((حُسْنُ الظَّنِّ بِاللهِ -صِنَاعَةُ الْأَمَلِ-
وَكَمَالُ الشَّرِيعَةِ فِي الْمَوَارِيثِ وَحَقُّ الْمَرْأَةِ))
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((حُسْنُ الظَّنِّ بِاللهِ -جَلَّ وَعَلَا- ))
فَالْفَأْلُ وَحُسْنُ الظَّنِّ بِاللهِ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُحَافِظَ عَلَيْهَا؛ فَإِنَّهَا تُعْطِيهِ دَافِعًا لِلْعَمَلِ وَالتَّقَدُّمِ إِلَى الْأَمَامِ، فَالْمُتَفَائِلُ عِنْدَهُ أَمَلٌ أَنْ يَكُونَ حَالُهُ فِي مُسْتَقْبَلِهِ خَيْرًا مِنْهُ فِي يَوْمِهِ، وَبِأَنْ يُعَوِّضَ فِي مُسْتَقْبَلِهِ مَا فَاتَهُ فِي أَمْسِهِ، وَأَنْ يَتَجَاوَزَ الْعَقَبَاتِ وَالْمِحَنَ، وَأَنْ يُحَقِّقَ الْمَصَالِحَ وَالْمَنَافِعَ الَّتِي لَيْسَتْ فِي حَوْزَتِهِ الْيَوْمَ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: ((الْفَأْلُ فِيهِ تَقْوِيَةٌ لِلْعَزْمِ، وَبَاعِثٌ عَلَى الْجِدِّ، وَمَعُونَةٌ عَلَى الظَّفَرِ؛ فَقَدْ تَفَاءَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي غَزَوَاتِهِ وَحُرُوبِهِ)).
وَالْمُرَادُ بِالتَّفَاؤُلِ: انْشِرَاحُ قَلْبِ الْمُؤْمِنِ، وَإِحْسَانُهُ الظَّنَّ، وَتَوَقُّعُهُ الْخَيْرَ.
قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: ((التَّفَاؤُلُ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ رَجُلٌ مَرِيضٌ فَيَتَفَاءَلُ بِمَا يَسْمَعُ مِنْ كَلَامٍ، فَيَسْمَعُ آخَرَ يَقُولُ: يَا سَالِمُ، أَوْ يَكُونُ طَلَبَ ضَالَّةً فَيَسْمَعُ آخَرَ يَقُولُ: يَا وَاجِدُ، فَيَقَعُ فِي ظَنِّهِ أَنَّهُ يَبْرَأُ مِنْ مَرَضِهِ، وَأَنَّهُ يَجِدُ ضَالَّتَهُ)).
((حُسْنُ الظَّنِّ بِاللهِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ))
لَقَدْ حَثَّ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ عَلَى حُسْنِ الظَّنِّ بِاللهِ، وَقُوَّةِ الْيَقِينِ فِي تَحْقِيقِ مَوْعُودِهِ وَنَيْلِ رَحْمَتِهِ، وَذَلِكَ يَكُونُ مَعَ الْإِحْسَانِ فِي الْعَمَلِ، ((وَكُلَّمَا كَانَ الْعَبْدُ حَسَنَ الظَّنِّ بِاللَّهِ، حَسَنَ الرَّجَاءِ لَهُ، صَادِقَ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُخَيِّبُ أَمَلَهُ فِيهِ الْبَتَّةَ؛ فَإِنَّهُ -سُبْحَانَهُ- لَا يُخَيِّبُ أَمَلَ آمِلٍ، وَلَا يُضَيِّعُ عَمَلَ عَامِلٍ، وَعَبَّرَ عَنِ الثِّقَةِ وَحُسْنِ الظَّنِّ بِالسَّعَةِ؛ فَإِنَّهُ لَا أَشْرَحَ لِلصَّدْرِ وَلَا أَوْسَعَ لَهُ بَعْدَ الْإِيمَانِ مِنْ ثِقَتِهِ بِاللَّهِ، وَرَجَائِهِ لَهُ، وَحُسْنِ ظَنِّهِ بِهِ)).
«إِنَّ الرَّجَاءَ يُوجِبُ لِلْعَبْدِ السَّعْيَ وَالِاجْتِهَادَ فِيمَا رَجَاهُ، وَالْإِيَاسُ يُوجِبُ لَهُ التَّثَاقُلَ وَالتَّبَاطُؤَ، وَأَوْلَى مَا رَجَا الْعِبَادُ: فَضْلُ اللهِ، وَإِحْسَانُهُ، وَرَحْمَتُهُ وَرَوْحُهُ».
قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87].
وَرَوْحُ اللهِ هُنَا: رَحْمَتُهُ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، فَلَا يَجُوزُ الْوُقُوفُ مِنْهَا مَوْقِفَ الْيَأْسِ وَالْقُنُوطِ؛ مَهْمَا اشْتَدَّتْ بِالْإِنْسَانِ الْمِحَنُ، وَتَكَالَبَتْ عَلَيْهِ الرَّزَايَا؛ لِأَنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ الْفَرَجِ، وَتَفْرِيجِ الْكَرْبِ، وَتَبْدِيدِ الْخُطُوبِ، وَالشَّكُّ فِي ذَلِكَ مَدْعَاةٌ لِنِسْبَةِ النَّقْصِ وَالْعَجْزِ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَاعْتِقَادُ ذَلِكَ بِاللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- كُفْرٌ بِجَلَالِهِ وَكَمَالِهِ وَعَظِيمِ سُلْطَانِهِ.
وَلَقَدْ نَهَى اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عَنْ هَذَا الْيَأْسِ وَذَلِكَ الْقُنُوطِ؛ مَهْمَا كَانَتِ الْحَالُ الَّتِي وَصَلَ إِلَيْهَا الْعَبْدُ، وَاسْتَقَرَّتْ فِيهَا الشِّدَّةُ.
قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53].
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ ۚ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} [الشورى: 28].
لَقَدْ ذَكَرَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- أَحْوَالًا لِعِبَادِهِ بَلَغَ فِيهَا بَعْضُهُمْ مَبْلَغَ الْحَرَجِ، وَكَادُوا فِيهَا أَنْ يَسْتَسْلِمُوا لِلْيَأْسِ، فَجَاءَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ الْفَرَجُ، وَأَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ بِتَبْدِيدِ الشَّدَائِدِ، وَإِزَالَةِ الْكُرَبِ.
قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214].
بَعْدَ هَذَا الزِّلْزَالِ الَّذِي مَلَأَ قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ، وَبَعْدَ تِلْكَ الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ الَّتِي رَكِبَتْهُمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ جَاءَ نَصْرُ اللهِ، وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
فَأَمَامَ هَذِهِ الْقُدْرَةِ الرَّبَّانِيَّةِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَسَرَّبَ إِلَى النُّفُوسِ الْيَأْسُ، وَلَا أَنْ يَسْتَحْكِمَ فِيهَا الْقُنُوطُ مَا دَامَتْ قُدْرَةُ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- أَقْوَى مِنْ كُلِّ الشَّدَائِدِ وَالْمِحَنِ، وَمَا دَامَ سُلْطَانُهُ فَوْقَ كُلِّ هَذَا الْوُجُودِ؛ {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214].
«يُخْبِرُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَمْتَحِنَ عِبَادَهُ بِالسَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْمَشَقَّةِ، لَا بُدَّ مِنْ هَذَا الِامْتِحَانِ كَمَا فَعَلَ بِمَنْ قَبْلَهُمْ؛ فَهِيَ سُنَّتُهُ الْجَارِيَةُ الَّتِي لَا تَتَبَدَّلُ وَلَا تَتَغَيَّرُ؛ أَنَّ مَنْ قَامَ بِدِينِهِ وَشَرْعِهِ لَا بُدَّ أَنْ يَبْتَلِيَهُ، فَإِنْ صَبَرَ عَلَى أَمْرِ اللهِ، وَلَمْ يُبَالِ بِالْمَكَارِهِ الْوَاقِفَةِ فِي سَبِيلِهِ؛ فَهُوَ الصَّادِقُ الَّذِي قَدْ نَالَ مِنَ السَّعَادَةِ كَمَالَهَا، وَمِنَ السِّيَادَةِ آلَتَهَا.
وَمَنْ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللهِ بِأَنْ صَدَّتْهُ الْمَكَارِهُ عَمَّا هُوَ بِصَدَدِهِ، وَثَنَتْهُ الْمِحَنُ عَنْ مَقْصِدِهِ؛ فَهُوَ الْكَاذِبُ فِي دَعْوَى الْإِيمَانِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ الْإِيمَانُ بِالتَّحَلِّي، وَلَيْسَ الْإِيمَانُ بِالتَّمَنِّي وَمُجَرَّدِ الدَّعَاوَى حَتَّى تُصَدِّقَهُ الْأَعْمَالُ أَوْ تُكَذِّبَهُ.
فَقَدْ جَرَى عَلَى الْأُمَمِ الْأَقْدَمِينَ مَا ذَكَرَ اللهُ عَنْهُمْ: {مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ}؛ أَيِ: الْفَقْرُ، وَالْأَمْرَاضُ فِي أَبْدَانِهِمْ، {وَزُلْزِلُوا} بِأَنْوَاعِ الْمَخَاوِفِ؛ مِنَ التَّهْدِيدِ بِالْقَتْلِ، وَالنَّفْيِ، وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ، وَقَتْلِ الْأَحِبَّةِ، وَأَنْوَاعِ الْمَضَارِّ؛ حَتَّى وَصَلَتْ بِهِمُ الْحَالُ وَآلَ بِهِمُ الزِّلْزَالُ إِلَى أَنِ اسْتَبْطَئُوا نَصْرَ اللهِ مَعَ يَقِينِهِمْ بِهِ؛ وَلَكِنْ لِشِدَّةِ الْأَمْرِ وَضِيقِهِ قَالَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ: {مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ}؟ فَلَمَّا كَانَ الْفَرَجُ عِنْدَ الشِّدَّةِ -وَكُلَّمَا ضَاقَ الْأَمْرُ اتَّسَعَ-؛ قَالَ تَعَالَى: {أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}.
فَهَكَذَا كُلُّ مَنْ قَامَ بِالْحَقِّ فَإِنَّهُ يُمْتَحَنُ، فَكُلَّمَا اشْتَدَّتْ عَلَيْهِ وَصَعُبَتْ، إِذَا صَبَرَ وَثَابَرَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ؛ انْقَلَبَتِ الْمِحْنَةُ فِي حَقِّهِ مِنْحَةً، وَالْمَشَقَّاتُ رَاحَاتٍ، وَأَعْقَبَهُ ذَلِكَ الِانْتِصَارُ عَلَى الْأَعْدَاءِ، وَشِفَاءُ مَا فِي قَلْبِهِ مِنَ الدَّاءِ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 142].
وَهِيَ نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 1-3].
فَعِنْدَ الِامْتِحَانِ يُكْرَمُ الْمَرْءُ أَوْ يُهَانُ».
وَقَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ} [الأنعام: 64].
«قُلْ لَهُمْ: اللهُ -سُبْحَانَهُ- يُخَلِّصُكُمْ فِي الظُّلُمَاتِ مِنَ الشَّدَائِدِ، وَمِنَ الظُّلُمَاتِ، وَمِنْ كُلِّ غَمٍّ شَدِيدٍ».
وَقَالَ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ} [المؤمنون: 88].
«وَهُوَ الَّذِي لَهُ الْقُدْرَةُ الْكَامِلَةُ عَلَى حِمَايَةِ مَنِ احْتَمَى بِهِ، مَنِ اسْتَجَارَ بِهِ فَأَجَارَهُ، كَفَاهُ وَحَمَاهُ، وَمَنْ أَرَادَ بِهِ سُوءًا فَإِنَّهُ لَا يَجِدُ بَعْدَ اللهِ أَحَدًا يُؤَمِّنُهُ فَيَكْفِيهِ وَيَحْمِيهِ، أَوْ يَدْفَعُ عَنْهُ».
وَالنَّبِيُّ ﷺ حُوصِرَ، وَأُوذِيَ، وَأُخْرِجَ مِنْ بَلَدِهِ، وَقُتِلَ أَصْحَابُهُ، وَمَاتَ لَهُ سِتَّةٌ مِنَ الْوَلَدِ، وَمَعَ ذَلِكَ كَانَ يَتَفَاءَلُ، وَيُعْجِبُهُ الِاسْمُ الْحَسَنُ؛ فَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((يُعْجِبُنِي الْفَأْلُ الصَّالِحُ: الْكَلِمَةُ الْحَسَنَةُ)).
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي ((الْمُسْنَدِ)) بِسَنَدٍ حَسَنٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَتَفَاءَلُ وَلَا يَتَطَيَّرُ، وَيُعْجِبُهُ الِاسْمُ الْحَسَنُ)).
وَفِي ((صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ)) مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ أَبَاهُ -جَدَّ سَعِيدٍ- قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: ((مَا اسْمُكَ؟)).
قَالَ: ((اسْمِي حَزْنٌ)) -وَالْحُزُونَةُ ضِدُّ السُّهُولَةِ-.
قَالَ: ((بَلْ أَنْتَ سَهْلٌ)).
قَالَ: ((مَا أَنَا بِمُغَيِّرٍ اسْمًا سَمَّانِيهِ أَبِي)).
قَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ: ((فَمَا زَالَتْ فِينَا الْحُزُونَةُ بَعْدُ)).
فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ عِنْدَمَا جَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو لِمُفَاوَضَةِ الْمُسْلِمِينَ، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ لِأَصْحَابِهِ: ((سَهُلَ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ)) كَمَا فِي ((صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ)).
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَأْلِ وَالطِّيَرَةِ: أَنَّ الْفَأْلَ مِنْ طَرِيقِ حُسْنِ الظَّنِّ بِاللهِ، وَأَمَّا الطِّيَرَةُ فَلَا تَكُونُ إِلَّا فِي السُّوءِ؛ فَلِذَلِكَ كُرِهَتْ)).
قَالَ الْحَلِيمِيُّ: ((كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُعْجِبُهُ الْفَأْلُ؛ لِأَنَّ التَّشَاؤُمَ سُوءُ ظَنٍّ بِاللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَالتَّفَاؤُلَ حُسْنُ ظَنٍّ بِاللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَالْمُؤْمِنُ مَأْمُورٌ بِحُسْنِ الظَّنِّ بِاللهِ -تَعَالَى- عَلَى كُلِّ حَالٍ)).
قَالَ الْبَغَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَإِنَّمَا أَحَبَّ النَّبِيُّ ﷺ الْفَأْلَ؛ لِأَنَّ فِيهِ رَجَاءَ الْخَيْرِ وَالْفَائِدَةِ، وَرَجَاءُ الْخَيْرِ أَحْسَنُ بِالْإِنْسَانِ مِنَ الْيَأْسِ وَقَطْعِ الرَّجَاءِ عَنِ الْخَيْرِ)).
التَّفَاؤُلُ حُسْنُ ظَنٍّ بِهِ، وَالْمُؤْمِنُ مَأْمُورٌ بِحُسْنِ الظَّنِّ بِاللهِ -تَعَالَى- عَلَى كُلِّ حَالٍ.
وَقَدْ أَرْشَدَ النَّبِيُّ ﷺ أُمَّتَهُ إِلَى حُسْنِ الظَّنِّ بِاللهِ -تَعَالَى-.
رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي ((الْمُسْنَدِ)) بِسَنَدٍ صَحِيحٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((إِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يَقُولُ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، إِنْ ظَنَّ بِي خَيْرًا فَلَهُ، وَإِنْ ظَنَّ شَرًّا فَلَهُ)).
رَوَى مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- )).
قَالَ الْعُلَمَاءُ: ((حُسْنُ الظَّنِّ بِاللهِ -تَعَالَى- أَنْ يَظُنَّ أَنَّهُ يَرْحَمُهُ وَيَعْفُو عَنْهُ)).
((حُسْنُ ظَنِّ الرُّسُلِ وَالصَّالِحِينَ بِاللهِ -جَلَّ وَعَلَا- ))
الَّذِي يَتَأَمَّلُ فِي أَحْوَالِ الرُّسُلِ -عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَفِي أَحْوَالِ الصَّالِحِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ يَجِدُ أَنَّهُمْ مُتَفَائِلُونَ فِي أَحْلَكِ الظُّرُوفِ وَفِي أَشَدِّ الشَّدَائِدِ؛ فَمُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَمَنْ مَعَهُ عِنْدَمَا لَحِقَ بِهِمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ، وَأَصْبَحَ الْبَحْرُ أَمَامَهُمْ وَالْعَدُوُّ خَلْفَهُمْ كَانَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- مُتَفَائِلًا وَمُحْسِنًا لِلظَّنِّ بِرَبِّهِ، قَالَ -تَعَالَى- حَاكِيًا عَنْهُ: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَىٰ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا ۖ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 61-62].
وَأُمُّ إِسْمَاعِيلَ هَاجَرُ عِنْدَمَا تَرَكَهَا إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي مَكَّةَ مَعَ ابْنِهَا إِسْمَاعِيلَ وَكَانَ رَضِيعًا، وَلَيْسَ بِمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ، وَلَيْسَ بِهَا مَاءٌ، فَوَضَعَهَا هُنَالِكَ، وَوَضَعَ عِنْدَهُمَا -عِنْدَ هَاجَرَ وَإِسْمَاعِيلَ- جِرَابًا فِيهِ تَمْرٌ، وَسِقَاءً فِيهِ مَاءٌ، ثُمَّ مَضَى إِبْرَاهِيمُ مُنْطَلِقًا، فَتَبِعَتْهُ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ، فَقَالَتْ: ((يَا إِبْرَاهِيمُ! أَيْنَ تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا بِهَذَا الْوَادِي الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إِنْسٌ وَلَا شَيْءٌ؟!))، قَالَتْ لَهُ ذَلِكَ مِرَارًا، وَجَعَلَ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ لَهُ: ((آللهُ أَمَرَكَ بِهَذَا؟)).
قَالَ: ((نَعَمْ)).
قَالَتْ: ((إِذَنْ؛ لَا يُضَيِّعُنَا)).
إِذَنْ؛ لَا يُضَيِّعُنَا.. إِذَنْ؛ لَا يُضَيِّعُنَا!
أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- لَمَّا نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ، وَرَجَعَ إِلَيْهَا خَائِفًا يَقُولُ: ((زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي، لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي)).
قَالَتْ: ((كَلَّا وَاللهِ! مَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَنَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ ﷺ كَانَ أَعْظَمَ النَّاسِ تَفَاؤُلًا وَحُسْنَ ظَنٍّ بِاللهِ، رَوَى مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟)).
فَقَالَ: ((لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ، وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ؛ إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي؛ فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ، فَقَالَ: فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ، وَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ! إِنَّ اللهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَأَنَا مَلَكُ الْجِبَالِ، وَقَدْ بَعَثَنِي رَبُّكَ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِكَ؛ فَمَا شِئْتَ؟ إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الْأَخْشَبَيْنِ -جَبَلَانِ بِمَكَّةَ: أَبُو قُبَيْسٍ، وَالْجَبَلُ الَّذِي يُقَابِلُهُ-، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ: بَلْ أَرْجُو -يَتَفَاءَلُ وَيُحْسِنُ الظَّنَّ بِرَبِّهِ- أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ، لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا)).
وَقَدْ كَانَ مَا رَجَاهُ -صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ-.
وَفِي ((صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ)) مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((عِنْدَمَا كَانَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي جِوَارِ ابْنِ الدَّغِنَّةِ، فَابْتَنَى أَبُو بَكْرٍ مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ، فَأَعْلَنَ بِالصَّلَاةِ وَالْقِرَاءَةِ فِيهِ، فَشَكَتْ قُرَيْشٌ أَبَا بَكْرٍ إِلَى ابْنِ الدَّغِنَّةِ وَقَالُوا: ((خَشِينَا أَنْ يَفْتِنَ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا)).
فَذَهَبَ ابْنُ الدَّغِنَّةِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ وَقَالَ: ((إِمَّا أَنْ تَمْتَنِعَ عَمَّا تَفْعَلُ، وَإِمَّا أَنْ تَرُدَّ عَلَيَّ جِوَارِي -وَكَانَ قَدْ دَخَلَ مَكَّةَ فِي جِوَارِهِ-، قَالَ: فَإِنِّي أَكْرَهُ أَنْ تَتَحَدَّثَ الْعَرَبُ أَنِّي أُخْفِرْتُ فِي رَجُلٍ عَقَدْتُ لَهُ -أَيْ: أَدْخَلْتُهُ فِي جِوَارِي-)).
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: ((فَإِنِّي أَرُدُّ إِلَيْكَ جِوَارَكَ، وَأَرْضَى بِجِوَارِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- )).
مِنَ التَّفَاؤُلِ الَّذِي يُذْكَرُ فِي هَذَا الْمَجَالِ: مَا حَصَلَ لِشَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ -رَحِمَهُ اللهُ-؛ فَفِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِ مِائَةٍ (702هـ) تَحَرَّكَ التَّتَارُ لِغَزْوِ بِلَادِ الشَّامِ، فَأَخْبَرَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ -رَحِمَهُ اللهُ- النَّاسَ وَالْأُمَرَاءَ أَنَّ الدَّائِرَةَ وَالْهَزِيمَةَ عَلَى التَّتَارِ، وَأَنَّ الظَّفَرَ وَالنَّصْرَ لِلْمُسْلِمِينَ، وَأَقْسَمَ عَلَى ذَلِكَ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ يَمِينًا، فَيُقَالُ لَهُ: قُلْ إِنْ شَاءَ اللهُ، فَيَقُولُ: إِنْ شَاءَ اللهُ تَحْقِيقًا، لَا تَعْلِيقًا!
قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ ذَلِكَ.
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: فَلَمَّا أَكْثَرُوا عَلَيَّ قُلْتُ: لَا تُكْثِرُوا! كَتَبَ اللهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ أَنَّهُمْ مَهْزُومُونَ فِي هَذِهِ الْكَرَّةِ، وَأَنَّ النَّصْرَ لِجُيُوشِ الْإِسْلَامِ، قَالَ: وَأَطْعَمْتُ بَعْضَ الْأُمَرَاءِ وَالْعَسْكَرِ حَلَاوَةَ النَّصْرِ قَبْلَ خُرُوجِهِمْ إِلَى لِقَاءِ الْعَدُوِّ.
وَكَانَ النَّصْرُ حَلِيفَ الْمُسْلِمِينَ، قَالَ تَعَالَى: {أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214].
وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47].
مِنْ ذَلِكَ: مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ الْمُقْرِئُ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: ((مَرِضْتُ بِدِمَشْقَ مَرَضًا شَدِيدًا، فَجَاءَنِي ابْنُ تَيْمِيَّةَ -رَحِمَهُ اللهُ- وَجَلَسَ عِنْدَ رَأْسِي وَأَنَا مُثْقَلٌ بِالْحُمَّى وَالْمَرَضِ، فَدَعَا لِي، ثُمَّ قَالَ: جَاءَتِ الْعَافِيَةُ، فَمَا كَانَ إِلَّا أَنْ قَامَ وَإِذْ بِالْعَافِيَةِ قَدْ جَاءَتْ، وَشُفِيتُ لِوَقْتِي)).
((صِنَاعَةُ الْأَمَلِ))
فِي الْأَمَلِ سِرٌّ لَطِيفٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْلَا الْأَمْلُ مَا تَهَنَّى لِأَحَدٍ عَيْشٌ، لَوْلَا أَنَّ الْإِنْسَانَ يَأْمُلُ، وَلَوْلَا أَنَّ الْإِنْسَانَ عِنْدَهُ أَمَلٌ فِي أَنْ يَحْدُثَ شَيْءٌ مَا تَتَغَيَّرُ بِهِ الْأَحْوَالُ، وَتَسْعَدُ بِهِ الْحَيَاةُ.
لَوْلَا أَنَّ الْإِنْسَانَ يَأْمُلُ أَنْ يَمُنَّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِتَغْيِيرِ الْأَحْوَالِ مِنَ الصَّعْبِ إِلَى السَّهْلِ، وَمِنَ التَّعْسِيرِ إِلَى التَّيْسِيرِ.
لَوْلَا هَذَا الْأَمَلُ مَا تَهَنَّى أَحَدٌ بِعَيْشٍ، وَلَا طَابَتْ نَفْسُ إِنْسَانٍ أَنْ يَشْرَعَ فِي عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ الدُّنْيَا؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ الَّذِي يَغْرِسُ غَرْسًا؛ فَهَذَا الْغَرْسُ لَا يُؤْتِي ثَمَرَتَهُ وَلَا أُكُلَهُ إِلَّا بَعْدَ سَنَوَاتٍ طَوِيلَةٍ.
لَوْلَا الْأَمَلُ مَا غَرَسَ إِنْسَانٌ غَرْسًا، وَلَا بَنَى أَحَدٌ بَيْتًا؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ عِنْدَمَا يَأْمُلُ أَنْ يَعِيشَ طَوِيلًا، وَيَبْنِي بَيْتًا؛ فَإِنَّهُ بِرَجَاءِ أَنْ يُعَمِّرَ هَذَا الْبَيْتَ، وَأَنْ يَعِيشَ فِيهِ سَنَوَاتٍ طِوَالًا.
لَوْلَا أَنَّهُ قَدِ ارْتَكَزَ فِي نَفْسِهِ الْأَمَلُ؛ مَا بَنَى أَحَدٌ بَيْتًا، وَمَا غَرَسَ أَحَدٌ غَرْسًا، وَمَا عَمِلَ أَحَدٌ عَمَلًا مِنْ أَعْمَالِ هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.
فَالْأَمَلُ فِيهِ سِرٌّ لَطِيفٌ، وَمِنْ أَجْلِهِ جَعَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هَذِهِ الْحَيَاةَ مَبْنِيَةً عَلَى هَذَا النَّحْوِ الَّذِي يَحْيَا عَلَيْهِ النَّاسُ، وَإِلَّا لَتَوَقَّفَتْ مَعَايَشُ النَّاسِ، وَمَا عَمِلَ أَحَدٌ فِي الْحَيَاةِ عَمَلًا.
((مَعَانِي الْأَمَلِ))
الْأَمَلُ مَأْخُوذٌ فِي أَصْلِهِ -فِي مَادَّتِهِ- مِنَ التَّثَبُّتِ وَالِانْتِظَارِ، فَكَأَنَّ الْإِنْسَانَ يَنْتَظِرُ شَيْئًا آتِيًا، وَقَدْ لَا يَأْتِي أَبَدًا.
وَالْأَمَلُ -أَيْضًا- عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ: هُوَ الرَّجَاءُ، وَهَذَا فِيهِ بَعْضُ انْتِظَارٍ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَرْتَجِي مَا سَيَأْتِي بَعْدَ حِينٍ.
فَالْأَمَلُ: الرَّجَاءُ.
وَالْأَمَلُ فِي مَادَّتِهِ -فِيمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ- يَدُلُّ عَلَى التَّثَبُّتِ وَالِانْتِظَارِ؛ وَلِذَلِكَ تَقُولُ: تَأَمَّلْتُ الشَّيْءَ؛ يَعْنِي: نَظَرْتُ إِلَيْهِ مُسْتَبِينًا لَهُ، طَالِبًا الْإِبَانَةَ عَنْ حَالِهِ.
يَقُولُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ} [الحجر: 3].
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهَا : (({وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ} أَيْ: يَشْغُلُهُمْ عَنِ الطَّاعَةِ))؛ لِأَنَّ الْأَمَلَ هُوَ الْحِرْصُ عَلَى الدُّنْيَا، وَالِانْكِبَابُ عَلَيْهَا، وَالْحُبُّ لَهَا، وَالْإِعْرَاضُ عَنِ الْآخِرَةِ.
هَذَا هُوَ الْمَذْمُومُ؛ لِأَنَّ الْأَمَلَ لَا يُذَمُّ وَلَا يُكْرَهُ جُمْلَةً وَاحِدَةً، فَإِنَّهُ لَوْلَا أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَعَلَ لِلْإِنْسَانِ أَمَلًا؛ مَا اسْتَقَامَتْ لِلنَّاسِ مَعِيشَةٌ، وَمَا اسْتَطَاعَ النَّاسُ الْحَيَاةَ.
غَيْرَ أَنَّ الْأَمَلَ مِنْهُ مَا هُوَ مَذْمُومٌ، وَمِنْهُ مَا هُوَ مَحْمُودٌ:
فَالْأَمَلُ الْمَذْمُومُ: أَنْ يَحْرِصَ الْإِنْسَانُ عَلَى الدُّنْيَا، وَأَنْ يَنْكَبَّ عَلَيْهَا، وَأَنْ يَكُونَ مُحِبًّا لَهَا، مُعْرِضًا عَنِ الْآخِرَةِ، غَيْرَ عَامِلٍ لِلْآخِرَةِ، وَغَيْرَ مُلْتَفِتٍ لِلْبَاقِيَةِ.
وَالْأَمَلُ: هُوَ تَوَقُّعُ حُصُولِ الشَّيْءِ، وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِيمَا يُسْتَبْعَدُ حُصُولُهُ.
فَإِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ مُتَوَقِّعًا لِحُصُولِ شَيْءٍ؛ فَهُوَ مُؤَمِّلُ فِيهِ، فَعِنْدَهُ أَمَلٌ فِي هَذَا الشَّيْءِ الَّذِي يَتَوَقَّعُ حُصُولُهُ.
وَقَدْ يَكُونُ حُصُولُهُ بَعِيدَ الْمَنَالِ جِدًّا؛ لِأَنَّ الْأَمَلَ يَسْتَخْدِمُهُ النَّاسُ دَائِمًا وَأَبَدًا عَلَى حَسَبِ الْعُرْفِ الْغَالِبِ عَلَيْهِمْ فِيمَا يُسْتَبْعَدُ حُصُولُهُ؛ يَعْنِي: يَكُونُ الشَّيْءُ مُسْتَبْعَدَ الْحُصُولِ جِدًّا، وَالْإِنْسَانُ كَأَنَّهُ فِيهِ عَلَى حَافَّةِ الْيَأْسِ مِنْ حُصُولِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَعِنْدَهُ أَمَلٌ فِيهِ.
فَهُوَ يَحْيًا عَلَى أَمَلِ أَنْ يَحْدُثَ لَهُ شَيْءٌ فِي الْحَيَاةِ؛ وَإِنْ كَانَ هَذَا الشَّيْءُ مُسْتَبْعَدَ الْحُصُولِ لَهُ فِي الدُّنْيَا.
وَطُولُ الْأَمَلِ: هُوَ الِاسْتِمْرَارُ فِي الْحِرْصِ عَلَى الدُّنْيَا، أَنْ يَسْتَمِرَّ الْإِنْسَانُ فِي الْحِرْصِ عَلَى الدُّنْيَا، وَأَنْ يُدَاوِمَ الِانْكِبَابَ عَلَى هَذِهِ الدُّنْيَا مَعَ كَثْرَةِ الْإِعْرَاضِ عَنِ الْآخِرَةِ.
فَهَذَا هُوَ طُولُ الْأَمَلِ.
فَطُولُ الْأَمَلِ: الِاسْتِمْرَارُ فِي الْحِرْصِ عَلَى الدُّنْيَا؛ حَتَّى وَلَوْ عَلَتِ السِّنُّ.
كُلَّمَا تَقَدَّمَ الْإِنْسَانُ فِي الْعُمُرِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُقْبِلًا عَلَى الْآخِرَةِ، مُبْتَعِدًا عَنِ الدُّنْيَا.
*الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَمَلِ وَالطَّمَعِ وَالرَّجَاءِ:
وَهُنَالِكَ فَرْقٌ بَيْنَ الْأَمَلِ، وَالطَّمَعِ، وَالرَّجَاءِ:
مَنْ عَزَمَ عَلَى سَفَرٍ إِلَى بَلَدٍ بَعِيدٍ؛ يَقُولُ: أَمِلْتُ الْوُصُولَ، وَلَا يَقُولُ: طَمِعْتُ، يَعْنِي: الْإِنْسَانُ يُؤَمِّلُ أَنْ يَصِلَ إِلَى الْبَلَدِ الْبَعِيدِ؛ وَلَكِنَّهُ لَا يَطْمَعُ، لَا يَقُولُ: طَمِعْتُ فِي الْوُصُولِ إِلَى هَذَا الْبَلَدِ الْبَعِيدِ.
الطَّمَعُ يَكُونُ فِي الْقَرِيبِ، وَالْأَمَلُ فِي الْبَعِيدِ، وَالرَّجَاءُ بَيْنَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ.
فَإِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ مُقْبِلًا عَلَى شَيْءٍ، وَيَتَوَقَّعُ حُصُولَهُ قَرِيبًا؛ فَهُوَ طَامِعٌ فِي حُصُولِهِ.
إِذَا كَانَ الشَّيْءُ بَعِيدًا مُسْتَبْعَدَ الْحُصُولِ؛ فَعِنْدَهُ أَمَلٌ فِي حُصُولِهِ.
إِذَا كَانَ الشَّيْءُ بَيْنَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ؛ فَعِنْدَهُ رَجَاءٌ فِي حُصُولِهِ.
((الْأَمَلُ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ))
أَخْبَرَ اللهُ فِي كِتَابِهِ عَنْ أَمَلِ وَرَجَاءِ إِبْرَاهِيمَ أَنْ يَرْزُقَهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بِالْوَلَدِ الصَّالِحِ، فَكَانَتِ الْبُشْرَى مِنَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101)} [الصافات: 100-101].
قَالَ إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: رَبِّ هَبْ لِي وَلَدًا مِنْ ذُرِّيَّتِي يَكُونُ صَالِحًا مِنَ الصَّالِحِينَ، يَبْلُغُ أَوَانَ الْحُلُمِ، فَأَجَبْنَا دَعْوَتَهُ، وَبَشَّرْنَاهُ بِابْنٍ يَتَحَلَّى بِالْعَقْلِ وَالْأَنَاةِ، وَضَبْطِ النَّفْسِ، وَقُوَّةِ الْإِرَادَةِ، فَوَلَدَتْ هَاجَرُ الْغُلَامَ الْحَلِيمَ إِسْمَاعِيلَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-.
*وَيَعْقُوبُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- أُسْوَةٌ وَقُدْوَةٌ فِي أَمَلِهِ وَرَجَائِهِ فِي رَبِّهِ، رَغْمَ مِحْنَتِهِ الشَّدِيدَةِ بِفَقْدِ يُوسُفَ وَأَخِيهِ، قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86) يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87)} [يوسف: 83-87].
قَالَ نَبِيُّ اللهِ يَعْقُوبُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: فَصَبْرِي عَلَى الْمُصِيبَةِ الَّتِي نَزَلَتْ صَبْرٌ جَمِيلٌ، لَا شَكْوَى مَعَهُ لِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى، وَلَا أَعْمَلُ عَمَلًا لَا يَرْضَى عَنْهُ رَبِّي، عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِيُوسُفَ وَبِنْيَامِينَ وَالْأَخِ الثَّالِثِ الَّذِي أَقَامَ بِمِصْرَ، إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ بِحُزْنِي وَوَجْدِي عَلَيْهِمْ، الْحَكِيمُ بِمَا يُدَبِّرُهُ وَيَقْضِيهِ.
وَابْتَعَدَ يَعْقُوبُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- عَنْ بَنِيهِ، وَاشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَتَجَدَّدَ حُزْنُهُ عَلَى يُوسُفَ، وَقَالَ: يَا حُزْنِيَ الشَّدِيدَ عَلَى يُوسُفَ دُمْ، وَصَارَ يَبْكِي بُكَاءً كَثِيرًا، وَانْقَلَبَ سَوَادُ عَيْنَيْهِ بَيَاضًا، وَضَعُفَ بَصَرُهُ مِنْ شِدَّةِ الْحُزْنِ، وَكَثْرَةِ الْبُكَاءِ عَلَى يُوسُفَ، فَهُوَ مُمْتَلِئُ مِنَ الْحُزْنِ، مُمْسِكٌ عَلَيْهِ دَاخِلَ نَفْسِهِ لَا يَبُثُّهُ.
وَلَا يَتَنَافَى هَذَا الْحُزْنُ مَعَ الرِّضَا بِقَضَاءِ اللهِ وَقَدَرِهِ؛ لِأَنَّهُ أَلَمٌ نَفْسِيٌّ غَيْرُ إِرَادِيٌّ، لَا يَمْلِكُ الْإِنْسَانُ دَفْعَهُ وَلَا رَفْعَهُ، لَكِنْ يَمْلِكُ أَلَّا يَعْمَلَ أَوْ يَقُولَ مَا لَا يُرْضِي اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ-.
فَهُوَ مُطَالَبٌ بِمَا يَمْلِكُ، وَلَا يُؤَاخَذُ عَلَى شَيْءٍ غَيْرِ خَاضِعٍ لِإِرَادَتِهِ.
قَالَ إِخْوَةُ يُوسُفَ لِأَبِيهِمْ يَعْقُوبَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: تَاللهِ لَا تَزَالُ تَذْكُرُ يُوسُفَ تَفَجُّعًا، وَلَا تَفْتُرُ عَنْ حُبِّهِ، وَيَشْتَدُّ حُزْنُكَ عَلَيْهِ، حَتَّى تَكُونَ شَدِيدَ الْمَرَضِ، مُشْرِفًا عَلَى الْهَلَاكِ، فَلَا تَنْتَفِعُ بِنَفْسِكَ، أَوْ تَكُونَ مِنَ الْأَمْوَاتِ؛ بِسَبَبِ شِدَّةِ الْحُزْنِ وَالْهَمِّ وَالْأَسَى.
قَالَ يَعْقُوبُ مُجِيبًا لِأَبْنَائِهِ: مَا أَشْكُو مَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ نَفْسِي مِنَ الضَّعْفِ وَالْمَرَضِ، وَالْغَمِّ وَالْحَزَنِ إِلَّا إِلَى اللهِ تَعَالَى، لَا إِلَيْكُمْ، فَهُوَ وَحْدَهُ كَاشِفُ الضُّرِّ وَالْبَلَاءِ.
وَإِنْ كُنْتُمْ تَلُومُونَنِي عَلَى شَكْوَايَ لِرَبِّي عَلَى حَالِي الَّتِي لَا أَمْلِكُ التَّغْيِيرَ فِيهَا، وَعَلَى حُزْنِي الَّذِي لَا أَمْلِكُ صَرْفَهُ؛ فَإِنِّي أَعْلَمُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ وَإِحْسَانِهِ وَفَرَجِهِ مَا لَا تَعْلَمُونَهُ أَنْتُمْ، وَسَيَأْتِينِي بِالْفَرَجِ الْقَرِيبِ مِنْ حَيْثُ لَا أَحْتَسِبُ.
فَقَالَ يَعْقُوبُ: يَا أَبْنَائِي! اذْهَبُوا فَتَتَبَّعُوا بِكُلِّ حَوَاسِّكُمْ، مُلْتَقِطِينَ مِنْ أَخْبَارِ يُوسُفَ وَأَخِيهِ بِنْيَامِينَ مَا يَكْشِفُ لَكُمْ أُمُورًا يَقْضِي اللهُ بِهَا الْفَرَجَ الَّذِي أَطْمَعُ فِيهِ.
وَلَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- وَهُوَ قَرِيبٌ، إِنَّهُ لَا يَقْطَعُ الرَّجَاءَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ، أَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَإِنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ رَحِيمٌ بِعِبَادِهِ، وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فَإِذَا لَجَئُوا إِلَيْهِ وَتَوَكَّلُوا عَلَيْهِ؛ رَحِمَهُمْ، وَأَغَاثَهُمْ، وَأَسْعَفَهُمْ بِالْفَرَجِ مِنْ لَدُنْهُ، وَكَشَفَ الضُّرَّ عَنْهُمْ، وَسَهَّلَ الشَّدَائِدَ عَلَيْهِمْ.
*وَهَذَا دُعَاءُ أَيُّوبَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِرَبِّهِ أَنْ يَرْفَعَ عَنْهُ الضُّرَّ الَّذِي مَسَّهُ، وَأَمَلُهُ وَقُوَّةُ رَجَائِهِ فِي اللهِ، وَاسْتِجَابَةُ اللهِ لَهُ، قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء: 83- 84].
وَضَعْ فِي ذَاكِرَتِكَ -أَيُّهَا الْمُتَلَقِّي لِبَيَانِنَا- مَا دَعَا بِهِ أَيُّوبُ رَبَّهُ؛ لِيَرْفَعَ عَنْهُ الضُّرَّ الَّذِي مَسَّهُ، وَطَالَ أَمَدُهُ فِيهِ، حَتَّى قَالَ فِي دُعَائِهِ لِرَبِّهِ؛ مُتَوَجِّهًا إِلَيْهِ بِقَلْبِهِ وَنَفْسِهِ: أَنِّيَ مَسَّنِيَ الضُّرُّ، فَاكْشِفْهُ عَنِّي، وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.
فَأَجَبْنَا دُعَاءَهُ، فَأَزَلْنَا مَا بِهِ مِنْ سُوءِ الْحَالِ فِي جَسَدِهِ، وَرَفَعْنَا عَنْهُ الْبَلَاءَ، وَرَدَدْنَا عَلَيْهِ مَا فَقَدَهُ مِنْ أَهْلِهِ وَأَوْلَادِهِ، وَأَعْطَيْنَاهُ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ.
فَعَلْنَا بِهِ ذَلِكَ؛ رَحْمَةً عَظِيمَةً مِنْ عِنْدِنَا، وَلِيَكُونَ قُدْوَةً لِكُلِّ صَابِرٍ عَلَى الْبَلَاءِ، رَاجٍ رَحْمَةَ رَبِّهِ، مُنْقَادٍ لَهُ سُبْحَانَهُ بِالْعُبُودِيَّةِ وَالتَّذَلُّلِ.
*وَهَذِهِ بُشْرَى الْمَلَائِكَةِ لِإِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِأَنَّ اللهَ سَيَرْزُقُهُ وَلَدًا عَلَى كِبَرِ سِنِّهِ، قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ*إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ*قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ * قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ * قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ * قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر: 51-56].
وَأَخْبِرْهُمْ يَا رَسُولَ اللهِ الْخَبَرَ الْهَامَّ وَقْتَ دُخُولِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، فَقَالُوا لَهُ: نُسَلِّمُ سَلَامًا.
قَالَ إِبْرَاهِيمُ: إِنَّا مِنْكُمْ خَائِفُونَ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَأْكُلُوا الْعِجْلَ السَّمِينَ الَّذِي قَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ، وَلَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ أَنَّهُمْ مَلَائِكَةٌ لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ؛ إِذْ كَانَ مَظْهَرُهُمْ لَا يُشْعِرُ بِذَلِكَ، وَلَا يَنِمُّ عَلَيْهِ.
قَالَ الرُّسُلُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لِإِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- -وَهُوَ يَتَصَوَّرُ أَنَّهُمْ ضَيْفٌ مِنَ الْبَشَرِ-: لَا تَخَفْ مِنَّا، إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِوَلَدٍ ذَكَرٍ، غُلَامٍ فِي صِغَرِهِ، عَلِيمٍ فِي كِبَرِهِ، سَيَأْتِيكَ مِنْ زَوْجِكَ سَارَّةَ، وَهُوَ إِسْحَاقُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، فَنَحْنُ مَلَائِكَةٌ رُسُلٌ مُرْسَلُونَ مِنْ رَبِّكَ؛ لِنُقَدِّمَ لَكَ هَذِهِ الْبِشَارَةَ.
فَلَمَّا بَشَّرُوهُ بِالْوَلَدِ، عَجِبَ إِبْرَاهِيمُ مِنْ كِبَرِهِ وَكِبَرِ امْرَأَتِهِ، قَالَ: أَبَشَّرْتُمُونِي بِالْوَلَدِ مَعَ مَسِّ الْكِبَرِ بِي وَالشَّيْخُوخَةِ الْمُضْعِفَةِ عَادَةً عَنِ الْإِنْجَابِ، فَبِأَيِّ سَبَبٍ لَدَيَّ أَمْلِكُهُ يَكُونُ مِنْ آثَارِهِ أَنْ أُنْجِبَ وَلَدًا، فَأَنْتُمْ تُبَشِّرُونَنِي بِهِ؟!!
قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ لِإِبْرَاهِيمَ: بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ الثَّابِتِ الَّذِي قَضَاهُ اللهُ، بِأَنْ يُخْرِجَ مِنْكَ وَلَدًا ذَكَرًا تَكْثُرُ ذُرِّيَّتُهُ، وَهُوَ إِسْحَاقُ، فَلَا تَكُنْ مِنَ الْآيِسِينَ مِنَ الْخَيْرِ.
قَالَ إِبْرَاهِيمُ: لَا أَحَدَ يَيْأَسُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ الْجَاهِلُونَ بِقُدْرَةِ اللهِ عَلَى مَا يَشَاءُ، وَخَلْقِ مَا يَشَاءُ.
*اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- أَخْبَرَ أَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا كَثِيرًا، فَلْيَكُنِ الْمُسْلِمُ عَلَى أَمَلٍ دَائِمٍ بِتَفْرِيجِ الْكُرُبَاتِ، قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ * فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 1-6].
قَدْ فَتَحْنَا لَكَ صَدْرَكَ وَوَسَّعْنَاهُ لِلْإِيمَانِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْحِكْمَةِ، وَجَعَلْنَاهُ مُنَبَسِطًا رَاضِيًا، وَمُتَحَمِّلًا لِأَعْبَاءِ حَمْلِ الرِّسَالَةِ وَتَبْلِيغِهَا لِلنَّاسِ، وَمُتَحَمِّلًا أَخْلَاقَهُمْ.
وَحَطَطْنَا عَنْكَ مَا أَثْقَلَ ظَهْرَكَ مِنْ هُمُومٍ كُبْرَى لِإِصْلَاحِ قَوْمِكَ، وَإِنْقَاذِ الْبَشَرِيَّةِ مِنْ خَبَائِثِهَا وَظُلْمِهَا وَفَسَادِهَا.
فَبَيَّنَ لَكَ وَسَائِلَ التَّبْلِيغِ، وَأَسَالِيبَ التَّرْبِيَةِ وَالْإِصْلَاحِ، فَأَلْقَى عَنْكَ كُلَّ هُمُومِكَ بِمَا أَوْحَى إِلَيْكَ مِنْ تَعْلِيمَاتٍ وَأَوَامِرَ رَبَانِيَّةٍ تُوَضِّحُ لَكَ مَنْهَجَ دَعْوَتِكَ.
وَأَعْلَيْنَا لَكَ يَا رَسُولَ اللهِ ذِكْرَكَ الْحَسَنَ؛ إِذْ جَعَلْتُكَ رَسُولًا، وَاسْتَمَرَّ عَطَائِي لَكَ حَتَّى إِذَا ذُكِرْتُ ذُكْرِتَ مَعِي فِي الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَالتَّشَهُّدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
فَإِنَّ مَعَ الشِّدَّةِ الَّتِي أَنْتَ فِيهَا مِنْ جِهَادِ الْمُشْرِكِينَ يُسْرًا وَرَخَاءً عَاجِلًا، فَإِنْ يُظْهِرْكَ اللهُ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَنْقَادُوا لِلْحَقِّ الَّذِي جِئْتَهُمْ بِهِ، فَذَلِكَ تَيْسِيرٌ مِنْ بَعْدِ التَّعْسِيرِ.
إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا كَثِيرًا كَذَلِكَ، فَكُنْ عَلَى أَمَلٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَتَلَقَّى الْأَحْدَاثَ الْحَاضِرَةَ الْمُؤْلِمَةَ بِالرِّضَا وَالتَّسْلِيمِ، وَبِنَفْسٍ مُنْشَرِحَةٍ مَشْحُونَةٍ بِالْأَمَلِ فِيمَا سَيَأْتِي، صَابِرَةٍ عَلَى الْعُسْرِ الْوَاقِعِ.
فَالنَّفْسُ الْمَشْحُونَةُ بِأَمَلِ الْيُسْرِ الْقَادِمِ يَضْمُرُ لَدَيْهَا أَلَمُ الْعُسْرِ الْقَائِمِ، وَمُنْتَظِرُ الْفَجْرِ الْقَرِيبِ لَا يَشْعُرُ بِظُلْمَةِ اللَّيْلِ الْقَاتِمِ.
((الْأَمَلُ وَالتَّفَاؤُلُ فِي السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ))
إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ حَمَلَ إِلَى الْبَشَرِيَّةِ التَّيْسِيرَ وَالتَّبْشِيرَ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا وَاسْتَعِينُوا بِالْغُدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِذَا بَعَثَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ فِي بَعْضِ أَمْرِهِ قَالَ: ((بَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا، وَيَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ لَمَّا بَعَثَهُ وَمُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ، قَالَ: ((يَسِّرًا وَلَا تُعَسِّرًا، وَبَشِّرًا وَلَا تُنَفِّرًا، وَتَطَاوَعَا وَلَا تَخْتَلِفَا)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا، وَسَكِّنُوا وَلَا تُنَفِّرُوا)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
لَقَدْ بَعَثَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- رَسُولَهُ ﷺ بِنَبْذِ الْغُلُوِّ وَالتَّنَطُّعِ وَالتَّطَرُّفِ؛ لِأَنَّ اللهَ جَعَلَ هَذِهِ الْأُمَّةَ أُمَّةً وَسَطًا بَيْنَ الْأُمَمِ؛ فِي عَقِيدَتِهَا، وَعِبَادَتِهَا، وَأَخْلَاقِهَا، وَمُعَامَلَاتِهَا، وَالْوَسَطُ: الْعَدْلُ الْخِيَارُ، فَلَا إِفْرَاطَ وَلَا تَفْرِيطَ، وَلَا غُلُوَّ وَلَا جَفَاءَ.
وَقَدْ عَابَ اللهُ تَعَالَى عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ الْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77].
وَبَعَثَ اللهُ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا ﷺ بِرَفْعِ الْآصَارِ وَالْأَغْلَالِ الَّتِي كَانَتْ عَلَى مَنْ قَبْلَنَا بِشَرِيعَةٍ سَمْحَةٍ، مِنْ قَوَاعِدِهَا:
*رَفْعُ الْحَرَجِ.
*وَمِنْ قَوَاعِدِهَا: أَنَّ الْمَشَقَّةَ تَجْلِبُ التَّيْسِيرَ.
*وَمِنْ قَوَاعِدِهَا: لَا وَاجِبَ بِلَا اقْتِدَارٍ، وَلَا مُحَرَّمَ مَعَ اضْطِرَارٍ.
*وَمِنْ قَوَاعِدِهَا: أَنَّ الضَّرَرَ يُزَالُ، فَلَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ.
((وَنَبِيُّنَا ﷺ مَا خُيِّرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا، فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ أَبُو مُوسَى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِذَا بَعَثَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- فِي بَعْضِ أَمْرِهِ قَالَ: ((بَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا، وَيَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْ أَنَسِ بَنْ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ وَيُعْجِبُنِي الْفَأْلَ)).
قَالُوا: وَمَا الْفَأْلُ؟
قَالَ: ((كَلِمَةٌ طَيِّبَةٌ)) .
((الْآمَالُ فِي الْمِنَحِ وَالْعَطَايَا وَسَطُ الْمِحَنِ وَالْبَلَايَا))
إِذَا تَأَمَّلْتَ حِكْمَتَهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فِيمَا ابْتَلَى بِهِ عِبَادَهُ وَصَفْوَتَهُ بِمَا سَاقَهُمْ بِهِ إِلَى أَجَلِّ الْغَايَاتِ وَأَكْمَلِ النِّهَايَاتِ، الَّتِي لَمْ يَكُونُوا يَعْبُرُونَ إِلَيْهَا إِلَّا عَلَى جِسْرٍ مِنَ الِابْتِلَاءِ وَالِامْتِحَانِ.
وَكَانَ ذَلِكَ الْجِسْرُ لِكَمَالِهِ كَالْجِسْرِ الَّذِي لَا سَبِيلَ إِلَى عُبُورِهِمْ إِلَى الْجَنَّةِ إِلَّا عَلَيْهِ، وَكَانَ ذَلِكَ الِابْتِلَاءُ وَالِامْتِحَانُ عَيْنَ الْمَنْهَجِ فِي حَقِّهِمْ وَالْكَرَامَةِ.
فَصُورَتُهُ صُورَةُ ابْتِلَاءٍ وَامْتِحَانٍ، وَبَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَالنِّعْمَةُ وَالْمِنَّةُ، فَكَمْ للهِ مِنْ نِعْمَةٍ جَسِيمَةٍ وَمِنَّةٍ عَظِيمَةٍ تُجْنَى مِنْ قُطُوفِ الِابْتِلَاءِ وَالِامْتِحَانِ.
فَتَأَمَّلْ حَالَ أَبِينَا آدَمَ -عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَمَا آلَتْ إِلَيْهِ مِحْنَتُهُ مِنَ الِاصْطِفَاءِ وَالِاجْتِبَاءِ، وَالتَّوْبَةِ وَالْهِدَايَةِ، وَرِفْعَةِ الْمَنْزِلَةِ.
وَلَوْلَا تِلْكَ الْمِحْنَةُ الَّتِي جَرَتْ عَلَيْهِ، وَهِيَ إِخْرَاجُهُ مِنَ الْجَنَّةِ وَتَوَابِعُ ذَلِكَ؛ لَمَا وَصَلَ إِلَى مَا وَصَلَ إِلَيْهِ, فَكَمْ بَيْنَ حَالَتِهِ الْأُولَى وَحَالَتِهِ الثَّانِيَةِ فِي نِهَايَتِهِ.
وَتَأَمَّلْ حَالَ أَبِينَا الثَّانِي نُوحٍ ﷺ وَمَا آلَتْ إِلَيْهِ مِحْنَتُهُ وَصَبْرُهُ عَلَى قَوْمِهِ تِلْكَ الْقُرُونَ كُلَّهَا، حَتَّى أَقَرَّ اللهُ عَيْنَهُ وَأَغْرَقَ أَهْلَ الْأَرْضِ بِدَعْوَتِهِ، وَجَعَلَ الْعَالَمَ بَعْدَهُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ.
وَجَعَلَهُ خَامِسَ خَمْسَةٍ، وَهُمْ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ، الَّذِينَ هُمْ أَفْضَلُ الرُّسُلِ، وَأَمَرَ رَسُولَهُ وَنَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ أَنْ يَصْبِرَ كَصَبْرِهِ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِالشُّكْرِ؛ فَقَالَ: {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء: 3]، وَوَصَفَهُ بِكَمَالِ الصَّبْرِ وَالشُّكْرِ.
ثُمَّ تَأَمَّلْ حَالَ أَبِينَا الثَّالِثِ إِبْرَاهِيمَ ﷺ إِمَامِ الْحُنَفَاءِ، وَشَيْخِ الْأَنْبِيَاءِ، وَعَمُودِ الْعَالَمِ، وَخَلِيلِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مِنْ بَنِي آدَمَ.
وَتَأَمَّلْ مَا آلَتْ إِلَيْهِ مِحْنَتُهُ وَصَبْرُهُ وَبَذْلُهُ نَفْسَهُ للهِ تَعَالَى، وَتَأَمَّلْ كَيْفَ آلَ بِهِ بَذْلُهُ للهِ نَفْسَهُ، وَنَصْرُهُ دِينَهُ إِلَى أَنِ اتَّخَذَهُ اللهُ خَلِيلًا لِنَفْسِهِ, وَأَمَرَ رَسُولَه وَخَلِيلَهُ مُحَمَّدًا ﷺ أَنْ يَتَّبِعَ مِلَّتَهُ.
وَأُنَبِّهُكَ عَلَى خَصْلَةٍ وَاحِدَةٍ مِمَّا أَكْرَمَهُ اللهُ تَعَالَى بِهِ فِي مِحْنَتِهِ بِذَبْحِ وَلَدِهِ, فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَازَاهُ عَلَى تَسْلِيمِهِ وَلَدَهُ لِأَمْرِ اللهِ؛ بِأَنْ بَارَكَ فِي نَسْلِهِ وَكَثَّرَهُ حَتَّى مَلَأَ السَّهْلَ وَالْجَبَلَ, فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَا يَتَكَرَّمُ عَلَيْهِ أَحَدٌ، وَهُوَ أَكْرَمُ الْأَكْرَمِينَ, فَمَنْ تَرَكَ لِوَجْهِهِ أَمْرًا أَوْ فَعَلَهُ لِوَجْهِهِ؛ بَذَلَ اللهُ لَهُ أَضْعَافَ مَا تَرَكَهُ مِنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً، وَجَازَاهُ بِأَضْعَافِ مَا فَعَلَهُ لِأَجْلِهِ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً.
فَلَمَّا أُمِرَ إِبْرَاهِيمُ بِذَبْحِ وَلَدِهِ، فَبَادَرَ بِأَمْرِ اللهِ، وَوَافَقَ عَلَيْهِ الْوَلَدُ أَبَاهُ، رِضَاءً مِنْهُمَا وَتَسْلِيمًا، وَعَلِمَ اللهُ مِنْهُمَا الصِّدْقَ وَالْوَفَاءَ؛ فَدَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ، وَأَعْطَاهُمَا مَا أَعْطَاهُمَا مِنْ فَضْلِهِ.
وَكَانَ مِنْ بَعْضِ عَطَايَاهُ؛ أَنْ بَارَكَ فِي ذُرِّيَّتِهِمَا حَتَّى مَلَئُوا الْأَرْضَ, فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِالْوَلَدِ إِنَّمَا هُوَ التَّنَاسُلُ وَتَكْثِيرُ الذُّرِّيَّةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 100]، وَقَالَ: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي} [إبراهيم: 40].
فَغَايَةُ مَا كَانَ يَحْذَرُ وَيَخْشَى مِنْ ذَبْحِ وَلَدِهِ؛ انْقِطَاعُ نَسْلِهِ, فَلَمَّا بَذَلَ وَلَدَهُ للهِ، وَبَذَلَ الْوَلَدُ نَفْسَهُ، ضَاعَفَ اللهُ النَّسْلَ، وَبَارَكَ فِيهِ، وَكَثُرَ حَتَّى مَلَئُوا الدُّنْيَا، وَجَعَلَ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فِي ذُرِّيَّتِهِ خَاصَّةً، وَأَخْرَجَ مِنْهُمْ مُحَمَّدًا ﷺ.
ثُمَّ تَأَمَّلْ حَالَ الْكَلِيمِ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَمَا آلَتْ إِلَيْهِ مِحْنَتُهُ مِنْ أَوَّلِ وِلَادَتِهِ إِلَى مُنْتَهَى أَمْرِهِ، حَتَّى كَلَّمُهُ اللهُ مِنْهُ إِلَيْهِ تَكْلِيمًا، وَكَتَبَ لَهُ التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ، وَرَفَعَهُ إِلَى أَعْلَى السَّمَاوَاتِ.
وَاحْتَمَلَ لَهُ مَا لَا يَحتَمِلُ لِغَيْرِهِ، فَإِنَّهُ رَمَى الْأَلْوَاحَ عَلَى الْأَرْضِ حَتَّى تَكَسَّرَتْ، وَأَخَذَ بِلِحْيَةِ نَبِيِّ اللهِ هَارُونَ وَجَرَّهُ إِلَيْهِ، وَلَطَمَ وَجْهَ مَلَكِ الْمَوْتِ؛ فَفَقَعَ عَيْنَهُ، وَخَاصَمَ رَبَّهُ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ فِي شَأْنِ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَرَبُّهُ يُحِبُّهُ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ، وَلَا سَقَطَ شَيْءٌ مِنْهُ مِنْ عَيْنِهِ، وَلَا سَقَطَتْ مَنْزِلَتُهُ عِنْدُهُ, بَلْ هُوَ الْوَجِيهُ عِنْدَ اللهِ، الْقَرِيبُ.
وَلَوْلَا مَا تَقَدَّمَ لَهُ مِنَ السَّوَابِقِ، وَتَحَمُّلِ الشَّدَائِدِ وَالْمِحَنِ الْعِظَامِ فِي اللهِ، وَمُقَاسَاةِ الْأَمْرِ الشَّدِيدِ بَيْنَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، ثُمَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمَا آذَوْهُ بِهِ وَمَا صَبَرَ عَلَيْهِمْ للهِ, لَوْلَا ذَلِكَ؛ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ.
ثُمَّ تَأَمَّلْ حَالَ الْمَسِيحِ ﷺ وَصَبْرَهُ عَلَى قَوْمِهِ، وَاحْتِمَالَهُ فِي اللهِ مَا تَحَمَّلَهُ مِنْهُمْ، حَتَّى رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ، وَطَهَّرَهُ مِنَ الَّذِيَنَ كَفَرُوا، وَانْتَقَمَ مِنْ أَعْدَائِهِ، وَقَطَّعَهُمْ فِي الْأَرْضِ، وَمَزَّقَهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ، وَسَلَبَهُمْ مُلْكَهُمْ وَفَخْرَهُمْ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ.
فَإِذَا جِئْتَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، وَتَأَمَّلْتَ سِيرَتَهُ مَعَ قَوْمِهِ، وَصَبْرَهُ فِي اللهِ، وَاحْتِمَالَهُ مَا لَمْ يَحْتَمِلْهُ نَبِيٌّ قَبْلَهُ، وَتَلَوُّنَ الْأَحْوَالِ عَلَيْهِ مِنْ سِلْمٍ وَخَوْفٍ، وَغِنًى وَفَقْرٍ، وَأَمْنٍ وَإِقَامَةٍ فِي وَطَنِهِ، وَظَعْنٍ عَنْهُ وَتَرْكُهُ للهِ، وَقَتْلُ أَحَبَّائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَذَى الْكُفَّارِ لَهُ بِسَائِرِ أَنْوَاعِ الْأَذَى مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَالسِّحْرِ وَالْكَذِبِ، وَالِافْتِرَاءِ عَلَيْهِ وَالْبُهْتَانِ, وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ صَابِرٌ عَلَى أَمْرِ اللهِ, يَدْعُو إِلَى اللهِ، فَلَمْ يُؤْذَ نَبِيٌّ مَا أُوذِيَ، وَلَمْ يَحْتَمِلْ فِي اللهِ مَا احْتَمَلَهُ، وَلَمْ يُعْطَ نَبِيٌّ مَا أُعْطِيَ.
فَرَفَعَ اللهُ لَهُ ذِكْرَهُ، وَقَرَنَ اسْمَهُ بِاسْمِهِ، وَجَعَلَهُ سَيِّدَ النَّاسِ كُلِّهِمْ، وَجَعَلَهُ أَقْرَبَ الْخَلْقِ إِلَيْهِ وَسِيلَةً، وَأَعْظَمَهُمْ عِنْدَهُ جَاهًا، وَأَسْمَعَهُمْ عِنْدَهُ شَفَاعَةً, وَكَانَتْ تِلْكَ الْمِحَنُ وَالِابْتِلَاءُ عَيْنَ كَرَامَتِهِ، وَهِيَ مِمَّا زَادَهُ اللهُ بِهَا شَرَفًا وَفَضْلًا، وَسَاقَهُ بِهَا إِلَى أَعْلَى الْمَقَامَاتِ.
وَهَذَا حَالُ وَرَثَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ الْأَمْثَلِ فَالْأَمْثَلِ، كُلٌّ لَهُ نَصِيبٌ مِنَ الْمِحْنَةِ يَسُوقُهُ اللهُ بِهِ إِلَى كَمَالِهِ بِحَسَبِ مُتَابَعَتِهِ لَهُ، وَمَنْ لَا نَصِيبَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ؛ فَحَظُّهُ مِنَ الدُّنْيَا حَظُّ مَنْ خُلِقَ لَهَا وَخُلِقَتْ لَهُ، وَجُعِلَ خَلَاقُهُ وَنَصِيبُهُ فِيهَا، فَهُوَ يَأْكُلُ مِنْهَا رَغَدًا، وَيَتَمَتَّعُ فِيهَا حَتَّى يَنَالَهُ نَصِيبُهُ مِنَ الْكِتَابِ.
يُمْتَحَنُ أَوْلِيَاءُ اللهِ وَهُوَ فِي دَعَةٍ وَخَفْضِ عَيْشٍ, وَيَخَافُونَ وَهُوَ آمِنٌ, وَيَحْزَنُونَ وَهُوَ وَأَهْلُهُ فِي سُرُورٍ, لَهُمْ شَأْنٌ وَلَهُ شَأْنٌ, وَهُوَ فِي وَادٍ وَهُمْ فِي وَادٍ, هَمُّهُ مَا يُقِيمُ بِهِ جَاهَهُ، وَيَسْلَمُ بِهِ مَالُهُ، وَتُسْمَعُ بِهِ كَلِمَتُهُ, لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ مَا لَزِمَ، وَرَضِيَ مَنْ رَضِيَ، وَسَخِطَ مَنْ سَخِطَ.
وَهَمُّهُمْ إِقَامَةُ دِينِ اللهِ، وَإِعْلَاءُ كَلِمَتِهِ، وَإِعْزَازُ أَوْلِيَائِهِ، وَأَنْ تَكُونَ الدَّعْوَةُ لَهُ وَحْدَهُ، فَيَكُونُ هُوَ وَحْدَهُ الْمَعْبُودَ لَا غَيْرُهُ، وَرَسُولَهُ الْمُطَاعَ لَا سِوَاهُ.
فَللهِ سُبْحَانَهُ مِنَ الْحِكَمِ فِي ابْتِلَائِهِ أَنْبِيَاءَهُ وَرُسُلَهُ وَعِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ؛ مَا تَتَقَاصَرُ عُقُولُ الْعَالَمِينَ عَنْ مَعْرِفَتِهِ, وَهَلْ وَصَلَ مَنْ وَصَلَ إِلَى الْمَقَامَاتِ الْمَحْمُودَةِ، وَالنِّهَايَاتِ الْفَاضِلَةِ إِلَّا عَلَى جِسْرِ الْمِحْنَةِ وَالِابْتِلَاءِ؟!
كَذَا الْمَعَالِي إِذَا مَا رُمْتَ تُدْرِكُهَا = فَاعْبُرْ إِلَيْهَا عَلَى جِسْرٍ مِنَ التَّعَبِ
إِنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- يَبْتَلِي بِالسَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ, وَبِالْغِنَى وَالْفَقْرِ, وَبِالصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ, وَمَهْمَا كَانَ حَالُ الْعَبْدِ فِي حَالِ ابْتِلَاءٍ، وَهُوَ لَا يَنْفَكُّ عَنْ حَالِ الِابْتِلَاءِ أَبَدًا, فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ خَائِفًا مِنَ اللهِ، رَاجِيًا لَهُ، رَاغِبًا رَاهِبًا.
إِنْ نَظَرَ إِلَى ذُنُوبِهِ، وَعَدْلِ اللهِ، وَشِدَّةِ عِقَابِهِ؛ خَشِيَ رَبَّهُ وَخَافَهُ، وَإِنْ نَظَرَ إِلَى فَضْلِهِ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ، وَعَفْوِهِ الشَّامِلِ؛ رَجَا وَطَمِعَ.
إِنْ وُفِّقَ لِطَاعَةٍ رَجَا مِنْ رَبِّهِ تَمَامَ النِّعْمَةِ بِقَبُولِهَا، وَخَافَ مِنْ رَدِّهَا بِتَقْصِيرِهِ فِي حَقِّهَا، وَإِنِ ابْتُلِيَ بِمَعْصِيَتِهِ رَجَا مِنْ رَبِّهِ قَبُولَ تَوْبَتِهِ وَمَحْوَهَا، وَخَشِيَ بِسَبَبِ ضَعْفِ التَّوْبَةِ وَالِالْتِفَاتِ لِلذَّنْبِ أَنْ يُعَاقَبَ عَلَيْهَا.
وَعِنْدَ النِّعَمِ وَالْيَسَارِ يَرْجُو اللهَ دَوَامَهَا وَالزِّيَادَةَ مِنْهَا، وَالتَّوْفِيقَ لِشُكْرِهَا، وَيَخْشَى بِإِخْلَالِهِ بِالشُّكْرِ مِنْ سَلْبِهَا.
وَعِنْدَ الْمَكَارِهِ وَالْمَصَائِبِ؛ يَرْجُو اللهَ دَفْعَهَا، وَيَنْتَظِرُ الْفَرَجَ بِحَلِّهَا، وَيَرْجُو أَيْضًا أَنْ يُثِيبَهُ اللهُ عَلَيْهَا حِينَ يَقُومُ بِوَظِيفَةِ الصَّبْرِ، وَيَخْشَى مِنَ اجْتِمَاعِ الْمُصِيبَتَيْنِ؛ فَوَاتِ الْأَجْرِ الْمَحْبُوبِ، وَحُصُولِ الْأَمْرِ الْمَكْرُوهِ إِذَا لَمْ يُوَفَّقْ لِلْقِيَامِ بِالصَّبْرِ الْوَاجِبِ.
((فَوَائِدُ وَثَمَرَاتُ حُسْنِ الظَّنِّ بِاللهِ وَالْأَمَلِ))
مِنْ فَوَائِدِ الْفَأْلِ وَحُسْنِ الظَّنِّ بِاللهِ:
أَوَّلًا: يَجْلِبُ السَّعَادَةَ وَالسُّرُورَ إِلَى الْقَلْبِ، وَيُذْهِبُ عَنْهُ الْهَمَّ وَالْحَزَنَ، وَهَذَا مَطْلُوبٌ شَرْعًا؛ فَفِي ((صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ)) مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَقُولُ: ((اللهم إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ)).
ثَانِيًا: فِيهِ تَقْوِيَةٌ لِلْعَزَائِمِ، وَمَعُونَةٌ عَلَى الظَّفَرِ، وَبَاعِثٌ عَلَى الْجِدِّ وَالْعَمَلِ، قَالَ تَعَالَى: { وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 105].
وَفِي ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ)) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلَا تَعْجِزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ؛ فَإِنَّ (لَوْ) تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ)).
مِنْ فَوَائِدِ الْفَأْلِ وَحُسْنِ الظَّنِّ بِاللهِ: أَنَّ فِيهِ اقْتِدَاءً بِالسُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ؛ فَقَدْ حَثَّ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى ذَلِكَ.
((الْفَرَجُ مَعَ اشْتِدَادِ الْكَرْبِ))
«إِنَّ الْفَرَجَ مَعَ اشْتِدَادِ الْكَرْبِ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا تَرَاكَمَتِ الشَّدَائِدُ الْمُتَنَوِّعَةُ، وَضَاقَ الْعَبْدُ ذَرْعًا بِحَمْلِهَا؛ فَرَّجَهَا فَارِجُ الْهَمِّ، كَاشِفُ الْغَمِّ، مُجِيبُ دَعْوَةِ الْمُضْطَرِّينَ، وَهَذِهِ عَوَائِدُهُ الْجَمِيلَةُ؛ خُصُوصًا لِأَوْلِيَائِهِ وَأَصْفِيَائِهِ؛ لِيَكُونَ لِذَلِكَ الْوَقْعُ الْأَكْبَرُ، وَالْمَحَلُّ الْأَعْظَمُ، وَلِيَجْعَلَ مِنَ الْمَعْرِفَةِ بِاللهِ وَالْمَحَبَّةِ لَهُ مَا يُوَازِنُ وَيَرْجَحُ بِمَا جَرَى عَلَى الْعَبْدِ بِلَا نِسْبَةٍ».
«فَسُبْحَانَ مَنْ يُنْعِمُ بِبَلَائِهِ، وَيَلْطُفُ بِأَصْفِيَائِهِ، وَهَذَا عُنْوَانُ الْإِيمَانِ، وَعَلَامَةُ السَّعَادَةِ».
عِبَادَ اللهِ! لَيْسَ لَنَا سِوَى حُسْنِ الظَّنِّ بِرَبِّنَا.
فَنَسْأَلُ اللهَ -تَعَالَى- بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْمُثْلَى أَنْ يُحَسِّنَ بِهِ -تَعَالَى- ظُنُونَنَا، وَأَنْ يُعِيذَنَا أَجْمَعِينَ مِنْ سُوءِ الظَّنِّ بِهِ؛ إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.
***
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ هُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((كَمَالُ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ فِي الْمَوَارِيثِ))
لَمَّا كَانَتِ الْأَمْوَالُ وَقِسْمَتُهَا مَحَطَّ الْأَطْمَاعِ، وَكَانَ الْمِيرَاثُ فِي مُعْظَمِ الْأَحْيَانِ لِلضُّعَفَاءِ الْقَاصِرِينَ؛ تَوَلَّى اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- قِسْمَتَهَا بِنَفْسِهِ فِي كِتَابِهِ مُبَيَّنًا، وَوَرَدَتْ مُفَصَّلَةً؛ حَتَّى لَا يَكُونَ فِيهَا مَجَالٌ لِلْآرَاءِ وَالْأَهْوَاءِ، وَسَوَّاهَا بَيْنَ الْوَرَثَةِ عَلَى مُقْتَضَى الْعَدْلِ وَالْمَصْلَحَةِ وَالْمَنْفَعَةِ الَّتِي يَعْلَمُهَا -جَلَّ وَعَلَا-.
وَأَشَارَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ: {لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا} [النساء: 11].
فَهِيَ قِسْمَةٌ عَادِلَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مُقْتَضَى الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ.
وَالْمَوَارِيثُ لَمْ يَدَعْهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِأَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ، وَإِنَّمَا فَصَّلَهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَوَضَّحَهَا كَامِلَةً فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ.
إِنَّ الشَّرِيعَةَ الْإِسْلَامِيَّةَ تُولِي أَهَمِّيَّةً كُبْرَى بِتَوْزِيعِ الْمِيرَاثِ بَيْنَ الْوَرَثَةِ بِشَكْلٍ عَادِلٍ، وَقَدْ جَاءَتِ الْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ لِتُوَضِّحَ الْأَنْصِبَةَ بِشَكْلٍ دَقِيقٍ لِكُلِّ وَارِثٍ وَفْقًا لِعَلَاقَتِهِ بِالْمُتَوَفَّى، قَالَ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ ۚ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا} [النساء: 7].
((كَانَ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ جَبَرُوتِهِمْ وَقَسْوَتِهِمْ لَا يُوَرِّثُونَ الضُّعَفَاءَ؛ كَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، وَيَجْعَلُونَ الْمِيرَاثَ لِلرِّجَالِ الْأَقْوِيَاءِ؛ لِأَنَّهُمْ -بِزَعْمِهِمْ- أَهْلُ الْحَرْبِ وَالْقِتَالِ وَالنَّهْبِ وَالسَّلْبِ، فَأَرَادَ الرَّبُّ الرَّحِيمُ الْحَكِيمُ أَنْ يَشْرَعَ لِعِبَادِهِ شَرْعًا يَسْتَوِي فِيهِ رِجَالُهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ، وَأَقْوِيَاؤُهُمْ وَضُعَفَاؤُهُمْ، وَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْ ذَلِكَ أَمْرًا مُجْمَلًا؛ لِتَتَوَطَّنَ عَلَى ذَلِكَ النُّفُوسُ.
فَيَأْتِي التَّفْصِيلُ بَعْدَ الْإِجْمَالِ، قَدْ تَشَوَّقَتْ لَهُ النُّفُوسُ، وَزَالَتِ الْوَحْشَةُ الَّتِي مَنْشَؤُهَا الْعَادَاتُ الْقَبِيحَةُ، فَقَالَ: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ} أَيْ: قِسْطٌ وَحِصَّةٌ {مِمَّا تَرَكَ} أَيْ: خَلَّفَ {الْوَالِدَانِ} أَيْ: الْأَبُ وَالْأُمُّ {وَالأَقْرَبُونَ}: عُمُومٌ بَعْدَ خُصُوصٍ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ.
فَكَأَنَّهُ قِيلَ: هَلْ ذَلِكَ النَّصِيبُ رَاجِعٌ إِلَى الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ، وَأَنْ يَرْضَخُوا لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ، أَوْ شَيْئًا مُقَدَّرًا؟ فَقَالَ تَعَالَى: {نَصِيبًا مَفْرُوضًا} أَيْ: قَدْ قَدَّرَهُ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ. وَسَيَأْتِي -إِنْ شَاءَ اللَّهُ- تَقْدِيرُ ذَلِكَ.
وَأَيْضًا فَهَاهُنَا تَوَهُّمٌ آخَرُ؛ لَعَلَّ أَحَدًا يَتَوَهَّمُ أَنَّ النِّسَاءَ وَالْوِلْدَانَ لَيْسَ لَهُمْ نَصِيبٌ إِلَّا مِنَ الْمَالِ الْكَثِيرِ، فَأَزَالَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ} -فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْحَاكِمِينَ-.
{وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا} [النساء: 8].
وَهَذَا مِنْ أَحْكَامِ اللَّهِ الْحَسَنَةِ الْجَلِيلَةِ الْجَابِرَةِ لِلْقُلُوبِ فَقَالَ: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ} أَيْ: قِسْمَةَ الْمَوَارِيثِ {أُولُو الْقُرْبَى} أَيْ: الْأَقَارِبُ غَيْرُ الْوَارِثِينَ؛ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: {الْقِسْمَةَ}؛ لِأَنَّ الْوَارِثِينَ مِنَ الْمَقْسُومِ عَلَيْهِمْ {وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ} أَيِ: الْمُسْتَحِقُّونَ مِنَ الْفُقَرَاءِ {فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} أَيْ: أَعْطُوهُمْ مَا تَيَسَّرَ مِنْ هَذَا الْمَالِ الَّذِي جَاءَكُمْ بِغَيْرِ كَدٍّ وَلَا تَعَبٍ، وَلَا عَنَاءٍ وَلَا نَصَبٍ؛ فَإِنَّ نُفُوسَهُمْ مُتَشَوِّفَةٌ إِلَيْهِ، وَقُلُوبَهُمْ مُتَطَلِّعَةٌ، فَاجْبُرُوا خَوَاطِرَهُمْ بِمَا لَا يَضُرُّكُمْ وَهُوَ نَافِعُهُمْ.
وَيُؤْخَذُ مِنَ الْمَعْنَى: أَنَّ كُلَّ مَنْ لَهُ تَطَلُّعٌ وَتَشَوُّفٌ إِلَى مَا حَضَرَ بَيْنَ يَدَيِ الْإِنْسَانِ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ مِنْهُ مَا تَيَسَّرَ، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: ((إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمْ خَادِمُهُ بِطَعَامِهِ فَلْيُجْلِسْهُ مَعَهُ، فَإِنْ لَمْ يُجْلِسْهُ مَعَهُ فَلْيُنَاوِلْهُ لُقْمَةً أَوْ لُقْمَتَيْنِ)).
وَكَانَ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- -إِذَا بَدَأَتْ بَاكُورَةُ أَشْجَارِهِمْ- أَتَوْا بِهَا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَبَرَّكَ عَلَيْهَا، وَنَظَرَ إِلَى أَصْغَرِ وَلِيدٍ عِنْدَهُ فَأَعْطَاهُ ذَلِكَ؛ عِلْمًا مِنْهُ بِشِدَّةِ تَشَوُّفِهِ لِذَلِكَ، وَهَذَا كُلُّهُ مَعَ إِمْكَانِ الْإِعْطَاءِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ حَقَّ سُفَهَاءَ، أَوْ ثَمَّ أَهَمُّ مِنْ ذَلِكَ؛ فَلْيَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا، يَرُدُّوهُمْ رَدًّا جَمِيلًا بِقَوْلٍ حَسَنٍ غَيْرِ فَاحِشٍ وَلَا قَبِيحٍ.
{وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىٰ ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا ۖ وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 9-10].
قِيلَ: إِنَّ هَذَا خِطَابٌ لِمَنْ يَحْضُرُ مَنْ حَضَرَهُ الْمَوْتُ، وَأَجْنَفَ فِي وَصِيَّتِهِ؛ أَنْ يَأْمُرَهُ بِالْعَدْلِ فِي وَصِيَّتِهِ وَالْمُسَاوَاةِ فِيهَا، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {وَلْيَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا} أَيْ: سَدَادًا مُوَافِقًا لِلْقِسْطِ وَالْمَعْرُوفِ، وَأَنَّهُمْ يَأْمُرُونَ مَنْ يُرِيدُ الْوَصِيَّةَ عَلَى أَوْلَادِهِ بِمَا يُحِبُّونَ مُعَامَلَةَ أَوْلَادِهِمْ بَعْدَهُمْ.
وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ أَوْلِيَاءُ السُّفَهَاءِ مِنَ الْمَجَانِينِ، وَالصِّغَارِ، وَالضِّعَافِ، أَنْ يُعَامِلُوهُمْ فِي مَصَالِحِهِمُ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ بِمَا يُحِبُّونَ أَنْ يُعَامَلَ بِهِ مَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ ذُرِّيَّتِهِمُ الضِّعَافِ؛ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ فِي وِلَايَتِهِمْ لِغَيْرِهِمْ، أَيْ: يُعَامِلُونَهُمْ بِمَا فِيهِ تَقْوَى اللَّهِ؛ مِنْ عَدَمِ إِهَانَتِهِمْ، وَالْقِيَامِ عَلَيْهِمْ، وَإِلْزَامِهِمْ لِتَقْوَى اللَّهِ.
وَلَمَّا أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ زَجَرَهُمْ عَنْ أَكْلِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى، وَتَوَعَّدَ عَلَى ذَلِكَ أَشَدَّ الْعَذَابِ فَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} أَيْ: بِغَيْرِ حَقٍّ، وَهَذَا الْقَيْدُ يَخْرُجُ بِهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ جَوَازِ الْأَكْلِ لِلْفَقِيرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَمِنْ جَوَازِ خَلْطِ طَعَامِهِمْ بِطَعَامِ الْيَتَامَى.
فَمَنْ أَكَلَهَا ظُلْمًا فَإِنَّمَا {يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} أَيْ: فَإِنَّ الَّذِي أَكَلُوهُ نَارٌ تَتَأَجَّجُ فِي أَجْوَافِهِمْ، وَهُمُ الَّذِينَ أَدْخَلُوهَا فِي بُطُونِهِمْ {وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} أَيْ: نَارًا مُحْرِقَةً مُتَوَقِّدَةً، وَهَذَا أَعْظَمُ وَعِيدٍ وَرَدَ فِي الذُّنُوبِ، يَدُلُّ عَلَى شَنَاعَةِ أَكْلِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَقُبْحِهَا، وَأَنَّهَا مُوجِبَةٌ لِدُخُولِ النَّارِ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ أَنَّهَا مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ -نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ-.
{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ ۖ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ ۚ فَإِن كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ ۖ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ ۚ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ ۚ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ ۚ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ ۚ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ ۗ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا ۚ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11) ۞ وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ ۚ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ ۚ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ ۚ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ ۚ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم ۚ مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ ۗ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ ۚ فَإِن كَانُوا أَكْثَرَ مِن ذَٰلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ ۚ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَىٰ بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ ۚ وَصِيَّةً مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} [النساء: 11-12].
هَذِهِ الْآيَاتُ وَالْآيَةُ الَّتِي هِيَ آخِرُ السُّورَةِ هُنَّ آيَاتُ الْمَوَارِيثِ الْمُتَضَمِّنَةُ لَهَا؛ فَإِنَّهَا مَعَ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ الثَّابِتِ فِي ((صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ)): ((أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا بَقِيَ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ)) مُشْتَمِلَاتٌ عَلَى جُلِّ أَحْكَامِ الْفَرَائِضِ؛ بَلْ عَلَى جَمِيعِهَا -كَمَا سَتَرَى ذَلِكَ-؛ إِلَّا مِيرَاثَ الْجَدَّاتِ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي ذَلِكَ؛ لَكِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي ((السُّنَنِ)) عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ: ((أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَعْطَى الْجَدَّةَ السُّدُسَ))، مَعَ إِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ عَلَى ذَلِكَ.
فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} أَيْ: أَوْلَادُكُمْ -يَا مَعْشَرَ الْوَالِدِينَ- عِنْدَكُمْ وَدَائِعُ قَدْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ؛ لِتَقُومُوا بِمَصَالِحِهِمُ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، فَتُعَلِّمُونَهُمْ، وَتُؤَدِّبُونَهُمْ، وَتَكُفُّونَهُمْ عَنِ الْمَفَاسِدِ، وَتَأْمُرُونَهُمْ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَمُلَازَمَةِ التَّقْوَى عَلَى الدَّوَامِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}: فَالْأَوْلَادُ عِنْدَ وَالِدِيهِمْ مُوصًى بِهِمْ؛ فَإِمَّا أَنْ يَقُومُوا بِتِلْكَ الْوَصِيَّةِ، وَإِمَّا أَنْ يُضَيِّعُوهَا فَيَسْتَحِقُّوا بِذَلِكَ الْوَعِيدَ وَالْعِقَابَ.
وَهَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنَ الْوَالِدَيْنِ؛ حَيْثُ أَوْصَى الْوَالِدَيْنِ مَعَ كَمَالِ شَفَقَتِهِمْ عَلَيْهِمْ.
ثُمَّ ذَكَرَ كَيْفِيَّةَ إِرْثِهِمْ فَقَالَ: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} أَيِ: الْأَوْلَادُ لِلصُّلْبِ، وَالْأَوْلَادُ لِلِابْنِ، لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ صَاحِبُ فَرْضٍ، أَوْ مَا أَبْقَتِ الْفُرُوضُ يَقْتَسِمُونَهُ كَذَلِكَ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى ذَلِكَ، وَأَنَّهُ مَعَ وُجُودِ أَوْلَادِ الصُّلْبِ فَالْمِيرَاثُ لَهُمْ، وَلَيْسَ لِأَوْلَادِ الِابْنِ شَيْءٌ حَيْثُ كَانَ أَوْلَادُ الصُّلْبِ ذُكُورًا وَإِنَاثًا، هَذَا مَعَ اجْتِمَاعِ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ.
وَهُنَا حَالَتَانِ: انْفِرَادُ الذُّكُورِ، وَسَيَأْتِي حُكْمُهَا، وَانْفِرَادُ الْإِنَاثِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} أَيْ: بَنَاتِ صُلْبٍ، أَوْ بَنَاتِ ابْنٍ، ثَلَاثًا فَأَكْثَرَ {فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً} أَيْ: بِنْتًا، أَوْ بِنْتَ ابْنٍ {فَلَهَا النِّصْفُ}: وَهَذَا إِجْمَاعٌ.
بَقِيَ أَنْ يُقَالَ: مِنْ أَيْنَ يُسْتَفَادُ أَنَّ لِلِابْنَتَيْنِ الثِّنْتَيْنِ الثُّلُثَيْنِ بَعْدَ الْإِجْمَاعِ عَلَى ذَلِكَ؟
فَالْجَوَابُ أَنَّهُ يُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِ: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ}؛ فَمَفْهُومُ ذَلِكَ: أَنَّهُ إِنْ زَادَتْ عَلَى الْوَاحِدَةِ انْتَقَلَ الْفَرْضُ عَنِ النِّصْفِ، وَلَا ثَمَّ بَعْدَهُ إِلَّا الثُّلُثَانِ، وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} إِذَا خَلَّفَ ابْنًا وَبِنْتًا فَإِنَّ الِابْنَ لَهُ الثُّلُثَانِ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهُ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ لِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَيْنِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْبِنْتَ إِذَا أَخَذَتِ الثُّلُثَ مَعَ أَخِيهَا، وَهُوَ أَزْيَدُ ضَرَرًا عَلَيْهَا مِنْ أُخْتِهَا؛ فَأَخْذُهَا لَهُ مَعَ أُخْتِهَا مِنْ بَابِ أَوْلَى وَأَحْرَى.
وَأَيْضًا فَإِنَّ قَوْلَهُ -تَعَالَى- فِي الْأُخْتَيْنِ: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} نَصٌّ فِي الْأُخْتَيْنِ الثِّنْتَيْنِ.
فَإِذَا كَانَ الْأُخْتَانِ الثِّنْتَانِ مَعَ بُعْدِهِمَا تَأْخُذَانِ الثُّلُثَيْنِ؛ فَالِابْنَتَانِ مَعَ قُرْبِهِمَا مِنْ بَابِ أَوْلَى وَأَحْرَى، وَقَدْ أَعْطَى النَّبِيُّ ﷺ ابْنَتَيْ سَعْدٍ الثُّلُثَيْنِ كَمَا فِي ((الصَّحِيحِ)).
بَقِيَ أَنْ يُقَالَ: فَمَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ: {فَوْقَ اثْنَتَيْنِ}؟
قِيلَ: الْفَائِدَةُ فِي ذَلِكَ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ-: أَنَّهُ لِيُعْلَمَ أَنَّ الْفَرْضَ الَّذِي هُوَ الثُّلُثَانِ لَا يَزِيدُ بِزِيَادَتِهِنَّ عَلَى الثِّنْتَيْنِ، بَلْ مِنَ الثِّنْتَيْنِ فَصَاعِدًا.
وَدَلَّتِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ أَنَّهُ إِذَا وُجِدَ بِنْتُ صُلْبٍ وَاحِدَةٌ، وَبِنْتُ ابْنٍ أَوْ بَنَاتُ ابْنٍ؛ فَإِنَّ لِبِنْتِ الصُّلْبِ النِّصْفَ، وَيَبْقَى مِنَ الثُّلُثَيْنِ اللَّذَيْنِ فَرَضَهُمَا اللَّهُ لِلْبَنَاتِ أَوْ بَنَاتِ الِابْنِ السُّدُسُ، فَيُعْطَى بِنْتَ الِابْنِ، أَوْ بَنَاتِ الِابْنِ؛ وَلِهَذَا يُسَمَّى هَذَا السُّدُسُ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ.
وَمِثْلُ ذَلِكَ بِنْتُ الِابْنِ مَعَ بَنَاتِ الِابْنِ اللَّاتِي أَنْزَلُ مِنْهَا.
وَتَدُلُّ الْآيَةُ أَنَّهُ مَتَى اسْتَغْرَقَ الْبَنَاتُ أَوْ بَنَاتُ الِابْنِ الثُّلُثَيْنِ أَنَّهُ يَسْقُطُ مَنْ دُونَهُنَّ مِنْ بَنَاتِ الِابْنِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَفْرِضْ لَهُنَّ إِلَّا الثُّلُثَيْنِ، وَقَدْ تَمَّ، فَلَوْ لَمْ يُسْقَطْنَ لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُفْرَضَ لَهُنَّ أَزْيَدُ مِنَ الثُّلُثَيْنِ، وَهُوَ خِلَافُ النَّصِّ.
وَكُلُّ هَذِهِ الْأَحْكَامِ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ -وَلِلَّهِ الْحَمْدُ-.
وَدَلَّ قَوْلُهُ: {مِمَّا تَرَكَ} أَنَّ الْوَارِثِينَ يَرِثُونَ كُلَّ مَا خَلَّفَ الْمَيِّتُ مِنْ عَقَارٍ، وَأَثَاثٍ، وَذَهَبٍ، وَفِضَّةٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، حَتَّى الدِّيَةَ الَّتِي لَمْ تَجِبْ إِلَّا بَعْدَ مَوْتِهِ، وَحَتَّى الدُّيُونَ الَّتِي فِي الذِّمَّةِ.
ثُمَّ ذَكَرَ مِيرَاثَ الْأَبَوَيْنِ فَقَالَ: {وَلأَبَوَيْهِ} أَيْ: أَبُوهُ وَأُمُّهُ {لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} أَيْ: وَلَدُ صُلْبٍ، أَوْ وَلَدُ ابْنٍ؛ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، وَاحِدًا أَوْ مُتَعَدِّدًا.
فَأَمَّا الْأُمُّ فَلَا تَزِيدُ عَلَى السُّدُسِ مَعَ أَحَدٍ مِنَ الْأَوْلَادِ.
وَأَمَّا الْأَبُ فَمَعَ الذُّكُورِ مِنْهُمْ لَا يَسْتَحِقُّ أَزْيَدَ مِنَ السُّدُسِ، فَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ أُنْثَى أَوْ إِنَاثًا، وَلَمْ يَبْقَ بَعْدَ الْفَرْضِ شَيْءٌ -كَأَبَوَيْنِ وَابْنَتَيْنِ-؛ لَمْ يَبْقَ لَهُ تَعْصِيبٌ، وَإِنْ بَقِيَ بَعْدَ فَرْضِ الْبِنْتِ أَوِ الْبَنَاتِ شَيْءٌ أَخَذَ الْأَبُ السُّدُسَ فَرْضًا، وَالْبَاقِيَ تَعْصِيبًا؛ لِأَنَّنَا أَلْحَقْنَا الْفُرُوضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا بَقِيَ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ، وَهُوَ أَوْلَى مِنَ الْأَخِ، وَالْعَمِّ، وَغَيْرِهِمَا.
{فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} أَيْ: وَالْبَاقِي لِلْأَبِ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْمَالَ إِلَى الْأَبِ وَالْأُمِّ إِضَافَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ قَدَّرَ نَصِيبَ الْأُمِّ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْبَاقِيَ لِلْأَبِ.
وَعُلِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْأَبَ مَعَ عَدَمِ الْأَوْلَادِ لَا فَرْضَ لَهُ، بَلْ يَرِثُ تَعْصِيبًا الْمَالَ كُلَّهُ، أَوْ مَا أَبْقَتِ الْفُرُوضُ؛ لَكِنْ لَوْ وُجِدَ مَعَ الْأَبَوَيْنِ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ -وَيُعَبَّرُ عَنْهُمَا بِالْعُمَرِيَّتَيْنِ-؛ فَإِنَّ الزَّوْجَ أَوِ الزَّوْجَةَ يَأْخُذُ فَرْضَهُ، ثُمَّ تَأْخُذُ الْأُمُّ ثُلُثَ الْبَاقِي، وَالْأَبُ الْبَاقِيَ.
وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} أَيْ: ثُلُثُ مَا وَرِثَهُ الْأَبَوَانِ، وَهُوَ فِي هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ إِمَّا سُدُسٌ فِي زَوْجٍ وَأُمٍّ وَأَبٍ، وَإِمَّا رُبُعٌ فِي زَوْجَةٍ وَأُمٍّ وَأَبٍ، فَلَمْ تَدُلَّ الْآيَةُ عَلَى إِرْثِ الْأُمِّ ثُلُثَ الْمَالِ كَامِلًا مَعَ عَدَمِ الْأَوْلَادِ حَتَّى يُقَالَ: إِنَّ هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ قَدِ اسْتُثْنِيَتَا مِنْ هَذَا.
وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ الَّذِي يَأْخُذُهُ الزَّوْجُ أَوِ الزَّوْجَةُ بِمَنْزِلَةِ مَا يَأْخُذُهُ الْغُرَمَاءُ، فَيَكُونُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَالْبَاقِي بَيْنَ الْأَبَوَيْنِ.
وَلِأَنَّا لَوْ أَعْطَيْنَا الْأُمَّ ثُلُثَ الْمَالِ لَزِمَ زِيَادَتُهَا عَلَى الْأَبِ فِي مَسْأَلَةِ الزَّوْجِ، أَوْ أَخَذَ الْأَبُ فِي مَسْأَلَةِ الزَّوْجَةِ زِيَادَةً عَنْهَا نِصْفَ السُّدُسِ، وَهَذَا لَا نَظِيرَ لَهُ؛ فَإِنَّ الْمَعْهُودَ مُسَاوَاتُهَا لِلْأَبِ، أَوْ أَخْذُهُ ضِعْفَ مَا تَأْخُذُهُ الْأُمُّ.
{فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ}: أَشِقَّاءُ، أَوْ لِأَبٍ، أَوْ لِأُمٍّ؛ ذُكُورًا كَانُوا أَوْ إِنَاثًا، وَارِثِينَ أَوْ مَحْجُوبِينَ بِالْأَبِ أَوِ الْجَدِّ؛ لَكِنْ قَدْ يُقَالُ: لَيْسَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} شَامِلًا لِغَيْرِ الْوَارِثِينَ؛ بِدَلِيلِ عَدَمِ تَنَاوُلِهَا لِلْمَحْجُوبِ بِالنِّصْفِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَحْجُبُهَا عَنِ الثُّلُثِ مِنَ الْإِخْوَةِ إِلَّا الْإِخْوَةُ الْوَارِثُونَ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي حَجْبِهِمْ لَهَا عَنِ الثُّلُثِ: لِأَجْلِ أَنْ يَتَوَفَّرَ لَهُمْ شَيْءٌ مِنَ الْمَالِ، وَهُوَ مَعْدُومٌ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ-؛ وَلَكِنْ بِشَرْطِ كَوْنِهِمُ اثْنَيْنِ فَأَكْثَرَ، وَيُشْكِلُ عَلَى ذَلِكَ إِتْيَانُ لَفْظِ (الْإِخْوَةِ) بِلَفْظِ الْجَمْعِ، وَأُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مُجَرَّدُ التَّعَدُّدِ، لَا الْجَمْعُ، وَيَصْدُقُ ذَلِكَ بِاثْنَيْنِ، وَقَدْ يُطْلَقُ الْجَمْعُ وَيُرَادُ بِهِ الِاثْنَانِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ}، وَقَالَ فِي الْإِخْوَةِ لِلْأُمِّ: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ}.
فَأَطْلَقَ لَفْظَ الْجَمْعِ، وَالْمُرَادُ بِهِ: اثْنَانِ فَأَكْثَرَ بِالْإِجْمَاعِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ خَلَّفَ أُمًّا، وَأَبًا، وَإِخْوَةً؛ كَانَ لِلْأُمِّ السُّدُسُ، وَالْبَاقِي لِلْأَبِ، فَحَجَبُوهَا عَنِ الثُّلُثِ، مَعَ حَجْبِ الْأَبِ إِيَّاهُمْ؛ إِلَّا عَلَى الِاحْتِمَالِ الْآخَرِ، فَإِنَّ لِلْأُمِّ الثُّلُثَ، وَالْبَاقِيَ لِلْأَبِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} أَيْ: هَذِهِ الْفُرُوضُ وَالْأَنْصِبَاءُ وَالْمَوَارِيثُ إِنَّمَا تُرَدُّ وَتُسْتَحَقُّ بَعْدَ نَزْعِ الدُّيُونِ الَّتِي عَلَى الْمَيِّتِ لِلَّهِ أَوْ لِلْآدَمِيِّينَ، وَبَعْدَ الْوَصَايَا الَّتِي قَدْ أَوْصَى الْمَيِّتُ بِهَا بَعْدَ مَوْتِهِ، فَالْبَاقِي عَنْ ذَلِكَ هُوَ التَّرِكَةُ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ الْوَرَثَةُ.
وَقَدَّمَ الْوَصِيَّةَ مَعَ أَنَّهَا مُؤَخَّرَةٌ عَنِ الدَّيْنِ؛ لِلِاهْتِمَامِ بِشَأْنِهَا؛ لِكَوْنِ إِخْرَاجِهَا شَاقًّا عَلَى الْوَرَثَةِ؛ وَإِلَّا فَالدُّيُونُ مُقَدَّمَةٌ عَلَيْهَا، وَتَكُونُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ.
وَأَمَّا الْوَصِيَّةُ فَإِنَّهَا تَصِحُّ مِنَ الثُّلُثِ فَأَقَلَّ لِلْأَجْنَبِيِّ الَّذِي هُوَ غَيْرُ وَارِثٍ، وَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ فَلَا يُنَفَّذُ إِلَّا بِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ.
قَالَ تَعَالَى: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا}: فَلَوْ رُدَّ تَقْدِيرُ الْإِرْثِ إِلَى عُقُولِكُمْ وَاخْتِيَارِكُمْ لَحَصَلَ مِنَ الضَّرَرِ مَا اللَّهُ بِهِ عَلِيمٌ؛ لِنَقْصِ الْعُقُولِ، وَعَدَمِ مَعْرِفَتِهَا بِمَا هُوَ اللَّائِقُ الْأَحْسَنُ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، فَلَا يَدْرُونَ أَيُّ الْأَوْلَادِ أَوِ الْوَالِدَيْنِ أَنْفَعُ لَهُمْ، وَأَقْرَبُ لِحُصُولِ مَقَاصِدِهِمُ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ.
{فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} أَيْ: فَرَضَهَا اللَّهُ الَّذِي قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، وَأَحْكَمَ مَا شَرَعَهُ، وَقَدَّرَ مَا قَدَّرَهُ عَلَى أَحْسَنِ تَقْدِيرٍ، لَا تَسْتَطِيعُ الْعُقُولُ أَنْ تَقْتَرِحَ مِثْلَ أَحْكَامِهِ الصَّالِحَةِ الْمُوَافِقَةِ لِكُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ وَحَالٍ.
{وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ ۚ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ ۚ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ ۚ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ ۚ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم ۚ مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ ۗ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ ۚ فَإِن كَانُوا أَكْثَرَ مِن ذَٰلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ ۚ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَىٰ بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ ۚ وَصِيَّةً مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12) تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ۚ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ وَذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [النساء: 12-13].
{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} أَيْ: تِلْكَ التَّفَاصِيلُ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي الْمَوَارِيثِ حُدُودُ اللَّهِ الَّتِي يَجِبُ الْوُقُوفُ مَعَهَا، وَعَدَمُ مُجَاوَزَتِهَا، وَلَا الْقُصُورُ عَنْهَا، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ مَنْسُوخَةٌ بِتَقْدِيرِهِ -تَعَالَى- أَنْصِبَاءَ الْوَارِثِينَ.
ثُمَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا}: فَالْوَصِيَّةُ لِلْوَارِثِ بِزِيَادَةٍ عَلَى حَقِّهِ يَدْخُلُ فِي هَذَا التَّعَدِّي، مَعَ قَوْلِهِ ﷺ: ((لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ))، ثُمَّ ذَكَرَ طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَعْصِيَتَهُمَا عُمُومًا؛ لِيَدْخُلَ فِي الْعُمُومِ لُزُومُ حُدُودِهِ فِي الْفَرَائِضِ، أَوْ تَرْكُ ذَلِكَ، فَقَالَ: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} بِامْتِثَالِ أَمْرِهِمَا الَّذِي أَعْظَمُهُ طَاعَتُهُمَا فِي التَّوْحِيدِ، ثُمَّ الْأَوَامِرُ عَلَى اخْتِلَافِ دَرَجَاتِهَا، وَاجْتِنَابُ نَهْيِهِمَا الَّذِي أَعْظَمُهُ الشِّرْكُ بِاللَّهِ، ثُمَّ الْمَعَاصِي عَلَى اخْتِلَافِ طَبَقَاتِهَا {يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا}: فَمَنْ أَدَّى الْأَوَامِرَ، وَاجْتَنَبَ النَّوَاهِيَ؛ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ، وَالنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ، {وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}: الَّذِي حَصَلَ بِهِ النَّجَاةُ مِنْ سَخَطِهِ وَعَذَابِهِ، وَالْفَوْزُ بِثَوَابِهِ وَرِضْوَانِهِ بِالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ الَّذِي لَا يَصِفُهُ الْوَاصِفُونَ)).
((تَكْرِيمُ الْإِسْلَامِ لِلْمَرْأَةِ))
إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ حَرَّرَ الْمَرْأَةَ مِنْ ظُلْمِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ وَأَهْلِ الْكِتَابِ؛ فَلَقَدْ بَعَثَ اللهُ مُحَمَّدًا ﷺ وَالْمَرْأَةُ مَظْلُومَةٌ مَهْضُومَةٌ، تُعَامَلُ كَمَا يُعَامَلُ سَقَطُ الْمَتَاعِ؛ حَتَّى قَالَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «وَاللهِ مَا كُنَّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ نَعُدُّ النِّسَاءَ شَيْئًا حَتَّى أَنْزَلَ اللهُ فِيهِنَّ مَا أَنْزَلَ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
فَبَعَثَ اللهُ نَبِيَّهُ ﷺ بِهَذَا الدِّينِ الْقَوِيمِ، فَجَعَلَ الْمَرْأَةَ دُرَّةً مَصُونَةً، وَجَوْهَرَةً مَكْنُونَةً، حَرَّرَهَا مِنْ ظُلْمِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَعْطَاهَا حُقُوقَهَا الشَّرْعِيَّةَ الَّتِي تُنَاسِبُ فِطْرَتَهَا وَطَبِيعَتَهَا، لَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ.
لَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ رَفَعَ الْمَظَالِمَ عَنِ الْمَرْأَةِ، وَأَعَادَ لَهَا الِاعْتِبَارَ فِي الْإِنْسَانِيَّةِ بَدْءًا، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} [الحجرات: 13].
فَهُنَا تَسَاوٍ فِي الْإِنْسَانِيَّةِ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ.
وَذَكَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّهَا شَرِيكَةٌ لِلرَّجُلِ فِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ عَلَى الْعَمَلِ، فَسَوَّى اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ عَلَى الْعَمَلِ، {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97].
فَسَوَّى فِي قَاعِدَةِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، لَا فَارِقَ، وَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَقُولُ: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ} [الأحزاب: 73].
فَالثَّوَابُ يَصِلُ إِلَى الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ عِنْدَمَا يَكُونُ هُنَاكَ عَمَلٌ صَالِحٌ، وَالْعِقَابُ يَصِلُ إِلَى الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ عِنْدَمَا يَكُونُ هُنَاكَ عَمَلٌ فَاسِدٌ وَطَالِحٌ.
حَرَّمَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى الرِّجَالِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ -وَكَانَ هَذَا مَعْمُولًا بِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ النَّبِيُّ الْأَمِينُ ﷺ-؛ حَرَّمَ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَوْرُوثَاتِ، يَقُولُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} [النساء: 19].
أَيْ: لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوهُنَّ بِطَرِيقِ الْإِرْثِ، فَيَمُوتُ الرَّجُلُ عَنِ الْمَرْأَةِ، فَيَأْتِي ابْنُهُ مِنْ غَيْرِهَا فَيَرِثُهَا، فَتُصْبِحُ مِيرَاثًا لَهُ، إِنْ شَاءَ بَقِيَتْ عِنْدَهُ، وَإِنْ شَاءَ سَرَّحَهَا، فَيَقُولُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوهُنَّ بِطَرِيقِ الْإِرْثِ، فَتَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ أَحَقُّ بِهِنَّ مِنْ غَيْرِكُمْ، وَتَحْبِسُوهُنَّ لِأَنْفُسِكُمْ كَمَا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَفْعَلُونَ، هَذَا مَمْنُوعٌ.
وَأَعْطَى اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْمَرْأَةَ حَقَّهَا، وَرَدَّ عَلَيْهَا كَرَامَتَهَا؛ حَتَّى كَانَتْ نِسَاءُ النَّبِيِّ ﷺ يُرَاجِعْنَهُ -يُرَاجِعْنَ الرَّسُولَ ﷺ-، وَيَسْأَلْنَهُ النَّفَقَةَ؛ حَتَّى إِنَّ الرَّسُولَ ﷺ لَمَّا أَكْثَرْنَ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْأَمْرِ اعْتَزَلَهُنَّ ﷺ، وَهُوَ أَطْيَبُ الْخَلْقِ خُلُقًا، وَأَحْسَنُهُم شِيمَةً ﷺ.
عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عِنْدَمَا جَاءَ وَظَنَّ ﷺ -وَالظَّنُّ هَاهُنَا: الِاعْتِقَادُ- أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَنْ يُضَيِّعَهُ، فَإِمَّا أَنْ يَبْقِينَ عِنْدَهُ، وَإِمَّا أَنْ يُطَلِّقَهُنَّ ﷺ، جَاءَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- -وَكَانَ قَدْ ظَنَّ عُمَرُ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ طَلَّقَ نِسَاءَهُ-، فَلَمَّا عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُطَلِّقِ النِّسَاءَ بَعْدُ، وَالْمُسْلِمُونَ جَالِسُونَ يَبْكُونَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ طَلَّقَ نِسَاءَهُ؛ دَخَلَ عُمَرُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ، قَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ؛ -لِأَنَّهُنَّ يُرَاجِعْنَ النَّبِيَّ ﷺ وَهُوَ يَعْلَمُ-، فَدَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ، وَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ؛ لَوْ رَأَيْتُنِي وَابْنَةُ خَارِجَةَ -يَعْنِي: زَوْجَتَهُ؛ زَوْجَةَ عُمَرَ- تَسْأَلُنِي النَّفَقَةَ وَأَنَا أَجَأُ فِي عُنُقِهَا حَتَّى اسْتَلْقَتْ لِقَفَاهَا، فَظَلَّ النَّبِيُّ ﷺ يَضْحَكُ)).
النَّبِيُّ لَمْ يَكُنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ، وَأَمَّا عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَقُولُ: هِيَ وَقَفَتْ تَقُولُ لِي: أُرِيدُ كَذَا وَكَذَا، وَالْيَوْمَ نَسْتَطِيعُ أَنْ نَشْتَرِيَ مِنَ السُّوقِ كَذَا وَكَذَا، تَسْأَلُهُ النَّفَقَةَ، وَهُوَ يَجَأُ بِأُصْبُعَيْهِ فِي عُنُقِهَا -بِأُصْبُعَيْ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-! (وَأَنَا أَجَأُ فِي عُنُقِهَا بِأُصْبُعَيَّ هَاتَيْنِ حَتَّى اسْتَلْقَتْ لِقَفَاهَا، فَضَحِكَ النَّبِيُّ ﷺ).
النَّبِيُّ ﷺ أَرْفَقُ الْخَلْقِ ﷺ.
((حَقُّ الْمَرْأَةِ فِي الْمِيرَاثِ فِي الْإِسْلَامِ))
كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ لَا يُوَرِّثُونَ الْمَرْأَةَ؛ بِدَعْوَى أَنَّهُ لَا يَرِثُ إِلَّا مَنْ حَمَلَ السِّلَاحَ وَرَكِبَ الْفَرَسَ، فَأَعْطَتْ شَرِيعَةُ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ الْمَرْأَةَ حَقَّهَا مِنَ الْمِيرَاثِ، فَوَرَّثَتْهَا؛ أُمًّا، وَجَدَّةً، وَبِنْتًا، وَزَوْجَةً، وَأُخْتًا.
اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- ضَمِنَ لِلْمَرْأَةِ اسْتِقْلَالَ الشَّخْصِيَّةِ، فَجَعَلَهَا وَارِثَةً لَا مَوْرُوثَةً، وَجَعَلَ لَهَا حَقًّا فِي الْمِيرَاثِ مِنْ مَالِ قَرِيبِهِ: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} [النساء: 7].
انْظُرْ إِلَى مَا أَعْطَى اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- النِّسَاءَ: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا}؛ عَلَى حَسَبِ مَا بَيَّنَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.
وَيَقُولُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النساء: 11].
وَلَمَّا حَدَّدَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- حَدَّ هَذِهِ الْأَنْصِبَةِ؛ يَعْنِي: يَقُولُ لَكَ: إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا مَاتَ فَإِنَّ الْبِنْتَ تَأْخُذُ نِصْفَ نَصِيبِ الْأَخِ -نِصْفَ نَصِيبِ الذَّكَرِ-؛ وَأَيُّ شَيْءٍ فِي هَذَا؟!!
هِيَ عِنْدَمَا تُرِيدُ أَنْ تَتَزَوَّجَ لَيْسَتْ مُكَلَّفَةً بِأَنْ تُنْفِقَ شَيْئًا، الَّذِي أَخَذَ ضِعْفَ مَا أَخَذَتْ أُخْتُهُ هُوَ سَيَأْتِي بِامْرَأَةٍ يُنْفِقُ عَلَيْهَا، هِيَ سَيَأْتِيهَا رَجُلٌ يُنْفِقُ عَلَيْهَا، وَلَيْسَتْ مُكَلَّفَةً بِشَيْءٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ.
حَتَّى إِنَّ الْمَرْأَةَ فِي الْإِسْلَامِ مِمَّا آتَاهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَأَنْعَمَ عَلَيْهَا بِهِ؛ كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَتَصَدَّقُ عَلَى زَوْجِهَا وَعَلَى أَوْلَادِهَا مِنْ مَالِهَا، تَتَصَدَّقُ؛ يَعْنِي: يُمْكِنُ أَنْ تُخْرِجَ الْمَرْأَةُ زَكَاةَ الْمَالِ لِزَوْجِهَا.
زَيْنَبُ امْرَأَةُ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ كَانَ عِنْدَهَا مَالٌ، وَأَرَادَتْ أَنْ تَتَصَدَّقَ، وَوَجَدَتْ عَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لَا يَمْلِكُ شَيْئًا، وَلَيْسَ فِي هَذَا عَيْبٌ، هِيَ لَمْ تَجِدْ فِي نَفْسِهَا اسْتِعْلَاءً عَلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، لَا، هِيَ تَعْلَمُ قَدْرَهُ؛ وَلَكِنْ أَرَادَتْ أَنْ تَسْأَلَ الرَّسُولَ ﷺ عَمَّا تُرِيدُ أَنْ تَأْخُذَ بِهِ مِنْ أَمْرِ هَذَا الْعَمَلِ؛ هَلَ هَذَا يَجُوزُ أَوْ لَا يَجُوزُ؟
ذَهَبَتْ فَوَجَدَتْ بِلَالًا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ عَلَى بَابِهِ، فَقَالَتْ: ((يَا بِلَالُ! اسْتَأْذِنْ لِي عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، أَوِ اسْأَلْهُ هَذَا السُّؤَالَ وَلَا تُخْبِرْهُ بِشَأْنِي))؛ يَعْنِي: لَا تَقُلْ لَهُ: إِنَّ زَيْنَبَ امْرَأَةَ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ هِيَ الَّتِي تَسْأَلُ، قُلْ لَهُ: امْرَأَةٌ مِنَ الْمُسْلِمَاتِ تَسْأَلُ، وَلَا تَذْكُرْ شَخْصِي.
دَخَلَ بِلَالٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ زَيْنَبَ تَسْأَلُ: هَلْ يَحِلُّ لَهَا أَنْ تُخْرِجَ زَكَاةَ مَالِهَا لِزَوْجِهَا؟)).
فَقَالَ: «أَيُّ الزَّيَانِبِ هِيَ؟».
قَالَ لَهُ: ((امْرَأَةُ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ)).
قَالَ: «نَعَمْ، هِيَ صَدَقَةٌ وَصِلَةُ رَحِمٍ».
انْظُرْ إِلَى مَا وَصَلَتْ إِلَيْهِ الْمَرْأَةُ عَلَى يَدِ دِينِ مُحَمَّدٍ ﷺ.
((التَّرْهِيبُ مِنْ حِرْمَانِ النِّسَاءِ مِنَ الْمِيرَاثِ))
عَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَتَعَلَّمَ دِينَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَوَقَّى الْإِنْسَانُ الشَّرَّ إِلَّا إِذَا عَرَفَهُ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ الْقَدِيمُ:
عَرَفْتُ الشَّرَّ لَا لِلشَّرِّ لَكِنْ لِتَوَقِّيهِ
وَمَنْ لَا يَعْرِفِ الشَّرَّ مِنَ الْخَيْرِ يَقَعْ فِيهِ
الْإِنْسَانُ إِذَا لَمْ يَعْرِفْ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ مِنَ الشُّرُورِ، إِذَا لَمْ يَعْرِفْ أَنَّ هَذَا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ؛ فَكَيْفَ يَبْتَعِدُ عَنْهُ؟!!
قَدْ تَكُونُ عِنْدَهُ مِنَ الْعَقِيدَةِ الثَّابِتَةِ فِي نَفْسِهِ أَنَّ هَذَا مِمَّا أَحَلَّهُ اللهُ، كَمَا يَفْعَلُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فِي أَمْرِ الْمَوَارِيثِ -مَثَلًا-؛ فَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ عِنْدَهُ عَقِيدَةٌ ثَابِتَةٌ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ لَا تُوَرَّثُ الْبِنْتُ!!
وَيَسْتَنْكِفُ وَيَسْتَكْبِرُ أَنْ يَصِيرَ مَا كَانَ لِأَبِيهِ إِلَى رَجُلٍ غَرِيبٍ -هُوَ زَوْجُ أُخْتِهِ مَثَلًا-!
كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَعْتَقِدُ هَذَا!
وَيُحَاوِلُ جَاهِدًا أَنْ يَتَمَلَّصَ مِنْ إِعْطَاءِ أُخْتِهِ حَقَّهَا!!
وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا حَرَّمَهُ اللهُ!
فَإِذَا لَمْ يَعْرِفْ أَنَّ هَذَا مِنْ أَكْبَرِ الْحَرَامِ، وَأَنَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ آكِلًا مِنْ حَرَامٍ، وَمُطْعِمًا أَهْلَهُ وَأَوْلَادَهُ مِنَ الْحَرَامِ، وَمُنْفِقًا مِنَ الْحَرَامِ، وَيَنْبُتُ لَحْمُهُ مِنَ الْحَرَامِ، وَلَنْ يُبَارَكَ لَهُ؛ إِذْ يَأْكُلُ مِنَ الْحَرَامِ، وَيُطْعِمُ أَهْلَهُ وَأَوْلَادَهُ وَذُرِّيَّتَهُ مِنَ الْحَرَامِ، وَيُبْقِي لَهُمْ مِيرَاثًا مِنَ الْحَرَامِ، فَلَنْ يُبَارَكَ لَا فِيهِ، وَلَا فِي أَهْلِهِ، وَلَا فِي أَوْلَادِهِ، وَلَا فِي ذُرِّيَّتِهِ!
وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مَا فَعَلَ شَيْئًا مِنْ حَرَامٍ أَصْلًا!
فَعَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَتَعَلَّمَ دِينَ اللهِ، وَأَنْ يَجْتَهِدَ فِي الْإِتْيَانِ بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
المصدر:
((حُسْنُ الظَّنِّ بِاللهِ -صِنَاعَةُ الْأَمَلِ-
وَكَمَالُ الشَّرِيعَةِ فِي الْمَوَارِيثِ وَحَقُّ الْمَرْأَةِ))