الْإِيمَانُ وَآثَارُهُ فِي الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ

الْإِيمَانُ وَآثَارُهُ فِي الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ

((الْإِيمَانُ وَآثَارُهُ فِي الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.

وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ, وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1].

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70-71].

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((حَقِيقَةُ الْإِيمَانِ))

فَالْإِيمَانُ فِي الشَّرْعِ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: قَوْلُ بِاللِّسَانِ، وَاعْتِقَادٌ بِالْقَلْبِ، وَعَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ، يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ.

لَا بُدَّ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ فِي الْإِيمَانِ؛ أَنْ يَنْطِقَ بِلِسَانِهِ، وَأَنْ يَعْتَقِدَ بِقَلْبِهِ، وَأَنْ يَعْمَلَ بِجَوَارِحِهِ، فَإِذَا نَقَصَ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا.

 ((الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ؛ قَوْلُ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، وَعَمَلُ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَالْجَوَارِحِ، يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ، وَيَتَفَاضَلُ أَهْلُهُ فِيهِ)).

قَوْلُ الْقَلْبِ: التَّصْدِيقُ وَالْإِيقَانُ.

وَقَوْلُ اللِّسَانِ: التَّكَلُّمُ بِكَلِمَةِ الْإِسْلَامِ.

وَعَمَلُ الْقَلْبِ: النِّيَّةُ وَالْإِخْلَاصُ.

وَعَمَلُ اللِّسَانِ: هُوَ مَا لَا يُؤَدَّى إِلَّا بِهِ؛ كِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَسَائِرِ الْأَذْكَارِ.

عَمَلُ الْجَوَارِحِ: هُوَ الِانْقِيَادُ بِجَمِيعِ الطَّاعَاتِ.

فَالْإِيمَانُ: هُوَ الْإِقْرَارُ بِالشَّيْءِ عَنْ تَصْدِيقٍ بِهِ، وَلَيْسَ مُطْلَقَ التَّصْدِيقِ.

وَعَلَيْهِ؛ فَالْإِيمَانُ يَتَضَمَّنُ مَعْنًى زَائِدًا عَلَى مُجَرَّدِ التَّصْدِيقِ، وَهُوَ الْإِقْرَارُ وَالِاعْتِرَافُ الْمُسْتَلْزِمُ لِلْقَبُولِ وَالْإِذْعَانِ لِلْأَحْكَامِ، وَلَيْسَ هُوَ مُطْلَقَ التَّصْدِيقِ.

الْإِيمَانُ: نُطْقٌ بِاللِّسَانِ، وَاعْتِقَادٌ بِالْجَنَانِ، وَعَمَلٌ بِالْأَرْكَانِ، يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ، وَيَتَفَاضَلُ أَهْلُهُ فِيهِ.

قَالَ الْعَلَّامَةُ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي ((التَّوْضِيحِ وَالْبَيَانِ لِشَجَرَةِ الْإِيمَانِ)): ((أَمَّا حَدُّ الْإِيمَانِ وَتَفْسِيرِهِ:

فَهُوَ: التَّصْدِيقُ الْجَازِمُ، وَالِاعْتِرَافُ التَّامُّ بِجَمِيعِ مَا أَمَرَ اللهُ وَرَسُولُهُ بِالْإِيمَانِ بِهِ، وَالِانْقِيَادِ لَهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا.

فَهُوَ: تَصْدِيقُ الْقَلْبِ وَاعْتِقَادُهُ الْمُتَضَمِّنُ لِأَعْمَالِ الْقُلُوبِ وَأَعْمَالِ الْبَدَنِ.

وَذَلِكَ شَامِلٌ لِلْقِيَامِ بِالدِّينِ كُلِّهِ.

وَلِهَذَا كَانَ الْأَئِمَّةُ وَالسَّلَفُ يَقُولُونَ: ((الْإِيمَانُ: قَوْلُ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، وَعَمَلِ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَالْجَوَارِحِ)).

وَهُوَ: قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَاعْتِقَادٌ، يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ.

فَهُوَ يَشْمَلُ:

1*عَقَائِدَ الْإِيمَانِ.

2*وَأَخْلَاقَهُ.

3*وَأَعْمَالَهُ.

فَالْإِقْرَارُ وَالِاعْتِرَافُ بِمَا للهِ تَعَالَى مِنَ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، وَالصِّفَاتِ الْكَامِلَةِ الْعُلْيَا، وَالْأَفْعَالِ النَّاشِئَةِ عَنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ هُوَ مِنْ أَعْظَمِ أُصُولِ الْإِيمَانِ.

وَكَذَلِكَ الِاعْتِرَافُ بِمَا للهِ مِنَ الْحُقُوقِ الْخَاصَّةِ، وَهُوَ التَّأَلُّهُ وَالتَّعَبُّدُ للهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا مِنْ أُصُولِ الْإِيمَانِ.

وَالِاعْتِرَافُ بِمَا أَخْبَرَ اللهُ بِهِ عَنْ مَلَائِكَتِهِ وَجُنُودِهِ، وَالْمَوْجُودَاتِ السَّابِقَةِ وَاللَّاحِقَةِ، وَالْإِخْبَارِ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، كُلُّ هَذَا مِنْ أُصُولِ الْإِيمَانِ.

وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ بِجَمِيعِ الرُّسُلِ -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمِ- وَمَا وُصِفُوا بِهِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنَ الْأَوْصَافِ الْحَمِيدَةِ.

كَلُّ هَذَا مِنْ أُصُولِ الْإِيمَانِ.

كَمَا أَنَّ مِنْ أَعْظَمِ أُصُولِ الْإِيمَانِ:

1*الِاعْتِرَافُ بِانْفِرَادِ اللهِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَالْأُلُوهِيَّةِ.

2*وَعِبَادَةُ اللهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.

3*وَإِخْلَاصُ الدِّينِ لَهُ.

4*وَالْقِيَامُ بِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ وَحَقَائِقِهِ الْبَاطِنَةِ.

كُلُّ هَذَا مِنْ أُصُولِ الْإِيمَانِ.

وَلِهَذَا رَتَّبَ اللهُ عَلَى الْإِيمَانِ: دُخُولَ الْجَنَّةِ، وَالنَّجَاةَ مِنَ النَّارِ.

وَرَتَّبَ عَلَيْهِ: رُضْوَانَهُ، وَالْفَلَاحُ، وَالسَّعَادَةُ.

وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ شُمُولِهِ لِلْعَقَائِدِ، وَأَعْمَالِ الْقُلُوبِ، وَأَعْمَالِ الْجَوَارِحِ؛ لِأَنَّهُ مَتَى فَاتَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، حَصَلَ مِنَ النَّقْصِ وَفَوَاتِ الثَّوَابِ وَحُصُولِ الْعِقَابِ بِحَسَبِهِ.

بَلْ أَخْبَرَ اللهُ تَعَالَى أَنَّ الْإِيمَانَ الْمُطْلَقَ تُنَالُ بِهِ أَرْفَعُ الْمَقَامَاتِ فِي الدُّنْيَا، وَأَعْلَى الْمَنَازِلِ فِي الْآخِرَةِ؛ فَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} [الحديد: 19].

وَ{الصِّدِّيقُونَ}: هُمْ أَعْلَى الْخَلْقِ دَرَجَةً بَعْدَ دَرَجَةِ الْأَنْبِيَاءِ فِي الدُّنْيَا، وَفِي مَنَازِلِ الْآخِرَةِ.

وَأَخْبَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ مَنْ حَقَّقَ الْإِيمَانَ بِهِ وَبِرُسُلِهِ، نَالَ هَذِهِ الدَّرَجَةَ.

قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 2-4].

فَوَصَفَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلْقِيَامِ بِأُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ، وَظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ.

فَإِنَّهُ وَصَفَهُمْ بِالْإِيمَانِ بِهِ إِيمَانًا ظَهَرَتْ آثَارُهُ فِي عَقَائِدِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ وَأَعْمَالِهِمُ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ.

وَأَنَّهُ مَعَ ثُبُوتِ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِهِمْ، يَزْدَادُ إِيمَانُهُمْ كُلَّمَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُ اللهِ، وَيَزْدَادُ خَوْفُهُمْ وَوَجَلُهُمْ كُلَّمَا ذُكِرَ اللهُ.

وَهُمْ فِي قُلُوبِهِمْ وَسِرَّهِمْ مُتَوَكِّلُونَ عَلَى اللهِ، وَمُعْتَمِدُونَ فِي أُمُورِهِمْ كُلِّهَا عَلَيْهِ، مُفَوِّضُونَ أُمُورَهُمْ إِلَيْهِ.

وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ (فَرْضَهَا وَنَفْلَهَا)، يُقِيمُونَهَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا.

وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ، وَيُنْفِقُونَ النَّفَقَاتِ الْوَاجِبَةَ وَالْمُسْتَحَبَّةَ.

وَمَنْ كَانَ عَلَى هَذَا الْوَصْفِ، فَلَمْ يَبْقَ مِنَ الْخَيْرِ مَطْلَبًا، وَلَا مِنَ الشَّرِّ مَهْرَبًا، وَلِهَذَا قَالَ: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} الَّذِينَ يَسْتَحِقُّونَ هَذَا الْوَصْفَ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَيُحَقِّقُونَ الْقِيَامَ بِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا.

ثُمَّ ذَكَرَ ثَوَابَهُمُ الْجَزِيلَ:

1*الْمَغْفِرَةُ: الْمُتَضَمِّنَةُ لِزَوَالِ كُلِّ شَرٍّ وَمَحْذُورٍ.

2*وَرِفْعَةُ الدَّرَجَاتِ عِنْدَ رَبِّهِمْ.

3*وَالرِّزْقُ الْكَرِيمُ: الْمُتَضَمِّنُ مِنَ النِّعَمِ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ.

وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ( 7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحجرات: 7-8].

هَذِهِ أَكْبَرُ الْمِنَنِ: أَنْ يُحَبِّبَ الْإِيمَانَ لِلْعَبْدِ، وَيُزَيِّنَهُ فِي قَلْبِهِ، وَيُذِيقَهُ حَلَاوَتَهُ، وَتَنْقَادَ جَوَارِحُهُ لِلْعَمَلِ بِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ؛ وَيُبَغِّضَ اللهُ إِلَيْهِ أَصْنَافَ الْمُحَرَّمَاتِ.

وَاللهُ عَلِيمٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْهِ بِهَذَا الْفَضْلِ، حَكِيمٌ فِي وَضْعِهِ فِي مَحَلِّهِ اللَّائِقِ بِهِ.

كَمَا ثَبَتَ فِي ((الصَّحِيحِ)) مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ ﷺ قَالَ: ((ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا للهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَرْجِعَ عَنْ دِينِهِ، كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ)).

فَذَكَرَ أَصْلَ الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ: مَحَبَّةُ اللهِ وَرَسُولِهِ؛ لَا يَكْتَفِي بِمُطْلَقِ الْمَحَبَّةِ، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ مَحَبَّةُ اللهِ مُقَدَّمَةً عَلَى جَمِيعِ الْمَحَابِّ، وَذَكَرَ تَفْرِيقَهَا: بِأَنْ يُحِبَّ للهِ، وَيُبْغِضَ للهِ.

أَخْبَرَ ﷺ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: أَنَّ لِلْإِيمَانِ حَلَاوَةٌ فِي الْقَلْبِ، إِذَا وَجَدَهَا الْعَبْدُ سَلَّتْهُ عَنِ الْمَحْبُوبَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَعَنِ الْأَغْرَاضِ النَّفْسِيَّةِ، وَأَوْجَبَتْ لَهُ الْحَيَاةَ الطَّيِّبَةَ، فَإِنَّ مَنْ أَحَبَّ اللهَ وَرَسُولَهُ لَهَجَ بِذِكْرِ اللهِ طَبْعًا -فَإِنَّ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا أَكْثَرَ مِنْ ذِكْرِهِ- وَاجْتَهَدَ فِي مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ، وَقَدَّمَ مُتَابَعَتَهُ عَلَى كُلِّ قَوْلٍ، وَعَلى إِرَادَةِ النُّفُوسِ، وَأَغْرَاضِهَا.

وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ، فَنَفْسُهُ مُطْمَئِنَّةٌ، مُسْتَحْلِيَةٌ لِلطَّاعَاتِ، قَدْ انْشَرَحَ صَدْرُ صَاحِبِهَا لِلْإِسْلَامِ، فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ.

وَكَثِيرٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَصِلُ إِلَى هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ الْعَالِيَةِ {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [الأنعام: 132].

وَكَذَلِكَ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ ﷺ قَالَ: ((الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً؛ أَعْلَاهَا قَوْلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَدْنَاهَا: إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ)).

وَهَذَا صَرِيحٌ أَنَّ الْإِيمَانَ يَشْمَلُ أَقْوَالَ اللِّسَانِ، وَأَعْمَالَ الْجَوَارِحِ، وَالِاعْتِقَادَاتِ، وَالْأَخْلَاقَ، وَالْقِيَامَ بِحَقِّ اللهِ، وَالْإِحْسَانَ إِلَى خَلْقِهِ.

 ((الْأَدِلَّةُ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ، وَاعْتِقَادٌ، وَعَمَلٌ

وَأَنَّهُ يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ، وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ))

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ۚ لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)} [الأنفال: 2-4].

فَوَصَفَهُمْ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ؛ {يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} -وَهَذَا عَمَلٌ-، {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}، وَهَذَا عَمَلٌ.

وَقَالَ: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا}، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ.

فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً؛ أَعْلَاهَا قَوْلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَدْنَاهَا: إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ)).

وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَاعْتِقَادٌ وَعَمَلٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، هَذَا نُطْقٌ بِاللِّسَانِ، وَإِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، هَذَا عَمَلُ الْيَدِ جَعَلَهُ النَّبِيُّ ﷺ مِنَ الْإِيمَانِ، وَأَمَّا الْحَيَاءُ فَهُوَ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ، وَهُوَ عَمَلٌ قَلْبِيٌّ.

فَهَذِهِ أَدِلَّةٌ -وَسِوَاهَا كَثِيرٌ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ- تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَاعْتِقَادٌ، وَأَنَّهُ يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ.

((الْأُمُورُ الَّتِي يُسْتَمَدُّ مِنْهَا الْإِيمَانُ وَأَسْبَابُ زِيَادَتِهِ))

إِنَّ الْإِيمَانَ هُوَ كَمَالُ الْعَبْدِ، وَبِهِ تَرْتَفِعُ دَرَجَاتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَهُوَ السَّبَبُ وَالطَّرِيقُ لِكُلِّ خَيْرٍ عَاجِلٍ أَوْ آجِلٍ، وَلَا يَحْصُلُ، وَلَا يَقْوَى، وَلَا يَتِمُّ إِلَّا بِمَعْرِفَةِ مَا مِنْهُ يُسْتَمَدُّ، وَإِلَى يَنْبُوعِهِ وَأَسْبَابِهِ وَطُرُقِهِ.

وَاللهُ تَعَالَى قَدْ جَعَلَ لِكُلِّ مَطْلُوبٍ سَبَبًا وَطَرِيقًا يُوصِلُ إِلَيْهِ، وَالْإِيمَانُ أَعْظَمُ الْمَطَالِبِ وَأَهَمُّهَا وَأَعَمُّهَا؛ وَقَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُ مَوَادَّ كَبِيرَةً تَجْلِبُهُ وَتُقَوِّيه، كَمَا كَانَ لَهُ أَسْبَابٌ تُضْعِفُهُ وَتُوِهِيهِ.

وَمَوَادُّهُ الَّتِي تَجْلِبُهُ وَتُقَوِّيه أَمْرَانِ: مُجْمَلٌ وَمُفَصَّلٌ:

*أَمَّا الْمُجْمَلُ فَهُوُ:

التَّدَبُّرُ لِآيَاتِ اللهِ الْمَتْلُوَّةِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ وَالتَّأَمُّلُ لِآيَاتِهِ الْكَوْنِيَّةِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا؛ وَالْحِرْصُ عَلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ الَّذِي خُلِقَ لَهُ الْعَبْدُ؛ وَالْعَمَلُ بِالْحَقِّ؛ فَجَمِيعُ الْأَسْبَابِ مَرْجِعُهَا إِلَى هَذَا الْأَصْلِ الْعَظِيمِ.

*وَأَمَّا التَّفْصِيلُ: فَالْإِيمَانُ يَحْصُلُ وَيَقْوَى بِأُمُورٍ كَثِيرَةٍ:

1*مِنْهَا -بَلْ أَعْظَمُهَا-: مَعْرِفَةُ أَسْمَاءِ اللهِ الْحُسْنَى الْوَارِدَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَالْحِرْصُ عَلَى فَهْمِ مَعَانِيهَا، وَالتَّعَبُّدُ للهِ فِيهَا.

فَقَدْ ثَبَتَ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنْهُ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((إِنَّ للهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعِينَ اسْمًا -مِئَةً إِلَّا وَاحِدًا- مَنْ أَحْصَاهَا، دَخَلَ الْجَنَّةَ))؛ أَيْ مِنْ حَفِظَهَا، وَفَهِمَ مَعَانِيهَا، وَاعْتَقَدَهَا، وَتَعَبَّدَ للهِ بِهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَالْجَنَّةُ لَا يَدْخُلُهَا إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ. 

فَعُلِمَ: أَنَّ ذَلِكَ أَعْظَمُ يَنْبُوعٍ وَمَادَّةٍ لِحُصُولِ الْإِيمَانِ وَقُوَّتِهِ وَثَبَاتِهِ؛ وَمَعْرِفَةِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى هِيَ أَصْلُ الْإِيمَانِ، وَالْإِيمَانُ يَرْجِعُ إِلَيْهَا.

وَمَعْرِفَتُهَا تَتَضَمَّنُ أَنْوَاعَ التَّوْحِيدِ الثَّلَاثَةَ: تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ، وَتَوْحِيدُ الْإِلَهِيَّةِ، وَتَوْحِيدُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَهَذِهِ الْأَنْوَاعُ هِيَ رُوحُ الْإِيمَانِ وَرَوْحُهُ، وَأَصْلُهُ وَغَايَتُهُ، فَكُلَّمَا ازْدَادَ الْعَبْدُ مَعْرِفَةً بِأَسْمَاءِ اللهِ وَصِفَاتِهِ، ازْدَادَ إِيمَانُهُ، وَقَوِيَ يَقِينُهُ.

فَيَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَبْذُلَ مَقْدُورَهُ وَمُسْتَطَاعَهُ فِي مَعْرِفَةِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَتَكُونُ مَعْرِفَتُهُ سَالِمَةً مِنْ دَاءِ التَّعْطِيلِ، وَمِنْ دَاءِ التَّمْثِيلِ؛ اللَّذَيْنِ ابْتُلِيَ بِهِمَا كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ؛ بَلْ تَكُونُ الْمَعْرِفَةُ مُتْلَقَّاةً مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَمَا رُوِيَ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، فَهَذِهِ الْمَعْرِفَةُ النَّافِعَةُ الَّتِي لَا يَزَالُ صَاحِبُهَا فِي زِيَادَةٍ فِي إِيمَانِهِ، وَقُوَّةِ يَقِينِهِ، وَطُمْأْنِينَةٍ فِي أَحْوَالِهِ.

2*وَمِنْهَا -مِنْ أَسْبَابِ حُصُولِ الْإِيمَانِ وَقُوَّتِهِ-: تَدَبُّرُ الْقُرْآنِ عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ.

فَإِنَّ الْمُتَدَبِّرَ لَا يَزَالُ يَسْتَفِيدُ مِنْ عُلُومِ الْقُرْآنِ وَمَعَارِفِهِ؛ مَا يَزْدَادُ بِهِ إِيمَانًا، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2]. 

3*وَكَذَلِكَ مَعْرِفَةُ أَحَادِيثِ النَّبِيِّ ﷺ، وَمَا تَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ عُلُومِ الْإِيمَانِ وَأَعْمَالِهِ:كُلُّهَا مِنْ مُحَصِّلَاتِ الْإِيمَانِ وَمُقَوِّيَاتِهِ.

فَكُلَّمَا ازْدَادَ الْعَبْدُ مَعْرِفَةً بِكِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، ازْدَاَدَ إِيمَانُهُ وَيَقِينُهُ، وَقَدْ يَصِلُ فِي عِلْمِهِ وَإِيمَانِهِ إِلَى مَرْتَبَةِ الْيَقِينِ.

4*وَمِنْ طُرُقِ مُوُجِبَاتِ الْإِيمَانِ وَأَسْبَابِهِ: مَعْرِفَةُ النَّبِيِّ ﷺ، وَمَعْرِفَةُ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَخْلَاقِ الْعَالِيَةِ، وَالْأَوْصَافِ الْكَامِلَةِ.

فَهُوَ ﷺ أَكْبَرُ دَاعٍ لِلْإِيمَانِ فِي أَوْصَافِهِ الْحَمِيدَةِ، وَشَمَائِلِهِ الْجَمِيلَةِ، وَأَقْوَالِهِ الصَّادِقَةِ النَّافِعَةِ، وَأَفْعَالِهِ الرَّشِيدَةِ، فَهُوَ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ، وَالْقُدْوَةُ الْأَكْمَلُ {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]، {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7].

5*وَمِنْ أَسْبَابِ الْإِيمَانِ وَدَوَاعِيهِ: التَّفَكُّرُ فِي الْكَوْنِ، فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الْمُتَنَوِّعَةِ، وَالنَّظَرُ فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ، وَمَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الصِّفَاتِ، فَإِنَّ ذَلِكَ دَاعٍ قَوِيٌّ لِلْإِيمَانِ، لِمَا فِي هَذِهِ الْمَوْجُودَاتِ مِنْ عَظَمَةِ الْخَلْقِ الدَّالِّ عَلَى قُدْرَةِ خَالِقِهَا وَعَظَمَتِهِ؛ وَمَا فِيهَا مِنَ الْحُسْنِ وَالْانِتَظَامِ، وَالْإِحْكَامِ الَّذِي يُحَيِّرُ الْأَلْبَابَ؛ الدَّالِّ عَلَى سَعَةِ عِلْمِ اللهِ، وَشُمُولِ حِكْمَتِهِ؛ وَمَا فِيهَا مِنْ أَصْنَافِ الْمَنَافِعِ وَالنِّعَمِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي لَا تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى، الدَّالَّةِ عَلَى سَعَةِ رَحْمَةِ اللهِ، وَجُودِهِ وَبِرِّهِ.

وَكَذَلِكَ التَّفَكُّرُ فِي كَثْرَةِ نِعَمِ اللهِ وَآلَائِهِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، الَّتِي لَا يَخْلُو مِنْهَا مَخْلُوقٌ طَرْفَةَ عَيْنٍ؛ فَإِنَّ هَذَا يَدْعُو إِلَى الْإِيمَانِ.

6*وَمِنْ أَسْبَابِ دَوَاعِي الْإِيمَانِ: الْإِكْثَارُ مِنْ ذِكْرِ اللهِ كُلَّ وَقْتٍ، وَمِنَ الدُّعَاءِ الَّذِي هُوَ مُخُّ الْعِبَادَةِ.

7*وَمِنَ الْأَسْبَابِ الْجَالِبَةِ لِلْإِيمَانِ: مَعْرِفَةُ مَحَاسِنِ الدِّينِ.

فَإِنَّ الدِّينَ الْإِسْلَامِيَّ كُلَّهُ مَحَاسِنُ، عَقَائِدُهُ أَصَحُّ الْعَقَائِدِ وَأَصْدَقُهَا وَأَنْفَعُهَا؛ وَأَخْلَاقُهُ أَحْمَدُ الْأَخْلَاقِ وَأَجْمَلُهَا؛ وَأَعْمَالُهُ وَأَحْكَامُهُ أَحْسَنُ الْأَحْكَامِ وَأَعْدَلُهَا، وَبِهَذَا النَّظَرِ الْجَلِيلِ يُزَيِّنِ اللهُ الْإِيمَانَ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ، وَيُحَبِّبُهُ إِلَيْهِ.

8*وَمِنْ أَعْظَمِ مُقَوِّيَاتِ الْإِيمَانِ: الِاجْتِهَادُ فِي التَّحَقُّقِ فِي مَقَامِ الْإِحْسَانِ، فِي عِبَادَةِ اللهِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى خَلْقِهِ، فَيَجْتَهِدُ أَنْ يَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّهُ يُشَاهِدُهُ، فَإِنْ لَمْ يَقْوَى عَلَى هَذَا اسْتَحْضَرَ أَنَّ اللهَ يُشَاهِدُهُ وَيَرَاهُ.

9-وَمِنْهَا -أَيْ مِنْ مَصَادِرِ الْإِيمَانِ وَمُقَوِّيَاتِهِ- قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَىٰ وَرَاءَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8)} [المؤمنون: 1-8].

فَهَذِهِ الصِّفَاتُ الثَّمَانِ، كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا تُثْمِرُ الْإِيمَانَ وَتُنَمِّيهِ؛ كَمَا أَنَّهَا مِنْ صِفَاتِ الْإِيمَانِ وَدَاخِلَةٍ فِي تَفْسِيرِهِ.

10*وَمِنْ دَوَاعِي الْإِيمَانِ وَأَسْبَابِهِ: الدَّعْوَةُ إِلَى اللهِ وَإِلَى دِينِهِ، وَالتَّوَاصِي بِالْحَقِّ وَالتَّوَاصِي بِالصَّبْرِ، وَالدَّعْوَةُ إِلَى أَصْلِ الدِّينِ، وَالدَّعْوَةُ إِلَى الْتِزَامِ شَرَائِعِهِ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ.

11*وَمِنْ أَهَمِّ مَوَادِّ الْإِيمَانِ وَمُقَوِّيَاتِهِ: تَوْطِينُ النَّفْسِ عَلَى مُقَاوِمَاتِ مَا يُنَافِي الْإِيمَانَ مِنْ شُعَبِ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ، وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ.

فَمَتَى حَفِظَ الْعَبْدُ مِنَ الْوُقُوعِ فِي فِتَنِ الشُّبُهَاتِ، وَفِتَنِ الشَّهَوَاتِ؛ تَمَّ إِيمَانُهُ، وَقَوِيَ يَقِينُهُ.

 ((فَوَائِدُ الْإِيمَانِ وَثَمَرَاتُهُ عَلَى الْفَرْدِ))

كَمْ لِلْإِيمَانِ الصَّحِيحِ مِنَ الْفَوَائِدِ وَالثَّمَرَاتِ الْعَاجِلَةِ وَالْآجِلَةِ فِي الْقَلْبِ وَالْبَدَنِ وَالرَّاحَةِ، وَالْحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

وَكَمْ لِهَذِهِ الشَّجَرَةِ الْإِيمَانِيَّةِ مِنَ الثِّمَارِ الْيَانِعَةِ، وَالْجَنَى اللَّذِيذِ، وَالْأُكْلِ الدَّائِمِ، وَالْخَيْرِ الْمُسْتَمِرِّ؛ أُمُورٌ لَا تُحْصَى، وَفَوَائِدُ لَا تُسْتَقْصَى.

وَمُجْمَلُهَا: أَنَّ خَيْرَاتِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَدَفْعَ الشُّرُورِ كُلِّهَا مِنْ ثَمَرَاتِ هَذِهِ الشَّجْرَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الشَّجَرَةَ إِذَا ثَبَتَتْ وَقَوِيَتْ أُصُولُهَا، وَتَفَرَّعَتْ فُرُوعُهَا، وَزَهَتْ أَغْصَانُهَا، وَأَيْنَعَتْ أَفْنَانُهَا؛ عَادَتْ عَلَى صَاحِبِهَا وَعَلَى غَيْرِهِ بِكُلِّ خَيْرٍ عَاجِلٍ وَآجِلٍ.

1*فَمِنْ أَعْظَمِ ثِمَارِهَا الِاغْتِبَاطُ بِوِلَايَةِ اللهِ الْخَاصَّةِ، الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ مَا تَنَافَسَ فِيهِ الْمُتَنَافِسُونَ، وَأَجَلُّ مَا حَصَّلَهُ الْمُوَفَّقُونَ.

قَالَ تَعَالَى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}؛ ثُمَّ وَصَفَهُمْ بِقَوْلِهِ: {الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 62-63].

فَكُلُّ مُؤْمِنٍ تَقِيٍّ، فَهُوَ للهِ وَلِيٌّ وِلَايَةً خَاصَّةً، مِنْ ثَمَرَاتِهَا مَا قَالَهُ اللهُ عَنْهُمْ: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة: 257]، أَيْ: يُخْرِجُهُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ إِلَى نُورِ الْإِيمَانِ، وَمِنْ ظُلُمَاتِ الْجَهْلِ إِلَى نُورِ الْعِلْمِ، وَمِنْ ظُلُمَاتِ الْمَعَاصِي إِلَى نُورِ الطَّاعَةِ، وَمِنْ ظُلُمَاتِ الْغَفْلَةِ إِلَى نُورِ الْيَقَظَةِ وَالذِّكْرِ.

2*وَمِنْ ثَمَرَاتِ الْإِيمَانِ: الْفَوْزُ بِرِضَا اللهِ، وَدَارِ كَرَامَتِهِ.

قَالَ تَعَالَى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( 71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 71-72].

فَنَالُوا رِضَا رَبِّهِمْ وَرَحْمَتِهِ، وَالْفَوْزَ بِهَذِهِ الْمَسَاكِنِ الطَّيِّبَةِ بِإِيمَانِهِمْ الَّذِي كَمَّلُوا بِهِ أَنْفُسَهُمْ، وَكَمَّلُوا غَيْرَهُمْ بِقِيَامِهِمْ بِطَاعَةِ اللهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَاسْتَوْلَوْا عَلَى أَجَلِّ الْوَسَائِلِ، وَأَفْضَلِ الْغَايَاتِ، وَذَلِكَ فَضْلُ اللهِ.

3-وَمِنْهَا: أَنَّ الْإِيمَانَ الْكَامِلَ يَمْنَعُ مِنْ دُخُولِ النَّار؛ وَالْإِيمَانَ -وَلَوْ كَانَ قَلِيلًا- يَمْنَعُ مِنَ الْخُلُودِ فِيهَا.

4-وَمِنْ ثَمَرَاتِ الْإِيمَانِ: أَنَّ اللهَ يَدْفَعُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ جَمِيعَ الْمَكَارِهِ، وَيُنْجِيهُمْ مِنَ الشَّدَائِدِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا} [الحج: 38]؛ أَيْ: يَدْفَعُ عَنْهُمْ كُلَّ مَكْرُوهٍ؛ يَدْفَعُ عَنْهُمْ شَرَّ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَشَيَاطِينِ الْجِنِّ، وَيَدْفَعُ عَنْهُمُ الْأَعْدَاءَ، وَيَدْفَعُ عَنْهُمُ الْمَكَارِهَ قَبْلَ نُزُولِهَا، وَيَرْفَعُهَا أَوْ يُخَفِّفُهَا بَعْدَ نُزُولِهَا.

وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ} أَيْ: بِالْقِيَامِ بِالْإِيمَانِ وَلَوَازِمِهِ؛ {يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2]، أَيْ: مِنْ كُلِّ مَا ضَاقَ عَلَى النَّاسِ؛ {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق: 4].

فَالْمُؤْمِنُ الْمُتَّقِي؛ يُيَسِّرُ اللهُ لَهُ أُمُورَهُ وَيُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى، وَيُجَنِّبُهُ الْعُسْرَى.

5*وَمِنْهَا -أَيْ مِنْ ثَمَرَاتِ الْإِيمَانِ عَلَى الْعَبْدِ-: أَنَّ الْإِيمَانَ وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ -الَّذِي هُوَ فَرْعُهُ- يُثْمِرُ الْحَيَاةَ الطَّيِّبَةَ فِي هَذِهِ الدَّارِ، وَفِي دَارِ الْقَرَارِ.

قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97].

وَذَلِكَ أَنَّ مِنْ خَصَائِصِ الْإِيمَانِ، أَنَّهُ يُثْمِرُ طُمْأَنِينَةَ الْقَلْبِ وَرَاحَتَهُ، وَقَنَاعَتَهُ بِمَا رَزَقَ اللهُ، وَعَدَمَ تَعَلُّقِهِ بِغَيْرِهِ، وَهَذِهِ هِيَ الْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ، فَإِنَّ أَصْلُ الْحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ رَاحَةُ الْقَلْبِ وَطُمَأْنِينَتُهُ، وَعَدَمُ تَشَوٌّشِهِ مِمَّا يَتَشَوَّشُ مِنْهُ الْفَاقِدُ لِلْإِيمَانِ الصَّحِيحِ.

6*وَمِنْهَا -مِنْ ثَمَرَاتِ الْإِيمَانِ-: أَنَّ صَاحِبَ الْإِيمَانِ يَهْدِيهُ اللهُ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَيَهْدِيهُ فِي الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، يَهْدِيهُ إِلَى عِلْمِ الْحَقِّ، وَإِلَى الْعَمَلِ بِهِ، وَإِلَى تَلَقِّي الْمَحَابِّ وَالْمَسَارِّ بِالشُّكْرِ، وَتَلَقِّي الْمَكَارِهِ وَالْمَصَائِبِ بِالرِّضَا وَالصَّبْرِ.

قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} [يونس: 9].

7*وَمِنْ ثَمَرَاتِ الْإِيمَانِ وَلَوَازِمِهِ -مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ- مَا ذَكَرَهُ اللهُ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم: 96]؛ أَيْ بِسَبَبِ إِيمَانِهِمْ وَأَعْمَالِ الْإِيمَانِ، يُحِبُّهُمُ اللهُ وَيَجْعَلُ لَهُمُ الْمَحَبَّةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ.

وَمَنْ أَحَبَّهُ اللهُ وَأَحَبَّهُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ عِبَادِهِ؛ حَصَلَتْ لَهُ السَّعَادَةُ وَالْفَلَاحُ وَالْفَوَائِدُ الْكَثِيرَةُ مِنْ مَحَبَّةِ الْمُؤْمِنِينَ، مِنَ الثَّنَاءِ وَالدُّعَاءِ لَهْ حَيًّا وَمَيِّتًا، وَالِاقْتِدَاءِ بِهِ، وَحُصُولِ الْإِمَامَةِ فِي الدِّينِ.

8*وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11].

فَهُمْ أَعْلَى الْخَلْقِ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ عِبَادِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

وَإِنَّمَا نَالُوا هَذِهِ الرِّفْعَةَ بِإِيمَانِهِمْ الصَّحِيحِ وَعَمَلِهِمْ وَيَقِينِهِمْ، وَالْعِلْمِ، وَالْيَقِينِ مِنْ أُصُولِ الْإِيمَانِ.

9*وَمِنْ ثَمَرَاتِ الْإِيمَانِ: حُصُولُ الْبِشَارَةِ بِكَرَامَةِ اللهِ، وَالْأَمْنِ التَّامِّ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} فَأَطْلَقَهَا؛ لِيَعُمَّ الْخَيْرَ الْعَاجِلَ وَالْآجِلَ.

وَلَهُمُ الْأَمْنُ الْمُطْلَقُ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82].

10*وَمِنْ ثَمَرَاتِ الْإِيمَانِ: حُصُولُ الْفَلَاحِ، الَّذِي هُوَ إِدْرَاكُ غَايَةِ الْغَايَاتِ، فَإِنَّهُ إِدْرَاكُ كُلِّ مَطْلُوبٍ، وَالسَّلَامَةُ مِنْ كُلِّ مَرْهُوبٍ، وَالْهُدَى الَّذِي هُوَ أَشْرَفُ الْوَسَائِلِ.

كَمَا قَالَ تَعَالَى -بَعْدَ ذِكْرِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ، وَمَا أُنْزِلَ عَلَى مَنْ قَبْلَهُ، وَالْإِيمَانُ بِالْغَيْبِ، وَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، اللَّتَيْنِ هُمَا مِنْ أَعْظَمِ آثَارِ الْإِيمَانِ، قَالَ تَعَالَى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 5]، فَهَذَا هُوَ الْهُدَى التَّامُّ، وَالْفَلَاحُ الْكَامِلُ.

11*وَمِنْ ثَمَرَاتِ الْإِيمَانِ: الِانْتِفَاعُ بِالْمَوَاعِظِ وَالتَّذْكِيرُ بِالْآيَاتِ.

قَالَ تَعَالَى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55]، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر: 77].

12*وَمِنْهَا: أَنَّ الْإِيمَانَ يَحْمِلُ صَاحِبَهُ عَلَى الشُّكْرِ فِي حَالَةِ السَّرَّاءِ، وَالصَّبْرِ فِي حَالَةِ الضَّرَّاءِ، وَكَسْبِ الْخَيْرِ فِي كُلِّ أَوْقَاتِهِ.

كَمَا ثَبَتَ فِي ((الصَّحِيحِ)) عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((عَجَبًا لأمرِ المؤمنِ إِنَّ أمْرَه كُلَّهُ خَيْرٌ، إِنْ أصَابتهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيرًا لهُ، وإنْ أصَابتهُ ضَرَّاءُ صَبرَ، فَكَانَ خَيرًا لهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ)).

وَالشُّكْرُ وَالصَّبْرُ هُمَا جِمَاعُ كُلِّ خَيْرٍ، فَالْمُؤْمِنُ مُغْتَنِمٌ لِلْخَيْرَاتِ فِي كُلِّ أَوْقَاتِهِ، رَابِحٌ فِي كُلِّ حَالَاتِهِ.

13*وَمِنْهَا: أَنَّ الْإِيمَانَ يَقْطَعُ الشُّكُوكَ الَّتِي تَعْرِضُ لِكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ فَتَضُرُّ بِدِينِهِمْ.

قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات: 15]، أَيْ: دَفَعَ الْإِيمَانَ الصَّحِيحَ الَّذِي مَعَهُمُ الرَّيْبَ وَالشَّكَّ الْمَوْجُودَ، وَأَزَالَهُ بِالْكُلِيَّةِ، وَقَاوَمَ الشُّكُوكَ الَّتِي تُلْقِيهَا شَيَاطِينُ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَالنُّفُوسِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ فَلَيْسَ لِهَذِهِ الْعِلَلِ الْمُهْلِكَةِ دَوَاءٌ إِلَّا تَحْقِيقُ الْإِيمَانِ.

14*وَمِنْهَا أَنَّ الْإِيمَانَ الصَّحِيحَ يَمْنَعُ الْعَبْدَ مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْمُوبِقَاتِ الْمُهْلِكَةِ، كَمَا ثَبَتَ فِي ((الصَّحِيحِ)) عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ)). الْحَدِيثَ.

وَمَنْ وَقَعَتْ مِنْهُ، فَإِنَّهُ لِضَعْفِ إِيمَانِهِ، وَذَهَابِ نُورِهِ، وَزَوَالِ الْحَيَاءِ مِمَّنْ يَرَاهُ حَيْثُ نَهَاهُ، وَهَذَا مَعْرُوفٌ مُشَاهَدٌ.

وَالْإِيمَانُ الصَّادِقُ الصَّحِيحُ يَصْحَبُهُ الْحَيَاءُ مِنَ اللهِ، وَالْحُبُّ لَهُ، وَالرَّجَاءُ الْقَوِيُّ لِثَوَابِهِ، وَالْخَوْفُ مِنْ عِقَابِهِ، وَالنُّورُ الَّذِي يُنَافِي الظُّلْمَةَ، وَهَذِهِ الْأُمُورُ الَّتِي هِيَ مِنْ مُكَمِّلَاتِ الْإِيمَانِ لَارَيْبَ أَنَّهَا تَأْمُرُ صَاحِبَهَا بِكُلِّ خَيْرٍ، وَتَزْجُرُهُ عَنْ كُلِّ قَبِيحٍ.

 ((أَثَرُ الْإِيمَانِ فِي الْقُلُوبِ وَالْأَبْدَانِ))

لَقَدْ ضَرَبَ لَنَا مَنْ جَاءَ بَعْدَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ الْأَمْثَالَ فِي تَحْقِيقِ الْإِيمَانِ:

هَذَا رَجُلٌ مِنْ أُولَئِكَ الرِّجَالِ الصُّدُقِ الَّذِينَ هُمْ عِنْدَ الْمُوَاجَهَةِ مِنْ أَصْبَرِ الْخَلْقِ، يُحَوِّلُونَ الْكَلَامَ وَاقِعًا عَمَلِيًّا، وَيُحَوِّلُونَ الْإِيمَانَ إِلَى حَيَاةٍ فَوَّارَةٍ مَوَّاجَةٍ بِالْعَمَلِ، زَاخِرَةٍ هَادِرَةٍ بِذَلِكَ الَّذِي يَكُونُ مِنْ آثَارِ الْعَمَلِ وَمِن نَتَائِجِهِ.

هَذَا رَجُلٌ مِمَّنْ جَاءَ بَعْدَ أَصْحَابِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ، مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ، هُوَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، فَأَمَّا نَسَبُهُ وَحَسَبُهُ، وَأَمَّا أَصْلُهُ وَفَصْلُهُ فَبَاهِرٌ زَاخِرٌ وَلَا مَزِيدَ.

فَأَمَّا الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ؛ فَإِنَّهُ صَاحِبُ النَّبِيِّ ﷺ وَحَوَارِّيُّهُ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

وَأَمَّا أُمُّهُ فَـ(ذَاتُ النِّطَاقَيْنِ) أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ -رُضْوَانُ اللهِ عَلَيْهَا وَعَلَى أَبِيهَا وَعَلَى أُمِّهَا وَعَلَى أَصْحَابِ نَبِيِّنَا أَجْمَعِينَ-.

أَمَّا أَسْمَاءُ؛ فَهِيَ مَثَلٌ مَضْرُوبٌ فِي الصَّبْرِ، وَهِيَ ذَاتُ النِّطَاقَيْنِ، لَمَّا ذَهَبَتْ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ وَأَبِيهَا فِي الْغَارِ، فَلَمْ تَجِدْ شَيْئًا تَجْعَلُهُ عِصَامًا؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ تَحْمِلَ فِيهِ زَادَ النَّبِيِّ ﷺ وَشَرَابَهُ، فَأَخَذَتْ نِطَاقَهَا، وَهُوَ ذَلِكَ الَّذِي تَشُدُّ بِهِ الْمَرْأَةُ وَسَطَهَا، فَجَعَلَتْهُ بِثِنْتَيْنِ، ثُمَّ جَعَلَتِ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ مُعَلَّقًا بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَجَعَلَتْ عَلَى وَسَطِهَا الثَّانِيَ، فَسُمِّيَتْ بِـ(ذَاتِ النِّطَاقَيْنِ).

أَسْمَاءٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- وَهِيَ تُحَوِّلُ الْإِيمَانَ حَقِيقَةً وَاقِعِيَّةً، وَقَدْ أَصَابَهَا الضُّرَّ فِي آخِرِ عُمُرِهَا، وَسَلَبَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنْهَا حَبِيبَتَيْهَا وَأَصَابَهَا الْعَمَى، وَلَكِنَّهَا كَانَتْ مُبْصِرَةً بِبَصِيرَتِهَا، وَلَكِنَّهَا كَانَتْ مُشَاهِدَةً بِحَقِيقَةِ الْإِيمَانِ فِي قَلْبِهَا.

لَمَّا ذَهَبَ إِلَيْهَا وَلَدُهَا عَبْدُ اللهِ قَبْلَ الْمَوْقِعَةِ الْفَاصِلَةِ مَعَ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ، وَوَصَّتْهُ مَا وَصَّتْهُ، ثُمَّ ذَهَبَ، فَذَهَبَ قَتِيلًا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَعَلَّقَهُ الْحَجَّاجُ بَعْدَ ذَلِكَ مَنْكُوسًا مَصْلُوبًا، وَأَمَّا هِيَ فَاحْتَسَبَتْ ذَلِكَ كُلَّهُ عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَكَانَتْ صَابِرَةً حَتَّى لَقِيَتْ رَبَّهَا -جَلَّ وَعَلَا-.

وَأَمَّا جَدَّتُهُ لِأَبِيهِ فَهِيَ عَمَّةُ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

فَهَذَا الرَّجُلُ بَاذِخٌ مِنْ طَرَفَيْهِ، جَدُّهُ أَبُو بَكْرٍ وَأُمُّهُ أَسْمَاءُ، وَأَبُوهُ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ، وَجَدَّتُهُ لِأَبِيهِ صَفِيَّةُ عَمَّةُ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

رَزَقَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَرْبَعَةً مِنَ الْوَلَدِ؛ مِنْهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ عُرْوَةَ، وَكَانَ يُلَقَّبُ (زَيْنَ الْمَوَاكِبِ)؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي بَهَائِهِ وَجَمَالِهِ مَثَلًا مَضْرُوبًا حَتَّى لُقِّبَ بِـ(زَيْنِ الْمَوَاكِبِ).

وَكَانَ عُرْوَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَحَدَ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ السَّبْعَةِ، وَكَانَ مِمَّنْ يُحْمَلُ عَنْهُ الْعِلْمُ، وَمِمَّنْ أَخَذَ عِلْمَ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- حَتَّى اشْتَفَّهُ، وَإِنَّهُ لَيَقُولُ قَبْلَ مَوْتِهَا بِأَرْبَعَةِ أَعْوَامٍ: ((لَوْ مَاتَتِ الْيَوْمَ؛ لَمَا أَسِفْتُ عَلَى حَدِيثٍ هُوَ عِنْدَهَا))؛ مِنْ كَثْرَةِ تَرَدُّدِهِ عَلَيْهَا، وَسُؤُالِهِ إِيَّاهَا، وَحَمْلِهِ لِلْعِلْمِ الَّذِي عَلَّمَهَا إِيَّاهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ.

وَأَرْسَلَ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ دَعْوَةً لِعُرْوَةَ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ-؛ لِكَيْ يَقْدُمَ عَلَيْهِ دِمْشَقَ حَاضِرَةَ الْخِلَافَةِ، وَاصْطَحَبَ عُرْوَةُ مَعَهُ زَيْنَ الْمَوَاكِبِ، وَهِشَامًا وَلَدَهُ وَهُوَ مِمَّنْ رَوَى عَنْ أَبِيهِ فَأَكْثَرَ، فَـ(هِشَامٌ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- ) طَرِيقٌ مَعْلُومَةٌ، وَسَبِيلٌ مَسْلُوكَةٌ، وَمَعْلَمٌ فِي الْحَدِيثِ ظَاهِرٌ بَاهِرٌ.

اصْطَحَبَ عُرْوَةُ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ- مَعَهُ زَيْنَ الْمَوَاكِبِ وَهِشَامًا، فَتَحَصَّلَ عِنْدَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فِي قَصْرِهِ، فَأَكْرَمَ وِفَادَتَهُ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ إِحْسَانًا كَامِلًا، وَأَمَّا عُرْوَةُ ؛ فَقَدْ أَرَادَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَهُ شَيْئًا آخَرَ؛ لِكَيْ يَضْرِبَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهِ الْمِثَالَ لِلْأَجْيَالِ اللَّاحِقَةِ، وَإِلَى أَنْ يُقِيمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ السَّاعَةَ.

أَمَّا عُرْوَةُ فَإِنَّهُ اشْتَكَى رِجْلَهُ مُنْذُ رَحِيلِهِ، حَتَّى كَانَ هُنَاكَ عِنْدَ الْخَلِيفَةِ فِي قَصْرِهِ، وَمَا زَالَتِ الْعِلَّةُ تَشْتَدُّ بِالْوَجَعِ عَلَيْهِ حَتَّى قَرَّرَ الْخَلِيفَةُ أَنْ يَعْرِضَهُ عَلَى (أَبِي الْحَكَمِ)، وَهُوَ طَبِيبُهُ النَّصْرَانِيُّ، وَكَانَ رَجُلًا فَارِعَ الطُّولِ، مَشْبُوحَ الْعِظَامِ، قَدْ ذَهَبَ الصَّلَعُ بِشَعْرِ رَأْسِهِ إِلَّا شَعَرَاتٍ بِيضٍ بِجَانِبَيْهِ، وَأَمَّا لِحْيَتُهُ فَقَدْ طَالَتْ وَهِيَ كَثَّةٌ فَلَوْ ضَرَبَتْهَا الرِّيحُ لَطَارَتْ بِهِ، وَإِنَّهُ لَيَدْخُلُ تَسْبِقُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ لِحْيَتُهُ، حَتَّى كَانَ هُنَالِكَ عِنْدَ عُرْوَةَ وَفِي الْمَجْلِسِ مَنْ فِيهِ؛ وَمِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ-.

وَقَامَ الطَّبِيبُ النَّصْرَانِيُّ أَبُو الْحَكَمِ لِفَحْصِ الْعِلَّةِ، ثُمَّ قَرَّرَ قَرَارًا رَهِيبًا، قَالَ: إِنَّهَا الْأَكِلَةُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَهِيَ مَا يُسَمَّى فِي عُرْفِ الْأَطِبَّاءِ الْيَوْمَ (الْغَرْغَرِينَة)، وَهَذِهِ إِذَا مَا اسْتَشْرَتْ فِي عُضْوٍ بِدَائِهَا؛ تَآكَلَ وَتَأَكَّلَ مِنْهَا، وَلَا بُدَّ مِنْ بَتْرِهَا مِنْ فَوْقِهَا مِمَّا هُوَ صَحِيحٌ، وَإِلَّا فَإِنَّهَا قَاضِيَةٌ عَلَى الْجَسَدِ كُلِّهِ لَا مَحَالَةَ.

قَالَ: هِيَ الْأَكِلَةُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا بُدَّ مِنْ بَتْرِهَا.

سَبَقَ هَذَا الْحَدَثَ؛ أَنَّ زَيْنَ الْمَوَاكِبِ كَانَ هُنَالِكَ فَوْقَ سَطْحِ دَارٍ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ تُشْرِفُ عَلَى إِسْطَبْلٍ بِهِ جِيَادُهُ، فَمَا زَالَ نَاظِرًا مُتَطَلِّعًا حَتَّى زَلَّتْ قَدَمُهُ، فَوَقَعَ هُنَالِكَ بَيْنَ الْجِيَادِ، فَرَمَحَهُ وَاحِدٌ مِنْهَا فِي وَجْهِهِ، فَقَضَى عَلَيْهِ، وَوَقَعَ الْهَرَجُ فِي الْجِيَادِ، فَمَا زَالَتْ ثَائِرَةً تَرُوحُ وَتَجِيءُ عَلَى جَسَدِهِ حَتَّى فَصَلَتْ رَأْسَهُ عَنْهُ.

وَكَانَ هَذَا الْحَدَثُ بِمَعْزِلٍ عَنْ عُرْوَةَ، وَقَدْ نَزَلَتْ بِهِ الْمُصِيبَةُ فِي جَسَدِهِ، وَأَمَّا عُرْوَةُ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ- فَإِنَّهُ قَالَ لِلطَّبِيبِ: دُونَكَ.

فَجَاءَ الطَّبِيبُ إِلَيْهِ يَقُولُ: لَا بُدَّ أَنْ نَسْقِيَكَ خَمْرًا.

فَقَالَ: قَبَّحَكَ اللهُ مِنْ شَيْخٍ سُوءٍ، إِنَّا لَا نَسْتَعِينُ بِحَرَامِ اللهِ عَلَى عَافِيَتِهِ، وَإِنَّا لَا نَتَوَصَّلُ إِلَى مَا نُرِيدُ مِنَ الرَّاحَةِ بِهَذِهِ السَّبِيلِ الْمَسْلُوكَةِ الْخَائِضَةِ فِيمَا حَرَّمَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-.

قَالَ: فَإِذَنْ؛ لَا بُدَّ أَنْ نَسْقِيَكَ الْمُرْقِدَ.

وَهُوَ شَيْءٌ كَالْمُخَدِّرِ، إِذَا مَا تَنَاوَلَهُ الْإِنْسَانُ ذَهَبَ عَنْهُ وَعْيَهُ، حَتَّى يُلِمَّ بِهِ هَذَا الْبَتْرُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ مَا مَخَافَةٍ عَلَيْهِ، إِذْ يَتَفَزَّزُ وَيَتَفَزَّعُ، وَرُبَّمَا نَدَّتْ مِنْهُ حَرَكَةٌ فِي أَثْنَاءِ الْبَتْرِ بِآلَاتِهِ الْبِدَائِيَّةِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، فَأُصِيبَ فِي مَوْضِعٍ صَحِيحٍ مِنْهُ، أَوْ لَمْ يَقِفْ نَزْفُ الدَّمِ بَعْدَ ذَلِكَ الَّذِي يَكُونُ مِنْ بَتْرِ الْعُضْوِ الْمُصَابِ، وَيَقَعُ بَعْدَ ذَلِكَ مَا لَا يُحْمَدُ عُقْبَاهُ.

فَقَالَ: فَنَسْقِيكَ الْمُرْقِدَ.

قَالَ: لَا وَاللهِ، مَا أُحِبُّ أَنْ يَذْهَبَ شَيْءٌ مِنِّي عَنِّي إِلَّا وَأَنَا حَامِدٌ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، شَاكِرٌ لَهُ، وَأَنَا مُصَلٍّ عَلَى نَبِيِّهِ ﷺ؛ حَتَّى أَتَحَصَّلَ عَلَى تَمَامِ الْأَجْرِ مِنْ ذَلِكَ، وَاللهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَقْضِي بِمَا يُرِيدُ.

فَأُتِيَ بِالطَّسْتِ، وَمُدَّتْ رِجْلُ عُرْوَةَ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ- فَوْقَ الطَّسْتِ، وَأَتَى أَبُو الْحَكَمِ بِآلَاتِهِ، فَأَخْرَجَ مِنْشَارًا طَوِيلًا دَقِيقًا صَقِيلًا، يَضْحَكُ الشُّعَاعُ فِيهِ، فَاسْتَلَّهُ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ فَفَحَصَهُ، حَتَّى إِذَا مَا رَضِيَهُ، أَقْبَلَ عَلَى الرِّجْلِ الصَّحِيحَةِ مِنْ عِنْدَ الرُّكْبَةِ بَلْ مِنْ فَوْقِهَا، ثُمَّ أَقْبَلَ يُعْمِلُ مِنْشَارَهُ فِي اللَّحْمِ الْحَيِّ، حَتَّى وَصَلَ إِلَى الْعَظْمِ الْحَيِّ يَنْشُرُهُ نَشْرًا، وَعُرْوَةُ لَا يَزِيدُ عَلَى قَوْلِهِ: ((سُبْحَانَ اللهُ، وَالْحَمْدُ للهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ)).

وَذَلِكَ الرَّجُلُ يَقُومُ بِنَشْرِ رِجْلِهِ مِنَ الْعَظْمِ الْحَيِّ، حَتَّى فَصَلَهَا، فَأُخِذَتْ نَاحِيَةً، وَإِنَّ الدَّمَ لَيَفُورُ كَأَنَّمَا يَنْبَثِقُ مِنْ يَنْبُوعِ دَمَوِيٍّ حَيٍّ أَحْمَرَ قَانِيًا، وَإِنَّ الصُّفْرَةَ لَتَعْلُو وَجْهَ عُرْوَةَ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ- مِنْ أَثَرِ النَّزْفِ، وَإِنَّ الْعَرَقَ لِيَتَصَبَّبَ مِنْهُ شَآبِيبَ، يَمْسَحُ ذَلِكَ بِكَفَّيْهِ، وَلَا يَزِيدُ عَلَى مَا مَرَّ مِنْ ذِكْرِهِ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ-.

وَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ جِيءَ بِمَغَارِفَ فِيهَا زَيْتٌ يَغْلِي، قَدْ أُحْمِيَتْ مِنْ تَحْتِهِ النَّارِ، فَصُبَّ الزَّيْتُ الْمَغْلِيُّ عَلَى تِلْكَ الْقَدَمِ الَّتِي قَدْ قُطِعَتْ، يَعْنِي عَلَى الْبَاقِي مِنْهَا عَلَى آثَارِهَا، صُبَّ الزَّيْتُ الْمَغْلِيُّ فِي غَلَيَانِهِ، فِي تَوَهُّجِهِ، فِي نَارِهِ، صُبَّ عَلَى آثَارِ ذَلِكَ الْجُرْحِ، وَعَلَى بَقَايَا ذَلِكَ النَّزْفِ، وَعَلَى آثَارِ تِلْكَ الْعِظَامِ الْمَنْشُورَةِ، صُبَّ الزَّيْتُ الْمَغْلِيُّ وَالرَّجُلُ مُتَصِلٌّ بِرَبِّهِ يَذْكُرُ وَيَدْعُو، وَيَأْلَمُ وَلَا يَشْكُو، وَيَتَوَكَّلُ عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مُحْتَسِبًا صَابِرًا، وَالْأَمْرُ يَتَنَزَّلُ بِالسَّكِينَةِ عَلَيْهِ.

وَأَمَّا الْحُضُورُ فَمَا مِنْهُمْ إِلَّا وَقَدْ وَضَعَ رَأْسَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، وَوَضَعَ رَأْسَهُ عَلَى كَفَّيْهِ، وَعَلَا النَّشِيجُ بِالْبُكَاءِ وَكَانَتْ مَنَاحَةً عَظِيمَةً، وَأَمَّا نُورُ الْإِيمَانِ فَإِنَّهُ يَتَأَلَّقُ فِي وَجْهِ الرَّجُلِ، لَا يَبْكِي وَلَا يَشْكُو، وَإِنَّمَا هُوَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ؛ لِأَنَّ الَّذِي أَعْطَى هُوَ الَّذِي أَخَذَ، وَلِأَنَّ الَّذِي مَنَحَ هُوَ الَّذِي مَنَعَ، وَلِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ بِمَا يُرِيدُ.

وَحَقِيقَةُ الْإِيمَانِ مُتَأَلِّقَةٌ قَائِمَةٌ، وَهَذَا الرَّجُلُ الطَّبِيبُ النَّصْرَانِيُّ يَرَى هَذَا الْهَوْلَ كُلَّهُ، وَلَا يَرَى لَهُ فِي نَفْسِ عُرْوَةَ مِنْ أَثَرٍ يُذْكَرُ، يَقُولُ: أَمَا وَاللهِ إِنَّهُ لِتِمْثَالٍ مِنَ الصَّبْرِ فِي إِيهَابِ رَجُلٍ، وَاللهِ مَا رَأَيْتُ مِثْلَ هَذَا قَطُّ.

وَأَمَّا عُرْوَةُ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ-؛ فَإِنَّ الزَّيْتَ الْمَغْلِيَّ لَمَّا جُعِلَ عَلَى رِجْلِهِ بَعْدَ أَنْ بُتِرَتْ لِأَجْلِ أَنْ يُوقَفَ النَّزِيفُ، وَأَنْ يَمْتَنِعَ الدَّمُ بِغَلَيَانِهِ وَفَوَرَانِهِ وَثَوْرَتِهِ، حَتَّى لَا يَمُوتَ نَزْفًا بَعْدَ أَنْ كَادَ أَنْ يَمُوتَ مِنَ الْأَكِلَةِ مِنَ الْمَرَضِ، وَهَا هُوَ هَذَا الْعُضْوُ الْمُصَابُ قَدْ أُبْعِدَ نَاحِيَةً، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُتْرَكَ الْجَسَدُ لِيَمُوتُ مِنْ عِلَّةٍ أُخْرَى، إِنَّمَا كَانَتِ الْأُولَى سَبَبًا فِيهَا وَمُؤَدِّيَةً إِلَيْهَا.

وَأَمَّا رِجْلُهُ الَّتِي فُصِلَتْ عَنْهُ، فَإِنَّ الرِّجَالَ لِيُبْعِدُونَهَا شَيْئًا فَشَيْئًا، وَأَمَّا هُوَ فَأَخَذَتْهُ غَاشِيَةٌ فَأُغْشِيَ عَلَيْهِ، وَإِنَّهُ لِيَأْخُذُ فِي ذِكْرِهِ وَهُوَ فِي غَاشِيَتِهِ، وَهُوَ فِي إِغْمَائِهِ مُتَصِلٌّ بِرَبِّهِ، حَتَّى إِذَا سُرِّيَ عَنْهُ وَأَفَاقَ، لَمَحَ رَجُلًا يَخْرُجُ بِرِجْلِهِ الَّتِي بُتِرَتْ، فَقَالَ: دُونَكَ، هَلُمَّ إِلَيَّ، فَجَاءَهُ، فَأَخَذَ مِنْهُ رِجْلَهُ، وَنَظَرَ إِلَيْهَا، فَقَرَّبَهَا مِنْهُ فَقَبَّلَهَا، ثُمَّ قَالَ: أَمَا وَالَّذِي حَمَلَنِي عَلَيْكِ إِنَّهُ لِيَعْلَمُ أَنِّي مَا سِرْتُ عَلَيْكِ إِلَى سُوءٍ قَطُّ، وَإِنَّي لِأَحْتَسِبُكِ عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، خُذُوهَا فَوَارُوهَا.

وَأَمَّا هُوَ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ صَابِرًا، وَإِمَّا أَلَّا يَكُونَ صَابِرًا، هَذَانِ أَمْرَانِ لَيْسَ لَهُمَا مِنْ ثَالِثٍ، وَصَبْرُ عُرْوَةَ صَبْرُ التَّسْلِيمِ وَالرِّضَا، يَنْظُرُ إِلَى قَدَمِهِ الَّتِي فُصِلَتْ، ثُمَّ يَتَوَجَّهُ إِلَى رَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا-: ((اللهم إِنْ كُنْتَ قَدْ ابْتَلَيْتَ فِي عُضْوٍ فَقَدْ عَافَيْتَ فِي أَعْضَاءٍ!!))

لَا يَنْظُرُ إِلَى مَا أُخِذَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ -وَلَا يَسْتَحِقُّ أَحَدٌ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ شَيْئًا وَلَا يَفْرِضُ عَلَى رَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا- أَمْرًا، وَإِنَّمَا الَّذِي يُعْطِي وَيَهَبُ، وَالَّذِي يَجُودُ وَيَتَفَضَّلُ هُوَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَهُوَ الْحَاكِمُ فِي خَلْقِهِ، وَهُوَ الْمُدَبِّرُ بِأَمْرِهِ، وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ، يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ بِمَا يُرِيدُ.

((فَلَمْ يَلْتَفِتِ الرَّجُلُ إِلَى مَا أُخِذَ مِنْهُ، وَإِنَّمَا الْتَفَتَ إِلَى مَا بَقِيَ لَدَيْهِ))، وَهِيَ قَاعِدَةٌ مِنَ الْقَوَاعِدِ الْكُبْرَى فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عِنْدَ زَوَالِ بَعْضِ النِّعَمِ.

وَهَذَا مَا قَالَهُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ لِرَجُلٍ ضُيِّقَ عَلَيْهِ فِي الرِّزْقِ، فَذَهَبَ يَشْكُو إِلَى عَالِمٍ كَانَ هُنَالِكَ رَبَانِيٍّ، فَلَمَّا ذَهَبَ إِلَيْهِ قَالَ: إِنِّي قَدْ ضُيَّقَ عَلَيَّ فِي الرِّزْقِ، وَأَنَا مِنْ بَعْدُ وَمِنْ قَبْلُ مُصَلٍّ مُزَكٍّ مُتَصَدِّقٌ، وَأَنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ مُسْتَقِيمٌ عَلَى دِينِ رَبِّي -جَلَّ وَعَلَا-، وَإِنَّ غَيْرِي مِنَ الْخَلْقِ مِمَّنْ لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً، وَمِمَّنْ لَا يُطِيعُونَ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فِي أَمْرٍ وَلَا يَنْتَهُونَ عَنْ نَهْيٍ، وَمِمَّنْ قَدْ مَرُّوا فِي الْحَيَاةِ وَإِنَّ حِبَالَهُمْ لَعَلَى غَوَارِبِهِمْ، يَسِيرُونَ فِيهَا سَيْرَ الْحَيَوَانَاتِ الْعَجْمَاوَاتِ!!

إِنَّ فُلَانًا وَفُلَانًا مِنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ وَصْفَتُ مِنْ حَالِهِمْ قَدْ وُسِّعَ عَلَيْهِمْ فِي الرِّزْقِ وَلَا يَأْتُونَ مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا، وَلَا يَعْرِفُونَ إِلَّا الْبَاطِلَ يُجَامِعُونَهُ وَيُوَاقِعُونَهُ وَيُضَاجِعُونَهُ فِي آنَاءِ اللَّيْلِ وَأَطْرَافِ النَّهَارِ!!

فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ الرَّجُلُ: اجْلِسْ، فَجَلَسَ، فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ تُحِبُّ أَنْ تَكُونَ أَعْمَى وَلَكَ مِئَةُ أَلْفٍ؟

فَأَخَذَ الرَّجُلُ يُفَكِّرُ فِي الْأَمْرِ، وَمَا هِيَ إِلَى طَرْفَةُ الْعَيْنِ أَوْ أَقَلَّ مِنْهَا حَتَّى قَالَ: لَا وَاللهِ، مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي مِئَةُ أَلْفٍ وَأَنِّي كُنْتَ مَكْفُوفَ الْبَصَرِ.

فَقَالَ: أَكُنْتَ تُحِبُّ أَنْ تَكُونَ أَصَمَّ لَا تَسْمَعُ وَلَكَ مِئَةُ أَلْفٍ؟

فَقَالَ: لَا وَاللهِ.

قَالَ: أَكُنْتَ تُحِبُّ أَنْ تَكُونَ مَشْلُولَ الْيَدَيْنِ وَلَكَ مِئَةُ أَلْفٍ؟

قَالَ: لَا وَاللهِ.

قَالَ: أَكُنْتَ تُحِبُّ أَنْ تَكُونَ مَشْلولَ الرِّجْلَيْنِ وَلَكَ مِئَةُ أَلْفٍ؟

قَالَ: لَا وَاللهِ.

قَالَ: أَكُنْتَ تُحِبُّ أَنْ تَكُونَ أَبْكَمَ لَا تَنْطِقُ وَلَكَ مِئَةُ أَلْفٍ؟

قَالَ: لَا وَاللهِ.

قَالَ: يَا هَذَا، للهِ عِنْدَكَ نِعَمٌ بِخَمْسِ مِئَةِ أَلْفٍ، وَهُوَ بَعْدَ ذَلِكَ يَغْذُوكَ وَيَكْسُوكَ وَيَكْلَؤُكَ وَيَرْعَاكَ، وَيَحْمِيكَ، وَيُعْطِيكَ، فَاذْهَبْ فَأَدِّ مَا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَيْكَ، ثُمَّ طَالِبْ رَبَّكَ بِمَا لَا تَسْتَحِقُّ!!

وَالْأَصْلُ أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- قَدْ أَنْعَمَ عَلَى الْعِبَادِ بِهَذِهِ النِّعَمِ، وَهِيَ فَوْقَ أَنْ تُقَدَّرَ بِمَالٍ، وَذَلِكَ يَعْرِفُهُ كُلُّ عَاقِلٍ مِمَّنْ آتَاهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مُسْكَةً مِنْ عَقْلٍ أَوْ ذَرَّةً مِنْ نُهَى.

وَأَمَّا عُرْوَةُ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ- فَإِنَّهُ يَأْخُذُ الْقَاعِدَةَ عَلَى وَجْهِهَا، فَيَنْظُرُ إِلَى مَا تَبَقَّى وَلَا يَنْظُرُ إِلَى مَا ذَهَبَ، وَيَقُولُ: اللهم إِنْ كُنْتَ قَدْ ابْتَلَيْتَ فِي عُضْوٍ، فَقَدْ عَافَيْتَ فِي أَعْضَاءٍ...

فَقَدْ أَبْقَيْتَ الرِّجْلَ الْأُخْرَى، وَأَبْقَيْتَ الْبَصَرَ وَالسَّمْعَ وَالنُّطْقَ وَالْعَقْلَ، وَأَبْقَيْتَ الْيَدَيْنِ، وَأَبْقَيْتَ الْقُوَّةَ، وَأَبْقَيْتَ الْعَافِيَةَ، فَللهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.

وَعِنْدَئِذٍ يَأْتِي إِلَيْهِ النَّاعِي فَيَقُولُ: عَزَاءَكَ أَبَا عَبْدِ اللهِ.

فَيَقُولُ: وَمَا ذَلِكَ! إِنَّ رِجْلِي قَدْ احْتَسَبْتُهَا عِنْدَ اللهِ؟

فَيَقُولُ ذَلِكَ النَّاعِي: إِنَّ نُعَزِّيكَ فِي زَيْنِ الْمَوَاكِبِ.

قَالَ: وَمَا ذَلِكَ؟

قَالَ: كَانَ هُنَالِكَ فَوْقَ سَطْحٍ يُشْرِفُ عَلَى إِسْطَبْلِ خُيُولِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَوَقَعَ فَرَمَحَتْهُ حَتَّى مَاتَ -رَحْمَةُ اللهُ عَلَيْهِ-.

فَمَا كَانَ مِنْ عُرْوَةَ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ- إِلَّا أَنْ قَالَ: ((اللهم إِنْ كُنْتَ قَدْ ابْتَلَيْتَ فِي وَلَدٍ فَقَدْ عَافَيْتَ فِي أَبْنَاءٍ)).

لَمْ يَنْظُرْ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ- إِلَّا مَا سُلِبَ مِنْهُ، وَإِنَّمَا نَظَرَ إِلَّا مَا تَبَقَّى لَدَيْهِ، فَكَانَ مِنْهُ هَذَا الْحَمْدُ وَهَذَا الشُّكْرُ للهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَإِنَّ دَمَ رِجْلِهِ لَيَرْقَأَ بَعْدُ، وَإِنَّ دَمَ رِجْلِهِ وَذَلِكَ الَّذِي يَكُوُنُ مِنْ آثَارِ الْجُرْحِ مِنْ سَوَائِلِهِ مَا زَالَ يَنِزُّ مِنْ رِجْلِهِ بَعْدُ، وَإِنَّ رَائِحَةَ الشِّوَاءِ لِلْحْمِ الْحَيِّ، وَإِنَّ الزَّيْتَ الْمَغْلِيَّ مَا زَالَ يَعْمَلُ فِي رِجْلِهِ عَمَلَهَا، وَمَعَ ذَلِكَ فَهُوَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ-.

ثُمَّ لَمَّا حُمِلَ إِلَى الْمَدِينَةِ -مَدِينَةِ النَّبِيِّ ﷺ-، وَدَخَلَ عَلَيْهِ النَّاسُ يُعَزُّونَهُ، كَانَ مِمَّا قِيلَ لَهُ فِي الْعَزَاءِ عَنْ رِجْلِهِ الَّتِي أُصِيبَ بِهَا، وَعَنْ بَدَنِهِ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ مَا وَقَعَ مِنْ أَمْرِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ، وَاللهِ مَا كُنَّا نُعِدُّكَ لِلصِّرَاعِ وَلَا نُعِدُّكَ لِلسِّبَاقِ، وَلَقْدْ أَبْقَى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنْكَ مَا نَحْنُ بِحَاجَةٍ إِلَيْهِ، فَللهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.

وَهُوَ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ- لَا يَزِيدُ عَلَى قَوْلِهِ: {لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} [الكهف: 62].

وَمُعَاذُ بْنُ عَفْرَاءَ وَابْنُ الْجَمُوحِ كَانَ مَا كَانَ مِنْهُمَا يَوْمَ بَدْرٍ، وَهَذَا وَاحِدٌ مِنْهُمَا يَضْرِبُ رِجْلَ أَبِي جَهْلٍ فَيُطِنُّهَا فَيُطِيحُ بِهَا، كَمَا تَخْرُجُ النَّوَاةُ مِنْ تَحْتِ الرَّحَى بِسِفَالِهَا.

وَيَأْتِي عِكْرَمَةُ فَيَضْرِبُهُ عَلَى عَاتِقِهِ فَيُطِنُّ ذِرَاعَهُ إِلَّا جِلْدَةً تَظَلُّ الذِّرَاعُ مُمْسِكَةً فِي الْجَسَدِ بِسَبَبِهِا، يَقُولُ: قَاتَلْتُ عَامَّةَ ذَلِكَ الْيَوْمَ وَهِيَ كَذَلِكَ -يَعْنِي ذِرَاعَهُ- مَا زَالَتْ مُمْسِكَةً بِجِلْدَةٍ فِي جَسَدِهِ لَمْ تَنْفَصِلْ عَنْ جَسَدِهِ بَعْدُ، قَالَ: فَآذَتْنِي!!

يُقَاتِلُ عَامَّةَ يَوْمِهِ وَهِيَ كَذَلِكَ تَرُوحُ وَتَجِيءُ كَبِنْدُولِ السَّاعَةِ تَتَحَرَّكُ كَمَا قَدَّرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَهَا، لَمْ تَعُدْ لَهُ عَلَيْهَا مِنْ سَيْطَرَةٍ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْهُ إِرَادَةٌ، وَإِنَّمَا مُرَادُهَا عَلَى حَسَبِ قَدَرِ رَبِّهَا فِيهَا؛ تَرُوحُ وَتَجِيءُ، قَالَ: فَآذَتْنِي.

فَمَا تَظُنُّهُ فَاعِلًا؟

أَيْنَ تَذْهَبُ تِلْكَ الْأَعْصَابُ الْحَامِلَاتُ لِلْأَلَمِ إِلَى الْمُخِّ تُتَرْجِمُ بِمَرَاكِزِهَا فِيهِ عَنْ ذَلِكَ الْأَلَمِ الْمُفْظِعِ الَّذِي يَذْهَلُ مِنْهُ الْعَقْلُ إِذَا مَا زَادَ، يَصِلُ الْأَلَمُ أَحْيَانًا بِالْجَسَدِ الْحَيِّ إِلَى مَرْحَلَةِ الذُّهُولِ، فَيَذْهَلُ الْإِنْسَانُ عَنْ ذَاتِهِ حَتَّى يَغِيبَ وَهُوَ غَيْرُ غَائِبٍ، وَحَتَّى يُغَيَّبَ وَهُوَ حَاضِرٌ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُحِسَّ شَيْئًا وَلَا يُدْرِكُ مِمَّا حَوْلَهُ أَمْرًا، مَا هُوَ هَذَا الْأَلَمُ عِنْدَئِذٍ؟

وَهَذَا رَجُلٌ تُؤْذِيهِ ذِرَاعُهُ وَقَدْ أَمْسَكَتْ بِجَسَدِهِ بِجِلْدَةٍ؛ فَمَا يَقُولُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؟

قَالَ: فَقَاتَلْتُ عَامَّةَ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَقَدْ آذَتْنِي، قَالَ: فَوَضَعْتُهَا تَحْتَ رُكْبَتِي أَوْ قَالَ تَحْتَ قَدَمِي، ثُمَّ تَمَطَّيْتُ.

ثُمَّ يَتَمَطَّى فَيَفْصِلُهَا وَيَعُودُ إِلَى الْمَعْرِكَةِ مِنْ أَجْلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

أَيْنَ الْأَلَمُ؟!

يَسْتَعْلِي بِرُوحِهِ فَوْقَ الْأَلَمِ!!

وَآخَرُ يَأْتِيهِ رُمْحٌ مِنْ خَلْفٍ بِغَدْرٍ وَمَا كَانَ مُوَلِّيًّا، وَمَا كَانَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ حَتَّى فِي جَاهِلِيِّتِهِ يَخْشَى أَنْ يَأْتِيَهُ رُمْحٌ مِنْ خَلْفٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوَلِّي الْأَدْبَارَ حَتَّى فِي الْجَاهِلِيَّةِ.

هَذَا وَاحِدٌ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ ﷺ يَأْتِيهِ رُمْحٌ غَادِرٌ مِنْ خَلْفِهِ، وَهَا هُوَ يَخْرُجُ بِنَصْلِهِ مِنْ أَمَامَ، هَا هُوَ يَخْرُجُ شَيْئًا فَشَيْئًا، هَا هُوَ يَأْتِي يَدْفَعُهُ الْغِلُّ وَيُزْجِيهِ الْحِقْدُ، وَهَا هُوَ يَبْزَغُ مِنْ اللَّحْمِ الْحَيِّ شَيْئًا فَشَيْئًا كَمَا تَتَشَقَّقُ الْأَرْضُ الْعَطْشَى لِتَسْتَقْبِلَ مَاءَ السَّمَاءِ، كَمَا تَتَشَقَّقُ الْأَرْضُ الَّتِي أَصَابَهَا الْغَيْثُ عَنِ النَّبْتِ الْأَخْضَرِ يَتَرَعْرَعُ بِالنَّمَاءِ.

هَا هُوَ صَدْرُهُ يَنْفَجِرُ شَيْئًا فَشَيْئًا، هَا هُوَ سَهْمٌ مِنَ النَّارِ تَتَلَظَّى بِهِ الْجُنُوبُ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَهَا هُوَ النَّصْلُ يَخْرُجُ حَادًّا ثَقِيلًا، وَهَا هِيَ الدِّمَاءُ تَنْبَثِقُ مُنْفَجِرَةً مِنْ أَمَامَ، أَيَنْكَفِئُ عَلَى أَلَمِهِ أَمْ يَسْتَعْلِيَ فَوْقَ أَلَمِهِ؟!!

هَا هُوَ وَالدَّمُ يَنْبَثِقُ كَالنَّافُورَةِ مِنْ أَمَامَ يَحْفِنُ، هَكَذَا بِهَذَا اللَّفْظِ الْمُوحِي الْجَلِيلِ؛ يَحْفِنُ الدِّمَاءَ الْمُنْبَثِقَةَ الْمَوَّارَةَ الْفَوَّارَةَ بِكَفَيْهِ وَيُلْقِي بِهَا جِهَةَ السَّمَاءِ يَقُولُ: فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ.

أَيُّ إِيمَانٍ؟!!

أَيُّ إِيمَانٍ هَذَا وَأَيُّ يَقِينٍ؟!!

وَفِي الْمُقَابِلِ مَا هُوَ إِيمَانُنَا نَحْنُ، وَمَا هُوَ الْيَقِينُ؟!!

أَيُّ إِيمَانٍ وَأَيُّ اسْتِعْلَاءٍ وَأَيُّ يَقِينٍ؟!!

جِدٌّ مَا فِيهِ هَزْلٌ، وَيَقِينٌ مَا فِيهِ شَكٌّ، وَاسْتِعْلَاءٌ مَا فِيهِ سُفُولٌ، وَأَمَّا نَحْنُ فَمَنْ نَكُونُ وَمَا نَكُونُ؟!!

أَلَا إِنَّ النَّاظِرَ فِي أَحْوَالِ مُحَمَّدٍ ﷺ وَأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ -رُضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ-، يَعْلَمُ أَيْنَ يَكْمُنُ السِّرُّ، السِّرُّ بَيْنَ عِزِّهِمْ وَذُلِّنَا.

السِّرُّ الَّذِي لِأَجْلِهِ اسْتَعْلَوْا وَتَسَفَّلْنَا!!

السِّرُّ الَّذِي لِأَجْلِهِ أُعْطُوا وَحُرِمْنَا!!

السِّرُّ الَّذِي لِأَجْلِهِ عَزُّوا وَذَلَلْنَا!!

السِّرُّ الَّذِي لِأَجْلِهِ انْتَصَرُوا وَهُزِمْنَا!!

السِّرُّ الَّذِي لِأَجْلِهِ عَاشُوا وَمِتْنَا وَنَحْنُ أَحْيَاءٌ!!

هَذَا السِّرُّ إِنَّمَا يَكْمُنُ فِي هَذَا الْجِدِّ الْجَادِّ وَالْبُعْدِ عَنِ الْهَزْلِ الْهَزِيلِ.

إِنَّهُمْ قَدْ عَادُوا إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ يَسْتَمِدُّونَ مِنَ اللهِ الْمَعُونَةَ وَالنُّصْرَةَ، وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٍ.

اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- يُنْزِلُ السَّكِينَةَ عَلَى هَذِهِ الْقُلُوبِ الْمُؤْمِنَةِ.

فَاللهم يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ وَيَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَيَا أَكْرَمَ الْأَكْرَمِينَ فَهِّمْنَا حَقِيقَةَ الدِّينِ، وَأَذِقْنَا حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ وَالرِّضَا وَالْيَقِينِ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ وَيَا أَكْرَمَ الْأَكْرَمِينَ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ

الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ هُوَ يَتَوَلَّى الصَالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ, صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَومِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((آثَارٌ عَظِيمَةٌ وَثَمَرَاتٌ جَلِيلَةٌ لِلْإِيمَانِ عَلَى الْمُجْتَمَعِ وَالْأُمَّةِ))

*وَعَدَ اللهُ أَبْنَاءَ الْأُمَّةِ بِالْاسْتِخْلَافِ فِي الْأَرْضِ، وَالتَّمْكِينِ، وَالْأَمْنِ إِذَا آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ:

فَإِنَّ الْإِسْلَامَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلَيْنِ: أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ، وَأَلَّا نَعْبُدَهُ تَعَالَى إِلَّا بِمَا شَرَعَ، لَا نَعْبُدُهُ بِالْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ المُتَّقِينَ﴾ [الجاثية: 18-19]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ﴾ [الشورى: 21].

فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَعْبُدَ اللهَ إِلَّا بِمَا شَرَعَهُ اللهُ عَنْ طَرِيقِ رَسُولِ اللهِ ﷺ مِنْ وَاجِبٍ وَمُسْتَحَبٍّ، لَا نَعْبُدُهُ تَعَالَى بِالْأُمُورِ الْمُبْتَدَعَةِ، قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: ﴿إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: 110].

إِلَهُكُمُ الَّذِي أَدْعُوكُمْ إِلَى عِبَادَتِهِ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ، فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ؛ أَيْ ثَوَابَهُ وَجَزَاءَهُ الصَّالِحَ؛ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا، وَهُوَ مَا كَانَ مُوَافِقًا لِلشَّرْعِ، وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا، وَهُوَ الَّذِي يُرَادُ بِهِ وَجْهُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.

وَهَذَانِ رُكْنَا الْعَمَلِ الْمُتَقَبَّلِ، لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ خَالِصًا لِلَّهِ، صَوَابًا عَلَى شَرِيعَةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

مَتَى مَا حَقَّقَتِ الْأُمَّةُ رُكْنَيِ الْعَمَلِ الْمُتَقَبَّلِ، وَأَتَتْ بِأَصْلَيْهِ مَكَّنَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- لَهَا، ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ﴾ [النور: 55].

قَالَ الْعَلَّامَةُ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- : «هَذَا مِنْ وُعُودِهِ الصَّادِقَةِ، الَّتِي شُوهِدَ تَأْوِيلُهَا وَعُرِفَ مَخْبَرُهَا، فَإِنَّهُ وَعَدَ مَنْ قَامَ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، أَنْ يَسْتَخْلِفَهُمْ فِي الْأَرْضِ، يَكُونُونَ هُمُ الْخُلَفَاءَ فِي الْأَرْضِ، وَيَكُونُونَ الْمُتَصَرِّفِينَ فِي تَدْبِيرِهَا.

وَأَنَّهُ يُمَكِّنُ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ، وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ، الَّذِي فَاقَ الْأَدْيَانَ كُلَّهَا، ارْتَضَاهُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ، لِفَضْلِهَا وَشَرَفِهَا وَنِعْمَتِهِ عَلَيْهَا، بِأَنْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ إِقَامَتِهِ، وَإِقَامَةِ شَرَائِعِهِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ فِي أَنْفُسِهِمْ وَفِي غَيْرِهِمْ، لِكَوْنِ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ وَسَائِرِ الْكُفَّارِ مَغْلُوبِينَ ذَلِيلِينَ.

وَأَنَّهُ يُبَدِّلُهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمُ الَّذِي كَانَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إِظْهَارِ دِينِهِ، وَمَا هُوَ عَلَيْهِ إِلَّا بِأَذًى كَثِيرٍ مِنَ الْكُفَّارِ، وَكَوْنِ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ قَلِيلِينَ جِدًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِمْ، وَقَدْ رَمَاهُمْ أَهْلُ الْأَرْضِ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ، وَبَغَوْا لَهُمُ الْغَوَائِلَ، فَوَعَدَهُمْ اللهُ هَذِهِ الْأُمُورَ وَقْتَ نُزُولِ الْآيَةِ، وَهِيَ لَمْ تُشَاهِدْ الِاسْتِخْلَافَ فِي الْأَرْضِ، وَالتَّمْكِينَ فِيهَا، وَالتَّمْكِينَ مِنْ إِقَامَةِ الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ، وَالْأَمْنَ التَّامَّ، بِحَيْثُ يَعْبُدُونَ اللهَ وَلَا يُشْرِكُونَ بِهِ شَيْئًا، وَلَا يَخَافُونَ إِلَّا اللهَ.

فَقَامَ صَدْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، مِنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ بِمَا يَفُوقُونَ عَلَى غَيْرِهِمْ، فَمَكَّنَهُمْ مِنَ الْبِلَادِ وَالْعِبَادِ، وَفُتِحَتْ مَشَارِقُ الْأَرْضِ وَمَغَارِبُهَا، وَحَصَلَ الْأَمْنُ التَّامُّ وَالتَّمْكِينُ التَّامُّ».

إِذَنْ؛ مَنِ الَّذِي يُنْصَرُ؟!

صَاحِبُ الْإِيمَانِ، صَاحِبُ الْعَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ، وَصَاحِبُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ.

مَنْ أَقَامَ الشَّرْعَ عَلَى نَفْسِهِ كَأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ ﷺ، رُبُّوا عَلَى التَّوْحِيدِ، احْتَرَقَتْ بِدَايَاتُهُمْ، فَأَنَارَتْ نِهَايَاتُهُمْ، وَكَانُوا بَيْنَ الْبِدَايَةِ وَالنِّهَايَةِ مُسْتَقِيمِينَ، مُوَحِّدِينَ، مُتَسَنِّنِينَ، وَكَذَا كَانَ مَنْ بَعْدَهُمْ مِمَّنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَالْوَعْدُ قَائِمٌ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ.

«لَا يَزَالُ الْأَمْرُ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، مَهْمَا قَامُوا بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُوجَدَ مَا وَعَدَهُمُ اللهُ، وَإِنَّمَا يُسَلَّطُ عَلَيْهِمُ الْكُفَّارُ وَالْمُنَافِقُونَ وَيُدَالُ عَلَيْهِمْ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ؛ بِسَبَبِ إِخْلَالِ الْمُسْلِمِينَ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ».

*وَعَدَ اللهُ الْمُجْتَمَعَاتِ الْمُؤْمِنَةَ بِالرِّزْقِ الطَّيِّبِ الْوَفِيرِ:

قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96].

وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ تِلْكَ الْمُجَمَّعَاتِ السَّكَنِيَّةِ الْمُهْلَكَةِ آمَنُوا إِيمَانًا صَحِيحًا صَادِقًا، وَاتَّقَوْا عِقَابَ اللهِ بِأَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ؛ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ بَرَكَاتٍ كَثِيرَاتٍ، وَزِيَادَةِ خَيْرَاتٍ مَعْنَوِيَّةٍ وَمَادِّيَّةٍ، تَأَتِيهِمْ مِنْ جِهَةِ السَّمَاءِ وَتَأْتِيهِمْ مِنْ جِهَةِ الْأَرْضِ؛ بِالْمَطَرِ وَالنَّبَاتِ وَالْخَيْرَاتِ وَالْأَرْزَاقِ، وَالسَّلَامَةِ مِنَ الْآفَاتِ.

وَلَكِنْ كَذَّبُوا الرُّسُلَ، فَأَخَذْنَاهُمْ بِأَنْوَاعِ الْعَذَابِ بِسَبَبِ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ مِنَ الْأَعْمَالِ الْخَبِيثَةِ.

*وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْعِزَّةِ وَالنَّصْرِ:

قَالَ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8].

وَللهِ الْعِزَّةُ بِقَهْرِهِ وَقُوَّتِهِ وَغَلَبَتِهِ، وَلِرَسُولِهِ ﷺ بِإِظْهَارِ دِينِهِ عَلَى الْأَدْيَانِ كُلِّهَا، وَلِلْمُؤْمِنِينَ بِإِمْدَادِ اللهِ لَهُمْ بِالْقُوَّةِ الْغَالِبَةِ وَنَصْرِهِمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ.

 ((الْإِيمَانُ تَصْلُحُ بِهِ الْحَيَاةُ عَلَى مُسْتَوَى الْأَفْرَادِ وَالْمُجْتَمَعَاتِ))

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الْأَجْسَادَ تَتَفَاعَلُ مَعَ الْإِيمَانِ حَتَّى تَتَحَوَّلَ إِلَى شَيْءٍ جَدِيدٍ.

((الْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ، وَالْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ)) كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ.

جَاءَ الرَّجُلُ كَافِرًا، فَقُدِّمَ إِلَيْهِ حِلَابٌ فَشَرِبَهُ، وَآخَرُ فَشَرِبَهُ، إِلَى سَبْعَةٍ، وَالْحِلَابُ: مَا يُجْعَلُ فِيهِ لَبَنُ النَّاقَةِ الْمَحْلُوبِ.

فَيَشْرَبُ وَاحِدًا وَاحِدًا إِلَى سَبْعَةٍ!!

فَأَسْلَمَ مِنْ لَيْلَتِهِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ، قُدِّمَ إِلَيْهِ حِلَابٌ فَشَرِبَهُ، وَثَانٍ فَلَمْ يَسْتَتِمَّهُ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ، فَقَالَ ﷺ: ((الْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ، وَالْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ)).

مَا الَّذِي دَهَاهُ؟

إِنَّمَا هُوَ سَوَادُ اللَّيْلِ بَيْنَ الْحَدَثَيْنِ!!

إِنَّهُ الْإِيمَانُ، يُغَيِّرُ النُّفُوسَ وَالْقُلُوبَ وَالْأَجْسَادَ وَالْأَرْوَاحَ.

إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ دَلَّنَا عَلَى ذَلِكَ دَلَالَةً وَاضِحَةً: ((الْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ، وَالْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ)).

قَدْ يَقُولُ قَائِلٌ: لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ إِنَّمَا يُرَبِّي نَفْسَهُ عَلَى الْقَنَاعَةِ وَالزَّهَادَةِ وَالصَّوْمِ.

هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بِسَبِبِهِ وَرَدَ الْحَدِيثُ، لَمْ يَمْضِ عَلَيْهِ إِلَّا سَوَادُ اللَّيْلِ، وَلَمْ يَسْتَتِمَّ الثَّانِيَ شُرْبًا، وَإِنَّمَا رَدَّهُ.

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ قَانُونًا لِيَدُلَّنَا عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ يُعِيدُ صِيَاغَةَ الْأَبْدَانِ كَمَا يُعِيدُ صِيَاغَةَ الْقُلُوبِ وَالْأَرْوَاحِ.

وَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَمَّا تَدَرَّجَ بِهِمْ فِي أَمْرِ الْخَمْرِ حَتَّى حَرَّمَهَا {فَاجْتَنِبُوهُ}؛ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ ذَهَبَ الِاعْتِمَادُ مِنَ الْخَلَايَا الْعَصَبِيَّةِ، مِنْ خَلَايَا الْمُخِّ، فَصَارُوا أَبْعَدَ النَّاسِ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ، وَقَامُوا لِتَوِّهِمْ، لِسَاعَتِهِمْ، لِفَوْرِهِمْ، فَأَرَاقُوهَا وَأَمَرُوا بِإِرَاقَتِهَا فِي الشَّوَارِعِ -شَوَارِعِ مَدِينَةِ رَسُولِ اللهِ-، فَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا أَصْبَحَ وَلَمَّا أَصْبَحَ إِذَا مَضَى فِي شَوَارِعِ الْمَدِينَةِ، يَظُنُّ أَنَّهُ قَدْ أَصَابَهَا مَطَرٌ بِلَيْلٍ؛ لِكَثْرَةِ مَا أُرِيقَ مِنَ الْخَمْرِ فِي شَوَارِعِهَا، بِكَلِمَةٍ!

كَيْفَ تُحَوِّلُ الْكَلِمَةُ هَذَا الِاعْتِمَادَ فِي الْخَلَايَا الْمُخِّيَّةِ، فِي الْخَلَايَا الْعَصَبِيَّةِ، كَيْفَ تُحَوِّلُهَا إِلَى لَا شَيْء؟

كَيْفَ تُعِيدُهُ إِلَى السَّوَاءِ نَفْسِيًّا وَجَسَدِيًّا وَعَصَبِيًّا، حَتَّى تَصِيرَ كَمَا أَرَادَ اللهُ؟

إِنَّهُ الْإِيمَانُ...

فَإِذَا قَالَ قَائِلٌ مُتَعَلِّلًا: لَا أَسْتَطِيعُ!

قِيلَ لَهُ: لَا اسْتَطَعْتَ.

فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ لِلرَّجُلِ الَّذِي تَكَبَّرَ أَنْ يَأْكُلَ بِيَمِينِهِ: ((لَا اسْتَطَعْتَ)).

فَمَا اسْتَطَاعَ أَنْ يَرْفَعَهَا بَعْدُ إِلَى فِيهِ.

وَيْحَ النَّاسِ مَاذَا دَهَاهُمْ؟!! إِنَّهُ دِينُ اللهِ، يُعِيدُ صِيَاغَةَ الْحَيَاةِ عَلَى: قَالَ اللهُ، قَالَ رَسُولُهُ، عَلَى الْوَحْيِ الْمَعْصُومِ، لَا عَلَى الْفِكْرِ الْمَوْهُومِ.

فَاتَّقُوا اللهَ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ، وَاحْذَرُوا الْمَدَنِيَّةَ الْغَرْبِيَةَ بِمُنْتَجَاتِهَا، وَفُسُوقِهَا، وَفُجُورِهَا.

فَإِنَّ الْبَشَرِيَّةَ لَمْ تَعْرِفْ مَدَنِيَّةً أَفْسَقَ، وَلَا أَفْجَرَ، وَلَا أَكْثَرَ كُفْرًا وَشِرْكًا مِنَ الْمَدَنِيَّةِ الْغَرْبِيَّةِ الْمُعَاصِرَةِ، لَقَدْ أَفْسَدَتِ النَّاسَ، وَدَمَّرَتِ الْأَخْلَاقَ، وَأَذْهَبَتِ الْحَيَاءَ، وَغَزَتِ الْبُيُوتَ، وَالْقُلُوبَ، وَذَهَبَتْ بِأَصْلِ الْإِيمَانِ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ النُّفُوسِ.

إِنَّهُمْ فَسَقَةٌ فَجَرَةٌ، مُشْرِكُونَ كَافِرُونَ مُلْحِدُونَ، يُرِيدُونَ تَدْمِيرَكُمْ فَاتَّقُوهُمْ، وَاتَّقُوا مُنْتَجَاتِهِمْ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْعَقْلِ وَالنَّفْسِ، وَالْفِكْرِ وَالرُّوحِ.

أَمَّا مَا جَعَلُوهُ مِنْ وَسَائِلِ تَرْقِيَةِ الْحَيَاةِ، وَالْإِعَانَةِ عَلَى لَأَوْائِهَا؛ فَهَذَا أَمْرٌ مَبْذُولٌ لِكُلِّ أَحَدٍ.

اتَّقُوا اللهَ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ، وَعُودُوا إِلَى دِينِكُمْ، وَاتَّقُوا اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي أَنْفُسِكُمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ.

وَأَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا أَجْمَعِينَ، وَأَنْ يُحْسِنَ خِتَامَنَا أَجْمَعِينَ، وَأَنْ يُلْحِقَنَا بِالصَّالِحِينَ إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.

 

المصدر: الْإِيمَانُ وَآثَارُهُ فِي الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  كيف تعرف الخارجي؟
  مَسْئُولِيَّةُ الْمُسْلِمِ الْمُجْتَمَعِيَّةُ وَالْإِنْسَانِيَّةُ وَوَاجِبُنَا تِجَاهَ الْأَقْصَى
  بِنَاءُ الْوَعْيِ وَأَثَرُهُ فِي مُوَاجَهَةِ التَّحَدِّيَّاتِ
  جماعة الإخوان الإرهابية
  صُوَرٌ مُشْرِقَةٌ مِنْ حَيَاةِ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-
  أُمَّةُ اقْرَأْ.. أُمَّةُ أَتْقِنْ..بَيْنَ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ وَعُلَمَاءِ الْفِتْنَةِ
  الرد على الملحدين:تتمة أسباب انتشار الإلحاد في العصر الحديث، وبيان شرك الملحدين
  حِمَايَةُ الشَّأْنِ الْعَامِّ وَالْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ
  حُقُوقُ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ وَحُرْمَةُ قَتْلِ السَّائِحِينَ وَالْمَدَنِيِّينَ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ
  عَلَى أَبْوَابِ رَمَضَانَ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان