السُّخْرِيَةُ وَأَثَرُهَا الْمُدَمِّرُ عَلَى الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ

السُّخْرِيَةُ وَأَثَرُهَا الْمُدَمِّرُ عَلَى الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ

((السُّخْرِيَةُ وَأَثَرُهَا الْمُدَمِّرُ عَلَى الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((السُّخْرِيَةُ خَصْلَةٌ ذَمِيمَةٌ وَخَلَّةٌ لَئِيمَةٌ))

فَلَقَدْ جَاءَتِ الشَّرِيعَةُ بِذَمِّ السُّخْرِيَةِ، وَالنَّهْيِ عَنْهَا، وَالتَّحْذِيرِ مِنْهَا.

وَالسُّخْرِيَةُ خَصْلَةٌ ذَمِيمَةٌ، وَخَلَّةٌ لَئِيمَةٌ، إِذَا اتَّصَفَ بِهَا الْمَرْءُ أَضَرَّتْ بِهِ إِضْرَارًا عَظِيمًا، وَكَانَتْ مُوجِبَةً لِإِخْلَالِهِ بِأُخُوَّةِ الْإِيمَانِ.

السُّخْرِيَةُ وَلِيدَةُ الِاحْتِقَارِ، وَالِاحْتِقَارُ وَلِيدُ الْكِبْرِ، وَهَذِهِ صِفَاتٌ ذَمِيمَةٌ يَتَوَالَدُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ، وَسَوْءَاتٌ مَشِينَةٌ يَتَتَابَعُ بَعْضُهَا عَلَى إِثْرِ بَعْضٍ.

وَفِي الْحَدِيثِ قَالَ ﷺ: ((بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

أَيْ: يَكْفِي امْرَأً حَظًّا وَنَصِيبًا مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَكُونَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، يَحْقِرُ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، ثُمَّ يَتَوَلَّدُ عَنْ ذَلِكَ الِاسْتِهْزَاءُ بِهِ، وَالسُّخْرِيَةُ مِنْهُ، وَالتَّهَكُّمُ بِهِ.

((مَعْنَى السُّخْرِيَةِ))

السُّخْرِيَةُ: هِيَ الِاسْتِهَانَةُ، وَالتَّحْقِيرُ، وَالتَّنْبِيهُ عَلَى الْعُيُوبِ وَالنَّقَائِصِ عَلَى وَجْهِ الضَّحِكِ مِنَ الْمَسْخُورِ مِنْهُ.

وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ بِالْمُحَاكَاةِ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْإِشَارَةِ وَالْإِيمَاءِ.

وَالِاسْتِهْزَاءُ هُوَ السُّخْرِيَةُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْبِقَ مِنْهُ فِعْلٌ يُسْتَهْزَئُ بِهِ مِنْ أَجْلِهِ.

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((الِاسْتِهْزَاءُ هُوَ السُّخْرِيَةُ، وَهُوَ حَمْلُ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ عَلَى الْهَزْلِ وَاللَّعِبِ، لَا عَلَى الْجِدِّ وَالْحَقِيقَةِ، فَالَّذِي يَسْخَرُ مِنَ النَّاسِ هُوَ الَّذِي يَذُمُّ صِفَاتِهِمْ وَأَفْعَالَهُمْ ذَمًّا يُخْرِجُهَا عَنْ دَرَجَةِ الِاعْتِبَارِ، كَمَا سَخِرُوا بِالْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ)).

((سَبَبُ السُّخْرِيَةِ وَمَنْشَؤُهَا))

وَالسُّخْرِيَةُ تَنْشَأُ فِي الْمَرْءِ عِنْدَمَا يَنْظُرُ إِلَى نَفْسِهِ الْمُقَصِّرَةِ بِعَيْنِ الرِّضَا، وَيَنْظُرُ إِلَى الْآخَرِينَ بِعَيْنِ الِانْتِقَاصِ، فَيَلُوكُ -حِينَئِذٍ- أَعْرَاضَهُمْ تَهَكُّمًا وَسُخْرِيَةً وَاسْتِهْزَاءً.

وَكُلَّمَا أَوْغَلَ الْمَرْءُ فِي الْإِجْرَامِ، وَتَمَادَى فِي الْآثَامِ؛ زَادَ حَظُّهُ مِنَ الِانْتِقَاصِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ.

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} [المطففين: 29-30].

فَجَعَلَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- هَذَا التَّغَامُزَ وَالسُّخْرِيَةَ قَرِينَ الْإِجْرَامِ وَمُتَوَلَّدًا عَنْهُ.

وَلَا يَسْتَهِينُ مُسْلِمٌ نَاصِحٌ لِنَفْسِهِ بِأَمْرِ السُّخْرِيَةِ؛ أَيًّا كَانَ أَمْرُهَا، وَمَهْمَا كَانَتْ صُورَتُهَا، وَمَهْمَا ظَنَّ صِغَرَ حَجْمِهَا؛ فَإِنَّ أَمْرَهَا عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ.

((النَّهْيُ عَنِ السُّخْرِيَةِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ))

لَقَدْ نَهَى اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- عَنِ السُّخْرِيَةِ وَالِاسْتِهْزَاءِ، فَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ ۖ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ۖ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ۚ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11].

قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((إِنَّ اللهَ عَمَّ بِنَهْيِهِ الْمُؤْمِنِينَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} عَنْ أَنْ يَسْخَرَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ جَمِيعَ مَعَانِي السُّخْرِيَةِ، فَلَا يَحِلُّ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَسْخَرَ مِنْ مُؤْمِنٍ؛ لَا لِفَقْرِهِ، وَلَا لِذَنْبٍ ارْتَكَبَهُ، وَلَا لِغَيْرِ ذَلِكَ)).

قَالَ اللهُ -سُبْحَانَهُ-: {وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا ۖ لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ} [الهمزة: 1-4].

(({وَيْلٌ} أَيْ: وَعِيدٌ وَوَبَالٌ وَشِدَّةُ عَذَابٍ، {وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ} أَيِ: الَّذِي يَهْمِزُ النَّاسَ بِفِعْلِهِ، وَيَلْمِزُهُمْ بِقَوْلِهِ، فَالْهَمَّازُ: هُوَ الَّذِي يَعِيبُ النَّاسَ وَيَطْعَنُ عَلَيْهِمْ بِالْإِشَارَةِ وَالْفِعْلِ، وَاللَّمَّازُ: الَّذِي يَعِيبُهُمْ بِقَوْلِهِ.

وَمِنْ صِفَةِ هَذَا الْهَمَّازِ اللَّمَّازِ: أَنَّهُ لَا هَمَّ لَهُ سِوَى جَمْعِ الْمَالِ وَتَعْدِيدِهِ وَالْغِبْطَةِ بِهِ، وَلَيْسَ لَهُ رَغْبَةٌ فِي إِنْفَاقِهِ فِي طُرُقِ الْخَيْرَاتِ، وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ))، كَمَا قَالَ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ.

((قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- فِي جُمْلَةِ مَا بَيَّنَ لِعِبَادِهِ مِنَ الْآدَابِ وَالْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ}.

السُّخْرِيَةُ: هِيَ الِاسْتِهْزَاءُ وَالِازْدِرَاءُ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ: أَنَّ اللهَ -تَعَالَى- جَعَلَ النَّاسَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا طَبَقَاتٍ، فَقَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ۚ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا} [الزخرف: 32]؛ أَيْ: لِيُسَخِّرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي الْمَصَالِحِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ هُنَا: الِاسْتِهْزَاءُ.

وَقَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۚ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} [الإسراء: 21].

إِذَا ثَبَتَ هَذَا التَّفْضِيلُ بَيْنَ النَّاسِ؛ فَهُمْ يَتَفَاضَلُونَ فِي الْعِلْمِ، فَبَعْضُهُمْ أَعْلَمُ مِنْ بَعْضٍ فِي عُلُومِ الشَّرِيعَةِ، وَعُلُومِ الْوَسِيلَةِ إِلَى عُلُومِ الشَّرِيعَةِ؛ كَعُلُومِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ مِنَ النَّحْوِ وَالْبَلَاغَةِ وَغَيْرِهَا، وَهُمْ يَتَفَاضَلُونَ فِي الرِّزْقِ، فَمِنْهُمْ مَنْ بُسِطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ فِي رِزْقِهِ، وَهُمْ يَتَفَاضَلُونَ فِي الْأَخْلَاقِ، فَمِنْهُمْ ذَوُو الْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ الْعَالِيَةِ، وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ، وَهُمْ يَتَفَاضَلُونَ فِي الْخِلْقَةِ، مِنْهُمُ السَّوِيُّ الْخِلْقَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ دُونَ ذَلِكَ، وَيَتَفَاضَلُونَ كَذَلِكَ فِي الْحَسَبِ، مِنْهُمْ مَنْ هُوَ ذُو حَسَبٍ وَنَسَبٍ، وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ؛ فَهَلْ يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَسْخَرَ مِمَّنْ دُونَهُ؟!!

يَقُولُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ}؛ فَيُخَاطِبُنَا -جَلَّ وَعَلَا- بِوَصْفِ الْإِيمَانِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، وَيَنْهَانَا أَنْ يَسْخَرَ بَعْضُنَا مِنْ بَعْضٍ؛ لِأَنَّ الْمُفَضِّلَ هُوَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَإِذَا كَانَ هُوَ اللهُ؛ لَزِمَ مِنْ سُخْرِيَتِكَ بِهَذَا الشَّخْصِ الَّذِي هُوَ دُونَكَ أَنْ تَكُونَ سَاخِرًا بِتَقْدِيرِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.

فَلِمَاذَا تَسْخَرُ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي هُوَ دُونَكَ فِي الْعِلْمِ، أَوْ فِي الْمَالِ، أَوْ فِي الْخُلُقِ، أَوْ فِي الْخِلْقَةِ، أَوْ فِي الْحَسَبِ، أَوْ فِي النَّسَبِ؟!! لِمَاذَا تَسْخَرُ مِنْهُ؟!!

أَلَيْسَ الَّذِي أَعْطَاكَ الْفَضْلَ هُوَ اللهُ الَّذِي حَرَمَهُ هَذَا -فِي تَصَوُّرِكَ-؟!! فَلِمَاذَ؟!!

وَلِهَذَا قَالَ -عَزَّ وَجَلَّ-: {عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ}: رُبَّ سَاخِرٍ الْيَوْمَ مَسْخُورٌ مِنْهُ فِي الْغَدِ، وَرُبَّ مَفْضُولٍ الْيَوْمَ يَكُونُ فَاضِلًا فِي الْغَدِ، وَهَذَا شَيْءٌ مُشَاهَدٌ.

إِذَنْ؛ يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَتَأَدَّبَ بِمَا أَدَّبَهُ اللهُ بِهِ، فَلَا يَسْخَرُ مِنْ غَيْرِهِ؛ عَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا مِنْهُ، {وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ}: وَنَصَّ عَلَى النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ بِالتَّفْصِيلِ؛ حَتَّى لَا يَقُولَ أَحَدٌ: (إِنَّ هَذَا خَاصٌّ بِالرِّجَالِ) لَوْ ذَكَرَ الرِّجَالَ وَحْدَهُمْ، أَوْ خَاصٌّ بِالنِّسَاءِ وَحْدَهُنَّ.

وَهَذَا الْأَدَبُ عَامٌّ لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ، وَيَجِبُ عَلَى كُلِّ طَالِبِ عِلْمٍ أَنْ يَكُونَ أَوَّلَ مَنْ يَمْتَثِلُ أَمْرَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَيَجْتَنِبُ نَهْيَهُ؛ لِأَنَّهُ مَسْؤُولٌ عَنْ ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ:

الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ كَغَيْرِهِ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ.

وَالثَّانِي: أَنَّ طَالِبَ الْعِلْمِ قُدْوَةٌ، أَيُّ عَمَلٍ يَعْمَلُهُ فَسَوْفَ يَقْتَدِي بِهِ النَّاسُ، وَيَحْتَجُّونَ بِهِ، فَإِذَا كَانَ طَالِبُ الْعِلْمِ هُوَ الَّذِي يَسْخَرُ مِنَ الْعُلَمَاءِ، أَوْ مِمَّنْ دُونَ الْعُلَمَاءِ؛ فَهَذِهِ بَلِيَّةٌ فِي الْوَاقِعِ، فَالْوَاجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ إِذَا خَالَفَ غَيْرَهُ أَنْ يَلْتَمِسَ لَهُ الْعُذْرَ، ثُمَّ يَتَّصِلُ بِهَذَا الْمُخَالِفِ وَيَبْحَثُ مَعَهُ؛ فَرُبَّمَا يَكُونُ الْحَقُّ مَعَ مَنْ خَالَفَهُ، وَيُنَاقِشُهُ بِأَدَبٍ وَاحْتِرَامٍ وَهُدُوءٍ؛ حَتَّى يَتَبَيَّنَ الْحَقُّ، وَأَمَّا سُخْرِيَتُهُ مِمَّنْ خَالَفَ رَأْيَهُ أَوْ رَأْيَ شَيْخِهِ؛ فَهَذَا غَلَطٌ.

وَكُلُّ إِنْسَانٍ يُخَالِفُكَ فِي قَوْلِكَ فَإِنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْكَ أَنْ تَحْمِلَهُ عَلَى أَحْسَنِ الْمَحَامِلِ، وَأَنَّ هَذَا اجْتِهَادُهُ، وَأَنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- سَيَأْجُرُهُ عَلَى اجْتِهَادِهِ إِذَا أَخْطَأَ، وَإِنْ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، ثُمَّ تَتَّصِلُ بِهِ وَتُنَاقِشُهُ، وَلَا تَسْتَحِيي؛ فَرُبَّمَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْحَقَّ مَعَكَ، فَتَكُونُ لَكَ مِنَّةٌ عَلَى هَذَا الرَّجُلِ، وَرُبَّمَا يَتَبَيَّنُ لَكَ أَنَّ الْحَقَّ مَعَهُ، فَيَكُونُ لَهُ مِنَّةٌ عَلَيْكَ، وَأَمَّا السُّخْرِيَةُ؛ فَهَذَا لَيْسَ مِنْ آدَابِ طَالِبِ الْعِلْمِ؛ بَلْ وَلَا مِنْ آدَابِ الْمُؤْمِنِ مَعَ أَخِيهِ.

هَذَا مُتَعَلِّقٌ بِالْأَخْطَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْلَمُ مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْخَطَأِ أَحَدٌ، الْمَعْصُومُ هُوَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَكُلُّ مَنْ دُونَ النَّبِيِّ ﷺ فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُرَدُّ.

فَالْمُرَادُ لَا أَهْلَ الْبِدَعِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ الْأَخْطَاءُ الَّتِي يَقَعُ فِيهَا الْعُلَمَاءُ أَوِ الَّتِي يُخَالِفُونَ فِيهَا بَعْضَ النُّصُوصِ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَسْلَمُ مِنْهُ أَحَدٌ.

{وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ}؛ اللَّمْزُ: الْعَيْبُ؛ بِأَنْ تَقُولَ: فُلَانٌ بَلِيدٌ، فُلَانٌ طَوِيلٌ، فُلَانٌ قَصِيرٌ، فُلَانٌ أَسْوَدُ، فُلَانٌ أَحْمَرُ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا يُعَدُّ عَيْبًا.

وَقَوْلُهُ: {وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ} فُسِّرَ بِمَعْنَيَيْنِ:

الْمَعْنَى الْأَوَّلُ: لَا يَلْمِزْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَّا بِمَنْزِلَةِ نَفْسِ الْإِنْسَانِ، أَخُوكَ بِمَنْزِلَةِ نَفْسِكَ، فَإِذَا لَمَزْتَهُ فَكَأَنَّمَا لَمَزْتَ نَفْسَكَ.

وَالْمَعْنَى الثَّانِي: لَا تَلْمِزْ أَخَاكَ؛ لِأَنَّكَ إِذَا لَمَزْتَهُ لَمَزَكَ، فَلَمْزُكَ إِيَّاهُ سَبَبٌ لِكَوْنِهِ يَلْمِزُكَ؛ وَحِينَئِذٍ تَكُونُ كَأَنَّكَ لَمَزْتَ نَفْسَكَ، وَعَلَيْهِ قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: «لَعَنَ اللهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَيْهِ».

فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! كَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟!!

قَالَ: «يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ، فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ، فَيَسُبُّ أُمَّهُ». وَالْحَدِيثُ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي ((الصَّحِيحِ)).

عَلَى كُلِّ حَالٍ؛ فِي الْآيَةِ: تَحْرِيمُ عَيْبِ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، فَلَا يَجُوزُ لَكَ أَنْ تَعِيبَ أَخَاكَ بِصِفَةٍ خَلْقِيَّةٍ وَلَا بِصِفَةٍ خُلُقِيَّةٍ، أَمَّا الصِّفَةُ الْخَلْقِيَّةُ الَّتِي تَعُودُ إِلَى الْخِلْقَةِ؛ فَإِنَّ عَيْبَكَ إِيَّاهُ فِي الْحَقِيقَةِ عَيْبٌ لِخَالِقِهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، فَالَّذِي خَلَقَ الْإِنْسَانَ هُوَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَالَّذِي جَعَلَهُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ هُوَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَالْإِنْسَانُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُكْمِلَ خِلْقَتَهُ.. فَيَكُونُ الطَّوِيلُ قَصِيرًا، أَوِ الْقَصِيرُ طَوِيلًا، أَوِ الْقَبِيحُ جَمِيلًا، أَوِ الْجَمِيلُ قَبِيحًا.

فَأَنْتَ إِذَا لَمَزْتَ إِنْسَانًا، وَعِبْتَهُ فِي خِلْقَتِهِ؛ فَقَدْ عِبْتَ الْخَالِقَ فِي الْوَاقِعِ؛ وَلِهَذَا لَوْ وَجَدْنَا جِدَارًا مَبْنِيًّا مَائِلًا وَعِبْنَا الْجِدَارَ؛ فَعَيْبُنَا فِي الْحَقِيقَةِ لِبَانِي الْجِدَارِ، إِذَنْ؛ إِذَا عِبْتَ إِنْسَانًا فِي خِلْقَتِهِ؛ فَكَأَنَّمَا عِبْتَ الْخَالِقَ -عَزَّ وَجَلَّ-.

فَالْمَسْأَلَةُ خَطِيرَةٌ..

أَمَّا عَيْبُهُ بِالْخُلُقِ بِأَنْ يَكُونَ هَذَا الرَّجُلُ سَرِيعَ الْغَضَبِ، شَدِيدَ الِانْتِقَامِ، بَذِيءَ اللِّسَانِ؛ فَلَا تَعِبْهُ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا إِذَا عِبْتَهُ ابْتَلَاكَ اللهُ بِالْعَيْبِ نَفْسِهِ.

لَكِنْ إِذَا وَجَدْتَ فِيهِ سُوءَ خُلُقٍ فَالْوَاجِبُ النَّصِيحَةُ؛ أَنْ تَتَّصِلَ بِهِ إِنْ كَانَ يُمْكِنُ الِاتِّصَالُ بِهِ، وَتُبَيِّنَ لَهُ مَا كَانَ بِهِ مِنْ عَيْبٍ، أَوْ أَنْ تَكْتُبَ لَهُ كِتَابًا: رِسَالَةً بِاسْمِكَ، أَوْ بِاسْمِ نَاصِحٍ -مَثَلًا-.

{وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ}؛ يَعْنِي: لَا يَنْبِزْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا بِاللَّقَبِ، فَتَقُولُ لَهُ -مَثَلًا-: يَا فَاسِقُ، يَا فَاجِرُ، يَا كَافِرُ، يَا شَارِبَ الْخَمْرِ، يَا سَارِقُ، يَا زَانِي، لَا تَفْعَلْ هَذَا؛ لِأَنَّكَ إِذَا نَبَزْتَهُ بِاللَّقَبِ؛ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ اللَّقَبُ فِيهِ، وَإِمَّا أَلَّا يَكُونَ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ فَقَدِ ارْتَكَبْتَ هَذَا النَّهْيَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ وَارْتَكَبْتَ النَّهْيَ أَيْضًا.

ثُمَّ قَالَ -عَزَّ وَجَلَّ-: {بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ}؛ يَعْنِي: بِئْسَ لَكُمْ أَنْ تُنْقَلُوا مِنْ وَصْفِ الْإِيمَانِ إِلَى وَصْفِ الْفُسُوقِ، فَإِذَا ارْتَكَبْتُمْ مَا نَهَى اللهُ عَنْهُ؛ صِرْتُمْ فَسَقَةً، فَالْإِنْسَانُ إِذَا ارْتَكَبَ كَبِيرَةً وَاحِدَةً مِنَ الْكَبَائِرِ صَارَ فَاسِقًا، وَإِذَا ارْتَكَبَ صَغِيرَةً وَكَرَّرَهَا وَأَصَرَّ عَلَيْهَا صَارَ فَاسِقًا، فَلَا تَجْعَلْ نَفْسَكَ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَكَمَالِ الْإِيمَانِ فَاسِقًا.

هَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: {بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ}؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ جُمْلَةٌ إِنْشَائِيَّةٌ تُفِيدُ الذَّمَّ، وَمَا أَفَادَ الذَّمَّ فَإِنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ بِلَا شَكٍّ.

فَاسْتَفَدْنَا مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: تَحْرِيمَ السُّخْرِيَةِ، وَتَحْرِيمَ لَمْزِ الْغَيْرِ، وَتَحْرِيمَ التَّنَابُزِ بِالْأَلْقَابِ، وَأَنَّ مَنْ صَنَعَ ذَلِكَ فَهُوَ فَاسِقٌ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُؤْمِنًا.

{بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ۚ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}؛ يَعْنِي: مَنْ كَانَ يَفْعَلُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الثَّلَاثَةَ وَلَمْ يَتُبْ؛ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، فَالَّذِي لَا يَتُوبُ يَكُونُ ظَالِمًا، وَ«الظُّلْمُ -كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». أَخْرَجَاهُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).

وَإِذَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ؛ فَهَؤُلَاءِ الظَّلَمَةُ لَيْسَ لَهُمْ نُورٌ، فَيَجِبُ الْحَذَرُ مِمَّا نَهَى اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عَنْهُ؛ لِأَنَّكَ أَيُّهَا الْعَبْدُ عَبْدٌ للهِ، تَأْتَمِرُ بِأَمْرِهِ، وَتَنْتَهِي عَنْ نَهْيِهِ.

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: مَا مَعْنَى التَّوْبَةِ؟

فَنَقُولُ: التَّوْبَةُ مِنَ الْعَبْدِ: أَنْ يَنْتَقِلَ مِنْ مَعْصِيَةِ اللهِ إِلَى طَاعَتِهِ، وَالتَّوْبَةُ مِنَ اللهِ: أَنْ يَقْبَلَ اللهُ مِنَ الْعَبْدِ، فَيُبَدِّلَ سَيِّئَاتِهِ حَسَنَاتٍ)).

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.

هَذَا مِنْ حُقُوقِ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ؛ أَلَّا يَسْخَرَ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ بِكُلِّ كَلَامٍ وَقَوْلٍ وَفِعْلٍ دَالٍّ عَلَى تَحْقِيرِ الْأَخِ الْمُسْلِمِ، فَإِنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ لَا يَجُوزُ، وَهُوَ دَالٌّ عَلَى إِعْجَابِ السَّاخِرِ بِنَفْسِهِ، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ الْمَسْخُورُ بِهِ خَيْرًا مِنَ السَّاخِرِ، وَهُوَ الْغَالِبُ وَالْوَاقِعُ، فَإِنَّ السُّخْرِيَةَ لَا تَقَعُ إِلَّا مِنْ قَلْبٍ مُمْتَلِئٍ مِنْ مَسَاوِئِ الْأَخْلَاقِ، مُتَحَلٍّ بِكُلِّ خُلُقٍ ذَمِيمٍ، مُتَخَلٍّ مِنْ كُلِّ خُلُقٍ كَرِيمٍ، وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((بِحَسَبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يُحَقِّرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ}؛ أَيْ: لَا يَعِبْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَاللَّمْزُ: بِالْقَوْلِ، وَالْهَمْزِ: بِالْفِعْلِ، وَكِلَاهُمَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ حَرَامٌ، مُتَوَعَّدٌ عَلَيْهِ بِالنَّارِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} الْآيَةُ، وَسُمِّيَ الْأَخُ الْمُسْلِمُ نَفْسًا لِأَخِيهِ؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَكَذَا حَالُهُمْ كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ، وَلِأَنَّهُ إِذَا هَمَزَ غَيْرَهُ؛ أَوْجَبَ لِلْغَيْرِ أَنْ يَهْمِزَهُ، فَيَكُونُ هُوَ الْمُتَسَبِّبَ لِذَلِكَ.

{وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ}؛ أَيْ: لَا يُعَيِّرْ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ، وَلَا يُلَقِّبْهُ بِلَقَبِ ذَمٍّ يَكْرَهُ أَنْ يُطْلَقَ عَلَيْهِ وَهَذَا هُوَ التَّنَابُزُ، وَأَمَّا الْأَلْقَابُ غَيْرُ الْمَذْمُومَةِ فَلَا تَدْخُلُ فِي هَذَا.

{بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ}؛ أَيْ: بِئْسَمَا تَبَدَّلْتُمْ عَنِ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ بِشَرَائِعِهِ وَمَا تَقْتَضِيهِ بِالْإِعْرَاضِ عَنْ أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ بِاسْمِ الْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ، الَّذِي هُوَ التَّنَابُزُ بِالْأَلْقَابِ.

{وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}: وَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ عَلَى الْعَبْدِ؛ أَنْ يَتُوبَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَيَخْرُجَ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، بِاسْتِحْلَالِهِ وَالِاسْتِغْفَارِ، وَالْمَدْحِ لَهُ مُقَابَلَةً عَلَى ذَمِّه إِيَّاهِ.

{وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}؛ فَالنَّاسُ قِسْمَانِ: ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ غَيْرُ تَائِبٍ، وَتَائِبٌ مُفْلِحٌ، وَلَا ثَمَّ قِسْمٌ ثَالِثٌ غَيْرُهُمَا.

وَمِنْ أَجْلَى دَلَائِلِ تَحْرِيمِ السُّخْرِيَةِ وَالِاسْتِهْزَاءِ فِي كِتَابِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: إِخْبَارُ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- أَنَّ السُّخْرِيَةَ وَالِاسْتِهْزَاءَ مِنْ أَسَالِيبِ الْكَافِرِينَ الْمُشْرِكِينَ فِي مُحَارَبَةِ أَنْبِيَائِهِ وَأَتْبَاعِهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا ۘ وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [البقرة: 212].

((أَخْبَرَ -تَعَالَى- عَنْ تَزْيِينِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا لِلْكَافِرِينَ الَّذِينَ رَضُوا بِهَا، وَاطْمَأَنُّوا إِلَيْهَا، وَجَمَعُوا الْأَمْوَالَ، وَمَنَعُوهَا عَنْ مَصَارِفِهَا التِي أُمِرُوا بِهَا مِمَّا يُرْضِي اللهَ عَنْهُمْ، وَسَخِرُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا؛ الَّذِينَ أَعْرَضُوا عَنْهَا، وَأَنْفَقُوا مَا حَصَلَ لَهُمْ مِنْهَا فِي طَاعَةِ رَبِّهِمْ، وَبَذَلُوهُ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ؛ فَلِهَذَا فَازُوا بِالْمَقَامِ الْأَسْعَدِ وَالْحَظِّ الْأَوْفَرِ يَوْمَ مَعَادِهِمْ، فَكَانُوا فَوْقَ أُولَئِكَ فِي مَحْشَرِهِمْ وَمَنْشَرِهِمْ وَمَسِيرِهِمْ وَمَأْوَاهُمْ، فَاسْتَقَرُّوا فِي الدَّرَجَاتِ فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ، وَخُلِّدَ أُولَئِكَ فِي الدَّرَكَاتِ فِي أَسْفَلَ سَافِلِينَ)).

قَالَ تَعَالَى: {وَأُوحِيَ إِلَىٰ نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلَّا مَن قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا ۚ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ ۚ قَالَ إِن تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود: 36-38].

((يَقُولُ -تَعَالَى ذِكْرُهُ-: وَيَصْنَعُ نُوحٌ السَّفِينَةَ، وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ كُبَرَاءِ قَوْمِهِ {سَخِرُوا مِنْهُ} يَقُولُ: هَزِئُوا مِنْ نُوحٍ، وَيَقُولُونَ لَهُ: أَتَحَوَّلْتَ نَجَّارًا بَعْدَ النُّبُوَّةِ، وَتَعْمَلُ السَّفِينَةَ فِي الْبَرِّ؟! فَيَقُولُ لَهُمْ نُوحٌ: {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا}: إِنْ تَهْزَؤُوا مِنَّا الْيَوْمَ فَإِنَّا نَهْزَأُ مِنْكُمْ فِي الْآخِرَةِ كَمَا تَهْزَؤُونَ مِنَّا فِي الدُّنْيَا؛ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ إِذَا عَايَنْتُمْ عَذَابَ اللهِ مَنِ الَّذِي كَانَ إِلَى نَفْسِهِ مُسِيئًا مِنَّا)).

وَلَقَدْ كَانَ مِنْ أَسَالِيبِ قُرَيْشٍ فِي مُحَارَبَةِ دَعْوَةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ مُوَاصَلَةُ السُّخْرِيَةِ وَالِاسْتِهْزَاءِ، وَالْإِكْثَارُ مِنْهُمَا؛ فَقَدْ رَأَتْ قُرَيْشٌ أَنْ تُعَالِجَ هَذِهِ الْمُشْكِلَةَ الَّتِي نَشَأَتْ لِأَجْلِ قِيَامِ رَسُولِ اللهِ ﷺ بِالدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ وَحْدَهُ، فَفَكَّرُوا وَاسْتَشَارُوا، ثُمَّ اخْتَارُوا سُبُلًا شَتَّى لِمُوَاجَهَةِ هَذِهِ الدَّعْوَةِ وَالْقَضَاءِ عَلَيْهَا، مِنْهَا: مُوَاصَلَةُ السُّخْرِيَةِ وَالِاسْتِهْزَاءِ، وَالْإِكْثَارُ مِنْهُمَا، وَالْقَصْدُ مِنْ ذَلِكَ تَخْذِيلُ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَالْمُسْلِمِينَ، وَتَوْهِينُ قُوَاهُمُ الْمَعْنَوِيَّةِ، فَكَانُوا يَتَّهِمُونَ رَسُولَ اللهِ ﷺ بِأَنَّهُ رَجُلٌ مَسْحُورٌ، شَاعِرٌ مَجْنُونٌ، كَاهِنٌ يَأْتِيهِ الشَّيْطَانُ، سَاحِرٌ كَذَّابٌ، مُفْتَرٍ مُتَقَوِّلٌ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ التُّهَمِ وَالشَّتَائِمِ، وَكَانُوا إِذَا رَأَوْهُ يَجِيءُ وَيَذْهَبُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ نَظَرَ الْغَضَبِ وَالنِّقْمَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} [القلم: 51].

وَكَانُوا إِذَا رَأَوْهُ يَتَهَكَّمُونَ بِهِ، وَيَقُولُونَ: {أَهَٰذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} [الأنبياء: 36].

وَإِذَا رَأَوْا ضُعَفَاءَ الصَّحَابَةِ قَالُوا: قَدْ جَاءَكُمْ مُلُوكُ الْأَرْضِ: {أَهَٰؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا} [الأنعام: 53].

وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَىٰ أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَٰؤُلَاءِ لَضَالُّونَ} [المطففين: 29-32].

قَالَ تَعَالَى: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ} [الصافات: 12-14].

(({بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} أَيْ : بَلْ عَجِبْتَ -يَا مُحَمَّدُ- مِنْ تَكْذِيبِ هَؤُلَاءِ الْمُنْكِرِينَ لِلْبَعْثِ، وَأَنْتَ مُوقِنٌ مُصَدِّقٌ بِمَا أَخْبَرَ اللهُ بِهِ مِنَ الْأَمْرِ الْعَجِيبِ؛ وَهُوَ إِعَادَةُ الْأَجْسَامِ بَعْدَ فَنَائِهَا، وَهُمْ بِخِلَافِ أَمْرِكَ، مِنْ شِدَّةِ تَكْذِيبِهِمْ يَسْخَرُونَ مِمَّا تَقُولُ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ قَتَادَةُ: عَجِبَ مُحَمَّدٌ ﷺ، وَسَخِرَ ضُلَّالُ بَنِي آدَمَ {وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ}: وَهُمْ بِخِلَافِ أَمْرِكَ، مِنْ شِدَّةِ تَكْذِيبِهِمْ يَسْخَرُونَ مِمَّا تَقُولُ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ، {وَإِذَا رَأَوْا آيَةً} أَيْ: دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى ذَلِكَ {يَسْتَسْخِرُونَ}: قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: يَسْتَهْزِؤُونَ)).

وَقَدْ أَكْثَرُوا مِنَ السُّخْرِيَةِ وَالِاسْتِهْزَاءِ، وَمِنَ الطَّعْنِ وَالتَّضْحِيكِ، حَتَّى أَثَّرَ ذَلِكَ فِي نَفْسِ النَّبِيِّ ﷺ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ}، ثُمَّ ثَبَّتَهُ اللهُ -تَعَالَى-، وَبَيَّنَ لَهُ مَا يَذْهَبُ بِهَذَا الضِّيقِ فَقَالَ: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 97-99].

وَقَدْ بَيَّنَ لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ مَا فِيهِ التَّسْلِيَةُ؛ حَيْثُ قَالَ: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ ۚ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر: 95-96].

وَأَخْبَرَهُ أَنَّ فِعْلَهُمْ هَذَا سَوْفَ يَنْقَلِبُ وَبَالًا عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأنبياء: 41].

((يَقُولُ -تَعَالَى- مُسَلِّيًا لِرَسُولِهِ -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ- عَمَّا آذَاهُ بِهِ الْمُشْرِكُونَ مِنَ الِاسْتِهْزَاءِ وَالتَّكْذِيبِ: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} يَعْنِي: مِنَ الْعَذَابِ الَّذِي كَانُوا يَسْتَبْعِدُونَ وُقُوعَهُ)).

وَأَخْبَرَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّ الْمُنَافِقِينَ يَلْمِزُونَ الْمُتَصَدِّقِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ؛ وَلَكِنَّ اللهَ سَخِرَ مِنْهُمْ جَزَاءً عَلَى سُخْرِيَتِهِمْ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَلَهُمْ عَذَابٌ مُوجِعٌ، قال تعالى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ ۙ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة: 79].

((مِنْ مَخَازِي الْمُنَافِقِينَ أَنَّهُمْ كَانُوا -قَبَّحَهُمُ اللهُ- لَا يَدَعُونَ شَيْئًا مِنْ أُمُورِ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ يَرَوْنَ لَهُمْ مَقَالًا إِلَّا قَالُوا وَطَعَنُوا بَغْيًا وَعُدْوَانًا، فَلَمَّا حَثَّ اللهُ وَرَسُولُهُ عَلَى الصَّدَقَةِ بَادَرَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى ذَلِكَ، وَبَذَلُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ كُلٌّ عَلَى حَسَبِ حَالِهِ؛ مِنْهُمُ الْمُكْثِرُ، وَمِنْهُمُ الْمُقِلُّ، فَيَلْمِزُونَ الْمُكْثِرَ مِنْهُمْ بِأَنَّ قَصْدَهُ بِنَفَقَتِهِ الرِّيَاءُ وَالسُّمْعَةُ، وَقَالُوا لِلْمُقِلِّ الْفَقِيرِ‏:‏ إِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْ صَدَقَةِ هَذَا، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يَلْمِزُونَ‏}‏ أَيْ‏:‏ يَعِيبُونَ وَيَطْعَنُونَ ‏{‏الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ‏}‏ فَيَقُولُونَ‏:‏ مُرَاؤُونَ قَصْدُهُمُ الْفَخْرُ وَالرِّيَاءُ‏.، ‏{‏َوَ‏}‏ يَلْمِزُونَ ‏{‏الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ‏}‏ فَيُخْرِجُونَ مَا اسْتَطَاعُوا وَيَقُولُونَ‏:‏ اللهُ غَنِيٌّ عَنْ صَدَقَاتِهِمْ ‏{‏فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ‏}‏، فَقَابَلَهُمُ اللهُ عَلَى صَنِيعِهِمْ بِأَنْ ‏{‏سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏)).

وَقَدْ حَذَّرَ النَّبِيُّ ﷺ مِنَ السُّخْرِيَةِ وَالِاسْتِهْزَاءِ؛ فَفِي ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ)) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ، التَّقْوَى هَاهُنَا -وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ-، بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ؛ دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ)).

قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ عُثَيْمِينَ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((قَوْلُهُ: ((بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ)) يَعْنِي: يَكْفِي الْمُؤْمِنَ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، وَهَذَا تَعْظِيمٌ لِاحْتِقَارِ الْمُسْلِمِ، وَأَنَّهُ شَرٌّ عَظِيمٌ، لَوْ لَمْ يَأْتِ الْإِنْسَانُ مِنَ الشَّرِّ إِلَّا هَذَا لَكَانَ كَافِيًا؛ يَعْنِي: فِي الْإِثْمِ وَالْوِزْرِ، ((بِحَسْبِ امْرِئٍ)) يَعْنِي: كَافِيهِ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، لَوْ لَمْ يَأْتِ الْإِنْسَانُ مِنَ الشَّرِّ إِلَّا هَذَا لَكَانَ كَافِيًا، فَلَا تَحْقِرَنَّ أَخَاكَ الْمُسْلِمَ؛ لَا فِي خِلْقِتِهِ، وَلَا فِي ثِيَابِهِ، وَلَا فِي كَلَامِهِ، وَلَا فِي خُلُقِهِ، وَلَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ)).

وَفِي ((سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ)) بِسَنَدٍ صَحِيحٍ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((حَكَيْتُ لِلنَّبِيِّ ﷺ رَجُلًا فَقَالَ: ((مَا يَسُرُّنِي أَنِّي حَكَيْتُ رَجُلًا وَأَنَّ لِي كَذَا وَكَذَا)).

وَحَكَاهُ يَعْنِي: مَثَّلَ فِعْلَهُ، أَوْ هَيْئَتَهُ، أَوْ قَوْلَهُ.

قَالَتْ: ((حَكَيْتُ لِلنَّبِيِّ ﷺ رَجُلًا فَقَالَ: ((مَا يَسُرُّنِي أَنِّي حَكَيْتُ رَجُلًا وَأَنَّ لِي كَذَا وَكَذَا)).

قَالَتْ: فَقُلْتُ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ صَفِيَّةَ امْرَأَةٌ  -وَقَالَتْ بِيَدِهَا هَكَذَا-، كَأَنَّهَا تَعْنِي قَصِيرَةً)).

فَقَالَ: ((لَقَدْ مَزَجْتِ بِكَلِمَةٍ لَوْ مَزَجْتِ بِهَا مَاءَ الْبَحْرِ لَمُزِجَ)).

وَفِي لَفْظٍ: فَقَالَ: ((لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ الْبَحْرِ لَمَزَجَتْهُ)).

وَقَالَتْ: ((وَحَكَيْتُ لَهُ إِنْسَانًا)).

فَقَالَ: ((مَا أُحِبُّ أَنِّي حَكَيْتُ إِنْسَانًا وَأَنَّ لِي كَذَا وَكَذَا)).

فَقَوْلُهُ: ((وَقَالَتْ بِيَدِهَا)) أَيْ: إِشَارَةٌ بِهَا، تَعْنِي قَصِيرَةً)) أَيْ: تُرِيدُ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- كَوْنَ صَفِيَّةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَصِيرَةً.

وَقَوْلُهُ ﷺ: ((مَا أُحِبُّ أَنِّي حَكَيْتُ إِنْسَانًا)) أَيْ: فَعَلْتُ مِثْلَ فِعْلِهِ، أَوْ قُلْتُ مِثْلَ قَوْلِهِ مُنَقِّصًا لَهُ.

فَمِنَ الْخَطِيرِ فِي هَذَا الْبَابِ: مُحَاكَاةُ الْآخَرِينَ؛ تَقْلِيدًا لِأَصْوَاتِهِمْ، أَوْ لِطَرِيقَةِ مَشْيِهِمْ، أَوْ لِبَعْضِ حَرَكَاتِهِمْ؛ إِضْحَاكًا لِلْجَالِسِينَ؛ لِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ لِعَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- حِينَ حَكَتْ لَهُ إِنْسَانًا -أَيْ: مَثَّلَتْ ذَلِكَ الْإِنْسَانَ، وَوَصَفَتْ بِحَالِهَا لَا بِقَالِهَا- حِينَ حَكَتْ لَهُ إِنْسَانًا قَالَ: ((مَا أُحِبُّ أَنِّي حَكَيْتُ إِنْسَانًا وَأَنَّ لِي كَذَا وَكَذَا)).

وَلْيُحْذَرْ فِي هَذَا الْمَقَامِ مِنْ أَقَلِّ الْقَلِيلِ؛ وَلَوْ أَنْ تَصِفَ آخَرَ بِمَا هُوَ مِنْ صِفَاتِهِ أَوْ مِنْ أَعْمَالِهِ إِذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ التَّقْلِيلِ مِنْ شَأْنِهِ.

قَالَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: قُلْتُ لِلنَّبِيِّ ﷺ: ((حَسْبُكَ مِنْ صَفِيَّةَ كَذَا وَكَذَا)). وَهِيَ تَعْنِي -كَمَا جَاءَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ-: قَصِيرَةً.

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ الْبَحْرِ لَمَزَجَتْهُ)).

لَمْ يَكُنْ هَذَا خُلُقًا لِعَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- -وَهِيَ الطَّاهِرَةُ الْمُطَهَّرَةُ-، وَلَا كَانَ مَنْهَجًا لَهَا -وَهِيَ أَطْهَرُ مِنْ مَاءِ الْمُزْنِ- قَالَتْ ذَلِكَ فِي تِلْكَ الْمَرَّةِ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ لَهَا مَا قَالَ؛ فَكَيْفَ الشَّأْنُ بِمَجَالِسَ قَائِمَةٍ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا عَلَى السُّخْرِيَةِ وَالِاسْتِهْزَاءِ، وَالتَّهَكُّمِ وَالِاحْتِقَارِ، وَالِانْتِقَاصِ وَالِازْدِرَاءِ؟!!

((التَّحْذِيرُ وَالتَّرْهِيبُ مِنْ مَجَالِسِ السَّاخِرِينَ))

وَمَنْ يَجْلِسْ مَجَالِسَ السَّاخِرِينَ الْمُسْتَهْزِئِينَ؛ سَوَاءٌ كَانَ جُلُوسًا مُبَاشِرًا، أَوْ مِنْ خِلَالِ الشَّاشَاتِ وَالْقَنَوَاتِ، فَيَضْحَكُ لِمَا يَقُولُونَ مِنْ سُخْرِيَةٍ وَاسْتِهْزَاءٍ، أَوْ حَتَّى يَتَبَسَّمُ؛ فَلَهُ حَظٌّ مِنَ الْإِثْمِ بِحَسَبِ ذَلِكَ، فَهُوَ مُشَارِكٌ.

رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي ((التَّفْسِيرِ)) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف: 49]: ((قَالَ: الصَّغِيرَةُ: التَّبَسُّمُ بِالِاسْتِهْزَاءِ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَالْكَبِيرَةُ: الْقَهْقَهَةُ بِذَلِكَ)).

وَهَذَا مِنَ التَّفْسِيرِ لِلْآيَةِ بِبَعْضِ أَفْرَادِهَا.

فَلْيَحْذَرْ كُلُّ نَاصِحٍ لِنَفْسِهِ مِنَ السُّخْرِيَةِ، وَمِنْ مَجَالِسِ السَّاخِرِينَ!

((رُبَّ مَسْخُورٍ مِنْهُ خَيْرٌ مِنْ مِئَاتِ السَّاخِرِينَ!))

عِبَادَ اللهِ! قَدْ يَسْخَرُ امْرُؤٌ مِنْ آخَرَ وَيَكُونُ الْمَسْخُورُ مِنْهُ الْمُسْتَهْزَئُ بِهِ خَيْرًا عِنْدَ اللهِ مِنْ عَشَرَاتٍ بَلْ مِئَاتٍ مِنْ مِثْلِ هَذَا السَّاخِرِ الْمُسْتَهْزِئِ.

قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ ۖ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ۖ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ۚ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الححرات: 11].

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((يَنْهَى -تَعَالَى- عَنِ السُّخْرِيَةِ بِالنَّاسِ، وَاحْتِقَارِهِمْ، وَالِاسْتِهْزَاءِ بِهِمْ، كَمَا ثَبَتَ فِي ((الصَّحِيحِ)) عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْصُ النَّاسِ)). هَذِهِ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ وَابْنِ حِبَّانَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَعِنْدَ مُسْلِمٍ: ((وَغَمْطُ النَّاسِ))، وَالْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ: احْتِقَارُهُمْ وَاسْتِصْغَارُهُمْ، وَهَذَا حَرَامٌ؛ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْمُحْتَقَرُ أَعْظَمَ قَدْرًا عِنْدَ اللهِ وَأَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ السَّاخِرِ مِنْهُ الْمُحْتَقِرِ لَهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ}: فَنَصَّ عَلَى نَهْيِ الرِّجَالِ، وَعَطَفَ بِنَهْيِ النِّسَاءِ.

وَقَوْلُهُ: {وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ} أَيْ: لَا تَلْمِزُوا النَّاسَ، وَالْهَمَّازُ اللَّمَّازُ مِنَ الرِّجَالِ مَذْمُومٌ مَلْعُونٌ، كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الهمزة: ١]: الْهَمْزُ بِالْفِعْلِ، وَاللَّمْزُ بِالْقَوْلِ، كَمَا قَالَ -عَزَّ وَجَلَّ-: {هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} [الْقَلَمِ: 11] أَيْ: يَحْتَقِرُ النَّاسَ وَيَهْمِزُهُمْ طَاعِنًا عَلَيْهِمْ، وَيَمْشِي بَيْنَهُمْ بِالنَّمِيمَةِ، وَهِيَ اللَّمْزُ بِالْمَقَالِ؛ وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا: {وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ}، كَمَا قَالَ: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النِّسَاء: ٢٩] أَيْ: لَا يَقْتُلْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَقَتَادَةُ، وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: {وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} أَيْ: لَا يَطْعَنْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ.

وَقَوْلُهُ: {وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ} أَيْ: لَا تَتَدَاعَوْا بِالْأَلْقَابِ، وَهِيَ الَّتِي يَسُوءُ الشَّخْصَ سَمَاعُهَا)).

وَفِي الْحَدِيثِ: ((رُبَّ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ مَدْفُوعٍ بِالْأَبْوَابِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ)). أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

قَدْ يَتَهَاوَنُ بَعْضُ النَّاسِ فِي هَذَا الْبَابِ فَيَسْخَرُ مِنْ آخَرَ؛ لِرَثَاثَةِ هَيْئَتِهِ، أَوْ تَأْتَأَةِ كَلَامِهِ، أَوْ دَمَامَةٍ فِي بَعْضِ صِفَاتِهِ، أَوْ شَيْءٍ فِي أَعْمَالِهِ، فَيَتَنَدَّرُ بِهِ وَيَسْخَرُ مِنْهُ، وَلَا يَدْرِي؛ قَدْ يَكُونُ هَذَا الَّذِي يَسْخَرُ مِنْهُ مِنْ عِبَادِ اللهِ الْمُقَرَّبِينَ وَمِنْ أَوْلِيَائِهِ الْمُتَّقِينَ؛ فَإِنَّ الْأَكْرَمَ عِنْدَ اللهِ الْأَتْقَى لَهُ؛ فَإِنَّ اللهَ -سُبْحَانَهُ- لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِ النَّاسِ وَلَا إِلَى هَيْئَاتِهِمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ.

((رُبَّ سَاخِرٍ يَسْخَرُ مِنْ أَخِيهِ بِمَا هُوَ فِيهِ!))

عِبَادَ اللهِ! قَدْ يَسْخَرُ وَيَتَنَدَّرُ بِبَعْضِ النَّاسِ لِصِفَاتٍ هِيَ فِيهِ -فِي الْمُتَنَدِّرِ السَّاخِرِ-، نَبَّهَ عَلَى هَذَا رَسُولُ اللهِ ﷺ وَهُوَ يَخْطُبُ عَلَى الْمِنْبَرِ؛ فَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَمْعَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَخْطُبُ  -وَذَكَرَ أُمُورًا مِنْ خُطْبَتِهِ- قَالَ: ((ثُمَّ وَعَظَهُمْ فِي ضَحِكِهِمْ مِنَ الضَّرْطَةِ -يَعْنِي: فِي إِخْرَاجِ الرِّيحِ بِصَوْتٍ مَسْمُوعٍ-، وَعَظَهُمْ فِي ضَحِكِهِمْ مِنَ الضَّرْطَةِ، وَقَالَ -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ-: ((لِمَ يَضْحَكُ أَحَدُكُمْ مِمَّا يَفْعَلُ!)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

صَحِيحٌ.. لِمَ يَضْحَكُ أَحَدُكُمْ مِمَّا يَفْعَلُ؟!!

هَذَا تَنْبِيهٌ إِلَى بَابٍ شَرِيفٍ عَظِيمٍ مِنْ أَبْوَابِ الْآدَابِ وَالْأَخْلَاقِ؛ أَنْ يَحْذَرَ الْمَرْءُ مِنَ التَّنَدُّرِ وَالسُّخْرِيَةِ بِأُمُورٍ رُبَّمَا يَكُونُ مُتَّصِفًا بِهَا، وَرُبَّمَا أَيْضًا -وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَّصِفًا بِهَا- أَنْ يُبْتَلَى بِهَا بَعْدَ وَقْتٍ -وَقَدْ لَا يَطُولُ-.

وَقَدْ كَانَ كَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ عَلَى حَذَرٍ شَدِيدٍ مِنْ ذَلِكَ؛ خَشْيَةَ أَنْ يُبْتَلَى بِشَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الَّتِي تَكُونُ فِي النَّاسِ، فَيَجْتَنِبُهَا وَلَا يَسْخَرُ مِنْهَا.

لَا تُظْهِرِ الشَّمَاتَةَ بِأَخِيكَ؛ يُعَافِيهِ اللهُ وَيَبْتَلِيكَ!

وَمِنَ الْمَجَانَةِ أَنْ يَرَى الْإِنْسَانُ الْقَذَاةَ فِي عَيْنِ أَخِيهِ، وَلَا يَرَى الْجِذْعَ فِي عَيْنِ نَفْسِهِ!

((عَاقِبَةُ السَّاخِرِينَ وَالْمُسْتَهْزِئِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ))

لَقَدْ ذَكَرَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- عَاقِبَةَ السَّاخِرِينَ وَالْمُسْتَهْزِئِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَخْبَرَ بِانْعِكَاسِ الْحَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُصْبِحُ السَّاخِرُونَ مَوْضِعَ سُخْرِيَةٍ وَاسْتِهْزَاءٍ، وَالْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ.

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَىٰ أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَٰؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} [المطففين: 29].

((لَمَّا ذَكَرَ -تَعَالَى- جَزَاءَ الْمُجْرِمِينَ وَجَزَاءَ الْمُؤْمِنِينَ، وَذَكَرَ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّفَاوُتِ الْعَظِيمِ؛ أَخْبَرَ أَنَّ الْمُجْرِمِينَ كَانُوا فِي الدُّنْيَا يَسْخَرُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَيَسْتَهْزِئُونَ بِهِمْ، وَيَضْحَكُونَ مِنْهُمْ، وَيَتَغَامَزُونَ بِهِمْ عِنْدَ مُرُورِهِمْ عَلَيْهِمْ؛ احْتِقَارًا لَهُمْ وَازْدِرَاءً، وَمَعَ هَذَا تَرَاهُمْ مُطْمَئِنِّينَ، لَا يَخْطُرُ الْخَوْفُ عَلَى بَالِهِمْ، {وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ} صَبَاحًا أَوْ مَسَاءً {انْقَلَبُوا فَكِهِينَ} أَيْ: مَسْرُورِينَ مُغْتَبِطِينَ، وَهَذَا أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنَ الِاغْتِرَارِ؛ أَنَّهُمْ جَمَعُوا بَيْنَ غَايَةِ الْإِسَاءَةِ مَعَ الْأَمْنِ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى كَأَنَّهُمْ قَدْ جَاءَهُمْ كِتَابٌ وَعَهْدٌ مِنَ اللَّهِ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَقَدْ حَكَمُوا لِأَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ أَهْلُ الْهُدَى، وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ ضَالُّونَ؛ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ، وَتَجَرَّؤُوا عَلَى الْقَوْلِ عَلَيْهِ بِلَا عِلْمٍ.

قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} أَيْ: وَمَا أُرْسِلُوا وُكَلَاءَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مُلْزَمِينَ بِحِفْظِ أَعْمَالِهِمْ حَتَّى يَحْرِصُوا عَلَى رَمْيِهِمْ بِالضَّلَالِ، وَمَا هَذَا مِنْهُمْ إِلَّا تَعَنُّتٌ وَعِنَادٌ وَتَلَاعُبٌ لَيْسَ لَهُ مُسْتَنَدٌ وَلَا بُرْهَانٌ؛ وَلِهَذَا كَانَ جَزَاؤُهُمْ فِي الْآخِرَةِ مِنْ جِنْسِ عَمَلِهِمْ، قَالَ تَعَالَى: {فَالْيَوْمَ} أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ {الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} حِينَ يَرَوْنَهُمْ فِي غَمَرَاتِ الْعَذَابِ يَتَقَلَّبُونَ، وَقَدْ ذَهَبَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ، وَالْمُؤْمِنُونَ فِي غَايَةِ الرَّاحَةِ وَالطُّمَأْنِينَةِ)).

إِنَّ مَنْ يَسْتَطِيلُ عَلَى النَّاسِ وَيَتَعَدَّى عَلَيْهِمْ، وَيَتَنَاوَلُهُمْ بِأَنْوَاعِ الْأَذَى لَا يَسْلَمُ عِرْضُهُ مِنْ لِسَانِ غِيبَةٍ وَنَمِيمَةٍ وَاسْتِهْزَاءٍ، وَهَؤُلَاءِ الْمُسْتَطِيلُونَ عَلَى أَعْرَاضِ الْخَلْقِ، الْمُسْتَهْزِئُونَ بِهِمْ لَا يَسْلَمُونَ مِنْ ذَلِكَ فِي تَعَامُلَاتِهِمْ غِشًّا وَخِيَانَةً وَتَدْلِيسًا، وَلَا يَسْلَمُونَ مِنْهُ فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَبْدَانِهِمْ تَعَدِّيًا وَضَرْبًا وَإِيذَاءً، وَلَا يَسْلَمُونَ مِنْهُ فِي أَمْوَالِهِمْ نَهْبًا وَاخْتِلَاسًا وَاسْتِلَابًا.

فَمَنْ كَانَتْ هَذَا حَالَهُ فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا كَبِيرًا.

قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} [الأحزاب: 58].

وَإِذَا كَانَ لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يُؤْذِيَ بَهِيمَةً بِغَيْرِ حَقٍّ؛ فَكَيْفَ -إِذَنْ- بِالْمُؤْمِنِ؟!!

قَالَ الْفُضَيْلُ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَاللهِ! مَا يَحِلُّ لَكَ أَنْ تُؤْذِيَ كَلْبًا وَلَا خِنْزِيرًا بِغَيْرِ حَقٍّ؛ فَكَيْفَ تُؤْذِي مُسْلِمًا؟!!)).

أَلَمْ أَقُلْ لَكَ: يَنْبَغِي أَنْ تَعْرِفَ أَوَّلًا حَقِيقَةَ الْإِسْلَامِ؛ لِكَيْ يَنْشَأَ الْجِيلُ الَّذِي يَحْمِلُ الْأَمَانَةَ بِحَقِّهَا مِنْ أَجْلِ نَشْرِ الْخَيْرِ فِي الْأَرْضِ، أَمَّا أَنْ يَكُونَ الْجِيلُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ فَكَبِّرْ عَلَيْهِ أَرْبَعًا.

إِنَّ مَنْ يُؤْذِي الْمُسْلِمِينَ وَيَتَعَرَّضُ لَهُمْ بِأَنْوَاعِ الْأَذَى فَإِنَّ حَسَنَاتِهِ وَطَاعَاتِهِ وَعِبَادَاتِهِ تَنْتَقِلُ مِنْ مِيزَانِ حَسَنَاتِهِ إِلَى مِيزَانِ حَسَنَاتِهِمْ.

تَأَمَّلْ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟!!)).

قَالُوا: ((الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ)).

((إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ، وَصِيَامٍ، وَزَكَاةٍ -بِخَيْرٍ كَبِيرٍ-، وَيَأْتِي وَقَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِذَا فَنِيَتْ حَسَناتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ؛ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ)).

تُوَزِّعُ حَسَنَاتِكَ؟!!

وَيْحَكَ! إِنَّكَ تَضِنُّ بِحَسَنَةٍ فِي الْمَوْقِفِ عَلَى أَبِيكَ وَعَلَى أُمِّكَ -وَهُمَا مِنْ أَعْظَمِ الْخَلْقِ حَقًّا عَلَيْكَ- تَضِنُّ بِحَسَنَةٍ عَلَيْهِمَا، وَتَفِرُّ مِنْهُما، تَفِرُّ مِنْ أُمِّكَ وَأَبِيكَ، وَمِنْ أُخْتِكَ وَأَخِيكَ، وَمِنْ بَنِيكَ، وَمِنْ أَصْدِقَائِكَ الْمُقَرَّبِينَ وَخِلَّانِكَ الْمُعْتَادِينَ، وَلَا تُعْطِي أَحَدًا حَسَنَةً، لَا تُعْطِي أَبَاكَ وَلَا أُمَّكَ، وَلَا زَوْجَتَكَ وَلَا وَلَدَكَ حَسَنَةً، وَتُوَزِّعُ هَذِهِ الْحَسَنَاتِ عَلَى مَنْ تَكْرَهُ؟!! لِأَنَّ الَّذِي يَغْتَابُ وَالَّذِي يَسْتَهْزِئُ هُوَ لَا يَغْتَابُ مَنْ يُحِبُّ، وَلَا يَسْتَهْزِئُ بِمَنْ يُقَدِّرُ وَيُجِلُّ، وَإِنَّمَا فِي الْجُمْلَةِ يَغْتَابُ مَنْ يُبْغِضُهُ، مَنْ يَكْرَهُهُ؛ لِذَلِكَ يَقُولُ الْحَسَنُ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((لَوْ كُنْتُ مُغْتَابًا أَحَدًا لَاغْتَبْتُ أَبَوَيَّ؛ فَهُمَا أَوْلَى بِحَسَنَاتِي)).

مَا دُمْتُ أُوَزِّعُ الْحَسَنَاتِ، وَأُبَعْثِرُهَا وَأُبَدِّدُهَا، وَلَا أُلْقِي لَهَا بَالًا؛ إِذَنْ فَأَوْلَى النَّاسِ بِأَنْ أُعْطِيَ مَنْ لَهُ حَقٌّ عَلَيَّ؛ أُعْطِي أَبِي، وَأُعْطِي أُمِّي، ((لَوْ كُنْتُ مُغْتَابًا أَحَدًا لَاغْتَبْتُ أَبَوَيَّ؛ فَهُمَا أَوْلَى بِحَسَنَاتِي)).

وَتَأَمَّلْ فِي شَأْنِ هَذَا الْأَمْرِ الْكَبِيرِ عِنْدَمَا كَانَ الْبُخَارِيُّ فِي مَجْلِسِ التَّحْدِيثِ؛ وَهُنَاكَ أَبُو مَعْشَرٍ الضَّرِيرُ، فَلَمَّا رَوَى الْبُخَارِيُّ حَدِيثًا اسْتَحْسَنَهُ جِدًّا، فَأَخَذَ يُحَرِّكُ رَأْسَهً يَمْنَةً وَيَسْرَةً، فَتَبَسَّمَ الْبُخَارِيُّ ثُمَّ انْتَبَهَ، صَارَ لَهُ حَقٌّ عِنْدَهُ، فَلَمَّا انْفَضَّ الْمَجْلِسُ خَلَا بِهِ وَقَالَ: ((اجْعَلْنِي فِي حِلٍّ)).

قَالَ: ((سُبْحَانَ اللهِ يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ! أَنْتَ فِي حِلٍّ؛ وَلَكِنْ مَاذَا كَانَ؟!)).

فَقَالَ: ((إِنِّي لَمَّا رَوَيْتُ حَدِيثَ كَذَا طَرِبْتَ، فَأَخَذْتَ تُحَرِّكُ رَأْسَكَ يَمْنَةً وَيَسْرَةً، فَتَبَسَّمْتُ)).

قَالَ: ((غَفَرَ اللهُ لَكَ يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ)).

مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَانَ الْبُخَارِيُّ الْبُخَارِيَّ.

قَالَ: ((مَا اغْتَبْتُ أَحَدًا مُنْذُ عَلِمْتُ أَنَّ الْغِيبَةَ حَرَامٌ!)).

فَوَفَّرَ اللهُ عَلَيْهِ حَافِظَتَهُ، فَكَانَتْ صَمَّاءَ كَالْخَرِيطَةِ الصَّمَّاءِ، يُجْعَلُ فِيهَا مَوَاضِعُ الْبُلْدَانِ وَالْأَنْهَارِ وَالْمَدَائِنِ وَمَا أَشْبَهَ، تَقْبَلُ هَذَا كُلَّهُ؛ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَانَ الْبُخَارِيُّ الْبُخَارِيَّ -رَحِمَهُ اللهُ-.

((الْمُجْتَمَعُ النَّظِيفُ مُجْتَمَعٌ خَالٍ مِنَ السُّخْرِيَةِ))

عِنْدَمَا يَلْتَزِمُ الْمُسْلِمُونَ بِتَعَالِيمِ دِينِهِمْ تَعِيشُ فِي مُجْتَمَعٍ نَظِيفٍ؛ لَا يَسْخَرُ مِنْكَ أَحَدٌ، وَلَا يَلْمِزُكَ أَحَدٌ، وَلَا يَهْمِزُكَ أَحَدٌ، وَلَا يَحْقِرُكَ أَحَدٌ، وَلَا يَحُطُّ أَحَدٌ مِنْ قَدْرِكَ، وَإِنَّمَا يَعِيشُ النَّاسُ فِي أَمْنٍ وَسَلَامٍ نَفْسِيَّيْنِ، وَيَحْيَا النَّاسُ فِي حَالٍ كَأَنَّمَا هِيَ مِنْ أَحْوَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ؛ مُجْتَمَعٌ نَظِيفٌ.

وَهَذَا الَّذِي نَهَى عَنْهُ الشَّرْعُ الْأَغَرُّ فِي كِتَابِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَفِي سُنَّةِ نَبِيِّهِ ﷺ صَارَ وَظَائِفَ لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْعَصْرِ وَفِي عُصُورٍ قَبْلَهُ؛ أَنَّ النَّاسَ يَسْخَرُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَيَلْمِزُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَيَحْكِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي الصَّوْتِ، وَفِي الْهَيْئَةِ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ، وَكُلُّ ذَلِكَ -كَمَا تَرَى- مِنْ كَبَائِرِ الْإِثْمِ.

((أَخُوكَ الْمُسْلِمُ حَقُّهُ عَلَيْكَ عَظِيمٌ))

أَخُوكَ الْمُسْلِمُ حَقُّهُ عَلَيْكَ عَظِيمٌ؛ فَعَلَيْكَ أَنْ تَحْتَرِمَهُ، وَأَنْ تُوَقِّرَهُ، أَمَّا احْتِقَارُهُ فَإِنَّهُ مُحَرَّمٌ، وَلَا يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَحْتَقِرَهُ.

أَخُوكَ الْمُسْلِمُ كَوَرَقَةِ الْمُصْحَفِ، أَنْتَ إِذَا رَأَيْتَ وَرَقَةَ الْمُصْحَفِ فِي الطَّرِيقِ مَاذَا تَصْنَعُ بِهَا؟

تَحْمِلُهَا، تُمِيطُ عَنْهَا مَا لَحِقَ بِهَا مِنَ الْغُبَارِ وَالْأَذَى، تُطَيِّبُهَا، تَضَعُهَا فِي أَكْرَمِ مَوْضِعٍ، وَتَجْعَلُهَا فِي أَعْظَمِ مَكَانٍ.

وَأَخُوكَ الْمُسْلِمُ لَهُ مِنَ الْحُرْمَةِ عَلَيْكَ مَا بَيَّنَهُ النَّبِيُّ ﷺ عِنْدَمَا كَانَ يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ وَهُوَ يَقُولُ ﷺ: ((مَا أَعْظَمَكِ، وَمَا أَعْظَمَ حُرْمَتَكِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! إِنَّ حُرْمَةَ الْمُسْلِمِ عِنْدَ اللهِ لَأَعْظَمُ مِنْ حُرْمَتِكِ)).

إِنَّ حُرْمَةَ الْمُسْلِمِ عِنْدَ اللهِ أَعْظَمُ مِنْ حُرْمَةِ الْكَعْبَةِ عِنْدَ اللهِ، يَعْنِي: لَوْ أَنَّ إِنْسَانًا أَخَذَ فَأْسًا أَوْ مِعْوَلًا، وَصَعِدَ الْكَعْبَةَ فَنَقَضَهَا حَجَرًا حَجَرًا؛ لَكَانَ إِثْمُهُ أَقَلَّ عِنْدَ اللهِ مِنْ إِثْمِ نَقْضِ بُنْيَانِ الْمُسْلِمِ، يَعْنِي: بِالِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِ وَقَتْلِهِ.

فَكَذَلِكَ الشَّأْنُ فِي هَذَا الدِّينِ الْعَظِيمِ، كُلُّهُ سَلَامٌ، كُلُّهُ اطْمِئْنَانٌ، وَالَّذِي نُعَانِيهِ نَحْنُ مِنَ الْقَلَقِ وَالِاضْطِرَابِ إِنَّمَا هُوَ بِسَبَبِ التَّخَلُّفِ عَنْ هَذِهِ التَّعَالِيمِ الْعَظِيمَةِ فِي رَكْبِهَا الْمُبَارَكِ، فَلَا نَكَادُ حَتَّى نَشُمَّ غُبَارَهَا وَنَحْنُ بِمَبْعَدَةٍ عَنْهَا.

فَنَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَرُدَّنَا أَجْمَعِينَ إِلَى دِينِ رَبِّنَا -جَلَّ وَعَلَا- رَدًّا جَمِيلًا.

((مَنْ كَفَّ عَنْ أَعْرَاضِ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ الرَّجُلُ!))

يَنْبَغِي أَنْ يَتَنَبَّهَ الْمُسْلِمُ، وَأَلَّا يُعْجِبَنَّهُ فِي شَخْصٍ هَيْئَتُهُ أَوْ ظَاهِرُ أَعْمَالِهِ إِذَا كَانَ مَعْرُوفًا بِالْأَذَى لِلنَّاسِ، وَالْعُدْوَانِ وَالظُّلْمِ وَالْبَغْيِ.

رَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ فِي كِتَابِهِ ((الزُّهْدِ)) وَالْبَيْهَقِيُّ فِي ((السُّنَنِ الْكُبْرَى)) أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَامَ فِي النَّاسِ خَطِيبًا وَقَالَ: ((لَا يُعْجِبَنَّكُمْ مِنْ رَجُلٍ طَنْطَنَتُهُ؛ وَلَكِنَّهُ مَنْ أَدَّى الْأَمَانَةَ، وَكَفَّ عَنْ أَعْرَاضِ النَّاسِ فَهُوَ الرَّجُلُ)).

مَنْ أَدَّى الْأَمَانَةَ، وَكَفَّ عَنْ أَعْرَاضِ النَّاسِ فَهُوَ الرَّجُلُ حَقًّا، الَّذِي يُقَالُ لَهُ (الرَّجُلُ)؛ فَهُوَ الرَّجُلُ!

{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ} [الأحزاب: 23] لَمْ يَقُلْ: ذُكُورٌ، لِلرُّجُولَةِ حَقُّهَا، هَذِهِ هِيَ الرُّجُولَةُ فِي أَبْهَى صُوَرِهَا وَأَجْمَلِ حُلَلِهَا؛ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مُؤَدِّيًا مَا عَلَيْهِ، وَأَنْ يَكُونَ كَافًّا لِسَانَهُ وَيَدَهُ عَنْ أَذَى الْآخَرِينَ.

((التَّرْهِيبُ مِنَ السُّخْرِيَةِ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِالدِّينِ الْعَظِيمِ))

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ بِاللهِ وَبِدِينِهِ وَبِرَسُولِهِ ﷺ كُفْرٌ بَوَاحٌ يُخْرِجُ مِنَ الْمِلَّةِ.

وَتَأَمَّلْ حَالَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ هُمْ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ تَجِدْ أَنَّهُمْ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ اسْتِهْزَاءً وَسُخْرِيَةً بِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَذَلِكَ أَمْرٌ مُخْرِجٌ لَهُمْ مِنَ الدِّينِ بِالْكُلِّيَّةِ.

قَالَ -سُبْحَانَهُ- عَنْ هَؤُلَاءِ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ ۗ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَٰكِن لَّا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولَٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)} [البقرة: 13-16].

وَقَدْ صَرَّحَ الْقُرْآنُ الْمَجِيدُ بِكُفْرِ الْهَازِلِينَ وَالْمُسْتَهْزِئِينَ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ أَرْحَمَ النَّاسِ بِالنَّاسِ، وَأَقْبَلَ النَّاسِ عُذْرًا لِلنَّاسِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَقْبَلْ عُذْرًا لِمُسْتَهْزِئٍ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ لِحُجَّةِ سَاخِرٍ ضَاحِكٍ، فَحِينَ سَخِرَ بِهِ وَبِأَصْحَابِهِ مَنْ سَخِرَ فِي مَسِيرِهِ لِغَزْوَةِ تَبُوكَ لَمْ يَقْبَلْ لَهُمْ ﷺ وَلَا مِنْهُمْ عُذْرًا، بَلْ أَخَذَ يَتْلُو عَلَيْهِمُ الْحُكْمَ الرَّبَّانِيَّ الَّذِي نَزَلَ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 65-66].

وَمِنْ أَجْلِ خُطُورَةِ الِاسْتِهْزَاءِ أَبْرَزَهُ الْعُلَمَاءُ -رَحِمَهُمُ اللهُ- فِي كُتُبِ الرِّدَّةِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ، وَمَا مِنْ شَكٍّ أَنَّ الرِّدَّةَ أَعْظَمُ كُفْرًا مِنَ الْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ -كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ-.

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي ((الْمُغْنِي)): ((مَنْ سَبَّ اللهَ -تَعَالَى- كَفَرَ؛ سَوَاءٌ مَازِحًا أَوْ جَادًّا، وَكَذَلِكَ مَنِ اسْتَهْزَأَ بِاللهِ -تَعَالَى-، أَوْ بِآيَاتِهِ، أَوْ بِرُسُلِهِ، أَوْ كُتُبِهِ)).

وَقَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي ((رَوْضَةِ الطَّالِبِينَ)): ((وَالْأَفْعَالُ الْمُوجِبَةُ لِلْكُفْرِ هِيَ الَّتِي تَصْدُرُ عَنْ عَمْدٍ وَاسْتِهْزَاءٍ بِالدِّينِ صَرِيحٍ)).

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((إِنَّ الِاسْتِهْزَاءَ بِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُفْرٌ، يَكْفُرُ بِهِ صَاحِبُهُ بَعْدَ إِيمَانِهِ)).

فَالِاسْتِهْزَاءُ بِاللهِ، أَوْ بِآيَاتِهِ، أَوْ بِرُسُلِهِ، أَوْ بِكُتُبِهِ؛ كُلُّ ذَلِكَ كُفْرٌ مُخْرِجٌ مِنَ الْمِلَّةِ -نَسْأَلُ اللهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ-.

إِنَّ مِنْ أَسْبَابِ الضَّلَالِ: الِاسْتِهْزَاءَ بِآيَاتِ اللَّهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْمُؤْمِنِينَ، قَالَ تَعَالَى:

{ذَٰلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا} [الكهف: 106].

((يَقُولُ -تَعَالَى ذِكْرُهُ-: أُولَئِكَ ثَوَابُهُمْ جَهَنَّمُ بِكُفْرِهِمْ بِاللهِ، وَاتِّخَاذِهِمْ آيَاتِ كِتَابِهِ وَحُجَجِ رُسُلِهِ سِخْرِيًّا، وَاسْتِهْزَائِهِمْ بِرُسُلِهِ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّىٰ أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ} [المؤمنون: 109-110].

((قَالَ -تَعَالَى- مُذَكِّرًا لَهُمْ بِذُنُوبِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَمَا كَانُوا يَسْتَهْزِئُونَ بِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَوْلِيَائِهِ، فَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا} أَيْ: فَسَخِرْتُمْ مِنْهُمْ فِي دُعَائِهِمْ إِيَّايَ وَتَضَرُّعِهِمْ إِلَيَّ {حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي} أَيْ: حَمَلَكُمْ بُغْضُهُمْ عَلَى أَنْ نَسِيتُمْ مُعَامَلَتِي، {وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ} أَيْ: مِنْ صَنِيعِهِمْ وَعِبَادَتِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} [المطففين: ٢٩-٣٠] أَيْ: يَلْمِزُونَهُمُ اسْتِهْزَاءً، ثُمَّ أَخْبَرَ -تَعَالَى- عَمَّا جَازَى بِهِ أَوْلِيَاءَهُ وَعِبَادَهُ الصَّالِحِينَ فَقَالَ تَعَالَى: { إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} أَيْ: عَلَى أَذَاكُمْ لَهُمْ،  وَاسْتِهْزَائِكُمْ بِهِمْ {أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} بِالسَّعَادَةِ، وَالسَّلَامَةِ، وَالْجَنَّةِ، وَالنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ)).

وَهَكَذَا فَإِنَّ الِاسْتِهْزَاءَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ يَشْغَلُ صَاحِبَهُ عَنِ التَّدَبُّرِ وَالتَّفَكُّرِ فِي دَلَائِلِ الْإِيمَانِ الَّتِي فِي الْوُجُودِ، وَفِي دَلَائِلِ صِدْقِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَيَشْغَلُهُ أَيْضًا عَنْ الِاعْتِبَارِ بِمَا أَثَّرَ الْإِيمَانُ فِي نُفُوسِ أَصْحَابِهِ وَحَالِهِمْ وَسُلُوكِهِمْ، وَإِنَّ ذَلِكَ الِاسْتِهْزَاءَ أَيْضًا يُبَاعِدُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَاحِبِهِ عَنْ كُلِّ الدَّلَائِلِ وَالْبَيِّنَاتِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ يُسَلِّمُهُ إِلَى الضَّلَالِ وَالْغَيِّ.

((رَدُّ اعْتِدَاءِ الْمُسْتَهْزِئِينَ بِالسُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ))

عِبَادَ اللهِ! لَقَدْ قَالَ السُّيُوطِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي «مِفتَاحِ الجَنَّةِ»: «اعْلَمُوا -يَرْحَمُكُمُ اللَّهُ- أَنَّ مِنَ الْعِلمِ كَهَيْئَةِ الدَّوَاءِ، وَمِنَ الآرَاءِ كَهَيْئَةِ الْخَلَاءِ؛ لَا تُذْكَرُ إِلَّا عِنْدَ دَاعِيَةِ الضَّرُورَةِ، وَإِنَّ مِمَّا فَاحَ رِيحُهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَكَانَ دَارِسًا -بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى- مُنْذُ أَزْمَانٍ: أَنَّ قَائِلًا رَافِضِيًّا زِندِيقًا أَكثَرَ فِي كَلَامِهِ أَنَّ السُّنَّةَ النَّبَوِيَّةَ وَالْأَحَادِيثَ المَرْوِيَّةَ -زَادَهَا اللَّهُ عُلُوًّا وَشَرَفًا- لَا يُحْتَجُّ بهَا، وَأَنَّ الْحُجَّةَ فِي الْقُرْآنِ خَاصَّةً، وَأَورَدَ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثًا وَهُوَ: «مَا جَاءَكُمْ عَنِّي مِنْ حَدِيثٍ فَاعرِضُوهُ عَلَى الْقُرْآنِ، فَإِنْ وَجَدْتُمْ لَهُ أَصلًا فَخُذُوا بِهِ، وَإِلَّا فَرُدُّوهُ».

قَالَ -رَحِمَهُ اللهُ-: فَقُلتُ لَهُ: مَا رَوَى هَذَا أَحَدٌ يَثْبُتُ حَدِيثُهُ فِي شَيْءٍ صَغِيرٍ وَلَا كَبِيرٍ، وَإِنَّمَا هِيَ رِوَايَةٌ مُنْقَطِعَةٌ عَن رَجُلٍ مَجْهُولٍ، وَنَحنُ لَا نَقبَلُ مِثلَ هَذِهِ الرِّوَايَةِ فِي شَيْءٍ.

وَالْحَدِيثُ الَّذِي رُوِيَ فِي عَرْضِ الحَدِيثِ عَلَى الْقُرْآنِ بَاطِلٌ لَا يَصِحُّ، وَهُوَ يَنعَكِسُ عَلَى نَفسِهِ بِالْبُطْلَانِ؛ فَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ دَلَالَةٌ عَلَى عَرضِ الحَدِيثِ عَلَى الْقُرْآنِ.

قَالَ -رَحِمَهُ اللهُ-: هَكَذَا سَمِعْتُ هَذَا الْكَلَامَ بجُمْلَتِهِ مِنْهُ، وَسَمِعَهُ مِنْهُ خَلائِقُ غَيْرِي، فَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُلقِي لِذَلِكَ بَالًا، وَمِنْهُم مَنْ لَا يَعرِفُ أَصلَ هَذَا الْكَلَامِ وَلَا مِنْ أَيْنَ جَاءَ، فَأَرَدْتُ أَنْ أُوَضِّحَ لِلنَّاسِ أَصلَ ذَلِكَ، وَأُبَيِّنَ بُطْلَانَهُ، وَأَنَّهُ مِنْ أَعظَمِ المَهَالِكِ.

وَأَصلُ هَذَا الرَّأْيِ الْفَاسِدِ -وَهُوَ أَنَّ السُّنَّةَ لَا يُحْتَجُّ بِهَا، وَأَنَّ السُّنَّةَ لَا قِيمَةَ لهَا- أَنَّ الزَّنَادِقَةَ وَطَائِفَةً مِنْ غُلَاةِ الرَّافِضَةِ ذَهَبُوا إِلَى إِنْكَارِ الِاحْتِجَاجِ بِالسُّنَّةِ، وَالِاقتِصَارِ عَلَى الْقُرآنِ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ مُختَلِفُو الْمَقَاصِدِ، فَمِنْهُم مَنْ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّ النُّبُوَّةَ لِعَلِيٍّ، وَأَنَّ جِبْرِيلَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَخطَأَ فِي نُزُولِهِ على سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ  -تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا-، وَمِنْهُمْ مَنْ أَقَرَّ لِلنَّبِيِّ  بِالنُّبُوَّةِ؛ وَلَكِنْ قَالَ: إِنَّ الخِلَافَةَ كَانَت حَقًّا لِعَلِيٍّ، فَلَمَّا عَدَلَ بِهَا الصَّحَابَةُ عَنهُ إِلَى أَبِي بَكرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم أَجْمَعِينَ-؛ قَالَ هَؤُلَاءِ المَخْذُولُونَ -لَعَنَهُمُ اللَّهُ- وَاللَّعنُ مِنَ السُّيُوطِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ--: كَفَرُوا؛ حَيْثُ جَارُوا، وَعَدَلُوا بِالْحَقِّ عَنْ مُسْتَحَقِّهِ.

-وَالضَّمِيرُ فِي قَولِهِ: كَفَرُوا؛ يَعُودُ إِلَى الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنهُم-!

بَلْ إِنَّ هَؤُلَاءِ الزَّنَادِقَةَ كَفَّرُوا -لَعَنَهُمُ اللَّهُ- عَلِيًّا -رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ- أَيْضًا؛ لِعَدَمِ طَلَبِهِ حَقَّهُ، فَبَنَوْا عَلَى ذَلِكَ رَدَّ الْأَحَادِيثِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّهَا عِندَهُم -بِزَعمِهِم- مِنْ رِوَايَةِ قَومٍ كُفَّارٍ -فَإنَّا للَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون-!!

وَهَذِهِ آرَاءٌ مَا كُنْتُ أَسْتَحِلُّ حِكَايَتَهَا لَوْلَا مَا دَعَتْ إِلَيهِ الضَّرُورَةُ مِنْ بَيَانِ أَصْلِ هَذَا الْمَذْهَبِ الْفَاسِدِ الَّذِي كَانَ النَّاسُ فِي رَاحَةٍ مِنْهُ مِنْ أَعْصَارٍ».

فَأَصْلُ إِنكَارِ السُّنَّةِ، وَأَصْلُ الحَمْلِ عَلَى الصَّحَابَةِ –رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنهُم- هُوَ أَصلُ هَؤُلَاءِ الزَّنَادِقَةِ الَّذِينَ كَفَّرُوا الأَصحَابَ –رِضوَانُ اللَّهِ عَلَيهِم-، فَهَؤلَاءِ فِي هَذَا العَصرِ يَعُودُونَ إِلَى أُولئِكَ، وَقَدْ كَانَ أَهلُ هَذَا الرَّأْيِ مَوجُودِينَ بِكَثْرَةٍ فِي زَمَنِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ فَمَنْ بَعْدَهُم، وَتَصَدَّى الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَأَصْحَابُهُم فِي دُرُوسِهِم وَمُنَاظَرَاتِهِم وَتَصَانِيفِهِمْ لِلرَّدِّ عَلَيْهِم، فَهَذا أَمْرٌ قَدِيمٌ.

وَكُلُّ مَا تَسْمَعُهُ فِي الطَّعنِ فِي سُنَّةِ النَّبِيِّ ﷺ، وَكُلُّ مَا تَسْمَعُهُ مِنَ الطَّعنِ فِي الصَّحَابَةِ –رَضِيَ اللهُ عَنهُم- وَالسَّلَفِ مِنَ الأَئمَّة إِلَى عَصرِنَا هَذَا؛ كُلُّ هَذَا لَيسَ فِيهِ مِنْ شَيءٍ جَدِيدٍ، وَإِنَّمَا هِيَ رِمَمٌ لِأَجسَادٍ جَيَّفَت فِي قُبُورِهَا، فَجَاءَ أَقوَامٌ لَا يَقَعُونَ إِلَّا عَلَى القَذَرِ كَالذُّبَاب؛ فَاسْتَخْرَجُوا تِلكَ الرِّمَمَ، وَأَرَادُوا أَنْ يَنفُخُوا فِيهَا -بِزَعْمِهِم- الحَيَاةَ مِنْ جَدِيدٍ، وَهَيهَاتَ هَيهَات!!

وَمَا مِنْ شُبهَةٍ يُرَدِّدُهَا هَؤلَاءِ إِلَّا وَقَدْ رَدَّ عَلَيهَا العُلَمَاءُ مِنْ قَدِيمٍ، فَإِنَّهُم لَمْ يَأتُوا بِشَيءٍ سِوَى جِدَّةِ العَرْضِ؛ لِأَنَّهُم يَتَكَلَّمُونَ الآنَ لِلعَامَّةِ، وَهَذِهِ الأُمُورُ التِي مَرَّتْ مِنَ الشُّبُهَاتِ وَالرَّدِّ عَلَيهَا كَانَت مَحصُورَةً فِي نِطَاقِهَا؛ وَلِذَلِكَ يَسْأَلُ السَّائِلُ بِحَقٍّ:

لمَاذَا تُعرَضُ هَذِهِ الشُّبُهَاتُ عَلَى العَامَّةِ؟!!

لمَاذَا يَتَعَرَّضُ الشَّعْبُ لِلطَّعنِ فِي عَقِيدَتِه، وَفِي مُسَلَّمَاتِهِ، وَفِي مُسْتَقَرَّاتِهِ العَقَدِيَّةِ وَالعِلمِيَّةِ وَالعِبَادِيَّة؟!!

وَلمَاذَا يُطْلَقُ هَؤلَاءِ عَلَى تُراثِ الأُمَّةِ المَرحُومَةِ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُزَيِّفُوهُ وَأَنْ يَطعَنُوا فِيهِ؛ لِكَيْ يُحَوِّلُوا المُسلِمِينَ الذِينَ لَا يَستَطِيعُونَ الرَّدَّ عَلَى الشُّبهَةِ بِاللِّسَانِ إِلَى الرَّدِّ عَلَيهَا بِالسِّلَاحِ وَالدِّمَاء؟!! لمَاذَا؟!!

لمَاذَا يُحوِّلُونَ الشَّعبَ المُسلِمَ إِلَى شَعبٍ مُتَطَرِّفٍ؟!!

لِأَنَّهُم يُهَاجِمُونَ ثَوابِتَهُ، وَيَعتَدُونَ عَلَى عَقِيدَتِهِ بِغَيرِ مَا اسْتِحقَاق!!

فَأُقسِمُ بِالَّذِي رَفَعَ السَّمَاءَ بِلَا عَمَدٍ! إِنَّ التُّرَاثَ الَّذِي يُهَاجِمُونَهُ لَا يَستَطِيعُ الوَاحِدُ مِنهُم أَنْ يَقرَأَ مِنهُ صَفْحَةً مِنْ غَيرِ مَا عِدَّةِ عَشَرَاتٍ مِنَ الأَخطَاءِ!!

وَأَتَحَدَّاهُم؛ وَسَآتِي بِصَفحَةٍ مَشكُولَةٍ قَد ضُبِطَت بِالشَّكْلِ، وَأَتَحَدَّاهُم فِي مَلَأٍ عَلَنِيٍّ تَشهَدُهُ الدُّنيَا أَنْ يَقرَأَ الوَاحِدُ مِنهُم صَفحَةً وَاحِدَةً مِنَ التُّرَاثِ الَّذِي يُهَاجِمُونَهُ!

هَؤلَاء!! مَنْ هَؤلَاءِ؟!!

هَؤلَاءِ كَالذُّبَابِ، لَيسَت لَهُم قِيمَةٌ، يَعتَدُونَ عَلَى مُسَلَّمَاتِ الأُمَّةِ وَعَلَى عَقِيدَتِهَا؛ فَيَتَطَرَّفُ أَصْحَابُ الغَيْرَةِ وَالحَمَاسَةِ مِنْ هَذَا الشَّبَابِ المُسلِم الَّذِي يَجِدُ هَذَا الاعْتِدَاءَ الصَّارِخَ عَلَى عَقِيدَتِهِ، وَتُرَاثِهِ، وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ، وَأَصْحَابِ رَسُولِهِ ﷺ، وَعَلَى الأَئمَّةِ بِبَذَاءَةٍ وَحَقَارَةٍ مِنْ أَقوَامٍ لَا قِيمَةَ لَهُم وَلَا وَزَنَ!!

وَمَعلُومٌ عِندَ العُقَلَاءِ فِي الدُّنيَا كُلِّهَا أَنَّ مَنْ تَصَدَّى لِنَقْدِ عِلْمٍ مِنَ العُلُومِ يَنبَغِي أَنْ يَمْتَلِكَ أَدَواتِ النَّقْدِ، وَأَنْ يَحُوزَ تِلْكَ الأَدَواتِ حِيَازَةً صَحِيحَةً، فَإِذَا كَانَ هَؤلَاءِ لَا يَسْتَطِيعُ الوَاحِدُ مِنهُم أَنْ يُعْرِبَ جُملَةً وَاضِحَةً فِي إِعرَابِهَا؛ فَضْلًا عَن أَنْ يَفْهَمَهَا، وَهَذِهِ اللُّغَةُ الشَّرِيفَةُ لَا تُفهَمُ إِلَّا بِإِعرَابِهَا، وَهِي -أَي: هَذِهِ اللُّغَةُ الشَّرِيفَةُ- لَيسَت كَكُلِّ لُغَاتِ الأَرض، فَإِنَّ كُلَّ اللُّغَاتِ إِنَّمَا تُقْرَأُ لِتُفهَم؛ وَلُغَتُنَا تُفْهَمُ لِتُقرَأَ؛ لِمَا فِيهَا مِنَ التَّقدِيمِ وَالتَّأخِيرِ، وَلِمَا فِيهَا مِنَ الكِنَايَةِ وَالتَّورِيَةِ، وَمَا أَشْبَهَ مِنْ أَمثَالِ هَذِهِ الأُمُورِ التِي تَمَيَّزَتْ بِهَا؛ فَكُلُّ لُغَاتِ الأَرضِ إِنَّمَا تُقْرَأُ لِتُفهَمَ، وَأَمَّا لُغَتُنَا الفَرِيدَةُ العَجِيبَةُ؛ فَإِنَّهَا تُفْهَمُ لِتُقْرَأَ.

يَعنَي: لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ فَاهِمًا لِمَعنَى مَا تَقْرَأُهُ؛ حَتَّى تَقرَأَهُ قِرَاءَةً صَحِيحَةً.

﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر: 28]، فَتَعْلَمُ أَنَّ الخَشْيَةَ مِنَ العُلَمَاءِ، وَقَدْ وَقَعَ الفَاعِلُ مُؤَخَّرًا، وَتَقَدَّمَ المَفعُولُ.

﴿وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ﴾ [البقرة: 124]، لَا بُدَّ أَنْ تَفهَمَ أَوَّلًا أَنَّ الَّذِي ابْتَلَى إِنَّمَا هُوَ اللَّهُ –جَلَّ وَعَلَا-؛ وَإِنْ تَقَدَّمَ المَفعُولُ المُبْتَلَى؛ فَلَا بُدَّ مِنْ فَهمِهَا أَوَّلًا.

مَاذَا يَفهَمُ هَؤلَاءِ فِي لُغَةِ التُّرَاثِ الَّذِي يَنقُدُونَهُ؟! بَلْ هُمْ لَا يَنْقُدُونَهُ؛ هُمْ يَنسِفُونَهُ!!

يَقُولُ: دَعْ هَذَا فِي سَلَّةِ المُهمَلَات!!

قَالَ السُّيُوطِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: «قَالَ الإِمَامُ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي «الرِّسَالَةِ» وَنَقَلَهُ عَنهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي «الْمَدْخَلِ»: قَدْ وَضَعَ اللَّهُ رَسُولَهُ ﷺ مِنْ دِينِهِ وَفَرْضِهِ وَكِتَابِهِ الْمَوضِعَ الَّذِي أَبَانَ -جَلَّ ثَنَاؤُهُ- أَنَّهُ جَعَلَهُ عَلَمًا لِدِينِهِ؛ بِمَا افْتَرَضَ مِنْ طَاعَتِهِ، وَحَرَّمَ مِنْ مَعْصِيَتِه، وَأَبَانَ مِنْ فَضِيلَتِهِ؛ بِمَا قَرَنَ بَينَ الْإِيمَانِ بِرَسُولِهِ مَعَ الْإِيمَانِ بِهِ، فَقَالَ -تبَارَكَ وَتَعَالَى-: ﴿فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ﴾ [النساء: 171]، وَقَالَ: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ [النور: 62]، فَجَعَلَ كَمَالَ ابْتِدَاءِ الْإِيمَانِ الَّذِي مَا سِوَاهُ تَبَعٌ لَهُ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ، ثمَّ بِرَسُولِهِ مَعَهُ.

قَالَ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: وَفَرَضَ اللَّهُ عَلَى النَّاسِ اتِّبَاعَ وَحْيِهِ، وَاتِّبَاعَ سُنَنِ رَسُولِهِ، فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾ [آل عمران: 164]، مَعَ آيٍ سِوَاهَا ذَكَرَ فِيهِنَّ الْكِتَابَ وَالْحِكمَةَ.

قَالَ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: فَذَكَرَ اللَّهُ الْكِتَابَ وَهُوَ الْقُرْآن، وَذَكَرَ الْحِكْمَةَ، فَسَمِعْتُ مَنْ أَرْضَى مِنْ أَهلِ الْعِلْمِ بِالْقُرْآنِ يَقُولُ: الْحِكْمَةُ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ.

﴿يُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ﴾: وَهُوَ الوَحيُ المُنَزَّلُ عَلَيهِ مِنَ اللَّهِ –جَلَّ وَعَلَا- وَحْيًا أَوَّلًا، وَيُعَلِّمُهُمُ ﴿الحِكْمَةَ﴾: وَهِيَ السُّنَّةُ، وَهِيَ الوَحيُ الثَّانِي الَّذِي أُوحِيَ إِلَيهِ ﷺ.

قَالَ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ [النساء: 59].

فَقَالَ بَعضُ أَهلِ الْعِلْم: أُولُوا الْأَمْرِ: أُمَرَاءُ سَرَايَا رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُم﴾: أَيْ: فَإِنِ اخْتَلَفْتُم فِي شَيْءٍ، -وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَم- هُمْ وَأُمَرَاؤُهُمُ الَّذِينَ أُمِرُوا بِطَاعَتِهِم، ﴿فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ يَعْنِي -وَاللَّهُ أَعْلَم-: إِلَى مَا قَالَ اللَّهُ وَالرَّسُولُ.

ثمَّ سَاقَ الْكَلَامَ إِلَى أَنْ قَالَ: فَأَعْلَمَهُم أَنَّ طَاعَةَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ طَاعَتُهُ، فَقَالَ: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء: 65].

وَاحْتَجَّ -أَيْضًا- فِي فَرْضِ اتِّبَاعِ أَمْرِهِ بِقَولِهِ تَعالَى: ﴿لَّا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضًا ۚ قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا ۚ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [النور: 63].

وَبِقَولِهِ: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾ [الحشر: 7].

إِلَى غَيرِهَا مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي دَلَّتْ عَلَى اتِّبَاعِ أَمْرِهِ، وَلُزُومِ طَاعَتِهِ، فَلَا يَسَعُ أَحَدًا رَدُّ أَمرِهِ؛ لِفَرْضِ اللَّهِ طَاعَةَ نَبِيِّهِ ﷺ ».

* لَقَد أَمَرَ اللَّهُ –تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عِبَادَهُ بِاتِّبَاعِ نَبِيِّهِ ﷺ  وَطَاعَتِهِ، وَالقَصِّ عَلَى أَثَرِهِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، مِنهَا:

قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ ۖ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ [آل عمران: 32].

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [آل عمران: 131-132].

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ۖ وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾ [النساء: 80].

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا * فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء: 64-65].

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ [النساء: 14].

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا﴾ [الأحزاب: 36].

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾ [الجن: 23].

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [الحجرات: 1].

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لَّا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضًا ۚ قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا ۚ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [النور: 63].

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ۖ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ ۖ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا ۚ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾ [ النور: 54].

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾ [الحشر: 7].

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب: 21].

وَالآيَاتُ فِي هَذَا المَعنَى كَثِيرَةٌ؛ وَكُلُّهَا تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ طَاعَتِهِ ﷺ، وَاتِّبَاعِ مَا جَاءَ بِهِ، وَهِيَ كَالأَدِلَّةِ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ كِتَابِ اللَّهِ -تَعَالَى-، وَالتَّمَسُّكِ بِهِ، وَطَاعَةِ أَوَامِرِهِ وَنَواهِيِهِ، وَهُمَا أَصْلَانِ مُتَلَازِمَانِ، مَنْ جَحَدَ وَاحِدًا مِنهُمَا فَقَد جَحَدَ الآخَرَ وَكَذَّبَ بِهِ، وَذَلِكَ كُفْرٌ وَضَلَالٌ، وَخُرُوجٌ عَنْ دَائرَةِ الإِسلَامِ بإِجْمَاعِ أَهْلِ العِلمِ وَالإِيمَان.

وَلَا شَكَّ أَنَّ السُّنَّةَ دَاخِلَةٌ فِي الحِفظِ الَّذِي تَكَفَّلَ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهِ لِشَرِيعَتِهِ وَدِينِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الثَّابِتِ المَقْطُوعِ بِهِ، الَّذِي لَا يَسَعُ المُؤمِنَ بِحَالٍ إِنكَارُهُ، وَلَا التَّرَدُّدُ فِي ثُبُوتِهِ: أَنَّ كُلًّا مِنَ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَحْيٌ مِنْ عِندِ اللَّهِ، وَدَلِيلٌ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ؛ بَلْ مَا مِنْ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ عُرِفَ أَوْ يُعرَفُ إِلَّا عَنْ طَرِيقِهِمَا، أَوْ عَنْ طَرِيقِ الأَدِلَّةِ الَّتِي ثَبَتَت حُجِّيَّتُهَا بِهِمَا.

فَلَيْسَ بِعَجِيبٍ إِذَا كُنَّا قَدْ وَجَدْنَا اللَّهَ –جَلَّ ثَنَاؤُهُ- قَدْ تَكَفَّلَ بِحِفْظِ الشَّرِيعَةِ كُلِّهَا -كِتَابِهَا وَسُنَّتِهَا-، كَمَا يَدُلُّ عَلَيهِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: ﴿يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ [التوبة: 32].

فَنُورُ اللَّهِ: شَرْعُهُ وَدِينُهُ الَّذِي ارْتَضَاهُ لِعِبَادِهِ، وَكَلَّفَهُم بِهِ، وَضَمِنَهُ لِمَصَالِحِهِمْ، وَالَّذِي أَوْحَاهُ إِلَى رَسُولِهِ -مِنْ قُرْآنٍ أَوْ غَيرِهِ-؛ لِيَهْتَدُوا بِهِ إِلَى مَا فِيهِ خَيْرُهُمْ وَسَعَادَتُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.

* فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- قَدْ تَكَفَّلَ بِحِفْظِ القُرآنِ دُونَ السُّنَّةِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيهِ قَولُهُ تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: 9].

قُلْنَا: إِنَّ هَذَا لَا يَلِيقُ، بَلْ قَلَّ أَنْ يُذْهَبَ إِلَيهِ، وَالآيَةُ الكَرِيمَةُ لَا تَدُلُّ عَلَيْهِ؛ فَلِلْعُلَمَاءِ فِي ضَمِيرِ الغَيْبَةِ فِيهَا قَوْلَان:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَرجِعُ إِلَى مُحَمَّدٍ ﷺ؛ فَلَا يَصِحُّ التَّمَسُّكُ بِالآيَةِ -حِينَئذٍ-.

ثَانِيهِمَا: أَنَّهُ يَرجِعُ إِلَى الذِّكرِ، فَإِنْ فَسَّرْنَاهُ بِالشَّرِيعَةِ كُلِّهَا -مِنْ كِتَابٍ وَسُنَّةٍ-؛ فَلَا تَمَسُّكَ بِهَا -أَيْضًا-، وَإِنْ فَسَّرْنَاهُ بِالقُرآنِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ فِي الآيَةِ حَصرًا حَقِيقِيًّا -أَيْ: بِالنِّسْبَةِ لِكُلِّ مَا عَدَا القُرآنَ-؛ فَإِنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- قَد حَفِظَ أَشيَاءَ كَثِيرَةً مِمَّا عَدَاهُ؛ مِثْلَ حِفْظِهِ النَّبِيَّ ﷺ مِنَ الكَيْدِ وَالقَتْلِ، وَحِفْظِهِ العَرْشَ وَالسَّمَواتِ وَالأَرضَ مِنَ الزَّوَالِ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ، وَالحَصْرُ الإِضَافِيُّ بِالنِّسبَةِ إِلَى شَيءٍ مَخصُوصٍ يَحتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ وَقَرِينَةٍ عَلَى هَذَا الشَّيْءِ المَخْصُوصِ؛ وَلَا دَلِيلَ عَلَيهِ؛ سَواءٌ أَكَانَ سُنَّةً أَمْ غَيرَهَا، فَتَقْدِيمُ الجَارِّ وَالمَجرُورِ لَيْسَ لِلحَصْرِ، وَإِنَّمَا هُوَ لمُنَاسَبَةِ رُؤوسِ الآي.

بَلْ لَوْ كَانَ فِي الآيَةِ حَصْرٌ إِضَافِيٌّ بِالنِّسبَةِ إِلَى شَيءٍ مَخصُوصٍ لَمَا جَازَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الشَّيْءُ هُوَ السُّنَّةَ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ حِفْظَ القُرآنِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى حِفْظِ السُّنَّةِ، وَصَوْنَهُ مُستَلْزِمٌ لِصَوْنِهَا بِمَا أَنَّهَا حِصْنُهُ الحَصِينُ، وَدِرْعُهُ المَتِينُ، وَحَارِسُهُ الأَمِينُ، وَشَارِحُهُ المُبِينُ؛ تُفَصِّلُ مُجْمَلَهُ، وَتُفَسِّرُ مُشْكِلَهُ، وَتُوَضِّحُ مُبْهَمَهُ، وَتُقَيِّدُ مُطلَقَهُ، وَتَبْسُطُ مُختَصَرَهُ، وَتَدْفَعُ عَنْهُ عَبَثَ العَابِثِينَ وَلَهْوَ اللَّاهِينَ، وَتَأْوِيلَهُم إِيَّاهُ عَلَى حَسَبِ أَهْوَائِهِم وَأَغرَاضِهِم، وَوَفْقَ مَا يُمْلَى عَلَيهِم مِنْ رُؤسَائِهِمْ وَشَيَاطِينِهِم؛ فَحِفظُ السُّنَّةِ مِنْ أَسبَابِ حِفْظِ القُرآن، وَصِيَانَتُهَا صِيَانَةٌ لَهُ.

وَلَقَد حَفِظَهَا اللَّهُ -تَعَالَى- كَمَا حَفِظَ القُرآنَ، فَلَمْ يَذهَب مِنهَا -وَللَّهِ الحَمْدُ وَمِنْهُ الفَضْلُ- شَيْءٌ عَلَى الأُمَّةِ؛ وَإِنْ لَمْ يَستَوْعِبْهَا كُلُّ فَرْدٍ عَلَى حِدَةٍ.

وَمَعلُومٌ أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ تَكَفَّلَ بِحِفظِ المُبَيَّنِ المَشرُوحِ، وَلَمْ يَتَكَفَّل بِحِفْظِ الشَّارِحِ المُبَيِّن؛ لَأَحَالَنَا عَلَى التَّعَبُّدِ بِشَيءٍ مَعدُومٍ لَا وُجُودَ لَهُ فِي الوَاقِع، أَوْ عَلَى الأَقَلِّ بِشَيْءٍ لَمْ يَصِلْنَا مِنْ طَرِيقٍ مَوثُوقٍ بِهِ، وَلَمْ نَعرِف صَحِيحَهُ مِنْ سَقِيمِه، وَلَا المَقبُولَ مِنهُ مِنَ المَردُود؛ لِأَنَّ هَذِهِ التَّكْلِيفَاتِ فِي الجُملَةِ وَرَدَتْ فِي الكِتَابِ العَزِيزِ مُجْمَلَةً؛ ثُمَّ تَأتِي السُّنَّةُ بِتَفَاصِيلِهَا، وَبِبَيَانِ مُجْمَلِهَا، وَبِتَفْسِيرِ وَشَرحِ مَا أُجْمِلَ فِيهَا، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ عَلَاقَةِ السُّنَّةِ بِالكِتَابِ العَزِيزِ.

فَلَوْ أَنَّ اللَّهَ –تَبَارَكَ وَتَعَالَى- حَفِظَ هَذَا المُبَيَّنَ –وَهُوَ الكِتَابُ العَزِيزُ-، وَلَمْ يَحفَظِ المُبَيِّنَ –وَهُوَ السُّنَّةُ الشَّرِيفَةُ-؛ لَأَحَالَنَا عِندَمَا يَأْمُرُنَا فِي المُبَيَّنِ –وَهُوَ القُرآن- عَلَى مَا لَا يُوثَقُ بِهِ، أَوْ عَلَى مَا هُوَ مَعْدُومٌ إِنْ لَمْ يَحفَظِ السُّنَّةَ كَمَا حَفِظَ القُرآنَ؛ وَهَذَا يَسْتَحِيلُ شَرْعًا وَعَقْلًا؛ إِذْ كَيفَ نَتَعَبَّدُ بشَيْءٍ وَقَد أُزِيلَ مِنَ الوُجُودِ تَمَامًا، أَوْ إِذَا كَانَ وُجُودُهُ وُجُودًا شَكْلِيًّا فَاقِدًا لِلقِيمَةِ؟!!

إِنَّ فِقْدَانَ الشَّارِحِ المُبَيِّنِ بِكَامِلِهِ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ فِقْدَانُ أَكثَرِ المُبَيَّنِ المَشْرُوحِ؛ لِأَنَّ بَيَانَهُ وَشَرحَهُ يَكُونُ مُتَوَقِّفًا غَالِبًا عَلَى الشَّارِحِ المُبَيِّنِ.

وَمِنَ المَعلُومِ أَنَّهُ لَا نِزَاعَ فِي أَنَّهُ قَد جَاءَ فِي الكِتَابِ آيَاتٌ تَدُلُّ عَلَى حُجِّيَّةِ السُّنَّةِ، فَهِيَ -بِهَذَا المَعْنَى- فَرْعٌ عَنْهُ فَرْعِيَّةَ المَدلُولِ عَلَى الدَّالِّ؛ وَلَكِنَّ هَذَا لَا يَسْتَلْزِمُ تَأَخُّرَهَا عَنهُ فِي الاعتِبَارِ وَالاحْتِجَاجِ بِهِ، بَلْ يُوجِبُ المُسَاوَاةَ.

فَإِنَّ إِهدَارَهَا –أَيِ: السُّنَّةَ- لِلمُحَافَظَةِ عَلَى ظَاهِرِ آيَةٍ مُعَارِضَةٍ لَهَا يُوجِبُ إِهدَارَ الآيَاتِ الَّتِي نَصَّتْ عَلَى حُجِّيَّتِهَا، فَنَكُونُ -حِينَئذٍ- قَدْ فَرَرْنَا مِنْ إِهْدَارِ آيَةٍ -بَلْ مِنْ عَدَمِ المُحَافَظَةِ عَلَى ظَاهِرِهَا- إِلَى إِهدَارِ آيَاتٍ أُخْرَى كَثِيرَةٍ تَدُلُّ بِمَجمُوعِهَا دَلَالَةً قَاطِعَةً عَلَى حُجِّيَّةِ جَمِيعِ مَا يَصْدُرُ مِنهُ ﷺ.

وَلَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ الفَرْعِيَّةَ تَستَلْزِمُ تَأَخُّرَ الفَرعِ عَنِ الأَصلِ فِي الاعْتِبَارِ؛ فَلَا نُسَلِّمُهُ عَلَى عُمُومِهِ، بَلْ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِذَلِكَ الفَرْعِ إِلَّا ذَلِكَ الأَصْلُ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ لَهُ أَصْلٌ آخَرُ يَستَقِلُّ بِإِثبَاتِ حُجِّيَّتِهِ فَلَا اسْتِلْزَامَ، وَحُجِّيَّةُ السُّنَّةِ لَا يَتَوَقَّفُ إِثْبَاتُهَا عَلَى الكِتَابِ، بَلْ يَكْفِي فِي إِثْبَاتِ حُجِّيَّةِ جَمِيعِ مَا يَصدُرُ مِنهُ ﷺ عِصْمَتُهُ الثَّابِتَةُ بِمُعْجِزَاتٍ كَثِيرَةٍ غَيرِ القُرآنِ شَاهَدَهَا الصَّحَابَةُ، وَتَوَاتَرَ إِلَينَا القَدْرُ المُشتَرَكُ مِنهَا.

لَا بُدَّ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى السُّنَّةِ؛ لِفَهْمِ عَدِيدٍ مِنَ الأَحْكَامِ، وَكُلُّ دَارِسٍ لِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ ﷺ -وَلَا سِيَّمَا آيَاتُ الأَحكَامِ وَأَحَادِيثُ الأَحكَامِ- يُدْرِكُ تَمَامَ الإِدرَاكِ أَنَّ لِلسُّنَّةِ دَوْرًا هَامًّا لَا يُسْتَهَانُ بِهِ فِي بَيَانِ الأَحكَامِ المُجْمَلَةِ فِي القُرآنِ الكَرِيمِ؛ هِيَ الَّتِي تُقَيِّدُ المُطْلَقَ، وَتُخَصِّصُ العَامَّ، وَتُبَيِّنُ المُجْمَلَ، وَتُوَضِّحُ المُشْكِلَ.

وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ -تَعَالَى- بإِقَامَةِ الصَّلَاةِ –وَهِيَ الرُّكْنُ الثَّانِي مِنْ أَركَانِ الإِسْلَام-، فَقَالَ تَعَالَى ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ [البقرة: 43]؛ فَكَيْفَ إِقَامَتُهَا؟

السُّنَّةُ وَحْدَهَا هِيَ الَّتِي تُجِيبُ عَنْ هَذَا السُّؤالِ.

وَكَذَلِكَ وَرَدَ فِي الكِتَابِ العَزِيزِ الأَمْرُ بِالزَّكَاةِ إِجمَالًا دُونَ تَفْصِيلٍ وَبَيَانٍ؛ فَقَالَ تَعَالَى ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ [البقرة: 43]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾ [الأنعام: 141]، وَتَوَلَّتِ السُّنَّةُ بَيَانَ الأَموَالِ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ، وَبَيَانَ الأَنْصِبَةِ، وَالمِقدَارِ المَأخُوذِ مِنْ كُلِّ نِصَابٍ، إِلَى آخِرِ البَيَانِ الشَّامِلِ لهَذَا الرُّكنِ العَظِيمِ.

كَمَا بَيَّنَتِ السُّنَّةُ مِقدَارَ صَدَقَةِ الفِطرِ وَمُسْتَحِقِّيهَا، وَبَيَّنَتِ السُّنَّةُ أَحكَامَ الصِّيَامِ، وَسُنَنَهُ، وَمَكْرُوهَاتِهِ، وَمُبْطِلَاتِهِ، وَالقَضَاءَ وَالكَفَّارَةَ، وَالرُّخَصَ وَأَهْلَهَا، وَغَيرَ ذَلِكَ مِنْ أَحكَامِ هَذَا الرُّكْنِ العَظِيمِ، وَبَيَّنَتِ السُّنَّةُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالمَنَاسِكِ، وَالبُيُوعِ، وَالحُدُودِ، وَغَيرِهَا.

*وَأَمَّا بَيَانُ السُّنَّةِ لِلقُرآنِ: فَيَأتِي عَلَى وُجُوهٍ مُختَلِفَةٍ وَطُرُقٍ مُتَنَوِّعَةٍ؛ فَمِنْ ذَلِكَ:

-بَيَانُ مُجْمَلِهِ؛ فَالصَّلَاةُ فِي قَولِهِ تَعَالَى ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ لَفْظٌ مُجْمَلٌ لَا يُفهَمُ مِنهُ مَا كَيفِيَّةُ الصَّلَاةِ؟ وَمَا أَوْقَاتُهَا؟ وَمَا عَدَدُ رَكَعَاتِهَا؟ وَمَا شُرُوطُهَا؟ وَمَا أَركَانُهَا؟

وَقَد بَيَّنَتِ السُّنَّةُ كُلَّ هَذَا بِفِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَبِقَوْلِهِ؛ فَالكِتَابُ مُجْمَلٌ، وَالسُّنَّةُ مُفَصِّلَةٌ لَهُ؛ كَالأَحَادِيثِ الوَارِدَةِ فِي بَيَانِ مَا أُجْمِلَ ذِكرُهُ مِنَ الأَحكَام، إِمَّا بِحَسَبِ كَيْفِيَّاتِ العَمَلِ، أَوْ أَسبَابِهِ، أَوْ شُرُوطِهِ، أَوْ مَوَانِعِهِ، أَوْ لَوَاحِقِهِ، أَوْ مَا أَشْبَه ذَلِكَ.

فَبَيَانُهَا لِلصَّلَوَاتِ عَلَى اخْتِلَافِهَا فِي مَواقِيتِهَا، وَرُكُوعِهَا، وَسُجُودِهَا، وَسَائرِ أَحْكَامِهَا، وَبَيَانُهَا لِلزَّكَاةِ فِي مَقَادِيرِهَا، وَأَوْقَاتِهَا، وَأَنْصِبَةِ الأَموَالِ المُزَكَّاةِ، وَبَيَانُ أَحكَامِ الصَّوْمِ مِمَّا لَا نَصَّ عَلَيهِ فِي القُرآنِ، وَكَذَلِكَ أَحكَامُ الحَجِّ، وَالذَّبَائِحِ، وَالأَنْكِحَةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا، وَالبِيُوعِ وَأَحْكَامِهَا، وَالجِنَايَاتِ مِنَ القَصَاصِ وَغَيرِهِ مِمَّا وَقَعَ بَيَانًا لِمَا أُجْمِلَ فِي القُرآنِ، وَهُوَ الَّذِي يَظهَرُ دُخُولُهُ تَحتَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ [النحل: 44].

فَالَّذِي نُزِّلَ إِلَيهِم: إِنَّمَا يَذْهَبُ إِلَى الكِتَابِ العَزِيزِ المُنَزَّلِ عَلَى قَلْبِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَهُنَاكَ مَا يُبَيِّنُهُ، وَهُوَ سُنَّةُ النَّبِيِّ ﷺ، وَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي الذِّكْرِ ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾.

فَالسُّنَّةُ تُبَيِّنُ هَذَا المُجْمَلَ وَتُوَضِّحُهُ، وَتُخَصِّصُ العَامَّ، وَمِنْ ذَلِكَ: أَنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- أَمَرَ أَنْ يَرِثَ الأَوْلَادُ الآبَاءَ أَوِ الأُمَّهَاتِ عَلَى نَحْوِ مَا بَيَّنَ فِي قَولِهِ تَعَالَى: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ ۖ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ﴾ [ النساء:11]، فَكَانَ هَذَا الحُكْمُ عَامًّا فِي كُلِّ أَصْلٍ مَوْرُوثٍ، وَكُلِّ وَالِدٍ وَارِثٍ، فَقَصَرَتِ السُّنَّةُ الأَصْلَ المَوْرُوثَ عَلَى غَيْرِ الأَنبِيَاءِ بِقَوْلِهِ ﷺ: «لَا نُورَثُ؛ مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ». وَقَدْ أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ، وَكَذَلِكَ قَصَرَتِ السُّنَّةُ التَّوَارُثَ عَلَى المُسْلِمِ دُونَ الكَافِرِ؛ لِقَوْلِهِ ﷺ: «لَا يَرِثُ المُسْلِمُ الكَافِرَ، وَلَا يَرِثُ الكَافِرُ المُسْلِمَ». وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

-وَالسُّنَّةُ -أَيضًا- تُقَيِّدُ مُطْلَقَ القُرْآنِ: كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا﴾ [المائدة 28]؛ فَإِنَّ قَطْعَ اليَدِ لَمْ يُقَيَّدْ فِي الآيَةِ لِمَوْضِعٍ خَاصٍّ؛ وَلَكِنَّ السُّنَّةَ قَيَّدَتْهُ بِكَوْنِهِ مِنَ الرُّسْغِ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ [الحج: 29] يُوجِبُ الطَّوَافَ مُطْلَقًا؛ وَلَكِنَّ السُّنَّةَ الفِعْلِيَّةَ قَيَّدَتْهُ بِالطَّهَارَةِ.

-وَكَذَلِكَ السُّنَّةُ تُبَيِّنُ المُشْكِلَ مِنَ القُرْآنِ؛ مِنْ ذَلِكَ: أَنَّهُ لَمَّا سَمِعَتْ عَائِشَةُ –رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَوْلَ النَّبيِّ ﷺ: «مَن حُوسِبَ عُذِّبَ» ؛ أَشْكَلَ عَلَيْهَا قَوْلُ اللَّهِ –تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: ﴿فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا﴾ [الانشقاق: 8].

وَنَصُّ الحَدِيثِ كَمَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ ﷺ كَانَتْ لَا تَسْمَعُ شَيْئًا لَا تَعْرِفُهُ إِلَّا رَاجَعَتْ فِيهِ حَتَّى تَعْرِفَهُ، وَأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «مَنْ حُوسِبَ عُذِّبَ».

قَالَتْ عَائِشَةُ: «فَقُلْتُ: أَلَيْسَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا﴾ [الانشقاق: 8]؟)).

قَالَتْ: فَقَالَ: «إِنَّمَا ذَلِكَ الْعَرْضُ، وَلَكِنْ مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ هَلَكَ».

فَهَذَا الَّذِي أَشْكَلَ عَلَيْهَا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ –جَلَّ وَعَلَا- في هَذِهِ الآيَةِ تُبَيِّنُهُ سُنَّةُ رَسُولِ الله ﷺ.

وَالأُمَّةُ مَا زَالَت وَسَتَزَالُ مُتَّفِقَةً عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ النَّبَويَّةَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لَهَا مَقَامٌ مَعْلُومٌ في بَيَانِ الأَحْكَامِ، وَأَنَّهَا حُجَّةٌ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهَا، وَأَنَّهُ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهَا إِذَا ثَبَتَتْ، وَلَا يَجُوزُ الحُكْمُ بِالاجْتِهَادِ وَالرَّأْيِ مَعَ ثُبُوتِهَا، وَأَنَّهَا قَد ثَبَتَت بِهَا الأَحْكَامُ وَلَوْ لَم يَرِدْ بِالأَحْكَامِ كِتَابٌ -يَعْنِي: الكِتَابَ العَزِيزَ-.

وَهِيَ بَيَانٌ لِلقُرْآنِ وَتَفْسِيرٌ لَهُ، وَهِيَ مُفَصِّلَةٌ لِمَا أُجمِلَ فِيهِ، وَهَذِهِ المَعَانِي كُلُّهَا مَحَلُّ إِجْمَاعٍ عِنْدَ مَنْ يُعْتَدُّ بِأَقْوَالِهِم، وَلَا يُعْلَمُ أَحَدٌ شَذَّ عَنْ هَذِهِ القَاعِدَةِ إِلَّا الزَّنَادِقَةَ وغُلاةَ الرَّافِضَةِ الَّذِينَ لَا عِبْرَةَ بِخِلَافِهِم، وَلَا يَتَأَثَّرُ الإِجْمَاعُ بِمُخَالَفَتِهِم؛ بَلْ لَا يُسْتَشَارُونَ إِذَا حَضَرُوا، وَلَا يُسْأَلُ عَنْهُم إِذَا غَابُوا؛ لِأنَّهُم فَارَقُوا جَمَاعَةَ المُسْلِمِينَ وَنَابَذُوهُم، واتَّبَعُوا غَيْرَ سَبِيلِ المُؤمنينَ بِمَوَاقِفِهِمُ العَدَائيَّةِ لأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَقَد أَدَّى بِهِم ذَلِكَ إِلَى رَدِّ أَحَادِيثِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ؛ بِدَعْوَى أَنَّهَا رِوَايَةُ قَوْمٍ كَافِرِينَ، وَمِنْ بَابِ المُرَاوَغَةِ وَالمَكْرِ قَالُوا: نَحْنُ نَعْمَلُ بِالقُرْآنِ وَنَقْتَصِرُ عَلَيْهِ، وَهَذَا كَلَامٌ لَا يَرُوجُ عِندَ أُولِي النُّهَى مِن طُلَّابِ العِلْمِ وَأَهْلِ الإِيمَانِ.

قَالَ السُّيُوطِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: «ومِنَ الثَّابِتِ المَقْطُوعِ بِهِ، الَّذِي لَا يَسَعُ المُؤمِنَ بِحَالٍ إِنْكَارُهُ، وَلَا التَّرَدُّدُ في ثُبُوتِهِ: أَنَّ كُلًّا مِنَ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَحْيٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَدَلِيلٌ عَلَى حُكْمِ اللهِ؛ بَل مَا مِنْ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ عُرِفَ أَوْ يُعرفُ إِلَّا مِنْ طَرِيقِهِمَا، أَو عَنْ طَرِيقِ الأَدِلَّةِ ثَبَتَت حُجِّيَّتُهَا بِهَا، فَلَيْسَ بِعَجِيبٍ أَنْ قَد وَجَدْنَا أنَّ اللهَ –جلَّ ثَنَاؤُهُ- قَدْ تَكَفَّلَ بحِفْظِ الشَّرِيعَةِ كُلِّهَا؛ كِتَابِهَا وسُنَّتِهَا، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ [التوبة: 32]، فَنُورُ اللهِ: شَرْعُهُ وَدِينُهُ الَّذِي ارْتَضَاهُ لِلْعِبَادِ وكَلَّفَهُم بِهِ، وَضَمَّنَهُ مَصَالِحَهُم، وَالَّذِي أَوْحَاهُ إِلَى رَسُولِهِ مِنْ قُرْآنٍ أَوْ غَيْرِهِ؛ لِيَهْتَدُوا بِهِ إِلَى مَا فِيهِ خَيْرُهُمْ وَسَعَادَتُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ».

فاللهُ رَبُّ العَالَمِينَ تَكَفَّلَ بحِفْظِ القُرْآنِ المَجِيدِ، وَكَذَا تَكَفَّلَ بحِفْظِ سُنَّةِ رَسُولِ الله ﷺ.

وَقَد قَالَ الشَّافِعيُّ الإمامُ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي «الرِّسَالَةِ» فِي صَدَدِ الْكَلَامِ على لِسَانِ العَرَبِ: «وَلِسَانُ الْعَرَبِ أَوْسَعُ الْأَلْسِنَةِ مَذْهَبًا، وَأَكْثَرُهَا أَلْفَاظًا، وَلَا نَعْلَمُهُ يُحِيطُ بِجَمِيعِ عِلْمِهِ إنْسَانٌ غَيْرُ نَبِيٍّ؛ وَلَكِنَّهُ لَا يَذْهَبُ مِنْهُ شَيْءٌ عَلَى عَامَّتِهَا حَتَّى لَا يَكُونَ مَوجُودًا فِيهَا مَنْ يَعْرِفُه، وَالْعِلْمُ بِهِ عِنْدَ العَرَبِ كَالْعِلْمِ بِالسُّنَّةِ عِنْدَ أَهْلِ الْفِقْهِ، لَا نَعْلَمُ رَجُلًا جَمَعَ السُّنَنَ؛ فَلَمْ يَذْهَبْ مِنْهَا عَلَيْهِ شَيْءٌ، فَإِذَا جَمَعَ عِلْمَ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِهَا أتي عَلَى السُّنَنِ، وَإِذَا فُرِّقَ عِلْمُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ذَهَبَ عَلَيْهِ الشَّيْءُ مِنْهَا، ثُمَّ كانَ ما ذَهَبَ عَلَيْهِ مَوْجُودًا عِنْدَ غَيْرِهِ، وَهُم في العِلْمِ طَبَقَاتٌ؛ مِنْهُمُ الجَامِعُ لأَكْثَرِهِ وإنْ ذَهَبَ عَلَيْهِ بَعْضُهُ، وَمِنْهُمُ الجَامِعُ لأَقلَّ مِمَّا جَمَعَ غَيْرُهُ.

وَلَيْسَ قَلِيلُ مَا ذَهَبَ مِنَ السُّنَّةِ عَلَى مَنْ جَمَعَ أَكْثَرَهَا دَلِيلًا عَلَى أنْ يُطْلَبَ عِلْمُهُ عِنْدَ غَيْرِ طَبَقَتِهِ مِن أَهْلِ العِلْمِ، بَل يُطْلَبُ عِنْدَ نُظَرَائِهِ مَا ذَهَبَ عَلَيْهِ؛ حَتَّى يُؤتَى عَلَى جَمِيعِ سُنَنِ رَسُولِ اللهِ ﷺ -بِأَبِي هُوَ وَأُمِّي وَنَفْسِي-، فَيَتَفَرَّدُ جُمْلَةُ العُلَمَاءِ بِجَمْعِهَا، وَهُم دَرَجَاتٌ فِيمَا وَعَوْا مِنْهَا.

وَكَمَا أَنَّ اللهَ قَيَّضَ لِلْكِتَابِ العَزِيزِ العَدَدَ الكَثيرَ وَالجَمَّ الغَفِيرَ مِنْ ثِقَاتِ الحَفَظَةِ فِي كلِّ قَرْنٍ ليَنْقُلُوهُ كَامِلًا مِنَ السَّلَفِ إِلَى الخَلَفِ؛ كَذَلِكَ قَيَّضَ -سُبْحَانَهُ- للسُّنَّةِ الشَّرِيفَةِ مِثْلَ هَذَا العَدَدِ أَوْ أَكْثَرَ مِن ثِقَاتِ الحَفَظَةِ، فَقَصَرُوا أَعْمَارَهُم -وَهِيَ الطَّوِيلَةُ- عَلَى البَحْثِ والتَّنْقِيبِ عَن الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، يَنْقُلُونَهُ عَمَّن كَانَ مِثْلَهُمْ فِي الثِّقَةِ وَالعَدَالَةِ إلى أنْ يَصِلُوا إِلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَتَسْلِيمَاتُهُ-، حَتَّى مَيَّزُوا لَنَا الصَّحِيحَ مِنَ السَّقِيمِ، وَنَقَلُوهُ إِلَيْنَا سَلِيمًا مِن كلِّ شَائِبَةٍ، عَارِيًا مِن كلِّ شَكٍّ وَشُبْهَةٍ، وَاسْتَقَرَّ الأَمْرُ، وَأَسْفَرَ الصُّبْحُ لِذِي عَيْنَيْنِ.

ولأنَّ اللهَ -تَعَالَى- قَد حَفِظَ سُنَّةَ رَسُولِهِ كَمَا حَفِظَ القُرْآنَ، وَجَعَلَهَا حِصْنَهُ وَدِرْعَهُ، وَحَارِسَهُ وَشَارِحَهُ؛ كَانَتِ الشَّجَى فِي حُلُوقِ المُلْحِدِينَ، وَالقَذَى في عُيونِ المُتَزَنْدِقينَ، وَالسَّيْفَ القَاطِعَ لِشُبَهِ المُنَافِقِينَ، وَتَشْكِيكَاتِ الكَائِدِينَ.

فَلَا غَرْوَ إِذَ لَم يَأْلُوا جُهْدًا، وَلَمْ يَدَّخِرُوا وُسْعًا في الطَّعْنِ في حُجِّيَّتِهَا، والتَّهْوِينِ مِن أَمْرِهَا، والتَّنْفِيرِ مِنَ التَّمَسُّكِ بِهَا، والاهْتَدَاءِ بِهَدْيِهَا؛ لِيَنَالُوا مِنَ القُرْآنِ مَا يُرِيدُونَ، وَمِن هَدْمِ الدِّينِ مَا يَنْشُدُونَ، ﴿وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ [التوبة: 32]».

قالَ البَيْهَقِيُّ: «وَلَوْلَا ثُبُوتُ الحُجَّةِ بِالسُّنَّةِ لَمَا قَالَ ﷺ في خُطْبَتِهِ بَعْدَ تَعْلِيمِ مَنْ شَهِدَهُ أَمْرَ دِينِهِمْ: «أَلَا فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الغَائِبَ؛ فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ثُمَّ أَوْرَدَ البَيْهَقيُّ حَدِيثَ: «نَضَّرَ اللهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَأَدَّاهُ كَمَا سَمِعَهُ؛ فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ».

قَالَ السُّيُوطِيُّ: «وَهَذا الحَدِيثُ مُتَوَاتِرٌ كَمَا سَأُبَيِّنُهُ».

قَالَ الشَّافِعيُّ: «فَلَمَّا نَدَبَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِلَى اسْتِمَاعِ مَقَالَتِهِ، وَحِفْظِهَا، وَأَدَائِهَا؛ نَدَبَ إِلَى ذَلِكَ امْرَأً يُؤَدِّيهَا، وَقَالَ ﷺ: «فَأَدَّاهُ كَمَا سَمِعَهُ»؛ فَقَد أَقَامَ بِذَلِكَ الحُجَّةَ عَلَى مَنْ أُدِّيَ إِلَيْهِ؛ لأنهُ إِنَّمَا يُؤَدَّى عَنْهُ حَلَالٌ يُؤْتَى، وَحَرَامٌ يُجْتَنَبُ، وَحَدٌّ يُقَامُ، وَمَالٌ يُؤْخَذُ وَيُعْطَى، وَنَصِيحَةٌ فِي دِينٍ وَدُنْيَا».

ثُمَّ أَوْرَدَ البَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ -وَهَذَا مِنْ دَلَائِلِ نُبُوَّتِهِ-: «لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ، يَأْتِيهِ الأَمْرُ مِنْ أَمْرِي مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ، يَقُولُ: لَا أَدْرِي! مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَاهُ». أَخْرَجَهُ أَبُو دَاودَ، وَالحَاكِمُ، وَأَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.

وَمِنْ حَدِيثِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبٍ أَنَّ النَّبيَّ ﷺ حَرَّمَ أَشْيَاءَ يَوْمَ خَيْبَرَ، مِنْهَا الْحِمَارُ الأَهْلِيُّ وَغَيْرُهُ ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «يُوشِكُ أَنْ يَقْعُدَ الرَّجُلُ مِنْكُمْ عَلَى أَرِيكَتِهِ يُحَدَّثُ بِحَدِيثِي، فَيَقُولُ: بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ، مَا وَجَدْنَاهُ فِيهِ مِنْ حَلَالٍ اسْتَحْلَلْنَاهُ، وَمَا وَجَدْنَاه فِيهِ مِنْ حَرَامٍ حَرَّمْنَا، أَلَا وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ كَمَا حَرَّمَ اللَّهُ». أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَابْنُ مَاجَه، وَالحَدِيثُ صَحِيحٌ».

قَالَ البَيْهَقِيُّ: «وَهَذَا خَبَرٌ مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ عَمَّا يَكُونُ بَعْدَهُ مِنْ رَدِّ المُبْتَدِعَةِ حَدِيثَهُ؛ فوُجِدَ تَصْدِيقُهُ فِيمَا بَعْدُ.

السُّنَّةُ تَنْزِلُ عَلَى النَّبِيِّ بِالوَحْي ﷺ، يَقُولُ: «أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ القُرآنَ ومِثْلَهُ مَعَهُ –يَعْنِي: السُّنَّةَ-»، إِلَّا أَنَّهَا لَا تُتْلَى كَمَا يُتْلَى القُرآنُ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ الإِمَامُ الشَّافِعِيُّ –رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- وَغَيْرُهُ مِنَ الأَئِمَّةِ عَلَى ذَلِكَ بِأَدِلَّةٍ كَثِيرَةٍ، وَقَد مَرَّ حَدِيثُ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبٍ –رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ-».

فَيَنْبَغِي عَلَيكُم -أَيُّهَا المُسْلِمُونَ- أَنْ تَتَمَسَّكُوا بِسُنَّةِ نَبِيِّكُم ﷺ، وَأَنْ تُشَارِكُوا فِي مَعْرِفَةِ الْجُهْدِ الَّذِي بَذَلَهُ حَمَلَةُ مِيرَاثِ النُّبُوَّةِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحسَانٍ؛ فَإِنَّهُ جُهْدٌ لَا نَظِيرَ لَهُ عِنْدَ أُمَّةٍ مِنَ الأُمَمِ.

وَالعِلْمُ الَّذِي ضَبَطَ لَنَا الرِّوَايَةَ بِأُصُولِهَا وَقَوَاعِدِهَا لَا وُجُودَ لَهُ عِندَ أُمَّةٍ مِنْ أُمَمِ الأَرْضِ مُنْذُ خَلَقَ اللَّهُ –تَبَارَكَ وَتَعَالَى- النَّاسَ إِلَى أَنْ يَرِثَ اللَّهُ الأَرضَ وَمَنْ عَلَيْهَا.

هَذَا عِلْمٌ نَفْخَرُ بِهِ، وَنَتَشَرَّفُ بِحَمْلِهِ، ثُمَّ يَأْتِي أُولَئِكَ الصَّعَالِيكُ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُشَكِّكُوا فِيهِ بِغَيرِ أثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ، وَإِنَّمَا هُوَ لَغْوٌ مِنَ اللَّغْوِ، يُحْسِنُهُ الأَطفَالُ أَوْ لَا يُحْسِنُونَهُ، وَلَكِنْ لَيْسَ العَيْبُ عَلَيْهِمْ؛ العَيْبُ عَلى مَنْ مَكَّنَهُم مِنْ أَسْمَاعِ عَوَامِّ المُسلِمِينَ يُلْقُونَ الشُّبُهَاتِ، مِنْ أَجْلِ أَنْ تَنْدَفِقَ مَسْكُوبَةً كَالسُّمِّ القَاتِلِ إِلَى قُلُوبِهِم!!

فَيَنْبَغِي عَلَى كُلِّ مَنْ آتَاهُ اللَّهُ –تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وِلَايَةً أَنْ يَحْجُرَ عَلَى هَؤلَاءِ فِي كَلامِهِم وَشُبُهَاتِهِم، وَهُوَ أَهَمُّ –أَيْ: هَذَا الحَجْرُ- مِنَ الحَجْرِ الصِّحِّيِّ لِلأَوْبِئَةِ الفَتَّاكَةِ؛ لِأَنَّ الأَوْبِئَةَ الفَتَّاكَةَ الَّتِي يُحْجَرُ عَلَى مَنْ حَمَلَ جَرَاثِيمَهَا إِنَّمَا تُصِيبُ الأَبْدَانَ، وَقَدْ تَصِيرُ هَذِهِ الأَرْوَاحُ الَّتِي تُصَابُ أَبْدَانُهَا إِلَى الجَنَّةِ؛ كَالمَطْعُونِ -مَثَلًا-، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ الطَّاعُونَ إِذَا نَزَلَ بِمَكَانٍ؛ يَحْرُمُ عَلَى مَنْ كَانَ فِيهِ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ، وَعَلَى مَنْ كَانَ خَارِجَهُ أَنْ يَدْخُلَهُ، وَهَذَا أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الحَجْرِ الصِّحِّيِّ فِي أَمْرٍ يَتَعَلَّقُ بِإِصَابَةِ بَدَنٍ، ثُمَّ يَصِيرُ مَنْ صَبَرَ إِلَى الجَنَّةِ وَنِعْمَ القَرَارُ؛ فَالمَطْعُونُ فِي الجَنَّةِ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ.

فَكَيْفَ بِإِصَابَةِ القُلُوبِ؟!!

فَكَيْفَ بِإِصَابَةِ أُمُورِ الآخِرَةِ؟!!

فَكَيْفَ بِجَرِّ المُسْلِمِينَ بَلْ سَوْقِ المُسْلِمِينَ سَوْقًا إِلَى النَّارِ وَبِئْسَ القَرَارُ؟!!

بِتَشْكِيكِهِمْ فِي مَوْرُوثِهِم، فِي عَقِيدَتِهِمُ الَّتِي تُبَدَّلُ جَهَارًا نَهَارًا!!

وَلَا يُمَكَّنُ أَحَدٌ، لَا المُؤسَّسَةُ الدِّينِيَّةُ الرَّسْمِيَّةُ مِنْ أَنْ تَعْتَرِضَ اعْتِرَاضًا صَرِيحًا، لَا تُمَكَّنُ مِنْ أَنْ تَأْخُذَ عَلَى أَيْدِي هَؤلَاءِ بحُجَّةِ حُرِّيَّةِ الرَّأْيِ!!

حُرِّيَّةُ الرَّأيِ فِيمَا يَخُصُّهُم، أَمَّا فِيمَا يَخُصُّ المُسْلِمِينَ المُؤمِنِينَ المُتَّقِينَ، وَيَخُصُّ عُلَمَاءَهُم؛ فَإِنَّهُ لَا حُرِّيَّةَ لِلرَّأْيِ -حِينَئذٍ-.

يَعْنِي: إِذَا وَقَفَ نَائِبٌ تَحْتَ قُبَّةِ البَرْلَمَان؛ لِكَيْ يَقُولَ: إِنَّ أَدَبَ نَجِيب مَحفُوظ يَخدِشُ الحَيَاءَ؛ تَقُومُ الدُّنيَا وَلَا تَقْعُد!!

وَأَمَّا إِذَا مَا ظَهَرَ رَجُلٌ فِي فَضَائِيَّةٍ مِنَ الفَضَائِيَّاتِ، يَرَاهُ وَيَسْمَعُهُ مَلَايِينُ المَلَايِينِ مِنَ البَشَرِ، ثُمَّ يَطْعَنُ فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ؛ تَارَةً بِالكَذِبِ، وَتَارَةً بِالفُجُورِ، وَتَارَةً بِالأَثَرَةِ وَحُبِّ الظُّهُورِ، إِلَى غَيرِ ذَلِكَ مِمَّا يَقُولُونَ، وَيَطْعَنُ فِي أَئِمَّتِنَا الَّذِينَ هُمُ السُّرُجُ المُنِيرَةُ بِاللَّيْلِ؛ هَؤلَاءِ لَا كَرَامَةَ لَهُمْ!! مَعَ أَنَّ خَدْشَ الحَيَاءِ لَا يُسَاوِي شَيْئًا بِمُقَابِلِ الاتِّهَامِ بِالكَذِبِ وَالفُجُورِ وَهُوَ مُبَطَّنُ الكُفْرِ.

فَأَيُّ شَيْءٍ هَذَا؟!!

هَذَا يَدْعُو إِلَى التَّطَرُّفِ، وَيَسُوقُ الشَّبَابَ سَوْقًا إِلَى التَّعبِيرِ عَمَّا لَا يَستَطِيعُونَ دَفْعَهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ إِلَى التَّعبِيرِ بِدَفْعِهِ بِأَسْلِحَتِهِمْ وَأَيْدِيهِمْ، وَهَذَا هُوَ مَكْمَنُ الخَطَرِ!!

وَهَؤلَاءِ الَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ فِي دِينِ اللَّهِ وَتُرَاثِ الأُمَّةِ بِغَيْرِ عِلْمٍ؛ هَؤلَاءِ هُمْ أَكْبَرُ الدَّاعِينَ إِلَى التَّطَرُّفِ وَالتَّكفِيرِ وَالإِرهَابِ، هَؤلَاءِ يَتَحَمَّلُونَ وِزْرَ الدِّمَاءِ -عَلَيْهِم مِنَ اللَّهِ مَا يَسْتَحِقُّونَهُ-.

لَقَدْ وَصَلَ الأَمْرُ بِـ (القُرآنِيِّين) -وَهُمُ الوَجْهُ المُقَابِلُ لِلْعَلْمَانِيِّينَ وَالمَارْكِسِيِّينَ وَالزَّنَادِقَةِ المُجرِمِينَ-؛ وَصَلَ بِهِمُ الأَمْرُ إِلَى رَفْعِ دَعْوَى عَلَى شَيْخِ الأَزْهَرِ وَالمُؤسَّسَةِ الأَزْهَرِيَّةِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ تُخْرِجَ أُصُولَ البُخَارِيِّ وَمُسْلِم!!

وَصَدَرَ الحُكْمُ بِإِلْزَامِ شَيْخِ الأَزْهَرِ بِإِبْرَازِ وَإِخْرَاجِ أُصُولِ البُخَارِيِّ وَمُسْلِم؛ وَإِلَّا فَهَذَا مِنَ الأَكَاذِيب!!

إِلَى هَذَا الحَدِّ يُشَكَّكُ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ؟!!

إِلَى هَذَا الحَدِّ يُطْعَنُ فِي البُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ؟!!

إِلَى هَذَا الحَدِّ لَا يُوثَقُ بِالمُؤسَّسَةِ الدِّينِيَّةِ الرَّسمِيَّةِ عِنْدَمَا تَقُولُ؟!!

مَا هَذَا؟!!

قَالَ الرَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي المَعْرَكَةِ الَّتِي شَبَّتْ نِيرَانُهَا مُنْذُ أَكثَرَ مِنْ مِائَةِ عَامٍ، قَالَ -وَهُوَ يَتَكَلَّمُ عَنِ الْمِيرَاثِ العَرَبِيِّ-: «كَانَ أَبُو خَالِدٍ النُّمَيْريُّ فِي القَرْنِ الثَّالِثِ لِلهِجْرَةِ، وَكَانَ يَنْتَحِلُ الأَعرَابِيَّةَ، وَيَتَجَافَى فِي أَلفَاظِهِ، وَيَتَبَادَى فِي كَلَامِهِ، وَيَذْهَبُ المَذَاهِبَ المُنْكَرَةَ فِي مَضْغِ الكَلَامِ وَالتَّشَدُّقِ بِهِ؛ لِيَتَحَقَّقَ أَنَّهُ أَعرَابِيٌّ وَمَا هُوَ بِهِ، وَإِنَّمَا وُجِدَ وَنَشَأَ بِالبَصْرَةِ!!

قَالُوا: فَخَرَجَ إِلَى البَادِيَةِ، فَأقَامَ بِهَا أَيَّامًا يَسِيرَةً، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى البَصْرَةِ فَرَأَى المَيَازِيبَ عَلَى سُطُوحِ الدُّورِ، فَأَنْكَرَهَا وَقَالَ: مَا هَذِهِ الخَرَاطِيمُ الَّتِي لَا نَعْرِفُهَا فِي بِلَادِنَا؟!

فَهَذَا طَرَفٌ مِنَ العَرَبِيَّةِ يُقَابِلُهُ التَّارِيخُ فِي زَمَانِنَا، هَذَا بِطَرَفٍ آخَرَ مِنْ جَمَاعَةٍ قَدْ رُزِقُوا اتِّسَاعًا فِي الكَلَامِ إِلَى مَا يَفُوتُ حَدَّ العَقْلِ أَحْيَانًا، وَوُهِبُوا طَبْعًا زَائِغًا فِي انْتِحَالِ المَدَنِيَّةِ الغَربِيَّة إِلَى مَا يَتَخَطَّى العِلَلَ وَالمَعَاذِيرَ، وَرَأَوْا أَنفُسَهُم أَكبَرَ مِنْ دَهْرِهِم، وَدَهْرَهُمْ أَصْغَرَ مِنْ عَقْلِهِم، فَتَعْرِفُ مِنهُم أَبَا خَالِدٍ الفَرَنْسِيَّ، وَأبَا خَالِدٍ الإِنْجِلِيزِيَّ، وَأَبَا خَالِدٍ الأَمْرِيكِيَّ، وَغَيرَهُم مِمَّنْ أَجَازُوا إِلَى فَرَنْسَا وَانْجِلْتِرَا وَأَمِرِيكَا، فَأَقَامُوا بِهَا مُدَّةً، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى بِلَادِهِمْ وَمَنْبَتِهِمْ يُنكِرُونَ المِيرَاثَ العَرَبِيَّ بِجُمْلَتِهِ؛ فِي لُغَتِهِ وَعُلُومِهِ وَآدَابِهِ، وَيَقُولُونَ: مَا هَذَا الدِّينُ القَدِيمُ؟! وَمَا هَذِهِ اللُّغَةُ القَدِيمَةُ؟! وَمَا هَذِهِ الأَسَالِيبُ القَدِيمَة؟!

وَيَمُرُّونَ جَمِيعًا فِي هَدْمِ أَبْنِيَةِ اللُّغَةِ، وَنَقْضِ قُوَاهَا وَتَفْرِيقِهَا، وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَعْجَزُ النَّاسِ عَنْ أَنْ يَضَعُوا جَدِيدًا، أَوْ يَسْتَحْدِثُوا طَرِيفًا، أَوْ يَبْتَكِرُوا بَدِيعًا، وَإِنَّمَا ذَلِكَ زَيْغُ الطَّبْعِ، وَجُنُونُ الفِكْرِ، وَاْنقِلَابُ النَّفسِ عَكْسًا عَلَى نَشْأتِهَا، حَتَّى صَارَتْ عُلُومُ الأَعَاجِمِ فِيهِم كَالدَّمِ النَّازِلِ إِلَيْهِم مِنْ آبَائِهِمْ وَأَجْدَادِهِمْ، وَصَارَ دُخُولُهُم فِي لُغَةٍ خُرُوجًا مِنْ لُغَة، وَإِيمَانُهُمْ بِشَيْءٍ كُفْرًا بِشَيءٍ غَيْرِهِ، كَأَنَّهُ لَا يَستَقِيمُ الجَمْعُ بَيْنَ لُغَتَيْنِ وَأَدَبَيْن، وَلَا يَسْتَوِي لِأَحَدِهِم أَنْ يَكُونَ شَرْقِيًّا وَإِنْ فِي لِسَانِهِ لُغَةُ لَنْدَن وَبَارِيس!!

وَمِنهُم كُتَّابٌ يَكْتُبُونَ بِالعَرَبِيَّةِ وَيَسْتَرزِقُونَ مِنْهَا، وَأُدَبَاءُ يَبْحَثُونَ فِي آدَابِهَا وَفُنُونِهَا، وَكُلُّهُم مُجِيدٌ مُحْسِنٌ إِلَّا حَيْثُ يَكْتُبُ كَاتِبُهُمْ فِي إِصْلَاحِ الكِتَابَةِ وَيَبْحَثُ بَاحِثُهُم فِي إِصْلَاحِ الأَدَبِ، فَهُنَالِكَ تَرَى أَكثَرَ هَمِّ الأَوَّلِ أَنْ تَسْلَمَ لَهُ عَامِّيَّتُهُ، فَلَا يُنْكَرُ عَلَيهِ ضَعْفٌ وَلَا لَحْنٌ، وَلَا يُهَجَّنُ لَهُ أُسلُوبٌ وَلَا عِبَارَةٌ، وَأَنْ يَكُونَ لَهُ كُلُّ مَا يَعرِضُ لَهُ مِن النَّقْصِ مُعتَبَرًا مِنَ الكَمَالِ العَصْرِيِّ!!

وَتَرَى هَمَّ الثَّانِي أَنْ يُكْرِهَ الآدَابَ العَرَبِيَّةَ عَلَى أَسَالِيبِ غَيْرِهَا، وَيَقْتَسِرَهَا جَرًّا وَتَلْفِيقًا وَتَلْزِيقًا، وَيَبسُطَ فِيهَا المَعَارِيضَ الكَلَامِيَّةَ، فَهَذَا عِنْدَهُ كَذِبٌ لَا دَلِيلَ عَلَيهِ، وَهَذَا مُحَالٌ وَلَا بُرهَانَ فِيهِ، وَهَذَا قَائِمٌ عَلَى الشَّكِّ، وَذَاكَ عَلَى مَا لَا أَدْرِي وَلَا يَدْرِيِ أَحَدٌ!!

قَالَ: حَدَّثَنِي كَاتِبٌ شَهِيرٌ مِنْ هَذِهِ الفِئَةِ، فَكَانَ مِنْ أَعْجَبِ مَا قَالَ: إِنَّ ابْنَ المُقَفَّعِ فَصِيحٌ بَلِيغٌ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَيْسَ بِمُسْلِمٍ وَلَا عَرَبِيٍّ، وَلَا شَأْنَ لَهُ بِالحَدِيثِ وَلَا بِالقُرآنِ وَلَا بِالدِّينِ، وَسَاقَ ذَلِكَ رَدًّا عَلَى مَا قُلْتُهُ مِنْ أَلَّا فَصَاحَةَ وَلَا لُغَةَ إِلَّا بِالحِرْصِ عَلَى القُرآنِ وَالحَدِيثِ وَكُتُبِ السَّلَفِ وَآدَابِهِمْ.

وَلَا أَدْرِي -وَاللَّهِ- كَيْفَ يَفْهَمُ هَذَا وَأَمْثَالُهُ؟! وَلَكِنَّكَ تَتَبَيَّنُ فِي عِبَارَتِهِ مَبْلَغَ الغَفْلَةِ الَّتِي تَعْتَرِي هَذِهِ الفِئَةَ؛ مِنْ نَقْصِ الاطِّلَاعِ، وَضَعْفِ الفِكْرِ، وَبِنَاءِ الأَمْرِ عَلَى بَحْثٍ صَحَافِيٍّ بِلَا تَحْقِيقٍ وَلَا تَنْقِيبٍ، وَتَرَى كَيْفَ يَذْهَبُونَ عَنِ الأَصْلِ الَّذِي يَقُومُ عَلَيهِ الغَرَضُ؛ ثُمَّ يُحَاوِلُونَ أَنْ يُؤَصِّلُوا لَهُ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِمْ وَأَفْهَامِهِمْ.

وَقَدْ تُفْلِحُ الفَلْسَفَةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا فِي تَعْلِيلِ مَا عِلَّتُهُ مَعْرُوفَةٌ، وَهَلْ نَشَأَ ابنُ المُقَفَّعِ إِلَّا عَلَى اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ وَالأَدَبِ العَرَبِيِّ وَالرِّوَايَةِ العَرَبِيَّةِ؟!

وَكَانَ مِنْ أَقْوَى أَسْبَابِ فَصَاحَتِهِ المَشْهُورَةِ؛ أَخْذُهُ هَذِهِ الفَصَاحَةَ وَهَذَا الأُسلُوبَ عَن ثَوْرِ بنِ يَزِيدَ الأَعْرَابِيِّ الَّذِي قَالُوا فِيهِ: إِنَّه كَانَ مِنْ أَفْصَحِ النَّاسِ لِسَانًا!! وَلَكِنْ أَيْنَ مَنْ يُنَقِّبُ عَنْ هَذَا وَنَحْوِهِ فِي تِلْكَ الجَمَاعَةِ، أَوْ يَتَوَهَّمُهُ فَيَقِفُ عَلَى حَدِّهِ؟!!

وَهَلْ عَلِمُوا أَنَّ ابنَ المُقَفَّعِ عَلَى انْصِرَافِهِ إِلَى النَّقْلِ مِنَ الفَارِسِيَّةِ وَاليُونَانِيَّةِ اخْتَارَ يَوْمًا أُسْلُوبَ العَامَّةِ فِي زَمَنِهِ؟!

أَوِ اسْتَجَادَهُ لِلنَّقْلِ وَالتَّرجَمَةِ؟!!

أَوْ خَرَجَ عَلَى الأَدَبِ الَّذِي تَأَدَّبَ بِهِ أَوْ حَاوَلَ فِيهِ مُحَاوَلَةً؟!

أَوْ قَالَ بِوُجُوبِ هَدْمِ القَدِيمِ لِأَنَّهُ لَا يَرَى لِلعَرَبِ مِثْلَ الَّذِي لَا يَعْرِفُ لِليُونَانِ مِنَ العِلْمِ وَالحِكْمَةِ وَالخَيَالِ وَأَسَالِيبِ الحِكَايَةِ الكِتَابِيَّةِ؟!!

أَوْ نَزَلَ بِأُسْلُوبِهِ وَكِتَابَتِهِ مَنْزِلَةَ مَنْ يَمْكُرُ الحِيلَةَ فِي اللُّغَةِ، وَيَكِيدُ لِلأَدَبِ، وَيَتَسَاهَلُ نَفْسَهُ لِغَرَضٍ كَالَّذِي فِي نُفُوسِ هَؤلَاءِ المُجَدِّدِينَ؟!!

قَالَ لِي ذَلِكَ الكَاتِبُ فِي بَعْضِ كَلَامِهِ: إِنَّ المِيرَاثَ العَرَبِيَّ القَدِيمَ الَّذِي وَرِثْنَاهُ يَجِبُ هَدْمُهُ كُلَّهُ وَتَسْوِيَتُهُ بِالعَدَمِ!!

قُلْتُ: أَفَتُحْدِثُ أَنْتَ لِلنَّاسِ لُغَةً وَأَدَبًا وَتَارِيخًا، ثُمَّ طَبَائِعَ مُتَوَارَثَةً تَقُومُ عَلَى حِفْظِ اللُّغَةِ وَالأَدَبِ وَالتَّارِيخ؟!!

أَمْ تَحْسِبُ أَنَّكَ تَسْتَطِيعُ بِمَقَالَةٍ عَرْجَاءَ فِي صَحِيفَةٍ مُقْعَدَةٍ أَنْ تَهْدِمَ شَيْئًا أَنْتَ بَيْنَ أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ كَعُودٍ مِنَ القَشِّ يُؤتَى بِهِ لِاقْتِلَاعِ جَبَلٍ مِنْ أُصُولِهِ؟!!

مِنْ أَيْنَ جَاءَ المِيرَاثُ العَرَبِيُّ؟ وَكَيْفَ اجْتَمَعَ وَتَكَامَلَ إِلَّا مِنَ القَرَائِحِ الَّتِي جَدَّتْ فِي إِبْدَاعِهِ وَإِنْمَائِهِ، وَأَضَافَتْ أَعْمَارَهَا صَفَحَاتٍ فِيهِ، وَاسْتَخْلَصَتْ لَهُ آدَابَ الفُرْسِ وَالهِنْدِ وَاليُونَانِ وَغَيْرِهِم، فَأَعْرَبَت كُلَّ ذَلِكَ لِيَنْدَمِجَ فِي اللُّغَةِ؛ لَا لِتَنْدَمِجَ اللُّغَةُ فِيهِ، وَلِيَكُونَ مِنْ بَعْضِهَا؛ لَا لِتَكُونَ مِنْ بَعْضِهِ، وَلِيَبْقَى بِهَا لَا لِتَذْهَبَ بِهِ؟

مَنْ ذَا الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّ العَرَبَ هُمْ كُلُّ الأَرْضِ، وَأَنَّ آدَابَهُمْ خُلِقَتْ عَلَى الكِفَايَةِ لَا تَحْتَاجُ إِلَى تَحْرِيرٍ أَوْ تَبْدِيلٍ؟!

وَلَكِنْ مَنْ ذَا الَّذِي يَرْضَى أَنْ يَجْعَلَ لِكُلِّ أَرْضٍ عَرَبِيَّةٍ لُغَةً عَرَبِيَّةً قَائمَةً بِنَفْسِهَا، وَلِكُلِّ مِصْرٍ أَدَبًا عَلَى حِيَالِهِ، وَلِكُلِّ طَائفَةٍ مِنَ الكُتَّابِ كِتَابَةً وَحْدَهَا؟!

وَمَنْ ذَا الَّذِي فَعَل ذَلِكَ أَوْ حَاوَلَهُ فِي التَّارِيخِ الإِسلَامِيِّ كُلِّهِ عَلَى طُولِ مَا امْتَدَّ وَتَسَاوَق؟!».

إِنَّ الَّذِينَ يَدْعُونَ إِلَى التَّجدِيدِ يَفْهَمُونَ -فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ- تَجْدِيدَ الخِطَابِ الدِّينِيِّ عَلَى أَنَّهُ تَجدِيدُ الدِّين.. يَفْهَمُونَ تَجدِيدَ الخِطَابِ عَلَى أَنَّهُ تَجْدِيدُ دِينِ اللَّهِ رَبِّ العَالمِين، فَهَذا لَا يُنَاسِبُ العَصْرَ!! وَهَذَا لَا يَتَّسِقُ مَعَ الذَّوْقِ!! وَهَذَا لَا يُوَافِقُ العَقْلَ!! وَهَذَا وَهَذَا...إِلَى غَيرِ ذَلِكَ مِنْ هَذِهِ التُّرُّهَاتِ، وَهَلْ هَذَا دِينٌ؟!!

إِنَّ الدِّينَ أَنْ تَدِينَ، وَمَا أُخِذَ الدِّينُ إِلَّا مِنْ أَنْ تَدِينَ للَّهِ رَبِّ العَالمِينَ، بِمَعْنَى: أَنْ تَكُونَ خَاضِعًا للَّهِ رَبِّ العَالمِينَ وَحْدَهُ، وَالَّذِي يُرَاجِعُ بَعْدَ ذَلِكَ فِيمَا جَاءَ عَنِ اللَّهِ وَثَبَتَ عَنْ رَسُولِهِ؛ إِنَّمَا يُرَاجِعُ إِيمَانَ القِمَّةِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا شَهِدَ أَنَّهُ: لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؛ فَقَدْ آمَنَ بِكُلِّ وَحْيٍ أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَى رَسُولِهِ، فَإِذَا رَاجَعَ بِعَقْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنَّمَا يُرَاجِعُ إِيمَانَ القِمَّةِ، وَيُرَاجِعُ مَا قَدْ أَثْبَتَهُ قَبْلُ وَقَرَّرَهُ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ الدِّينَ هُوَ دِينُ اللَّهِ رَبِّ العَالمِينَ، وَأَنَّ حِكمَتَهُ فِيمَا نَزَّلَهُ عَلَى نَبِيِّهِ ﷺ وَفِيمَا خَلَقَهُ، حِكْمَتُهُ فِي شَرْعِهِ وَقَدَرِهِ ثَابِتَةٌ ظَاهِرَةٌ لَائِحَةٌ، قَدْ لَا نَفْهَمُهَا، يَفْهَمُهَا غَيرُنَا، وَقَدْ لَا يَفْهَمُهَا غَيرُنَا كَمَا لَا نَفْهَمُهَا، وَلَكِنَّهَا تَظَلُّ قَائِمَةً؛ لِأَنَّ الدِّينَ لَا يَأْتِي بِمَا تُحِيلُهُ العُقُولُ، وَلَكِنْ يَأْتِي بِمَا تَحَارُ فِيهِ العُقُولُ، وَإِلَّا مَا كَانَ دِينًا، إِنَّهُ دِينُ اللَّهِ رَبِّ العَالمِينَ، يَدِينُ بِهِ عِبَادُهُ فِي أَرضِهِ، فَالدِّينُ دِينُهُ، وَالخَلْقُ عَبِيدُهُ، وَلَيْسَ لَهُم أَنْ يُرَاجِعُوهُ.

وَالوَاحِدُ مِنْ هَؤلَاءِ الحَمْقَى المُغَفَّلِينَ الَّذِينَ يَعْتَرِضُونَ عَلَى سُنَنِ النَّبِيِّ الأَمِينِ ﷺ، بَلْ يَعْتَرِضُونَ أَحْيَانًا عَلَى آيَاتِ الذِّكْرِ الحَكِيمِ، فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأَنَّ لِلذَّكرِ مِثْلَ حَظِّ الأُنْثَيَيْن، فَهُم يَعْتَرِضُونَ عَلَى ذَلِكَ وَيَقُولُونَ: هَذَا كَانَ فِي القَدِيمِ، وَأَمَّا فِي هَذَا العَصْرِ الحَاضِرِ فَلَا بُدَّ مِنَ المُسَاوَاةِ!!

وَيَقُولُونَ: نُؤمِنُ بِالآيَةِ مَعَ ذَلِكَ!! أَيُّ إِيمَانٍ؟!!

إِلَى غَيرِ ذَلِك مِمَّا يَنْظُرُونَ بِهِ فِي كِتَابِ اللَّهِ رَبِّ العَالمِينَ؛ مِنَ العَجْزِ القَبِيحِ، وَعَدَمِ امْتِلَاكِ الأَدَوَاتِ البَحْثِيَّةِ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ تُمْتَلَكَ مِنْ أَجْلِ النَّظَرِ فِي كِتَابِ اللَّهِ العَزِيزِ.

هَؤلَاءِ يَتَكَلَّمُونَ فِي سُنَنِ النَّبِيِّ ﷺ بِمَا يُضْحِكُ الثَّكْلَى، هَؤلَاءِ جَمَاعَةٌ مِنَ المَجَانِين، أُطْلِقُوا مِنَ البِيمَارِسْتَان، ثُمَّ أُقْعِدُوا مَقَاعِدَ يُسْمِعُونَ فِيهَا الدُّنْيَا، فَهُم يَهْذُونَ بِهَذَيَانٍ لَا يُعْرَفُ، وَالنَّاسُ يَحتَاجُونَ إِلَى التَّسْلِيَةِ، وَلَكِنَّهَا تَسْلِيَةٌ مُدَمِّرَةٌ؛ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ خَطَّافَةٌ، وَلِأَنَّ القُلُوبَ ضَعِيفَةٌ، وَرُبَّمَا تَسَلَّلَتْ شُبْهَةٌ إِلَى القَلْبِ فَاسْتَحْوَذَت عَلَيْهِ، وَلَكِنَّ النَّاسَ لَا يُدرِكُونَ؛ لِأَنَّهُ حِيلَ بَيْنَهُم وَبَيْنَ عُلَمَائِهِم، وَهُمُ السَّدُّ المَانِعُ دُونَ هَذِهِ القَاذُورَاتِ وَالخُزَعْبَلَاتِ، هَؤُلَاءِ لَا يَأْتُونَ بِجَدِيدٍ.

((خُطُورَةُ الِاسْتِهْزَاءِ بِالسُّنَّةِ وَصُوَرٌ مِنْ عُقُوبَاتِ الْمُسْتَهْزِئِينَ بِهَا))

عِبَادَ اللهِ! قَدْ يُعَجِّلُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- الْعُقُوبَةَ لِمَنْ لَمْ يُعَظِّمِ السُّنَّةَ؛ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَنَّ رَجُلًا أَكَلَ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ بِشِمَالِهِ، فَقَالَ: ((كُلْ بِيَمِينِكَ)).

قَالَ: ((لَا أَسْتَطِيعُ)).

قَالَ: ((لَا اسْتَطَعْتَ، مَا مَنَعَهُ إِلَّا الْكِبْرُ)).

قَالَ: ((فَمَا رَفَعَهَا إِلَى فِيهِ)) أَيْ: إِلَى فَمِهِ.

شَلَّتْ يَمِينُهُ بِدَعْوَةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ نَهَى أَنْ يُشْرَبَ مِنْ فِي السِّقَاءِ)) أَيْ: مِنْ فَمِ الْقِرْبَةِ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

قَالَ أَيُّوبُ: ((فَأُنْبِئْتُ أَنَّ رَجُلًا شَرِبَ مِنْ فِي السِّقَاءِ، فَخَرَجَتْ حَيَّةٌ)) -كَمَا فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ-.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ قَالَ: ((بَيْنَمَا رَجُلٌ يَتَبَخْتَرُ فِي بُرْدَيْنِ خَسَفَ اللهُ بِهِ الْأَرْضَ، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

عِنْدَ الدَّارِمِيِّ: ((فَقَالَ فَتًى لِأَبِي هُرَيْرَةَ -وَقَدْ سَمَّى الْفَتَى- وَهُوَ فِي حُلَّةٍ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ! أَهَكَذَا كَانَ يَمْشِي ذَلِكَ الْفَتَى الَّذِي خُسِفَ بِهِ، ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدِهِ فَعَثَرَ عَثْرَةً كَادَ يَتَكَسَّرُ مِنْهَا؟ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: ((لِلْمِنْخَرَيْنِ وَلِلْفَمِ، {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ})).

وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَرْمَلَةَ قَالَ: ((جَاءَ رَجُلٌ إِلَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ يُوَدِّعُهُ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، فَقَالَ لَهُ: لَا تَبْرَحْ حَتَّى تُصَلِّيَ؛ فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((لَا يَخْرُجْ بَعْدَ النِّدَاءِ مِنَ الْمَسْجِدِ -أَيْ: بَعْدَ الْأَذَانِ- أَحَدٌ إِلَّا مُنَافِقٌ))، قَالَ رَجُلٌ: إِلَّا رَجُلٌ أَخْرَجَتْهُ حَاجَةٌ وَهُوَ يُرِيدُ الرَّجْعَةَ إِلَى الْمَسْجِدِ)).

فَقَالَ: ((إِنَّ أَصْحَابِي بِالْحَرَّةِ، فَخَرَجَ الرَّجُلُ وَلَمْ يُصَلِّ وَلَمْ يَمْكُثْ، فَلَمْ يَزَلْ سَعِيدُ يُولَعُ بِذِكْرِهِ حَتَّى أُخْبِرَ أَنَّهُ وَقَعَ مِنْ رَاحِلَتِهِ فَانْكَسَرَتْ فَخِذُهُ!)). أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَالدَّارِمِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ.

قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ التَّيْمِيُّ فِي ((شَرْحِهِ لِصَحِيحِ مُسْلِمٍ)): ((قَرَأْتُ فِي بَعْضِ الْحِكَايَاتِ أَنَّ بَعْضَ الْمُبْتَدِعَةِ حِينَ سَمِعَ قَوْلَ النَّبِيِّ ﷺ ((إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا؛ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ)). الْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

فَقَالَ ذَلِكَ الْمُبْتَدِعُ -عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ-: ((أَنَا أَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدِي فِي الْفِرَاشِ!))، فَأَصْبَحَ وَقَدْ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي دُبُرِهِ إِلَى ذِرَاعِهِ!

قَالَ التَّيْمِيُّ: ((فَلْيَتَّقِ الْمَرْءُ الِاسْتِخْفَافَ بِالسُّنَنِ وَمَوَاضِعِ التَّوْقِيفِ؛ فَانْظُرْ كَيْفَ وَصَلَ إِلَيْهِ شُؤْمُ فِعْلِهِ)).

عَنْ أَبِي يَحْيَى السَّاجِيِّ قَالَ: ((كُنَّا نَمْشِي فِي أَزِقَّةِ الْبَصْرَةِ إِلَى بَابِ بَعْضِ الْمُحَدِّثِينَ، فَأَسْرَعْنَا الْمَشْيَ وَمَعَنَا رَجُلٌ مَاجِنٌ مُتَّهَمٌ فِي دِينِهِ، فَقَالَ: ((ارْفَعُوا أَرْجُلَكُمْ عَنْ أَجْنِحَةِ الْمَلَائِكَةِ لَا تَكْسِرُوهَا))، كَالْمُسْتَهْزِئِ، فَلَمْ يَزَلْ مِنْ مَوْضِعِهِ حَتَّى جَفَّتْ رِجْلَاهُ وَسَقَطَ)))).

قَالَ النَّوَوِيُّ: ((قَالَ الْحَافِظُ عَبْدُ الْحَافِظِ: إِسْنَادُ هَذِهِ الْحِكَايَةِ كَالْوَجْدِ أَوْ كَرَأْيِ الْعَيْنِ؛ لِأَنَّ رُوَاتَهَا أَعْلَامٌ أَئِمَّةٌ)).

قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: ((كُنَّا فِي مَجْلِسٍ بِجَامِعِ الْمَنْصُورِ، فَجَاءَ شَابٌّ خُرَاسَانِيٌّ فَسَأَلَ عَنْ مَسْأَلَةِ الْمُصَرَّاةِ، فَطَالَبَ بِالدَّلِيلِ حَتَّى اسْتُدِلَّ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْوَارِدِ فِيهَا، فَقَالَ -وَكَانَ حَنَفِيًّا-: أَبُو هُرَيْرَةَ غَيْرُ مَقْبُولِ الْحَدِيثِ، فَمَا اسْتَتَمَّ كَلَامَهُ حَتَّى سَقَطَ عَلَيْهِ حَيَّةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ سَقْفِ الْجَامِعِ، فَوَثَبَ النَّاسُ مِنْ أَجْلِهَا، وَهَرَبَ الشَّابُّ مِنْهَا، وَهِيَ تَتْبَعُهُ، فَقِيلَ لَهُ: تُبْ.. تُبْ، تُبْ إِلَى اللهِ، فَقَالَ: تُبْتُ، فَغَابَتِ الْحَيَّةُ، فَلَمْ يُرَ لَهَا أَثَرٌ!)).

قَالَ الذَّهَبِيُّ: ((إِسْنَادُهَا أَئِمَّةٌ))

قَالَ قُطْبُ الدِّينِ الْيُونِينِيُّ: ((بَلَغَنَا أَنَّ رَجُلًا يُدْعَى أَبَا سَلَامَةَ مِنْ نَاحِيَةِ بُصْرَى، كَانَ فِيهِ مُجُونٌ وَاسْتِهْتَارٌ، فَذُكِرَ عِنْدَهُ السِّوَاكُ وَمَا فِيهِ مِنَ الْفَضِيلَةِ، فَقَالَ: وَاللهِ! لَا أَسْتَاكُ إِلَّا فِي مَخْرَجِهِ -يَعْنِي: فِي دُبُرِهِ-، فَأَخَذَ سِوَاكًا فَوَضَعَهُ فِي مَخْرَجِهِ ثُمَّ أَخْرَجَهُ، فَمَكَثَ بَعْدَهُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ وَهُوَ يَشْكُو مِنْ أَلَمٍ فِي الْبَطْنِ وَالْمَخْرَجِ، فَوَضَعَ وَلَدًا عَلَى صِفَةِ الْجُرْذَانِ، لَهُ أَرْبَعَةُ قَوَائِمَ وَرَأْسُهُ كَرَأْسِ السَّمَكَةِ، وَلَهُ دُبُرٌ كَدُبُرِ الْأَرْنَبِ، وَلَمَّا وَضَعَهُ صَاحَ ذَلِكَ الْحَيَوَانُ ثَلَاثَ صَيْحَاتٍ، فَقَامَتِ ابْنَةُ ذَلِكَ الرَّجُلِ فَرَضَخَتْ رَأْسَ الْحَيَوَانِ فَمَاتَ، وَعَاشَ ذَلِكَ الرَّجُلُ بَعْدَ وَضْعِهِ لَهُ يَوْمَيْنِ وَمَاتَ فِي الثَّالِثِ، وَكَانَ يَقُولُ: هَذَا الْحَيَوَانُ قَتَلَنِي وَقَطَّعَ أَمْعَائِي، وَقَدْ شَاهَدَ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ النَّاحِيَةِ، وَخُطَبَاءُ ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى ذَلِكَ الْحَيَوَانَ حَيًّا، وَمِنْهُمْ مَنْ رَآهُ بَعْدَ مَوْتِهِ)).

فَاتَّقِ اللهَ -أَيُّهَا الْمُسْلِمُ- مِنَ الِاسْتِهْزَاءِ بِسُنَّةِ نَبِيِّكَ ﷺ قَوْلًا أَوْ حَالًا، فِعْلًا أَوْ مَقَالًا!

اتَّقِ اللهَ!

اتَّقِ اللهَ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ، وَتَمَسَّكْ بِهَا، وَعَضَّ عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ؛ حَتَّى تَسْعَدَ فِي الدُّنْيَا وَتَنْجُوَ فِي الْآخِرَةِ.

وَاللهُ -تَعَالَى- يَرْعَاكَ، وَبِلُطْفِهِ يَتَوَلَّاكَ، وَاللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- نَقْصِدُ.. اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- هُوَ الْمَقْصُودُ أَنْ يُمَسِّكَنَا سُنَّةَ نَبِيِّهِ ﷺ، وَأَنْ يَرْزُقَنَا الْعَمَلَ بِهَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا.

((ثِقُوا فِي سُنَّةِ نَبِيِّكُمْ وَاعْرِفُوا دِينَكُمْ!))

عَلَى أَهْلِ الإِيمَانِ وَالحَقِّ.. عَلَى المُسلِمِينَ أَنْ يَثِقُوا فِي سُنَّةِ نَبِيِّهِمُ الأَمِينِ وُثُوقًا طَبْعِيًّا فِطْرِيًّا بِمَا أَنَّهُم آمَنُوا بِأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَأَنَّهُ لَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى، وَأَنَّ شَرْعَهُ صَالِحٌ لِكُلِّ زَمَانٍ وَمَكَان؛ بَلْ كُلُّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ صَالِحٌ لِشَرْعِ اللَّهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ لِأَنَّ الدِّينَ لَا يَتَنَزَّلُ، وَإِنَّمَا يَرْتَفِعُ إِلَيْهِ النَّاسُ، إِنَّمَا جَاءَ لِيَرْفَعَ النَّاسَ عَمَّا هُمْ فِيهِ وَتَدَنَّوْا إِلَيْهِ؛ ﴿قُلْ تَعَالَوْا﴾ [الأنعام: 151]: ارْتَفِعُوا إِلَى الطُّهْرِ وَالسُّمُوِّ، اخْرُجُوا مِنَ القَذَارَاتِ وَالحَمَاقَاتِ وَالمَورُوثَاتِ البَائِدَةِ إِلَى صَرِيحِ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.

فَعَلَيْنَا -أَيُّهَا المُسلِمُونَ- أَنْ نَتَّقِيَ اللَّهَ –تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَأَنْ نَجْتَهِدَ فِي مَعْرِفَةِ دِينِنَا مَعْرِفَةً صَحِيحَةً؛ لِيُسَلِّمَ اللَّهُ رَبُّ العَالمِينَ لَنَا دِينَنَا وَإِيمَانَنَا وَعَقِيدَتَنَا، وَتَبَعًا يُسَلِّمُ لَنَا وَطَنَنَا؛ لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَسْلَمْ لَنَا دِينُنَا، وَهُوَ أَوَّلُ مَا يُعْقَدُ عَلَيهِ الخِنْصَرُ فِي جَمْعِ المَجْمُوعِ البَشَرِيِّ؛ فَإِنَّ أَيَّ جَمَاعَةٍ إِنَّمَا تَكُونُ مَجْمُوعَةً عَلَى دِينٍ -أَيِّ دِين-، عَلَى وَطَنٍ وَأَرضٍ، عَلَى مَوْرُوثٍ وَتَارِيخٍ تَضْمَنُ نَوْعًا مِنْ أَنواعِ البَقَاءِ.

فَإِذَا كَانَت مُعْتَمِدَةً عَلَى دِينِ الحَقِّ الَّذِي لَا دِينَ حَقٌّ سِوَاهُ، وَإِذَا كَانَت رَاجِعَةً إِلَى تُرَاثٍ عَظِيمٍ؛ بَلْ لَا يُقَالُ لَهُ تُرَاثٌ؛ لِأَنَّ التُّراثَ إِنَّمَا يُؤخَذُ عَنِ المَيِّتِينَ، وَهَذِهِ أُمَّةٌ حَيَّةٌ نَابِضَةٌ بِالحَيَاةِ، وَلَا يَغُرَّنَّكُم ضَعْفُهَا الآن؛ فَسَتَقُومُ مِنْ كَبْوَتِهَا -بِإِذْنِ اللَّهِ جَلَّ وَعَلا-؛ وَلَكِنَّ الزَّمَانَ عِنْدَ اللَّهِ لَا يُقَدَّرُ بِهَذِهِ السِّنِينَ الَّتِي يُعْطِيهَا لِلكَائنِ الإِنْسَانِيِّ، الزَّمَانُ عِندَ اللَّهِ مُمْتَدٌّ مَبسُوطٌ، إِنْ لَمْ نَرَهُ فَسَيَكُونُ، وَأَنَا عَلَى يَقِينٍ مِنهُ كَمَا أَنِّي عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَنِّي مَوجُودٌ، يَنْصُرُ اللَّهُ الدِّينَ، وَيَنْصُرُ اللَّهُ المُؤمِنِينَ، وَيَخْذُلُ الظَّالمِينَ، وَيُخْزِي الكَافِرِينَ، وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.

المصدر:السُّخْرِيَةُ وَأَثَرُهَا الْمُدَمِّرُ عَلَى الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  سمات وسلوك الشخصية الوطنية في ضوء الشرع الحنيف
  الْمِيثَاقُ الْغَلِيظُ وَضَرُورَةُ الْحِفَاظِ عَلَيْهِ
  الْإِسْرَاءُ وَالْمِعْرَاجُ وَآيَاتُ اللهِ الْكُبْرَى
  الْهِجْرَةُ غَيْرُ الشَّرْعِيَّةِ وَالْحِفَاظُ عَلَى الْأَنْفُسِ
  الدعاء لولي الأمر
  السَّمَاحَةُ عَقِيدَةً وَسُلُوكًا
  عقيدة أهل الإسلام في حقوق الحكام
  عَلَى أَبْوَابِ رَمَضَانَ
  الِابْتِلَاءُ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ
  الإسلام دين الرحمة والسلام، وفضل شهر الله المحرم وصوم عاشوراء
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان