّبِيِّ ﷺ، وَمَعْرِفَةُ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَخْلَاقِ الْعَالِيَةِ، وَالْأَوْصَافِ الْكَامِلَةِ.

فَهُوَ ﷺ أَكْبَرُ دَاعٍ لِلْإِيمَانِ فِي أَوْصَافِهِ الْحَمِيدَةِ، وَشَمَائِلِهِ الْجَمِيلَةِ، وَأَقْوَالِهِ الصَّادِقَةِ النَّافِعَةِ، وَأَفْعَالِهِ الرَّشِيدَةِ، فَهُوَ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ، وَالْقُدْوَةُ الْأَكْمَلُ {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]، {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر: 7].

5- وَمِنْ أَسْبَابِ الْإِيمَانِ وَدَوَاعِيهِ: التَّفَكُّرُ فِي الْكَوْنِ، فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الْمُتَنَوِّعَةِ، وَالنَّظَرُ فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ، وَمَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الصِّفَاتِ، فَإِنَّ ذَلِكَ دَاعٍ قَوِيٌّ لِلْإِيمَانِ، لِمَا فِي هَذِهِ الْمَوْجُودَاتِ مِنْ عَظَمَةِ الْخَلْقِ الدَّالِّ عَلَى قُدْرَةِ خَالِقِهَا وَعَظَمَتِهِ؛ وَمَا فِيهَا مِنَ الْحُسْنِ وَالْانْتِظَامِ، وَالْإِحْكَامِ -الَّذِي يُحَيِّرُ الْأَلْبَابَ- الدَّالِّ عَلَى سَعَةِ عِلْمِ اللهِ، وَشُمُولِ حِكْمَتِهِ؛ وَمَا فِيهَا مِنْ أَصْنَافِ الْمَنَافِعِ وَالنِّعَمِ الْكَثِيرَةِ -الَّتِي لَا تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى- الدَّالَّةِ عَلَى سَعَةِ رَحْمَةِ اللهِ، وَجُودِهِ وَبِرِّهِ.

وَكَذَلِكَ التَّفَكُّرُ فِي كَثْرَةِ نِعَمِ اللهِ وَآلَائِهِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، الَّتِي لَا يَخْلُو مِنْهَا مَخْلُوقٌ طَرْفَةَ عَيْنٍ؛ فَإِنَّ هَذَا يَدْعُو إِلَى الْإِيمَانِ.

6- وَمِنْ أَسْبَابِ دَوَاعِي الْإِيمَانِ: الْإِكْثَارُ مِنْ ذِكْرِ اللهِ كُلَّ وَقْتٍ، وَمِنَ الدُّعَاءِ الَّذِي هُوَ مُخُّ الْعِبَادَةِ.

7- وَمِنَ الْأَسْبَابِ الْجَالِبَةِ لِلْإِيمَانِ: مَعْرِفَةُ مَحَاسِنِ الدِّينِ: فَإِنَّ الدِّينَ الْإِسْلَامِيَّ كُلَّهُ مَحَاسِنُ، عَقَائِدُهُ أَصَحُّ الْعَقَائِدِ وَأَصْدَقُهَا وَأَنْفَعُهَا؛ وَأَخْلَاقُهُ أَحْمَدُ الْأَخْلَاقِ وَأَجْمَلُهَا؛ وَأَعْمَالُهُ وَأَحْكَامُهُ أَحْسَنُ الْأَحْكَامِ وَأَعْدَلُهَا، وَبِهَذَا النَّظَرِ الْجَلِيلِ يُزَيِّنِ اللهُ الْإِيمَانَ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ، وَيُحَبِّبُهُ إِلَيْهِ.

8- وَمِنْ أَعْظَمِ مُقَوِّيَاتِ الْإِيمَانِ: الِاجْتِهَادُ فِي التَّحَقُّقِ فِي مَقَامِ الْإِحْسَانِ، فِي عِبَادَةِ اللهِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى خَلْقِهِ، فَيَجْتَهِدُ أَنْ يَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّهُ يُشَاهِدُهُ، فَإِنْ لَمْ يَقْوَ عَلَى هَذَا اسْتَحْضَرَ أَنَّ اللهَ يُشَاهِدُهُ وَيَرَاهُ.

9- وَمِنْهَا -أَيْ مِنْ مَصَادِرِ الْإِيمَانِ وَمُقَوِّيَاتِهِ- قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَىٰ وَرَاءَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المؤمنون: 1-8].

فَهَذِهِ الصِّفَاتُ الثَّمَانِي، كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا تُثْمِرُ الْإِيمَانَ وَتُنَمِّيهِ؛ كَمَا أَنَّهَا مِنْ صِفَاتِ الْإِيمَانِ وَدَاخِلَةٌ فِي تَفْسِيرِهِ.

10- وَمِنْ دَوَاعِي الْإِيمَانِ وَأَسْبَابِهِ: الدَّعْوَةُ إِلَى اللهِ وَإِلَى دِينِهِ، وَالتَّوَاصِي بِالْحَقِّ وَالتَّوَاصِي بِالصَّبْرِ، وَالدَّعْوَةُ إِلَى أَصْلِ الدِّينِ، وَالدَّعْوَةُ إِلَى الْتِزَامِ شَرَائِعِهِ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ.

11- وَمِنْ أَهَمِّ مَوَادِّ الْإِيمَانِ وَمُقَوِّيَاتِهِ: تَوْطِينُ النَّفْسِ عَلَى مُقَاوَمَةِ مَا يُنَافِي الْإِيمَانَ مِنْ شُعَبِ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ، وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ.

فَمَتَى حُفِظَ الْعَبْدُ مِنَ الْوُقُوعِ فِي فِتَنِ الشُّبُهَاتِ، وَفِتَنِ الشَّهَوَاتِ؛ تَمَّ إِيمَانُهُ، وَقَوِيَ يَقِينُهُ».

 ((رَمَضَانُ شَهْرُ الْإِيمَانِ وَمَوْرِدُ زِيَادَتِهِ))

إِنَّ رَمَضَانَ هُوَ شَهْرُ الْإِيمَانِ الْحَقِيقِيِّ، وَلِذَا بَدَأَتْ آيَاتُ الصِّيَامِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ بِالنِّدَاءِ بِوَصْفِ الْإِيمَانِ، فَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] .

((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ صَدَّقُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَعَمِلُوا بِشَرْعِهِ؛ فَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمُ الصِّيَامَ)) بِالْإِمْسَاكِ عَنِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ مَعَ النِّيَّةِ، ((كَمَا فُرِضَ الصِّيَامُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأُمَمِ))؛ رَغْبَةَ أَنْ تَخْتَارُوا بِإِرَادَتِكُمُ الْعَمَلَ بِهَذِهِ الْعِبَادَةِ، فَتَتَّقُونَ بِذَلِكَ عِقَابَ اللهِ عَلَى الْمُخَالَفَةِ، وَتَنْتَظِمُونَ فِي زُمْرَةِ الْمُتَّقِينَ.

وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَحْدَهُ؛ ((فَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- -الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ- فِي وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ، حِينَ وَفَدُوا عَلَى النَّبِيِّ ﷺ؛ حَيْثُ قَالُوا: ((مُرْنَا بِأَمْرٍ فَصْلٍ نُخْبِرُ بِهِ مَنْ وَرَاءَنَا وَنَدْخُلُ بِهِ الْجَنَّةَ))، وَسَأَلُوهُ عَنِ الْأَشْرِبَةِ، فَأَمَرَهُمْ بِأَرْبَعٍ، وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ: ((أَمَرَهُمْ بِالْإِيمَانِ بِاللهِ وَحْدَهُ)).

وَقَالَ: ((أَتَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ بِاللهِ وَحْدَهُ؟)).

قَالُوا: ((اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ)).

قَالَ: ((شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَإِقَامُ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ، وَأَنْ تُعْطُوا مِنَ الْمَغْنَمِ الْخُمُسَ)).

هَذَا هُوَ الْإِيمَانُ بِاللهِ وَحْدَهُ؛ فَإِعْطَاءُ الْخُمُسِ مِنَ الْمَغْنَمِ مِنَ الْإِيمَانِ كَمَا بَيَّنَ الرَّسُولُ ﷺ، وَأَدْخَلَ -أَيْضًا- إِقَامَ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ، وَصَوْمَ رَمَضَانَ، فَهَذَا كُلُّهُ مِنَ الْإِيمَانِ.  

وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ: ((عَنِ الْحَنْتَمِ، وَالدُّبَّاءِ، وَالنَّقِيرِ، وَالْمُزَفَّتِ))، وَقَالَ:
((احْفَظُوهُنَّ وَأَخْبِرُوا بِهِنَّ مَنْ وَرَاءَكُمْ)). الْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)). 

((وَ((الْحَنْتَمُ)): جِرَارٌ كَانَتْ تُعْمَلُ مِنْ طِينٍ وَشَعْرٍ، ((وَأَصَحُّ الْأَقْوَالِ وَأَقْوَاهَا فِيهَا أَنَّهَا جِرَارٌ خُضْرٌ)).

((الدُّبَّاءُ)): هُوَ الْيَقْطِينُ إِذَا يَبِسَ وَاتُّخِذَ وِعَاءً، ((وَهُوَ الْقَرْعُ الْيَابِسُ)).

((النَّقِيرُ)): أَصْلُ النَّخْلَةِ يُنْقَرُ وَيُجَوَّفُ فَيُتَّخَذُ مِنْهُ وِعَاءٌ.

((الْمُزَفَّتُ)): مَا طُلِيَ بِالْقَارِ وَهُوَ الزِّفْتُ.

وَالْمُرَادُ بِالنَّهْيِ عَنْ هَذِهِ الْأَوْعِيَةِ: النَّهْيُ عَنْ الِانْتِبَاذِ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا يُسْرِعُ فِيهَا الْإِسْكَارُ، فَرُبَّمَا شَرِبَ الشَّارِبُ مَا انْتُبِذَ فِيهَا دُونَ أَنْ يَنْتَبِهَ إِلَيْهِ، فَيَقَعُ فِي الْحَرَامِ.

ثُمَّ ثَبَتَتِ الرُّخْصَةُ فِي الِانْتِبَاذِ فِي كُلِّ وِعَاءٍ مَعَ النَّهْيِ عَنْ شُرْبِ كُلِّ مُسْكِرٍ، وَمَعْنَى الِانْتِبَاذِ: أَنْ يُوضَعَ الزَّبِيبُ أَوِ التَّمْرُ فِي الْمَاءِ وَيُشْرَبَ نَقِيعُهُ قَبْلَ أَنْ يَخْتَمِرَ وَيُصْبِحَ مُسْكِرًا)).

وَقَدْ كَانَ هَذَا النَّهْيُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ، ثُمَّ نُسِخَ بِحَدِيثِ بُرَيْدَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ الِانْتِبَاذِ إِلَّا فِي الْأَسْقِيَةِ، فَانْتَبِذُوا فِي كُلِّ وِعَاءٍ، وَلَا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا)).

فَهَذَا النَّهْيُ عَنْ هَذِهِ الْأَرْبَعِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فِي وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ وَقَعَ لَهُ نَسْخٌ كَمَا فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ عَنْ بُرَيْدَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

((فَهَذَا صَرِيحٌ فِي إِدْخَالِهِ الشَّرَائِعَ الظَّاهِرَةَ بِالْإِيمَانِ؛ مِثْلَ: الصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالصِّيَامُ، وَإِعْطَاءِ الْخُمُسِ مِنَ الْمَغْنَمِ، وَكُلُّ هَذَا يُفَسِّرُ الْإِيمَانَ تَفْسِيرًا تَدْخُلُ فِيهِ الْأَعْمَالُ الْبَدَنِيَّةُ، فَكُلُّ مَا يُقَرِّبُ إِلَى اللهِ -مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ وَاعْتِقَادٍ- فَإِنَّهُ مِنَ الْإِيمَانِ)) .

فِي هَذَا الشَّهْرِ جَعَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْفُرْصَةَ سَانِحَةً؛ فَإِذَا أَقْبَلَ الْإِنْسَانُ عَلَى الْعِبَادَاتِ مِنْ مَفْرُوضٍ وَمَنْدُوبٍ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى زِيَادَةِ الْإِيمَانِ فِي قَلْبِهِ، وَيَجْبُرُ اللهُ الْكَرِيمُ كَسْرَهُ، وَيُقَوِّي رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَزْمَهُ، وَيُضْعِفُ ضَعْفَهُ، وَيُقَوِّي قُوَّتَهُ، وَيَأْخُذُ بِيَدَيْهِ حَتَّى يُقِيمَهُ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ.

اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فَرَضَ فِي هَذَا الشَّهْرِ الصِّيَامَ؛ ((فَمَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)) .

وَسَنَّ فِيهِ النَّبِيُّ ﷺ الْقِيَامَ؛ ((فَمَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)) ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ.

وَشَهْرُ رَمَضَانَ هُوَ شَهْرُ الْقُرْآنِ، أَنْزَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِيهِ الْقُرْآنَ، وَفَرَضَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِيهِ الصِّيَامَ؛ رِعَايَةً لِنُزُولِ الْقُرْآنِ فِيهِ، كَمَا يُوحِي بِذَلِكَ نَظْمُ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ.

وَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَعَلَ لِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ مِنَ الْفَضْلِ الْعَظِيمِ مَا لَا يُقَادَرُ قَدْرُهُ، فَالْحَرْفُ فِي تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بِعَشْرِ حَسَنَاتٍ، قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَا أَقُولُ {الم} حَرْفٌ، وَلَكِنْ (أَلِفٌ) حَرْفٌ، وَ(لَامٌ) حَرْفٌ، وَ(مِيمٌ) حَرْفٌ)) ، فَهَذِهِ بِثَلَاثِينِ حَسَنَةٍ عَلَى مَا بَيَّنَ الْحَدِيثُ النَّبَوِيُّ الشَّرِيفُ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ كَانَ يَتَعَاهَدُ الْقُرْآنَ فِي جَمِيعِ الْعَامِ، وَيَخُصُّ بِمَزِيدِ الْعِنَايَةِ الْقُرْآنَ فِي هَذَا الشَّهْرِ.

وَ((النَّبِيُّ ﷺ كَانَ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ، فَإِذَا دَخَلَ رَمَضَانَ فَهُوَ أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ)) .

وَجَعَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنَ الْخَيْرَاتِ وَالْحَسَنَاتِ فِي هَذَا الشَّهْرِ مَا يَتَعَلَّقُ بِإِفْطَارِ الصَّائِمِ، وَإِفْطَارُ الصَّائِمِ غَيْرُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالصَّدَقَةِ بِالْإِفْطَارِ عَلَى الْمُسْتَحِقِّ لِلصَّدَقَةِ؛ لِأَنَّ الْإِفْطَارَ يَكُونُ لِلْغَنِيِّ كَمَا يَكُونُ لِغَيْرِهِ، وَالثَّوَابُ مَحْفُوظٌ.

وَبَيَّنَ الرَّسُولُ ﷺ مَا يَتَعَلَّقُ بِتَعْجِيلِ الْإِفْطَارِ وَتَأْخِيرِ السُّحُورِ، وَمَا يَكُونُ مِنَ الْأَكْلَةِ الْمُبَارَكَةِ -يَعْنِي: السَّحُورَ-، وَقَالَ: ((تَسَحَّرُوا؛ فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً)).

وَبَيَّنَ ((أَنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الْمُتَسَحِّرِينَ)) ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْعِبَادَاتِ فِي هَذَا الشَّهْرِ، وَكُلُّهَا مِنَ الطَّاعَاتِ الَّتِي تُرْضِي رَبَّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ، وَمَنْ أَتَى بِهَا أَوْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَطْلُوبِ مِنْهُ -يَأْتِي بِالْفَرْضِ وَيَأْتِي مِنَ النَّفْلِ بِمَا اسْتَطَاعَ-؛ زَادَ اللهُ -تَعَالَى- إِيمَانَهُ، وَزَكَّى نَفْسَهُ، وَهَذَّبَ طَبْعَهُ، وَنَقَّى قَلْبَهُ، وَأَصْلَحَ بَالَهُ، وَشَرَحَ صَدْرَهُ، وَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هُوَ الْجَوَادُ الْكَرِيمُ.

((التَّحْذِيرُ مِنْ مُنْقِصَاتِ الْإِيمَانِ))

إِنَّ الْإِيمَانَ الصَّحِيحَ يَمْنَعُ الْعَبْدَ مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْمُوبِقَاتِ الْمُهْلِكَةِ، كَمَا ثَبَتَ فِي «الصَّحِيحِ» عَنِ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ». الْحَدِيثَ.

وَمَنْ وَقَعَتْ مِنْهُ، فَإِنَّهُ لِضَعْفِ إِيمَانِهِ، وَذَهَابِ نُورِهِ، وَزَوَالِ الْحَيَاءِ مِمَّنْ يَرَاهُ حَيْثُ نَهَاهُ، وَهَذَا مَعْرُوفٌ مُشَاهَدٌ.

وَالْإِيمَانُ الصَّادِقُ الصَّحِيحُ يَصْحَبُهُ الْحَيَاءُ مِنَ اللهِ، وَالْحُبُّ لَهُ، وَالرَّجَاءُ الْقَوِيُّ لِثَوَابِهِ، وَالْخَوْفُ مِنْ عِقَابِهِ، وَالنُّورُ الَّذِي يُنَافِي الظُّلْمَةَ، وَهَذِهِ الْأُمُورُ الَّتِي هِيَ مِنْ مُكَمِّلَاتِ الْإِيمَانِ لَا رَيْبَ أَنَّهَا تَأْمُرُ صَاحِبَهَا بِكُلِّ خَيْرٍ، وَتَزْجُرُهُ عَنْ كُلِّ قَبِيحٍ».

وَلَقَدْ صَرَّحَ النَّبِيُّ ﷺ بِنَفْيِ كَمَالِ الْإِيمَانِ عَمَّنْ يُؤْذِي جَارَهُ، قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ -كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ))-: ((وَاللهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللهِ لَا يُؤْمِنُ)).. ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.

قَالَ الْأَصْحَابُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-: مَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟

قَالَ: ((الَّذِي لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ)).

قَالُوا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-: وَمَا بَوَائِقُهُ يَا رَسُولَ اللهِ؟

قَالَ: ((شَرُّهُ)).

 ((الْإِيمَانُ وَالصِّيَامُ وَحُسْنُ الْخُلُقِ))

إِنَّ الْإِيمَانَ شَجَرَةٌ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ، إِذَا قَوِيَتْ أُصُولُهَا، وَثَبَتَتْ جُذُورُهَا؛ آتَتْ أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا، ((قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ ( 24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [إبراهيم: 24-25].

فَمَثَّلَ اللهُ كَلِمَةَ الْإِيمَانِ -الَّتِي هِيَ أَطْيَبُ الْكَلِمَاتِ- بِشَجَرَةٍ هِيَ أَطْيَبُ الْأَشْجَارِ، مَوْصُوفَةٍ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ الْحَمِيدَةِ: أُصُولُهَا ثَابِتَةٌ مُسْتَقِرَّةٌ، وَنَمَاؤُهَا مُسْتَمِرٌّ، وَثَمَرَاتُهَا لَا تَزَالُ كُلَّ وَقْتٍ وَكُلَّ حِينٍ -أَيْ: لَا تَنْقَطِعُ-، تَغُلُّ عَلَى أَهْلِهَا وَعَلَى غَيْرِهِمُ الْمَنَافِعَ الْمُتَنَوِّعَةَ وَالثَّمَرَاتِ النَّافِعَةَ.

وَهَذِهِ الشَّجَرَةُ مُتَفَاوِتَةً فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ تَفَاوُتًا عَظِيمًا بِحَسَبِ تَفَاوُتِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ الَّتِي وَصَفَهَا اللهُ بِهَا.

فَعَلَى الْعَبْدِ الْمُوَفَّقِ أَنْ يَسْعَى لِمَعْرِفَتِهَا، وَمَعْرِفَةِ أَوْصَافِهَا وَأَسْبَابِهَا، وَأُصُولِهَا وَفُرُوعِهَا؛ وَيَجْتَهِدَ فِي التَّحَقُّقِ بِهَا عِلْمًا وَعَمَلًا؛ فَإِنَّ نَصِيبَهُ مِنَ الْخَيْرِ وَالْفَلَاحِ، وَالسَّعَادَةِ الْعَاجِلَةِ وَالْآجِلَةِ، بِحَسَبِ نَصِيبِهِ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ)) .

وَالصِّيَامُ الْحَقِيقِيُّ يَنْبُعُ مِنَ الْإِيمَانِ، فَيَبُثُّ فِي النَّفْسِ السَّكِينَةَ وَالطُّمَأْنِينَةَ وَمُرَاقَبَةَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- ؛ ((فَالصِّيَامُ تَرْكُ مَحْبُوبَاتِ النَّفْسِ وَتَلَذُّذَاتِهَا؛ إيثَارًا لِمَحَبَّةِ اللهِ وَمَرْضَاتِهِ، وَهُوَ سِرٌّ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ، لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ سِوَاهُ، وَالْعِبَادُ قَدْ يَطَّلِعُونَ مِنْهُ عَلَى تَرْكِ الْمُفَطِّرَاتِ الظَّاهِرَةِ، وَأَمَّا كَوْنُهُ تَرَكَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِ مَعْبُودِهِ وَمَوْلَاهُ؛ فَهُوَ أَمْرٌ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ بَشَرٌ، وَذَلِكَ حَقِيقَةُ الصَّوْمِ».

*إِنَّ الْكَذِبَ وَقَوْلَ الزُّورِ وَالْفُحْشِ تَتَنَاقَضُ مَعَ حَقِيقَةِ الصِّيَامِ، وَالْإِنْسَانُ إِذَا صَامَ صِيَامًا صَحِيحًا؛ تَقَرَّبَ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ.

مِنْ أَمْثَالِ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا الرَّسُولُ ﷺ: قَوْلُ الزُّورِ، وَالْعَمَلُ بِهِ؛ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِهِ)) : ((مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ، وَالْعَمَلَ بِهِ؛ فَلَيْسَ لِلهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ)).

وَالصَّوْمُ يَمْنَعُ مِنْ غِشْيَانِ الرَّذَائِلِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((الصِّيَامُ جُنَّةٌ -وَالْجُنَّةُ: الْوِقَايَةُ- فَلَا يَرْفُثُ وَلَا يَجْهَلُ، وَإِنِ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ، إِنِّي صَائِمٌ -مَرَّتَيْنِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ-)).

وَلِلْإِيمَانِ بِاللهِ طَعْمٌ وَحَلَاوَةٌ لَا يَسْتَشْعِرُهَا إِلَّا أَهْلُ الرِّضَا الَّذِينَ  امْتَلَأَتْ قُلُوبُهُمْ بِالْإِيمَانِ؛ فَفِي ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ)) -مِنْ حَدِيثِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا)).

وَثَبَتَ فِي «الصَّحِيحِ» مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ ﷺ قَالَ: «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَرْجِعَ عَنْ دِينِهِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ».

فَذَكَرَ أَصْلَ الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ: مَحَبَّةُ اللهِ وَرَسُولِهِ؛ لَا يَكْتَفِي بِمُطْلَقِ الْمَحَبَّةِ، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ مَحَبَّةُ اللهِ مُقَدَّمَةً عَلَى جَمِيعِ الْمَحَابِّ، وَذَكَرَ تَفْرِيقَهَا: بِأَنْ يُحِبَّ لِلهِ، وَيُبْغِضَ لِلهِ.

وَأَخْبَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: أَنَّ لِلْإِيمَانِ حَلَاوَةً فِي الْقَلْبِ، إِذَا وَجَدَهَا الْعَبْدُ سَلَّتْهُ عَنِ الْمَحْبُوبَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَعَنِ الْأَغْرَاضِ النَّفْسِيَّةِ، وَأَوْجَبَتْ لَهُ الْحَيَاةَ الطَّيِّبَةَ، فَإِنَّ مَنْ أَحَبَّ اللهَ وَرَسُولَهُ لَهَجَ بِذِكْرِ اللهِ طَبْعًا -فَإِنَّ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا أَكْثَرَ مِنْ ذِكْرِهِ- وَاجْتَهَدَ فِي مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ، وَقَدَّمَ مُتَابَعَتَهُ عَلَى كُلِّ قَوْلٍ، وَعَلى إِرَادَةِ النُّفُوسِ، وَأَغْرَاضِهَا.

وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ، فَنَفْسُهُ مُطْمَئِنَّةٌ، مُسْتَحْلِيَةٌ لِلطَّاعَاتِ، قَدِ انْشَرَحَ صَدْرُ صَاحِبِهَا لِلْإِسْلَامِ، فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ.

وَالْإِيمَانُ وَحُسْنُ الْخُلُقِ قَرِينَانِ، قَالَ ﷺ: «أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا» . رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ الْأَلبَانِيُّ.

لَقَدْ بَيَّنَ الرَّسُولُ ﷺ أَنَّ الصِّيَامَ يُحَصِّلُ لَدَى الْمَرْءِ الصَّائِمِ شَيْئًا عَظِيمًا جِدًّا وَجَلِيلًا جِدًّا، وَهُوَ مَا تَعَلَّقَ بِسُلُوكِيَّاتِهِ وَأَخْلَاقِهِ، قَالَ ﷺ: ((إِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ، إِنِّي صَائِمٌ)) .

عَلَى الْمُسْلِمِ الْفَطِنِ أَنْ يُدْرِكَ أَنَّهُ قَدْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ -بَعْدَ تَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ وَسَلَامَةِ عَقِيدَتِهِ- بِحُسْنِ خُلُقِهِ، وَسَمَاحَتِهِ، وَطِيبِ مُعَامَلَتِهِ مَعَ خَلْقِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَالرَّسُولُ ﷺ يُطَبِّقُ أَمْرَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199].

فَإِحْسَانُ التَّعَامُلِ مَعَ الْخَلْقِ هُوَ امْتِثَالٌ لِأَمْرِ الرَّبِّ، وَامْتِثَالٌ لِأَمْرِ النَّبِيِّ الْأَكْرَمِ ﷺ: «وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ».

((خَالِقِ النَّاسَ)): مِنَ الْمُفَاعَلَةِ بَيْنَكَ وَبَيْنَ النَّاسِ؛ يَعْنِي: فَلْتَكُنْ أَخْلَاقُكَ الْمَبْذُولَةُ إِلَيْهِمْ حَسَنَةً.

((خَالِقِ النَّاسَ)): فَهُوَ فِعْلُ أَمْرٍ، وَلَيْسَ اسْمًا كَمَا يَتَبَادَرُ إِلَى أَذْهَانِ الْأَعْجَمِيِّينَ مِمَّنْ لَاثَتْ بِأَلْسِنَتِهِمْ لُوثَةُ الْعُجْمَةِ فَحَرَفَتْ وَحَرَّفَتْ عِنْدَهُمْ سَنَنَ الْفِطْرَةِ اللُّغَوِيَّةِ عَنْ سَبِيلِهَا، «وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ».

فَهُوَ امْتِثَالٌ لِأَمْرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَامْتِثَالٌ لِأَمْرِ النَّبِيِّ الْأَمِينِ ﷺ.

وَيَجْعَلُهُ النَّبِيُّ ﷺ مُؤَدِّيًا إِلَى مَبْلَغٍ لَا يُرْتَقَى مُرْتَقَاهُ إِلَّا بِشِقِّ النَّفْسِ وَبَذْلِ الْمَجْهُودِ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَبْلُغُ بِحُسْنِ الْخُلُقِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ».

وَعَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ، وَأَقرَبِكُم مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيامَةِ: أَحَاسِنُكُمْ أَخْلَاقًا، وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ وَأَبعَدَكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ: الثَّرْثَارُونَ، وَالْمُتَشَدِّقُونَ، وَالْمُتَفَيْهِقُونَ)).

قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، قَدْ عَلِمْنَا الثَّرثَارُونَ وَالْمُتَشَدِّقُونَ، فَمَا الْمُتَفَيْهِقُونَ؟

قَالَ: ((الْمُتَكَبِّرُونَ)). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: ((حَدِيثٌ حَسَنٌ))، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ)).

وَعَنْ حُذَيْفَةَ -كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((تَلَقَّتِ الْمَلَائِكَةُ رُوحَ رَجُلٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَقَالُوا: أَعَمِلْتَ مِنَ الْخَيْرِ شَيْئًا؟

قَالَ: كُنْتُ آمُرُ فِتْيَانِي أَنْ يُنْظِرُوا وَيَتَجَاوَزُوا عَنِ الْمُوسِرِ)).

وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لَهُمْ: ((أَنْظِرُوا الْمُوسِرَ، وَتَجَاوَزُوا عَنِ الْمُعْسِرِ)).

وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَ -هُوَ-: ((كُنْتُ أُنْظِرُ الْمُوسِرَ، وَأَتَجَاوَزُ عَنِ الْمُعْسِرِ)).

قَالَ: ((فَتَجَاوَزَ اللهُ عَنْهُ)).

وَالْإِيمَانُ شُعَبٌ مُتَعَدِّدَةٌ يَنْبَغِي عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ الِالْتِزَامُ بِهَا، فِي «الصَّحِيحَيْنِ» مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: «الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً؛ أَعْلَاهَا قَوْلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَدْنَاهَا: إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ».

وَهَذَا صَرِيحٌ أَنَّ الْإِيمَانَ يَشْمَلُ أَقْوَالَ اللِّسَانِ، وَأَعْمَالَ الْجَوَارِحِ، وَالِاعْتِقَادَاتِ، وَالْأَخْلَاقَ، وَالْقِيَامَ بِحَقِّ اللهِ، وَالْإِحْسَانَ إِلَى خَلْقِهِ.

 ((جُمْلَةٌ مِنْ ثَمَرَاتِ الْإِيمَانِ))

عِبَادَ اللهِ! «كَمْ لِلْإِيمَانِ الصَّحِيحِ مِنَ الْفَوَائِدِ وَالثَّمَرَاتِ الْعَاجِلَةِ وَالْآجِلَةِ فِي الْقَلْبِ وَالْبَدَنِ وَالرَّاحَةِ، وَالْحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ!

وَكَمْ لِهَذِهِ الشَّجَرَةِ الْإِيمَانِيَّةِ مِنَ الثِّمَارِ الْيَانِعَةِ، وَالْجَنَى اللَّذِيذِ، وَالْأُكُلِ الدَّائِمِ، وَالْخَيْرِ الْمُسْتَمِرِّ؛ أُمُورٌ لَا تُحْصَى، وَفَوَائِدُ لَا تُسْتَقْصَى!

وَمُجْمَلُهَا: أَنَّ خَيْرَاتِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَدَفْعَ الشُّرُورِ.. كُلَّهَا مِنْ ثَمَرَاتِ هَذِهِ الشَّجَرَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الشَّجَرَةَ إِذَا ثَبَتَتْ وَقَوِيَتْ أُصُولُهَا، وَتَفَرَّعَتْ فُرُوعُهَا، وَزَهَتْ أَغْصَانُهَا، وَأَيْنَعَتْ أَفْنَانُهَا؛ عَادَتْ عَلَى صَاحِبِهَا وَعَلَى غَيْرِهِ بِكُلِّ خَيْرٍ عَاجِلٍ وَآجِلٍ.

1- فَمِنْ أَعْظَمِ ثِمَارِهَا: الِاغْتِبَاطُ بِوِلَايَةِ اللهِ الْخَاصَّةِ، الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ مَا تَنَافَسَ فِيهِ الْمُتَنَافِسُونَ، وَأَجَلُّ مَا حَصَّلَهُ الْمُوَفَّقُونَ.

قَالَ تَعَالَى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}؛ ثُمَّ وَصَفَهُمْ بِقَوْلِهِ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 62-63].

فَكُلُّ مُؤْمِنٍ تَقِيٍّ، فَهُوَ لِلهِ وَلِيٌّ وِلَايَةً خَاصَّةً، مِنْ ثَمَرَاتِهَا مَا قَالَهُ اللهُ عَنْهُمْ: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة: 257]؛ أَيْ: يُخْرِجُهُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ إِلَى نُورِ الْإِيمَانِ، وَمِنْ ظُلُمَاتِ الْجَهْلِ إِلَى نُورِ الْعِلْمِ، وَمِنْ ظُلُمَاتِ الْمَعَاصِي إِلَى نُورِ الطَّاعَةِ، وَمِنْ ظُلُمَاتِ الْغَفْلَةِ إِلَى نُورِ الْيَقَظَةِ وَالذِّكْرِ.

2- وَمِنْ ثَمَرَاتِ الْإِيمَانِ: الْفَوْزُ بِرِضَا اللهِ، وَدَارِ كَرَامَتِهِ؛ قَالَ تَعَالَى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( 71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 71-72].

فَنَالُوا رِضَا رَبِّهِمْ وَرَحْمَتَهُ، وَالْفَوْزَ بِهَذِهِ الْمَسَاكِنِ الطَّيِّبَةِ بِإِيمَانِهِمُ الَّذِي كَمَّلُوا بِهِ أَنْفُسَهُمْ، وَكَمَّلُوا غَيْرَهُمْ بِقِيَامِهِمْ بِطَاعَةِ اللهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَاسْتَوْلَوْا عَلَى أَجَلِّ الْوَسَائِلِ، وَأَفْضَلِ الْغَايَاتِ، وَذَلِكَ فَضْلُ اللهِ.

3- وَمِنْهَا: أَنَّ الْإِيمَانَ الْكَامِلَ يَمْنَعُ مِنْ دُخُولِ النَّارِ، وَالْإِيمَانُ -وَلَوْ كَانَ قَلِيلًا- يَمْنَعُ مِنَ الْخُلُودِ فِيهَا.

4- وَمِنْ ثَمَرَاتِ الْإِيمَانِ: أَنَّ اللهَ يَدْفَعُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ جَمِيعَ الْمَكَارِهِ، وَيُنْجِيهِمْ مِنَ الشَّدَائِدِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج: 38]؛ أَيْ: يَدْفَعُ عَنْهُمْ كُلَّ مَكْرُوهٍ؛ يَدْفَعُ عَنْهُمْ شَرَّ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَشَيَاطِينِ الْجِنِّ، وَيَدْفَعُ عَنْهُمُ الْأَعْدَاءَ، وَيَدْفَعُ عَنْهُمُ الْمَكَارِهَ قَبْلَ نُزُولِهَا، وَيَرْفَعُهَا أَوْ يُخَفِّفُهَا بَعْدَ نُزُولِهَا.

وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ}؛ أَيْ: بِالْقِيَامِ بِالْإِيمَانِ وَلَوَازِمِهِ؛ {يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2]؛ أَيْ: مِنْ كُلِّ مَا ضَاقَ عَلَى النَّاسِ؛ {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق: 4].

فَالْمُؤْمِنُ الْمُتَّقِي؛ يُيَسِّرُ اللهُ لَهُ أُمُورَهُ وَيُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى، وَيُجَنِّبُهُ الْعُسْرَى.

5- وَمِنْهَا -أَيْ مِنْ ثَمَرَاتِ الْإِيمَانِ عَلَى الْعَبْدِ-: أَنَّ الْإِيمَانَ وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ -الَّذِي هُوَ فَرْعُهُ- يُثْمِرُ الْحَيَاةَ الطَّيِّبَةَ فِي هَذِهِ الدَّارِ، وَفِي دَارِ الْقَرَارِ.

قَالَ تَعَالَى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97].

وَذَلِكَ أَنَّ مِنْ خَصَائِصِ الْإِيمَانِ، أَنَّهُ يُثْمِرُ طُمَأْنِينَةَ الْقَلْبِ وَرَاحَتَهُ، وَقَنَاعَتَهُ بِمَا رَزَقَ اللهُ، وَعَدَمَ تَعَلُّقِهِ بِغَيْرِهِ، وَهَذِهِ هِيَ الْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ، فَإِنَّ أَصْلَ الْحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ رَاحَةُ الْقَلْبِ وَطُمَأْنِينَتُهُ، وَعَدَمُ تَشَوُّشِهِ مِمَّا يَتَشَوَّشُ مِنْهُ الْفَاقِدُ لِلْإِيمَانِ الصَّحِيحِ.

6- وَمِنْهَا -مِنْ ثَمَرَاتِ الْإِيمَانِ-: أَنَّ صَاحِبَ الْإِيمَانِ يَهْدِيهِ اللهُ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَيَهْدِيهِ فِي الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، يَهْدِيهِ إِلَى عِلْمِ الْحَقِّ، وَإِلَى الْعَمَلِ بِهِ، وَإِلَى تَلَقِّي الْمَحَابِّ وَالْمَسَارِّ بِالشُّكْرِ، وَتَلَقِّي الْمَكَارِهِ وَالْمَصَائِبِ بِالرِّضَا وَالصَّبْرِ.

قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} [يونس: 9].

7- وَمِنْ ثَمَرَاتِ الْإِيمَانِ وَلَوَازِمِهِ -مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ- مَا ذَكَرَهُ اللهُ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم: 96]؛ أَيْ بِسَبَبِ إِيمَانِهِمْ وَأَعْمَالِ الْإِيمَانِ، يُحِبُّهُمُ اللهُ وَيَجْعَلُ لَهُمُ الْمَحَبَّةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ.

وَمَنْ أَحَبَّهُ اللهُ وَأَحَبَّهُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ عِبَادِهِ؛ حَصَلَتْ لَهُ السَّعَادَةُ وَالْفَلَاحُ وَالْفَوَائِدُ الْكَثِيرَةُ مِنْ مَحَبَّةِ الْمُؤْمِنِينَ، مِنَ الثَّنَاءِ وَالدُّعَاءِ لَهْ حَيًّا وَمَيِّتًا، وَالِاقْتِدَاءِ بِهِ، وَحُصُولِ الْإِمَامَةِ فِي الدِّينِ.

8- وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11].

فَهُمْ أَعْلَى الْخَلْقِ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ، وَعِنْدَ عِبَادِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

وَإِنَّمَا نَالُوا هَذِهِ الرِّفْعَةَ بِإِيمَانِهِمُ الصَّحِيحِ وَعَمَلِهِمْ وَيَقِينِهِمْ، وَالْعِلْمُ وَالْيَقِينُ مِنْ أُصُولِ الْإِيمَانِ.

9- وَمِنْ ثَمَرَاتِ الْإِيمَانِ: حُصُولُ الْبِشَارَةِ بِكَرَامَةِ اللهِ، وَالْأَمْنِ التَّامِّ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}.. فَأَطْلَقَهَا؛ لِيَعُمَّ الْخَيْرَ الْعَاجِلَ وَالْآجِلَ.

وَلَهُمُ الْأَمْنُ الْمُطْلَقُ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} [الأنعام: 82].

10- وَمِنْ ثَمَرَاتِ الْإِيمَانِ: حُصُولُ الْفَلَاحِ، الَّذِي هُوَ إِدْرَاكُ غَايَةِ الْغَايَاتِ، فَإِنَّهُ إِدْرَاكُ كُلِّ مَطْلُوبٍ، وَالسَّلَامَةُ مِنْ كُلِّ مَرْهُوبٍ، وَالْهُدَى الَّذِي هُوَ أَشْرَفُ الْوَسَائِلِ.

كَمَا قَالَ تَعَالَى -بَعْدَ ذِكْرِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ ، وَمَا أُنْزِلَ عَلَى مَنْ قَبْلَهُ، وَالْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ، وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ اللَّتَيْنِ هُمَا مِنْ أَعْظَمِ آثَارِ الْإِيمَانِ، قَالَ تَعَالَى-: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِن رَّبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 5]، فَهَذَا هُوَ الْهُدَى التَّامُّ، وَالْفَلَاحُ الْكَامِلُ.

11- وَمِنْ ثَمَرَاتِ الْإِيمَانِ: الِانْتِفَاعُ بِالْمَوَاعِظِ، وَالتَّذْكِيرُ بِالْآيَاتِ.

قَالَ تَعَالَى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55]، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر: 77].

12- وَمِنْهَا: أَنَّ الْإِيمَانَ يَحْمِلُ صَاحِبَهُ عَلَى الشُّكْرِ فِي حَالَةِ السَّرَّاءِ، وَالصَّبْرِ فِي حَالَةِ الضَّرَّاءِ، وَكَسْبِ الْخَيْرِ فِي كُلِّ أَوْقَاتِهِ.

كَمَا ثَبَتَ فِي «الصَّحِيحِ» عَنِ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيرًا لَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ».

وَالشُّكْرُ وَالصَّبْرُ هُمَا جِمَاعُ كُلِّ خَيْرٍ، فَالْمُؤْمِنُ مُغْتَنِمٌ لِلْخَيْرَاتِ فِي كُلِّ أَوْقَاتِهِ، رَابِحٌ فِي كُلِّ حَالَاتِهِ.

13- وَمِنْهَا: أَنَّ الْإِيمَانَ يَقْطَعُ الشُّكُوكَ الَّتِي تَعْرِضُ لِكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ فَتَضُرُّ بِدِينِهِمْ.

قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا}  [الحجرات: 15]؛ أَيْ: دَفَعَ الْإِيمَانُ الصَّحِيحُ الَّذِي مَعَهُمُ الرَّيْبَ وَالشَّكَّ الْمَوْجُودَ، وَأَزَالَهُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَقَاوَمَ الشُّكُوكَ الَّتِي تُلْقِيهَا شَيَاطِينُ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَالنُّفُوسُ الْأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ، فَلَيْسَ لِهَذِهِ الْعِلَلِ الْمُهْلِكَةِ دَوَاءٌ إِلَّا تَحْقِيقُ الْإِيمَانِ».

فَتَبَيَّنَ مِمَّا تَقَدَّمَ: أنَّ هَذِهِ الشَّجَرَةَ الْمُبَارَكَةَ -شَجَرَةَ الْإِيمَانِ- أَكْثَرُ الْأَشْجَارِ بَرَكَةً وَأَنْفَعُهَا وَأَدْوَمُهَا.

وَأَنَّ عُرُوقَهَا وَأُصُولَهَا وَقَوَاعِدَهَا: الْإِيمَانُ وُعُلُومُهُ وَمَعَارِفُهُ، وَسَاقَهَا وَأَفْنَانَهَا: شَرَائِعُ الْإِسْلَامِ، وَالْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ، وَالْأَخْلَاقُ الْفَاضِلَةُ الْمُؤَيَّدَةُ وَالْمَقْرُونَةُ بِالْإِخْلَاصِ لِلهِ وَالْمُتَابَعَةِ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ.

وَأَنَّ ثِمَارَهَا وَجَنَاهَا الدَّائِمَ الْمُسْتَمِرَّ: السَّمْتُ الْحَسَنُ، وَالْهَدْيُ الصَّالِحُ، وَالْخُلُقُ الْحَسَنُ، وَاللَّهَجُ بِذِكْرِ اللهِ وَشُكْرِهِ وَالثَّنَاءُ عَلَيْهِ، وَالنَّفْعُ لِعِبَادِ اللهِ بِحَسَبِ الْقُدْرَةِ؛ نَفْعُ الْعِلْمِ وَالنُّصْحِ، وَنَفْعُ الْجَاهِ وَالْبَدَنِ، وَنَفْعُ الْمَالِ، وَجَمِيعُ طُرُقِ النَّفْعِ، وَحَقِيقَةُ ذَلِكَ كُلِّهِ: الْقِيَامُ بِحُقُوقِ اللهِ، وُحُقُوقِ خَلْقِهِ.

وَأَنَّ هَذِهِ الشَّجَرَةَ -شَجَرَةَ الْإِيمَانِ- فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ مُتَفَاوِتَةً تَفَاوُتًا عَظِيمًا، بِحَسَبِ مَا قَامَ بِهِمْ وَاتَّصَفُوا بِهِ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ.

وَأَنَّ مَنَازِلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ تَابِعَةٌ لِهَذَا كُلِّهِ.

وَأَنَّ الْفَضْلَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ لِلهِ وَحْدَهُ، وَالْمِنَّةَ كُلَّهَا لَهُ -سُبْحَانَهُ-: {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [لحجرات: 17].

وَقَالَ أَهْلُ الْجَنَّةِ بَعْدَمَا دَخَلُوهَا وَتَبَوَّءُوا مَنَازِلَهُمْ -مُعْتَرِفِينَ بِفَضْلِ رَبِّهِمُ الْعَظِيمِ-: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 43].

فَجَمَعَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَيْنَ الْإِخْبَارِ بِاعْتِرَافِهِمْ وَثَنَائِهِمْ عَلَى اللهِ بِنِعَمِهِ وَفَضْلِهِ؛ حَيْثُ وَصَلُوا إِلَى الْمَنَازِلِ الْعَالِيَةِ، وَبَيْنَ ذِكْرِ السَّبَبِ الَّذِي أَوْصَلَهُمْ إِلَى ذَلِكَ بِمِنَّةِ اللهِ عَلَيْهِمْ بِهِ، وَهُوَ: الْعَمَلُ الصَّالِحُ الَّذِي هُوَ الْإِيمَانُ وَأَعْمَالُهُ.

فَنَسْأَلُ اللهَ -تَعَالَى- أَنْ يَمُنَّ عَلَيْنَا بِالْإِيمَانِ الصَّادِقِ، وَأَلَّا يَكِلَنَا إِلَى أَنْفُسِنَا طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَأَلَّا يُزِيغَ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا، وَأَنْ يَهَبَ لَنَا مِنْ لَدُنْهُ رَحْمَةً، إِنَّهُ هُوَ الْوَهَّابُ.

 ((رَمَضَانُ شَهْرُ صِنَاعَةِ الرِّجَالِ

وَجُمْلَةٌ مِنْ مَظَاهِرِ الرُّجُولَةِ))

إِذَا كَانَ رَمَضَانُ هُوَ شَهْرُ الْإِيمَانِ؛ فَإِنَّهُ -أَيْضًا- شَهْرُ صِنَاعَةِ الرِّجَالِ، فَالصِّيَامُ مَدْرَسَةٌ عَمَلِيَّةٌ تُبْرِزُ الرِّجَالَ الْحَقِيقِيِّينَ؛ فَقَدْ جَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الصِّيَامَ مَدْرَسَةً؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ نَتَعَلَّمَ كَيْفَ نَعْبُدُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَكَيْفَ نُحَصِّلُ التَّقْوَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].

ثُمَّ هُوَ مَدْرَسَةٌ يَتَعَلَّمُ المَرْءُ فِيهَا كَيْفَ يُصَلِّي لِلهِ، وَكَيْفَ يَقُومُ اللَّيْلَ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَعَلَ قِيَامَ اللَّيْلِ شَرَفَ المُؤْمِنِ.

وَفِي شَهْرِ رَمَضَانَ تَتَعَلَّمُ الصَّبْرَ، وَالصَّبْرُ فِيهِ إِنَّمَا يَكُونُ صَبْرًا عَلَى الْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ وَالْأَمْرِ الْكَوْنِيِّ؛ لِأَنَّ أَوَامِرَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ المُنَزَّلَةَ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ شَرْعِيَّةٌ وَكَوْنِيَّةٌ.

يُعَلِّمُنَا هَذَا الشَّهْرُ وَالصِّيَامُ كَيْفَ نَصْبِرُ عَلَى أَوَامِرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الشَّرْعِيَّةِ، وَعَلَى أَقْدَارِهِ الْكَوْنِيَّةِ؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فَرَضَ عَلَيْنَا الصِّيَامَ، وَفِيهِ حِرْمَانٌ.

فَالْحِرْمَانُ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالشَّهْوَةِ فِيهِ ضَبْطٌ لِلْغَرِيزَةِ مِنْ مَطْعَمٍ وَمَنْكَحٍ، فِيهِ ضَبْطٌ لِلنَّفْسِ عَلَى صِرَاطِ اللهِ المُسْتَقِيمِ، وَهَذَا أَمْرٌ تَتَمَلْمَلُ مِنْهُ النُّفُوسُ، وَتَجْزَعُ مِنْهُ الْقُلُوبُ إِلَّا إِذَا اطْمَأَنَّتْ بِذِكْرِ رَبِّهَا، وَأَنَابَتْ إِلَى أَوَامِرِ نَبِيِّهَا ﷺ، فَفِي هَذَا مَشَقَّةٌ، فَيَحْتَسِبُ المَرْءُ مَا يَجِدُ مِنَ اللَّأْوَاءِ وَمِنَ الْعَنَاءِ، وَمِنَ الْعَطَشِ، وَمِنَ الجُوعِ، وَمِنَ الحِرْمَانِ... هَذَا كُلُّهُ يَحْتَسِبُهُ عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.

وَهُوَ يَصْبِرُ عَلَى مَا فَرَضَ عَلَيْهِ رَبُّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْ أَمْرٍ، وَيَكُونُ مُحْتَسِبًا فِيمَا أَصَابَهُ مِنَ الْأَمْرِ شَرْعًا وَقَدَرًا، وَلَا يَنَالُهُ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ إِلَّا الخَيْرُ.

يُعَلِّمُنَا هَذَا الشَّهْرُ بِصِيَامِهِ كَيْفَ نَفْزَعُ إِلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِحِرْمَانِ النَّفْسِ مِنْ بَعْضِ مَا تُحِبُّ؛ حَتَّى نُحِسَّ بِالمَحْرُومِ حَقًّا وَصِدْقًا: بِمَنْ لَمْ يُؤْتِهِ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مَا آتَانَا، بِالَّذِي يَجِدُ مَسَّ الجُوعِ، وَالَّذِي يُعَانِي مِنْ حَبْسِ الْقَطْرِ عَنِ الْأَرْضِ، فَلَا يَجِدُ قَطْرَةَ المَاءِ، وَمَا أَكْثَرَ الَّذِينَ يُعَانُونَ مِنَ الجَفَافِ فِي الْعَالَمِ!!

فَإِذَا أَنْتَ وَصَلْتَ إِلَى الرِّيِّ؛ فَاحْمَدِ اللهَ عَلَى مَا آتَاكَ، وَقَدْ أَنْعَمَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ مَلْكِكَ، وَبِغَيْرِ قُدْرَةٍ مِنْكَ وَلَا حَوْلٍ وَلَا قُوَّةٍ وَلَا طَوْلٍ، وَإِنَّمَا هُوَ المُتَفَضِّلُ وَحْدَهُ، وَهُوَ المَانُّ وَحْدَهُ، يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَيَقْضِي بِمَا يُرِيدُ.

إِنَّ الْمُتَأَمِّلَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ يُدْرِكُ أَنَّ الرُّجُولَةَ وَصْفٌ لَمْ يَمْنَحْهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-  إِلَّا لِمَنِ امْتَلَكَ مُؤَهِّلَاتِهَا؛ وَمِنْهَا: صِدْقُ الْعَهْدِ مَعَ اللهِ -تَعَالَى- دُونَ تَغْيِيرٍ أَوْ تَبْدِيلٍ أَوِ انْحِرَافٍ، قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 23] .

مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ قَامُوا بِمَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ وَوَفَّوْا بِهِ، فَبَعْضُ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ مَنْ وَفَّى بِعَهْدِهِ مَعَ اللهِ وَأَدَّى نَذْرَهُ، وَصَبَرَ عَلَى الْجِهَادِ حَتَّى اسْتُشْهِدَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَمَنْ بَقِيَ بَعْدَ هَؤُلَاءِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يَنْتَظِرُونَ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ؛ إِمَّا الشَّهَادَةُ أَوِ النَّصْرُ عَلَى الْأَعْدَاءِ.

وَكِلَا الْفَرِيقَيْنِ الَّذِينَ قَضَوْا نَحْبَهُمْ وَالَّذِينَ يَنْتَظِرُونَ قَضَاءَهُ حَتَّى غَايَتِهِ مَا بَدَّلُوا فِيمَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ تَبْدِيلًا مَا، بَلْ حَافَظُوا عَلَى عُهُودِهِمْ وَنَفَّذُوهَا وَوَفَّوْا بِهَا.

كَمَا أَنَّ الرِّجَالَ الْحَقِيقِيِّينَ هُمْ مَنْ بَاعُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَيَظْهَرُ ذَلِكَ فِي التَّضْحِيَةِ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ فِي سَبِيلِ الدِّينِ أَوِ الْوَطَنِ أَوِ الْعِرْضِ؛ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ، قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 111] .

إِنَّ اللهَ اشْتَرَى شِرَاءً جَازِمًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمُ الَّتِي خَلَقَهَا، وَأَمْوَالَهُمُ الَّتِي رَزَقَهُمْ إِيَّاهَا، بِأَنْ يَبْذُلُوا طَائِعِينَ مُخْتَارِينَ الْمَالَ؛ لِإِعْدَادِ وَسَائِلِ الْجِهَادِ، وَنَشْرِ الْإِسْلَامِ فِي الْأَرْضِ، وَيَبْذُلُوا النُّفُوسَ لِلْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَقَمْعِ الْكَفَرَةِ الْمُحَارِبِينَ لِلْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ، مُقَابِلَ ثَمَنٍ يَدْفَعُهُ لَهُمْ جَزْمًا هُوَ الْجَنَّةُ.

يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ؛ لِإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ، وَإِظْهَارِ دِينِهِ، فَيَقْتُلُونَ أَعْدَاءَ اللهِ، وَيُسْتَشْهَدُونَ فِي سَبِيلِهِ، ذَلِكَ الْوَعْدُ الَّذِي وَعَدَهُ اللهُ تَعَالَى لِلْمُجَاهِدِينِ فِي سَبِيلِهِ، قَدْ أَثْبَتَهُ اللهُ فِي التَّوْرَاةِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَفِي الْإِنْجِيلِ الْمُنَزَّلِ عَلَى عِيسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، كَمَا أَثْبَتَهُ فِي الْقُرْآنِ الْمُنَزَّلِ عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ.

وَلَا أَحَدَ أَوْفَى بِالْعَهْدِ مِنَ اللهِ لِمَنْ وَفَّى بِمَا عَاهَدَ اللهَ عَلَيْهِ، فَافْرَحُوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ الْمُبَايِعُونَ، وَاسْتَمْتِعُوا بِالسُّرُورِ الَّذِي يَنْزِلُ بِكُمْ؛ بِسَبَبِ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ فِي الْجَنَّةِ الَّذِي تَنَالُونَهُ عِوَضًا عَمَّا تَبْذُلُونَهُ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ رَبَّكُمْ.

وَذَلِكَ الْعِوَضُ الرَّفِيعُ الْمَنْزِلَةِ هُوَ وَحْدَهُ الرِّبْحُ الْكَبِيرُ، وَالظَّفَرُ الْعَظِيمُ الَّذِي لَا يُسَاوِيهِ وَلَا يَفُوقُهُ فَوْزٌ آخَرُ.

إِنَّ الرِّجَالَ الْحَقِيقِيِّينَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ الْمُصَلُّونَ، الذَّاكِرُونَ الْمُسَبِّحُونَ، عُمَّارُ بُيُوتِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، الَّذِينَ يُؤْثِرُونَ الْآخِرَةَ عَلَى الدُّنْيَا، قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ۙ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور: 36-37].

بُيُوتُ اللهِ الَّتِي أَذِنَ اللهُ بِرَفْعِ بُنْيَانِهَا؛ لِيَكُونَ إِعْلَاؤُهَا مَعَالِمَ بَارِزَةً لِبُلْدَانِ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَلِجَذْبِ النَّاسِ إِلَيْهَا، وَتَأْلِيفِ قُلُوبِهِمْ عَلَيْهَا، وَأَمَرَ بِأَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ.

يُنَزِّهُهُ -سُبْحَانَهُ- وَيَذْكُرُهُ فِي بُيُوتِهِ الْمُضَافَةِ إِلَيْهِ بِالْغُدْوَةِ مَا بَيْنَ الْفَجْرِ وَطُلُوعِ الشَّمْسِ وَالْآصَالِ حِينَ تَصْفَرُّ الشَّمْسُ مَسَاءً حَتَّى الْغُرُوبِ رِجَالٌ لَا تُصْرَفُ أَذْهَانُهُمْ وَيَسْتَأْثِرُ بِاهْتِمَامِهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ لِمُسْتَحِقِّيهَا، وَسَائِرِ الْوَاجِبَاتِ الدِّينِيَّةِ، وَحُقُوقِ الْأُسْرَةِ وَحُقُوقِ الْمُجْتَمَعِ، يَخَافُونَ مِنَ الْجَزَاءِ وَالْعِقَابِ يَوْمَ الدِّينِ، الَّذِي تَتَحَرَّكُ فِيهِ الْقُلُوبُ بِمَشَاعِرِ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ وَالطَّمَعِ، وَتَتَحَرَّكُ فِيهِ الْأَبْصَارُ تَرَقُّبًا لِلْأَحْدَاثِ.

*وَمِنْ مَظَاهِرِ الرُّجُولَةِ: الْقَوَامَةُ وَرِعَايَةُ النِّسَاءِ وَالْعِيَالِ، قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النِّسَاء: 34].

الرِّجَالُ قَائِمُونَ عَلَى تَوْجِيهِ النِّسَاءِ وَرِعَايَتِهِنَّ وَحِفْظِهِنَّ لِسَبَبَيْنِ:

الْأَوَّلُ: بِسَبَبِ مَا فَضَّلَ اللهُ الرِّجَالَ عَلَى النِّسَاءِ مِنْ خَصَائِصَ نَفْسِيَّةٍ وَجَسَدِيَّةٍ.

وَالسَّبَبُ الثَّانِي: بِمَا أَعْطَوْا مِنْ مُهُورِ النِّسَاءِ وَالنَّفَقَةِ عَلَيْهِنَّ.

وَقَدْ ذَكَرَ النَّبِيُّ ﷺ الرِّجَالَ فِي السُّنَّةِ، وَهَذِهِ جُمْلَةٌ مِنْ أَوْصَافِ الرِّجَالِ الْحَقِيقِيِّينَ فِي سُنَّةِ الْأَمِينِ ﷺ، وَمِنْ أَعْظَمِ مَعَالِمِ الرُّجُولَةِ: التَّعَبُّدُ لِلهِ بِأَدَاءِ الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ؛ قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: ((وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ، وَلَا يَزَالُ الْعَبْدُ يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ -وَهَذَا فِي تَحْصِيلِ الْمَحْبُوبِ- وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ -وَهَذَا فِي الْوِقَايَةِ مِنَ الْمَرْهُوبِ-)).

وَمِنْ مَظَاهِرِ الرُّجُولَةِ فِي السُّنَّةِ: الرِّفْقُ بِالْحَيَوَانِ؛ فَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْحَرُّ, فَوَجَدَ بِئْرًا, فَنَزَلَ فِيهَا, فَشَرِبَ ثُمَّ خَرَجَ، فَإِذَا كَلْبٌ يَلْهَثُ، يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ الْعَطَشِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الْكَلْبَ مِنَ الْعَطَشِ مِثْلُ الَّذِي كَانَ بَلَغَ مِنِّي، فَنَزَلَ الْبِئرَ، فَمَلَأَ خُفَّهُ، ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ حَتَّى رَقِيَ -أَيْ: صَعِدَ- فَسَقَى الْكَلْبَ، فَشَكَرَ اللهُ لَهُ، فَغَفَرَ لَهُ)).

قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ أَجْرًا؟

قَالَ: ((فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ)).

((فَشَكَرَ اللهُ لَهُ؛ فَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ)). فِي رِوَايَةِ ابْنِ حِبَّانَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

وَقَدْ وَصَفَ النَّبِيُّ ﷺ رِجَالًا بِالْعَفَافِ، وَالْبُكَاءِ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ، وَأَخْبَرَ عَنْ رِجَالٍ قُلُوبُهُمْ مُعَلَّقَةٌ بِالْمَسَاجِدِ، وَرِجَالٍ يُحِبُّونَ التَّصَدُّقَ عَلَى الْفُقَرَاءِ؛ وَرِجَالٍ مُتَحَابِّينَ فِي اللهِ، فَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ قَدْ جَعَلَ فِيمَنْ يُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ، يُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّ عَرْشِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَدْ دَنَتِ الشَّمْسُ مِنَ الرُّؤُوسِ بِمِقْدَارِ مِيلٍ -كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ-، وَالنَّاسُ فِي كَرْبٍ وَهَمٍّ عَظِيمَيْنِ، يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَرَّكُوا مِنْ ذَلِكَ الْمَوْقِفِ، وَلَوْ إِلَى النَّارِ -إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ- مِنْ شِدَّةِ مَا يُعَانُونَ، وَهُمْ فِي الْعَرَقِ عَلَى قَدْرِ الْأَعْمَالِ، كَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ .

مِمَّنْ يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَجْعَلُهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي ظِلِّ عَرْشِهِ -كَمَا ثَبَتَتْ بِذَلِكَ الرِّوَايَةُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ--: ((سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ في ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ، ذَكَرَ مِنْهُمْ: ... وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ، وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللهِ، اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ)).

وَمِنْ مَظَاهِرِ الرُّجُولَةِ: الْأَمَانَةُ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ... فَذَكَرَ أَحَادِيثَ؛ مِنْهَا: وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ عَقَارًا لَهُ -وَهِيَ الْأَرْضُ وَمَا يَتَّصِلُ بِهَا-، فَوَجَدَ الرَّجُلُ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ فِي عَقَارِهِ جَرَّةً فِيهَا ذَهَبٌ، فَقَالَ لَهُ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ: خُذْ ذَهَبَكَ مِنِّي، إِنَّمَا اشْتَرَيْتُ مِنْكَ الْأَرْضَ وَلَمْ أَبْتَعْ مِنْكَ الذَّهَبَ.

فَقَالَ الَّذِي شَرَى الْأَرْضَ: إِنَّمَا بِعْتُكَ الْأَرْضَ وَمَا فِيهَا!

قَالَ: فَتَحَاكَمَا إِلَى رَجُلٍ، فَقَالَ الَّذِي تَحَاكَمَا إِلَيْهِ: أَلَكُمَا وَلَدٌ؟

فَقَالَ أَحَدُهُمَا: لِي غُلَامٌ. وَقَالَ الْآخَرُ: لِي جَارِيَةٌ.

قَالَ: أَنْكِحُوا الْغُلَامَ الْجَارِيَةَ وَأَنْفِقُوا عَلَى أَنْفُسِكُمَا مِنْهُ وَتَصَدَّقَا)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

*وَالْأَنْبِيَاءُ هُمُ الْأُسْوَةُ وَالْقُدْوَةُ فِي الرُّجُولَةِ وَالْمُرُوءَةِ؛ فَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللهِ وَهُوَ أَشْرَفُ الْخَلْقِ, وَأَحَبُّهُمْ إِلَى اللهِ, وَأَكْرَمُهُمْ عَلَى اللهِ, وَأَعْلَاهُمْ مَقَامًا عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-..

كَانَ ﷺ يَكُونُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ, يَكُونُ فِي الْبَيْتِ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ, يَرْقَعُ ثَوْبَهُ, وَيَخْصِفُ نَعْلَهُ, وَيَحْلِبُ الشَّاةَ, وَيَكُونُ في مِهْنَةِ أَهْلِهِ ﷺ.

لَا يَسْتَكْبِرُ عَلَى أَمْرٍ لَا يُنْقِصُ الْمُرُوءَةَ, وَلَا يَسْتَعْلِي عَلَى أَمْرٍ لَا يُغْضِبُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ, بَلْ يَكُونُ أَسْرَعَ النَّاسِ إِلَيْهِ, وَكَانَ أَعْظَمَ النَّاسِ حِلْمًا ﷺ، وَهُوَ يُرَاعِي نَفْسِيَّةَ مَنْ أَمَامَهِ.

وَهَذَا نَبِيُّ اللهِ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- أُسْوَةٌ فِي الرُّجُولَةِ الْحَقَّةِ وَالْمُرُوءَةِ وَالْبَذْلِ، فقد قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)} [القصص: 22-24].

{وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ}؛ أَيْ: قَصَدَ نَحْوَهَا مَاضِيًا إِلَيْهَا، وَكَانَ مُوسَى قَدْ خَرَجَ خَائِفًا بِلَا ظَهْرٍ وَلَا حِذَاءٍ وَلَا زَادٍ، وَكَانَتْ مَدْيَنُ عَلَى مَسِيرَةِ ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ مِنْ مِصْرَ، {قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ}؛ أَيْ: قَصْدَ الطَّرِيقِ إِلَى مَدْيَنَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَهُوَ أَوَّلُ ابْتِلَاءٍ مِنَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- لِمُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-.

{وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ}: وَهُوَ بِئْرٌ كَانُوا يَسْقُونَ مِنْهَا مَوَاشِيَهُمْ، {وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً}؛ أَيْ: جَمَاعَةً {مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ} مَوَاشِيَهُمْ، {وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ}؛ يَعْنِي: سِوَى الْجَمَاعَةِ {امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ}؛ يَعْنِي: تَحْبِسَانِ وَتَمْنَعَانِ أَغْنَامَهُمَا عَنِ الْمَاءِ حَتَّى يَفْرُغَ النَّاسُ وَتَخْلُوَ لَهُمُ الْبِئْرُ.

{قَالَ} -يَعْنِي: مُوسَى- لِلْمَرْأَتَيْنِ: {مَا خَطْبُكُمَا}: مَا شَأْنُكُمَا لَا تَسْقِيَانِ مَوَاشِيَكُمَا مَعَ النَّاسِ؟

{قَالَتَا لَا نَسْقِي} أَغْنَامَنَا {حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ}؛ أَيْ: حَتَّى يَصْرِفُوا هُمْ مَوَاشِيَهُمْ عَنِ الْمَاءِ.

وَمَعْنَى الْآيَةِ: لَا نَسْقِي مَوَاشِيَنَا حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ، لِأَنَّا امْرَأَتَانِ لَا نُطِيقُ أَنْ نَسْقِيَ، وَلَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نُزَاحِمَ الرِّجَالَ، فَإِذَا صَدَرُوا سَقَيْنَا مَوَاشِيَنَا مَا أَفْضَلَتْ مَوَاشِيهِمْ فِي الْحَوْضِ، {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} لَا يَقْدِرُ أَنْ يَسْقِيَ مَوَاشِيَهُ، فَلِذَلِكَ احْتَجْنَا نَحْنُ إِلَى سَقْيِ الْغَنَمِ.

فَلَمَّا سَمِعَ مُوسَى قَوْلَهُمَا رَحِمَهُمَا، فَاقْتَلَعَ صَخْرَةً مِنْ رَأْسِ بِئْرٍ أُخْرَى كَانَتْ بِقُرْبِهِمَا لَا يُطِيقُ رَفْعَهَا إِلَّا جَمَاعَةٌ مِنَ النَّاسِ، {فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ} ظِلِّ شَجَرَةٍ، فَجَلَسَ فِي ظِلِّهَا مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ وَهُوَ جَائِعٌ، {فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنـزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ} طَعَامٍ، {فَقِيرٌ}، يَقُولُ: {إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ}؛ أَيْ: طَعَامٍ، {فَقِيرٌ} مُحْتَاجٌ، كَانَ يَطْلُبُ الطَّعَامَ لِجُوعِهِ.

وَبِالْجُمْلَةِ؛ فَمِنْ أَهَمِّ مَظَاهِرِ الرُّجُولَةِ: الْمُرُوءَةُ، والرَّجُلُ الْكَامِلُ التَّامُّ الْمُرُوءَةِ: هُوَ مَنْ بَرَّ وَالِدَيْهِ، وَوَصَلَ رَحِمَهُ، وَأَكْرَمَ إِخْوَانَهُ، وَحَسَّنَ خُلُقَهُ، وَأَحْرَزَ دِينَهُ، وَأَصْلَحَ مَالَهُ، وَأَنْفَقَ مِنْ فَضْلِهِ، وَحَسَّنَ لِسَانَهُ، وَلَزِمَ بَيْتَهُ.

إِنَّ رَمَضَانَ هُوَ شَهْرُ عِمَارَةِ الْمَسَاجِدِ وَقِيَامِ اللَّيْلِ، وَهُمَا مِنْ أَهَمِّ عَوَامِلِ بِنَاءِ الشَّخْصِيَّةِ وَصِنَاعَةِ الرِّجَالِ، يَقُولُ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مُخَاطِبًا نَبِيَّهُ ﷺ: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل: 1-6].

((الْمُزَّمِّلُ: الْمُتَغَطِّي بِثِيَابِهِ كَالْمُدَّثِّرِ، وَهَذَا الْوَصْفُ حَصَلَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ حِينَ أَكْرَمَهُ اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ، وَابْتَدَأَهُ بِإِنْزَالِ وَحْيِهِ بِإِرْسَالِ جِبْرِيلَ إِلَيْهِ، فَرَأَى أَمْرًا لَمْ يَرَ مِثْلَهُ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى الثَّبَاتِ عَلَيْهِ إِلَّا الْمُرْسَلُونَ، فَاعْتَرَاهُ عِنْدَ ذَلِكَ انْزِعَاجٌ حِينَ رَأَى جِبْرِيلَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، فَأَتَى إِلَى أَهْلِهِ، فَقَالَ: ((زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي))، وَهُوَ تَرْعَدُ فَرَائِصُهُ.

ثُمَّ جَاءَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: ((اقْرَأْ)).

فَقَالَ: ((مَا أَنَا بِقَارِئٍ))، فَغَطَّهُ حَتَّى بَلَغَ مِنْهُ الْجُهْدُ، وَهُوَ يُعَالِجُهُ عَلَى الْقِرَاءَةِ، فَقَرَأَ ﷺ، ثُمَّ أَلْقَى اللَّهُ عَلَيْهِ الثَّبَاتَ وَتَابَعَ عَلَيْهِ الْوَحْيَ، حَتَّى بَلَغَ مَبْلَغًا مَا بَلَغَهُ أَحَدٌ مِنَ الْمُرْسَلِينَ.

فَسُبْحَانَ اللَّهِ، مَا أَعْظَمَ التَّفَاوُتَ بَيْنَ ابْتِدَاءِ نَبُوَّتِهِ وَنِهَايَتِهَا، وَلِهَذَا خَاطَبَهُ اللَّهُ بِهَذَا الْوَصْفِ الَّذِي وُجِدَ مِنْهُ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ.

فَأَمَرَهُ هُنَا بِالْعِبَادَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ، ثُمَّ أَمَرَهُ بِالصَّبْرِ عَلَى أَذِيَّةِ قَوْمِهِ، ثُمَّ أَمَرَهُ بِالصَّدْعِ بِأَمْرِهِ، وَإِعْلَانِ دَعْوَتِهِمْ إِلَى اللَّهِ، فَأَمَرَهُ هُنَا بِأَشْرَفِ الْعِبَادَاتِ، وَهِيَ الصَّلَاةُ، وَبِآكَدِ الْأَوْقَاتِ وَأَفْضَلِهَا، وَهُوَ قِيَامُ اللَّيْلِ.

وَمِنْ رَحْمَتِهِ -تَعَالَى- أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُ بِقِيَامِ اللَّيْلِ كُلِّهِ، بَلْ قَالَ: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا}، ثُمَّ قَدَّرَ ذَلِكَ فَقَالَ: {نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ}؛ أَيْ: مِنَ النِّصْفِ {قَلِيلًا} بِأَنْ يَكُونَ الثُّلُثَ وَنَحْوَهُ.

{أَوْ زِدْ عَلَيْهِ}؛ أَيْ: عَلَى النِّصْفِ، فَيَكُونُ نَحْوَ الثُّلُثَيْنِ، {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا}؛ فَإِنَّ تَرْتِيلَ الْقُرْآنِ بِهِ يَحْصُلُ التَّدَبُّرُ وَالتَّفَكُّرُ، وَتَحْرِيكُ الْقُلُوبِ بِهِ، وَالتَّعَبُّدُ بِآيَاتِهِ، وَالتَّهَيُّؤُ وَالِاسْتِعْدَادُ التَّامُّ لَهُ، فَإِنَّهُ قَالَ: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا}؛ أَيْ: نُوحِي إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ الثَّقِيلَ؛ أَيِ: الْعَظِيمَةُ مَعَانِيهِ، الْجَلِيلَةُ أَوْصَافُهُ، وَمَا كَانَ بِهَذَا الْوَصْفِ حَقِيقٌ أَنْ يَتَهَيَّأَ لَهُ، وَيُرَتِّلَ، وَيَتَفَكَّرَ فِيمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ.

ثُمَّ ذَكَرَ الْحِكْمَةَ فِي أَمْرِهِ بِقِيَامِ اللَّيْلِ فَقَالَ: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ}؛ أَيِ: الصَّلَاةُ فِيهِ بَعْدَ النَّوْمِ {هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا}؛ أَيْ: أَقْرَبُ إِلَى حُصُولِ مَقْصُودِ الْقُرْآنِ، يَتَوَاطَأُ عَلَى الْقُرْآنِ الْقَلْبُ وَاللِّسَانُ، وَتَقِلُّ الشَّوَاغِلُ، وَيَفْهَمُ مَا يَقُولُ، وَيَسْتَقِيمُ لَهُ أَمْرُهُ، وَهَذَا بِخِلَافِ النَّهَارِ، فَإِنَّهُ لَا يَحْصُلُ بِهِ هَذِهِ الْمَقَاصِدُ)).

وَيَقُولُ -جَلَّ شَأْنُهُ- فِي وَصْفِ أَهْلِ الْجَنَّةِ: {كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 17-18].

مِنْ أَفْضَلِ أَنْوَاعِ الْإِحْسَانِ فِي عِبَادَةِ الْخَالِقِ: صَلَاةُ اللَّيْلِ الدَّالَّةُ عَلَى الْإِخْلَاصِ، وَتَوَاطُؤُ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، وَلِهَذَا قَالَ: {كَانُوا}؛ أَيِ: الْمُحْسِنُونَ {قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ}؛ أَيْ: كَانَ هُجُوعُهُمْ -أَيْ: نَوْمُهُمْ بِاللَّيْلِ- قَلِيلًا، وَأَمَّا أَكْثَرُ اللَّيْلِ فَإِنَّهُمْ قَانِتُونَ لِرَبِّهِمْ؛ مَا بَيْنَ صَلَاةٍ، وَقِرَاءَةٍ، وَذِكْرٍ، وَدُعَاءٍ، وَتَضَرُّعٍ.

{وَبِالْأَسْحَارِ} الَّتِي هِيَ قُبَيْلَ الْفَجْرِ {هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} اللَّهَ تَعَالَى، فَمَدُّوا صَلَاتَهُمْ إِلَى السَّحَرِ، ثُمَّ جَلَسُوا فِي خَاتِمَةِ قِيَامِهِمْ بِاللَّيْلِ، يَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ تَعَالَى اسْتِغْفَارَ الْمُذْنِبِ لِذَنْبِهِ، وَلِلِاسْتِغْفَارِ بِالْأَسْحَارِ فَضِيلَةٌ وَخِصِّيصَةٌ لَيْسَتْ لِغَيْرِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي وَصْفِ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} [آل عمران: 17].

وَيَقُولُ تَعَالَى: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 15-17].

لَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الْمُنَزَّلَةِ فِي كِتَابِنَا إِيمَانًا كَامِلًا إِلَّا الَّذِينَ يَتَحَلَّوْنَ بِالصِّفَاتِ السِّتِّ التَّالِيَاتِ:

الصِّفَةُ الْأُولَى: الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ اللهِ فِي كِتَابِهِ تَدَبَّرُوا مَعَانِيَهَا، وَنَفَذَتْ إِلَى قُلُوبِهِمْ مَشَاعِرُ الْأَحَاسِيسِ بِعَظَمَةِ اللهِ وَجَلَالِهِ، وَأَسْرَعُوا فِي خَفْضِ رُؤُوسِهِمْ وَأَجْسَادِهِمْ لِوَضْعِ جَبَهَاتِهِمْ عَلَى الْأَرْضِ؛ خُضُوعًا للهِ وَذُلًّا.

وَالصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: نَزَّهُوا رَبَّهُمْ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ مِنْ صِفَاتٍ تَنْزِيهًا مُمْتَزِجًا بِحَمْدِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ.

وَالصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: هُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ مُمْتَنِعِينَ عَنْ عِبَادَةِ اللهِ -تَعَالَى- وَطَاعَتِهِ.

الصِّفَةُ الرَّابِعَةُ: تَرْتَفِعُ وَتَنْبُو جُنُوبُهُمْ عَنْ فِرَاشِ النَّوْمِ يَتَهَجَّدُونَ بِاللَّيْلِ.

وَالصِّفَةُ الْخَامِسَةُ: يَدْعُونَ رَبَّهُمْ حَالَةَ كَوْنِهِمْ خَائِفِينَ مِنَ النَّارِ، وَحَالَةَ كَوْنِهِمْ طَامِعِينَ فِي الْجَنَّةِ.

وَالصِّفَةُ السَّادِسَةُ: أَنَّهُمْ يُنْفِقُونَ آنًا فَآنًا مِنْ بَعْضِ مَا رَزَقْنَاهُمْ فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ؛ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مِقْدَارَ مَا أَعَدَّهُ اللهُ وَأَخْفَاهُ لِهَؤُلَاءِ الْأَبْرَارِ وَالْمُحْسِنِينَ مِمَّا تَقَرُّ بِهِ أَعْيُنُهُمْ مِنْ سُرُورٍ وَنَعِيمٍ وَرِضًا، فَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى غَيْرِهِ؛ جَزَاءً عَظِيمًا بِسَبَبِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ مِنَ الطَّاعَاتِ فِي دَارِ الدُّنْيَا.

 

 ((الِاسْتِعْدَادُ لِلْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ))

اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- قَدْ مَنَّ عَلَيْنَا فَمَدَّ فِي أَعْمَارِنَا، وَقَدْ أَظَلَّتْنَا أَيَّامٌ عَظِيمَةٌ وَسَاعَاتٌ جَلِيلَةٌ، إِنَّهَا أَيَّامُ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، وَهِيَ بِدَايَةُ نِهَايَةِ الشَّهْرِ الْعَظِيمِ.

وَصِيَامُ رَمَضَانَ مَا يَزَالُ يَرْتَقِي بِالنَّفْسِ فِي مَدَارِجِ الكَمَالِ؛ حَتَّى يَبْلُغَ الصَّائِمُ العَشْرَ الأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ، وَفِيهَا الِاعْتِكَافُ؛ لِعُكُوفِ الْقَلْبِ عَلَى اللهِ، وَلِجَمْعِيَّةِ القَلْبِ عَلَى سَيِّدِهِ وَمَوْلَاهُ، وَلِلْفِكْرِ فِي تَحْصِيلِ مَرْضَاةِ اللهِ وَمَا يُقَرِّبُ مِنْهُ تَعَالَى فِي عُلَاهُ.

عِبَادَ اللهِ! النَّبِيُّ ﷺ فِي لَمْحَةٍ عَابِرَةٍ، وَلَكِنَّهَا مُفَصَّلَةٌ، تَقُولُ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ -يَعْنِي مِنْ أَيَّامِ الْعَامِ-)).

فَكَيْفَ كَانَ اجْتِهَادُهُ ﷺ فِي هَذَا الْمَوْسِمِ الْشَّرِيفِ؟

 تَقُولُ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- -كَمَا فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ عَنْهَا -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا--: ((كَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ أَيْقَظَ أَهْلَهُ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ، وَشَدَّ مِئْزَرَهُ)) .

كَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ أَيْقَظَ أَهْلَهُ؛ بِإِشَاعَةِ جَوٍّ مِنْ أَجْوَاءِ الْإِيمَانِ اللَّطِيْفِ فِي أَبْيَاتِ أَزْوَاجِهِ -رِضْوَانُ اللهِ عَنْهُنَّ-.

وَبِذَلِكَ يَكُونُ الشَّأْنُ فِي بَيْتِ كُلِّ مُسْلِمٍ يُحِبُّ النَّبِيَّ ﷺ.

فَالنَّبِيُّ ﷺ إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ؛ أَحْيَا اللَّيْلَ كُلَّهُ.

وَلَا يُعَارِضُ هَذَا رِوَايَةُ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، وَفِيهَا: ((أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ مَا قَامَ لِلَّهِ لَيْلَةً قَطُّ حَتَّى يُصْبِحَ)) ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي لَيَالِي الْعَشْرِ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى الْقِيَامِ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي حَالِ صَلَاةٍ، وَإِنَّمَا تِلَاوَةٌ، وَمُدَارَسَةٌ لِلْقُرْآنِ، وَذِكْرٌ لِلرَّحِيمِ الرَّحْمَنِ، وَتَبَتُّلٌ وَتَفَكُّرٌ.

حَتَّى إِنَّ الْنَّبِيَّ ﷺ -كَمَا فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ، عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، وَهِيَ رِوَايَةٌ صَحِيحَةٌ- قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَرَأَيْتَ لَوْ عَلِمْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ أَيُّ لَيْلَةٍ هِيَ، مَاذَا أَقُولُ؟

فَاخْتَارَ النَّبِيُّ ﷺ -لِلْحَبِيبَةِ بِنْتِ الْحَبِيبِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-- اخْتَارَ لَهَا النَّبِيُّ ﷺ دُعَاءً جَامِعًا، قَالَ: ((قَولِي: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي)) .

الرَّسُولُ ﷺ كَانَ يُحْيِي اللَّيْلَ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ بِطُولِهِ، وَلَكِنَّهُ كَانَ يُصَلِّي مَا شَاءَ اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- أَنْ يُصَلِّيَ.

((يُوقِظُ أَهْلَهُ)): وَيُشِيعُ جَوًّا مِنْ أَجْوَاءِ الْإِيمَانِ اللَّطِيفِ، حَتَّى لَيَكَادُ الْمَرْءُ يُبْصِرُ كَفَّهُ فِي ظُلُمَاتٍ مِنْ فَوْقِهَا ظُلُمَاتٌ؛ لِأَنَّ الْأَبْيَاتَ حِينَئِذٍ تَكُونُ مُنِيرَةً بِأَنْوَارِ الْإِيمَانِ.

النَّبِيُّ ﷺ كَانَ يَخُصُّ الْعَشْرَ مِنْ هَذِهِ الْأَلْوَانِ مِنْ أَلْوَانِ الِاجْتِهَادِ فِي الْعِبَادَةِ، وَذَلِكَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ ﷺ كَانَ يَتَحَرَّى لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ  رَمَضَانَ.

 ((كُنْ رَجُلًا مُسْلِمًا بِحَقٍّ!))

يَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نَتَأَمَّلَ فِي هَذَا الْمُوْسِمِ الْعَظِيمِ فِي أَحْوَالِنَا, وَأَنْ نَقِفَ عَلَى رَأْسِ طَرِيقِنَا؛ لِكَيْ نُرَاجِعَ مَا مَرَّ مِنْ أَعْمَارِنَا، لِكَيْ نَنْظُرَ فِيمَا مَرَّ -مُنْذُ الِاحْتِلَامِ إِلَى هَذَا الْوَقْتِ- نَظْرَةً فَاحِصَةً مُتَأَمِّلَةً وَاعِيَةً ثَاقِبَةً، وَأَنْ يَجْتَهِدَ الْإِنْسَانُ فِي بَيَانِ مَا لَهُ وَمَا عَلَيْهِ, وَفِي النَّظَرِ فِي تَقْوِيمِ وَتَثْمِينِ نَفْسِهِ.

أَيْنَ أَنْتَ مِنْ أَخْلَاقِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ؟!!

وَأَيْنَ أَنْتَ مِنَ الْخُضُوعِ لِدِينِ رَبِّكَ بِأَحْكَامِهِ وَشَرِيعَتِهِ؟!!

وَأَيْنَ أَنْتَ مِنَ الْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ الَّتِي تَوَاضَعَتْ عَلَيْهَا الْأُمَمُّ حَتَّى وَلَوْ مِنْ غَيْرِ إِرْشَادٍ بِدِينٍ؟!!

فَإِنَّ النَّاسَ -كُمَا هُوَ مَعْلُومٌ- يَسْتَقْبِحُونَ أُمُورًا تُخِلُّ بِالْمُرُوءَةِ وَتَضَعُ مِنَ الْقَدْرِ، وَأَصْحَابُ الْمُرُوءَةِ مِنْهُمْ؛ يَقُولُ -قَائِلُهُمْ وَالْإِمَامُ فِيهِمُ- الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: «لَوْ عَلِمْتُ أَنَّ شُرْبَ الْمَاءِ الْبَارِدِ يَثْلُمُ مُرُوءَتِي مَا شَرِبْتُهُ» .

لَا يَضَعُ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ فِي مَوَاضِعِ الذِّلَّةِ وَالْهَوَانِ، وَإِيَّاكَ وَمَا يُعْتَذَرُ مِنْهُ، كُنْ رَجُلًا مُسْلِمًا؛ رَجُلًا فِيكَ صِفَاتُ الرُّجُولَةِ، مُسْلِمًا صُبِغَتْ رُجُولَتُكَ بِإِسْلَامِكَ فَازْدَادَتْ كَمَالًا إِلَى كَمَالِهَا, وَحُسْنًا إِلَى حُسْنِهَا، وَمَا تُعْلَمُ أَخْلَاقُ الرِّجَالُ إِلَّا مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.

دَعْكَ مِنَ السَّفَاسِفِ وَارْتَفِعْ فَوْقَهَا، وَتَأَمَّلْ فِي الْمَعَالِي -مَعَالِي الْأُمُورِ-, وَإِيَّاكَ وَالدُّونَ, وَلَا تَكُنْ آخِذًا بِمَا يَثْلُمُ مُرُوءَتَكَ، وَإِيَّاكَ وَمَوَاطِنَ الْهَوَانِ وَمَوَاضِعَ الذِّلَّةِ.

كُنْ رَجُلًا مُسْلِمًا؛ فَإِنَّ الْأُمَّةَ فِي حَاجَةٍ إِلَيْكَ عَلَى هَذَا الْوَصْفِ وَحْدَهُ؛ أَنْ تَكُونَ مُسْلِمًا حَقَّقَتْ فِيكَ رُجُولَةَ الْمُسْلِمِ الْحَقِّ، الْأُمَّةُ تَحْتَاجُ هَؤُلَاءِ..

هَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ خَرَجَ أَسْلَافُهُمُ الْأَوَّلُونَ لمَّا حَقَّقُوا الدِّينَ الْمَتِينَ؛ أَطَاحُوا بِالتِّيجَانِ, وَثَلُّوا الْعُرُوشَ, وَنَشَرُوا الْهُدَى وَالْخَيْرَ، أَصْلَحُوا فَسَادَ الْحَيَاةِ فِي جَوَانِبِهَا الدِّينِيَّةِ وَالْأَخْلَاقِيَّةِ، وَفِي جَوَانِبِهَا التَّعَامُلِيَّةِ، وَفِي كُلِّ جَوَانِبِ الْحَيَاةِ مِنْ ظَاهِرٍ وَبَاطِنٍ، فَحَمَلُوا الدِّينَ وَحَقَّقُوهُ فِي أَنْفُسِهِمْ.

لَمْ يَحْمِلُوا تَعَالِيمَ فَارِغَةً؛ وَإِنَّمَا حَقَّقُوا التَّعَالِيمَ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَمَا كَانَتْ يَوْمًا فَارِغَةً، وَأَمَّا غَيْرُهُمْ فَيَحْمِلُ شَقْشَقَاتِ اللِّسَانِ, وَيَرْسُبُ فِي أَوَّلِ مَا يَعْرِضُ لَهُ مِنَ امْتِحَانٍ، وَمَا كَذَلِكَ الرَّجُلُ الْمُحَقِّقُ الْحَقُّ؛ إِذَا حَقَّقَ إِسْلَامَهُ وَصَدَقَ فِي إِيمَانِهِ.

عَلَيْكَ أَنْ تَتَغَيَّرَ، غَيِّرْ مِنْ نَفْسِكَ، وَتَأَمَّلْ فِي طَوِيَّتِكَ، وَفَتِّشْ فِي قَلْبِكَ، وَتَأَمَّلْ فِي جَوَانِحِكَ, وَرَاجِعْ حَيَاتَكَ، مَاذَا صَنَعْتَ؟ فَإِنَّكَ نَسِيتَ وَقَدْ أُحْصِيَ عَلَيْكَ، وَإِنَّكَ قَدْ أَلْقَيْتَ وَرَاءَ ظَهْرِكَ؛ وَسَتَجِدُ أَمَامَكَ!!

اتَّقِ اللَّهَ فِي نَفْسِكَ، وَفِيمَا بَقِيَ مِنْ عُمُرِكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ رَبِّكَ، وَأَخْلِصْ، وَصَفِّ حَتَّى يُصَفَّى لَكَ، وَلَا تُخَلِّطْ حَتَّى لَا يُخْلَّطَ عَلَيْكَ .

وَاللهُ يَرْعَاكَ، وَبِكَلَاءَتِهِ يَتَوَلَّاكَ, وَهُوَ مِنْ وَرَاءِ الْقَصْدِ, وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٌ قَدِيرٌ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.

 

المصدر:رَمَضَانُ شَهْرُ الْإِيمَانِ وَصِنَاعَةِ الرِّجَالِ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  الْإِسْلَامُ عَمَلٌ وَسُلُوكٌ..نَمَاذِجُ مِنْ حَيَاةِ التَّابِعِينَ
  بيان حول حادث المنيا الإرهابي
  بِنَاءُ الْأُسْرَةِ الْمُسْلِمَةِ الْقَوِيَّةِ وَحِمَايَتُهَا
  الرد على الملحدين:الدليل الخُلُقي ودلالته على وجود الخالق
  دُرُوسٌ مِنْ حَيَاةِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ وَدَوْرُهُ التَّجْدِيدِيُّ فِي عَصْرِهِ
  موقف المسلم من العلم المادي
  عرفت فالزم
  رَمَضَانُ شَهْرُ الطَّاعَاتِ
  ((دُرُوسٌ وَعِظَاتٌ مِنْ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ)) ​((الدَّرْسُ الثَّانِي: أُصُولُ التَّوْحِيدِ وَمَعَالِمُهُ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ))
  حرب الشائعات
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان