الدِّينُ وَالْوَطَنُ مَعًا.. بِنَاءٌ لَا هَدْمَ

الدِّينُ وَالْوَطَنُ مَعًا.. بِنَاءٌ لَا هَدْمَ

((الدِّينُ وَالْوَطَنُ مَعًا.. بِنَاءٌ لَا هَدْمَ))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((حَثُّ الْإِسْلَامِ عَلَى إِعْمَارِ الْأَرْضِ))

فَإِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- خَلَقَ الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، وَكَرَّمَهُ وَسَخَّرَ لَهُ مَا خَلَقَهُ، وَأَنَاطَ بِهِ مُهِمَّةَ عِمَارَةِ هَذِهِ الْأَرْضِ الَّتِي اسْتَخْلَفَهُ فِيهَا، قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]، وَهَذَا الْخَلِيفَةُ هُوَ آدَمُ، وَبَنُو آدَمَ.

وَقَالَ تَعَالَى: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61] أَيْ: جَعَلَكُمْ فِيهَا لِتَعْمُرُوهَا، وَمَكَّنَكُمْ بِمَا آتَاكُمْ مِنْ عِمَارَتِهَا.

(({هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} أَيِ: ابْتَدَأَ خَلْقَكُمْ مِنْهَا؛ مِنَ الْأَرْضِ الَّتِي خَلَقَ مِنْهَا أَبَاكُمْ آدَمَ، {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} أَيْ: جَعَلَكُمْ فِيهَا عُمَّارًا تُعَمِّرُونَهَا وَتَسْتَغِلُّونَهَا)).

(({هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} أَيْ: خَلَقَكُمْ فِيهَا {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} أَيِ: اسْتَخْلَفَكُمْ فِيهَا، وَأَنْعَمَ عَلَيْكُمْ بِالنِّعَمِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَمَكَّنَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَبْنُونَ، وَتَغْرِسُونَ، وَتَزْرَعُونَ، وَتَحْرُثُونَ مَا شِئْتُمْ، وَتَنْتَفِعُونَ بِمَنَافِعِهَا، وَتَسْتَغِلُّونَ مَصَالِحَهَا، فَكَمَا أَنَّهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ؛ فَلَا تُشْرِكُوا بِهِ فِي عِبَادَتِهِ)).

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان: 20].

 وَهَذَا التَّسْخِيرُ يَحْمِلُ فِي طِيَّاتِهِ كُلَّ مَظَاهِرِ التَّكْرِيمِ لِهَذَا الْإِنْسَانِ الَّذِي اسْتَخْلَفَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي الْأَرْضِ لِعِمَارَتِهَا، وَعِمَارَتُهَا بِعِبَادَةِ رَبِّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِيهَا، وَبِالْقِيَامِ عَلَى مَا يُصْلِحُهَا.

وَقَدْ زَوَّدَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هَذَا الْإِنْسَانَ بِكُلِّ وَسَائِلِ الِاسْتِخْلَافِ فِي الْأَرْضِ، وَسَلَّحَهُ بِكُلِّ أَدَوَاتِ الْمَعْرِفَةِ، وَالْقُدْرَةِ عَلَى قِيَادَةِ دِفَّةِ هَذِهِ الْحَيَاةِ، وَإِدَارَةِ دَوَالِيبِ الْعَمَلِ فِيهَا، وَلِكَيْ لَا يَضِلَّ وَلَا يَشْقَى بَعَثَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِلَيْهِ الْمُرْسَلِينَ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْكُتُبَ فِيهَا الشَّرَائِعُ وَالْحَقُّ الْمُبِينُ، وَعَلَّمَهُمْ أُصُولَ التَّعَايُشِ وَمَبَادِئَ التَّعَامُلِ، وَلَفَتَ أَنْظَارَهُمْ إِلَى ضَرُورَةِ الِالْتِزَامِ بِآدَابِ الشَّرَائِعِ وَالْأَدْيَانِ، وَلَمْ يُبِحْ لِأَحَدٍ أَنْ يَخْرُجَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ طَائِعًا مُخْتَارًا، وَأَشْعَرَهُمْ عِظَمَ الْمَسْؤُولِيَّةِ عَنِ الْإِخْلَالِ وَالتَّقْصِيرِ، فَقَالَ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة: 105].

لَقَدْ أَمَرَنَا رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- -وَهُوَ الْقَائِلُ عَنْ نَفْسِهِ: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة: 220]- أَنْ نُحَافِظَ عَلَى هَذِهِ الْأَرْضِ بِبَقَاءِ الصَّلَاحِ فِيهَا، وَأَنْ نَمْنَعَ الْفَسَادَ عَنْهَا، وَتَكَرَّرَ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ.

قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [الأعراف: 85].

وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بِإِفْسَادِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَالْجَوِّ بِالْأَوْبِئَةِ، وَإِفْسَادِ الْأَحْيَاءِ وَالنَّبَاتَاتِ، وَإِفْسَادِ أَخْلَاقِ النَّاسِ وَسُلُوكِهِمْ وَأَفْكَارِهِمْ وَمَفَاهِيمِهِمْ بَعْدَ أَنْ أَصْلَحَهَا اللهُ -تَعَالَى- بِبِعْثَةِ الرُّسُلِ، وَإِقَامَةِ الْعَدْلِ، ذَلِكُمُ الَّذِي ذَكَرْتُ لَكُمْ وَأَمَرْتُكُمْ بِهِ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللهِ.

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((يَنْهَى -تَعَالَى- عَنِ الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَمَا أَضَرَّهُ بَعْدَ الْإِصْلَاحِ؛ فَإِنَّهُ إِذَا كَانَتِ الْأُمُورُ مُسَدَّدَةً، ثُمَّ وَقَعَ الْإِفْسَادُ؛ كَانَ أَضَرَّ مَا يَكُونُ عَلَى الْعِبَادِ، فَنَهَى -تَعَالَى- عَنْ ذَلِكَ)).

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((نَهَى -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عَنْ كُلِّ فَسَادٍ قَلَّ أَوْ كَثُرَ بَعْدَ صَلَاحٍ قَلَّ أَوْ كَثُرَ، فَهُوَ عَلَى الْعُمُومِ -عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْأَقْوَالِ-)).

قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها} [الأعراف: 56]: ((قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: لَا تُفْسِدُوا فِيهَا بِالْمَعَاصِي، وَالدُّعَاءِ إِلَى غَيْرِ طَاعَةِ اللهِ بَعْدَ إِصْلَاحِ اللهِ لَهَا بِبَعْثِ الرُّسُلِ، وَبَيَانِ الشَّرِيعَةِ، وَالدَّعْوَةِ إِلَى طَاعَةِ اللهِ؛ فَإِنَّ عِبَادَةَ غَيْرِ اللهِ، وَالدَّعْوَةَ إِلَى غَيْرِه، وَالشِّرْكَ بِهِ هُوَ أَعْظَمُ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ؛ بَلْ فَسَادُ الْأَرْضِ فِي الْحَقِيقَةِ إِنَّمَا هُوَ بِالشِّرْكِ، وَمُخَالَفَةِ أَمْرِهِ -تَعَالَى-.

فَالشِّرْكُ وَالدَّعْوَةُ إِلَى غَيْرِ اللهِ، وَإِقَامَةُ مَعْبُودٍ غَيْرَهُ، وَمُطَاعٍ مُتَّبَعٍ غَيْرَ رَسُولِ اللهِ ﷺ هُوَ أَعْظَمُ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ، وَلَا صَلَاحَ لَهَا وَلَا لِأَهْلِهَا إِلَّا بِأَنْ يَكُونَ اللهُ وَحْدَهُ هُوَ الْمَعْبُودَ الْمُطَاعَ، وَتَكُونَ الدَّعْوَةُ لَهُ، لَا لِغَيْرِهِ، وَالطَّاعَةُ وَالِاتِّبَاعُ لِرَسُولِهِ، لَيْسَ إِلَّا، وَغَيْرُهُ إِنَّمَا تَجِبُ طَاعَتُهُ إِذَا أَمَرَ بِطَاعَةِ الرَّسُولِ ﷺ، فَإِذَا أَمَرَ بِمَعْصِيَتِهِ، وَخِلَافِ شَرِيعَتِهِ؛ فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ، وَمَنْ تَدَبَّرَ أَخْبَارَ الْعَالَمِ؛ وَجَدَ كُلَّ صَلَاحٍ فِي الْأَرْضِ سَبَبُهُ تَوْحِيدُ اللهِ، وَعِبَادَتُهُ، وَطَاعَةُ رَسُولِهِ، وَكُلُّ شَرٍّ فِي الْعَالَمِ، وَفِتْنَةٍ، وَبَلَاءٍ، وَقَحْطٍ، وَتَسْلِيطِ عَدُوٍّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ فَسَبَبُهُ مُخَالَفَةُ رَسُولِهِ، وَالدَّعْوَةُ إِلَى غَيْرِ اللهِ وَرَسُولِهِ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [هود: 85].

وَلَا تَتَمَادَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ بِأَعْمَالِكُمُ الْإِجْرَامِيَّةِ الظَّالِمَةِ، وَمَنْعِ النَّاسِ حُقُوقَهُمْ، وَقَطْعِ الطَّرِيقِ عَلَى الْمُسَافِرِينَ.

وَكَمَا حَثَّ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ عَلَى إِعْمَارِ الْأَرْضِ وَإِصْلَاحِهَا حَثَّتِ السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ عَلَى ذَلِكَ؛ فَقَدْ حَثَّ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى إِعْمَارِ الْأَرْضِ إِلَى آخِرِ لَحْظَةٍ فِي الْحَيَاةِ؛ فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِِ النَّبِيِّ ﷺ، قَالَ «إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَلَّا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا». وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ.

وَ«فَسِيلَةٌ»: هِيَ النَّخْلَةُ الصَّغِيرَةُ.

هَذَا فِيهِ مُبَالَغَةٌ فِي الْحَثِّ عَلَى غَرْسِ الْأَشْجَارِ وَحَفْرِ الْأَنْهَارِ؛ لِتَبْقَى هَذِهِ الدَّارُ عَامِرَةً إِلَى آخِرِ أَمَدِهَا الْمَحْدُودِ الْمَعْلُومِ عِنْدَ خَالِقِهَا، فَكَمَا غَرَسَ لَكَ غَيْرُكَ؛ فَانْتَفَعْتَ بِهِ، فَاغْرِسْ أَنْتَ لِمَنْ يَجِيءُ بَعْدَكَ؛ لِيَنْتَفِعَ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا صُبَابَةٌ، وَذَلِكَ بِهَذَا الْقَصْدِ لَا يُنَافِي الزُّهْدَ وَالتَّقَلُّلَ مِنَ الدُّنْيَا.

وَالنَّبِيُّ ﷺ ذَكَرَ أَحَادِيثَ فِي اسْتِثْمَارِ الْأَرْضِ وَزَرْعِهَا، وَالْحَثِّ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا أَدَلَّ عَلَى الْحَضِّ عَلَى الِاسْتِثْمَارِ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الْكَرِيمَةِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي مَعَنَا؛ فَإِنَّ فِيهِ تَرْغِيبًا عَظِيمًا عَلَى اغْتِنَامِ آخِرِ فُرْصَةٍ مِنَ الْحَيَاةِ فِي سَبِيلِ زَرْعِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَيُجْرَى لَهُ أَجْرُهُ، وَتُكْتَبُ لَهُ صَدَقَتُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.

قَوْلُهُ: «فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَلَّا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا»: وَهَذَا -كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ- يَتَطَلَّبُ زَمَانًا مَمْدُودًا؛ لِكَيْ يَتَحَصَّلَ الْمَرْءُ عَلَى نَتِيجَتِهِ وعَائِدِهِ؛ لِأَنَّ النَّخْلَةَ يَسْتَمِرُّ نُمُوُّهَا حَتَّى إِثْمَارِهَا سَنَواتٍ، وَمَعَ ذَلِكَ فَالنَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: «إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَلَّا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا».

مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا يَقِينًا حِينَئِذٍ، وَلَكِنَّهُ ﷺ يَحُثُّ عَلَى غَرْسِ الْأَشْجَارِ وَحَفْرِ الْأَنْهَارِ، وَعَلى الْعَمَلِ الصَّالِحِ النَّافِعِ بِصِفَةٍ عَامَّةٍ، وَإِنْ ظَهَرَتْ نَتَائِجُهُ وَعَوَاقِبُهُ عَلَى الْمَدَى الْبَعِيدِ، وَكَانَتْ نَتَائِجُهُ وَثِمَارُهُ بَطِيئَةً جِدًّا.

فِي هَذَا الْحَدِيثِ: التَّرْغِيبُ الْعَظِيمُ عَلَى اغْتِنَامِ آخِرِ فُرْصَةٍ مِنَ الْحَيَاةِ فِي سَبِيلِ زَرْعِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَيُجْرَى لَهُ أَجْرُهُ وَتُكْتَبُ لَهُ صَدَقَتُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالْحَثُّ عَلَى الطَّاعَةِ إِلَى آخِرِ لَحْظَةٍ مِنَ الْحَيَاةِ.

((الْوَطَنِيَّةُ فِي الْإِسْلَامِ))

الِانْتِمَاءُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ الِانْتِسَابُ وَالِاعْتِزَاءُ.

«وَالسُّؤَالُ: هَلْ يُحَرِّمُ الْإِسْلَامُ أَوْ يَمْنَعُ أَنْ يَنْتَسِبَ الْمُسْلِمُ إِلَى وَطَنِهِ أَوْ دَوْلَتِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ؟!!

وَالسُّؤَالُ تَحْدِيدًا هُوَ: هَلْ الِانْتِسَابُ إِلَى الْوَطَنِ وَالدَّوْلَةِ مِمَّا يَحْرُمُ عَلَى الْمُسْلِمِ؟!!

هَلِ الْوَطَنِيَّةُ صُورَةٌ مِنْ صُوَرِ الْوَثَنِيَّةِ الْمُعَاصِرَةِ كَمَا يَزْعُمُ بَعْضُ النَّاسِ؟!!

الِانْتِمَاءُ إِلَى الْأُمَّةِ الْمُسْلِمَةِ أَصْلٌ مُقَرَّرٌ فِي الشَّرْعِ؛ فَالْمُسْلِمُونَ أُمَّةٌ عُدُولٌ، قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [البقرة: 143].

وَهُمْ خَيْرُ الْأُمَمِ؛ قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 110].

وَهُمْ أَتْبَاعُ مِلَّةٍ وَاحِدَةٍ اتَّفَقَ عَلَيْهَا جَمِيعُ الْأَنْبِيَاءِ؛ يَنْتَسِبُونَ إِلَيْهَا، وَيَجْتَمِعُونَ عَلَيْهَا، قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون: 52].

وَالْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فِي الدِّينِ وَالْوِلَايَةِ؛ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 10].

وَسَمَّانَا اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- مُسْلِمِينَ؛ قَالَ تَعَالَى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج: 78].

وَالِانْتِمَاءُ إِلَى الْقَبِيلَةِ مِمَّا أَقَرَّهُ الشَّرْعُ؛ وَيَكْفِي فِي الدَّلَالَةِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13])).

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ قَالَ: ((تَعَلَّمُوا مِنْ أَنْسَابِكُمْ مَا تَصِلُونَ بِهِ أَرْحَامَكُمْ؛ فَإِنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ مَحَبَّةٌ فِي الْأَهْلِ، مَثْرَاةٌ فِي الْمَالِ، مَنْسَأَةٌ فِي أَثَرِهِ)) . أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَجَوَّدَ إِسْنَادَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((الصَّحِيحَةِ)).

فَالِانْتِسَابُ إِلَى الْقَبِيلَةِ وَالشَّعْبِ أَقَرَّهُ الْإِسْلَامُ، وَعَلَى هَذَا جَرَى الْأَمْرُ؛ فَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ يَنْتَسِبُونَ إِلَى قَبَائِلِهِمْ وَأَقْوَامِهِمْ أَمَامَ الرَّسُولِ ﷺ، وَلَمْ يُنْكِرْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ.

وَالِانْتِمَاءُ إِلَى الْأُسْرَةِ -بِأَنْ يُنْسَبَ الْوَلَدُ إِلَى أَبِيهِ- مِمَّا أَقَرَّهُ الْإِسْلَامُ؛ قَالَ تَعَالَى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [الأحزاب: 5].

بَلْ وَحَذَّرَ ﷺ مِنْ أَنْ يَنْتَسِبَ الْوَلَدُ لِغَيْرِ أَبِيهِ؛ عَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: ((لَيْسَ مِنْ رَجُلٍ ادَّعَى لِغَيْرِ أَبِيهِ -وَهُوَ يَعْلَمُهُ- إِلَّا كَفَرَ، وَمَنِ ادَّعَى قَوْمًا لَيْسَ لَهُ فِيهِمْ نَسَبٌ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ)).

وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: «..., وَمَنِ ادَّعَى مَا ليْسَ لَهُ فَلَيْسَ مِنَّا وَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ,...»)) .

وَحُبُّ الْوَطَنِ يَعْفُو، وَقَدْ يَمُوتُ فِي كَثِيرٍ مِنَ النُّفُوسِ الَّتِي شَغَلَتْهَا الْأَثَرَةُ وَالْأَنَانِيَّةُ، أَمَّا كِبَارُ النُّفُوسِ فَلَا يَشْغَلُهُمْ شَاغِلٌ عَنْ حُبِّ وَطَنِهِمْ وَالْعَمَلِ لِرِفْعَتِهِ.

إِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ -حَتَّى الْخَوَّاصَ- يَخْلِطُونَ بَيْنَ الْوَطَنِيَّةِ وَالشَّهْوَةِ السِّيَاسِيَّةِ الَّتِي لَا تَكُونُ مَشْرُوعَةً إِلَّا إِذَا كَانَتِ الْوَطَنِيَّةُ أَسَاسَهَا، وَلَكِنَّ مَنْفَعَةَ الْوَطَنِ حِينَ يَقَعُ النِّزَاعُ بَيْنَ الْأَحْزَابِ تَكُونُ أَقَلَّ مَا يُفَكَّرُ فِيهِ، تَدْفَعُنَا إِلَيْهِ الْبَغْضَاءُ، ثُمَّ الْعِنَادُ وَالِانْتِفَاعُ الْأَعْمَى.

الَّذِي يُوَجِّهُ إِلَى حُبِّ الْغَلَبِ مَا لَنَا مِنَ الْأَفْكَارِ وَالْمَشَاعِرِ وَالْقُوَى، ثُمَّ مَا لَنَا مِنَ الطَّمَعِ وَالْمَنْفَعَةِ الشَّخْصِيَّةِ الَّتِي هِيَ الشُّغُلُ الشَّاغِلُ لِلْإِنْسَانِ أَبَدًا.

يَنْبَغِي لِكُلِّ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَشْتَغِلَ بِأَعْمَالٍ وَطَنِيَّةٍ -وَلَوْ عَنْ رَغْبَةٍ- أَنْ يَفْحَصَ عَنْ قَلْبِهِ وَيَسْأَلَ نَفْسَهُ: أَيُرِيدُ مَجْدَ وَطَنِهِ حَقًّا، أَمْ يُرِيدُ نَجَاحَ فَرِيقٍ مُعَيَّنٍ؟!!

إِنَّ لَنَا مَهَارَةً فِي إِخْفَاءِ شَهَوَاتٍ رَدِيئَةٍ تَحْتَ أَلْفَاظٍ فَخْمَةٍ، حَتَّى إِنَّنَا لَنَخْدَعُ أَنْفُسَنَا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْيَانِ؛ نَعْرِفُ طَهَارَةَ نِيَّاتِنَا إِذَا أَحْسَسْنَا مِنْ أَنْفُسِنَا الْعَجْزَ عَنْ تَغْيِيرِ شُعُورِنَا أَوْ سِيرَتِنَا بِتَغَيُّرِ الْحَظِّ.

وَإِذَا كُنَّا مُسْتَعِدِّينَ لِلْعَمَلِ فِي أَيِّ صَفٍّ مِنْ غَيْرِ أَنْ نَطْمَعَ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ؛ فِي الْمُقَدِّمَةِ أَوْ فِي السَّاقَةِ.. عَلَى السَّوَاءِ.

وَإِذَا كُنَّا نُحِبُّ كُلَّ مَا هُوَ خَيْرٌ لِلْوَطَنِ، وَإِنْ لَمْ يَنَلْهُ الْوَطَنُ عَلَى أَيْدِينَا أَوْ عَلَى أَيْدِي مَنْ نُحِبُّ.

((إِنَّ الْمَدْرَسَةَ الْحَقِيقِيَّةَ لِلْإِنْسَانِيَّةِ هِيَ الْوَطَنِيَّةُ، وَمَدْرَسَةُ الْوَطَنِيَّةِ هِيَ فِكْرَةُ الْأُسْرَةِ، إِنَّمَا نَتَعَلَّمُ حُبَّ النَّاسِ وَالْوَطَنِ بِجَانِبِ مَهْدِ أَطْفَالِنَا.

كُلُّ الْمَشَاعِرِ الطَّيِّبَةِ تَنْشَأُ مِنْ هَذَا الْيَنْبُوعِ كَأَنَّهَا نَتِيجَةُ عَدْوَى صَالِحَةٌ رَاضِيَةٌ، فَكَمَا أَنَّ عَقْلِي يَسْلُكُ طَرِيقَةَ التَّحْلِيلِ وَلَا يَشْمَلُ الْعَالَمَ بِنَظْرَةٍ وَاحِدَةٍ؛ فَقَلْبِي يُحِبُّ أَوَّلًا مَنْ يُجَاوِرُنِي، ثُمَّ يَقْوَى فَيَمْتَدُّ حَنَانُهُ إِلَى الْإِنْسَانِيَّةِ)).

قَالَ اللهُ -تَعَالَى- ذَاكِرًا الْأَوْطَانَ وَمَوَاقِعَهَا فِي الْقُلُوبِ: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِّنْهُمْ} [النساء: 66].

فَسَوَّى -تَعَالَى- بَيْنَ قَتْلِ أَنْفُسِهِمْ وَالْخُرُوجِ مِنْ دِيَارِهِمْ, وَأَخْبَرَ -تَعَالَى- أَنَّهُ لَوْ كَتَبَ عَلَى عِبَادِهِ الْأَوَامِرَ الشَّاقَّةَ عَلَى النُّفُوسِ مِنْ قَتْلِ النُّفُوسِ وَالْخُرُوجِ مِنَ الدِّيَارِ؛ لَمْ يَفْعَلْهُ إِلَّا الْقَلِيلُ مِنْهُمْ وَالنَّادِرُ.

وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا} [البقرة: 246].

فَأَخْبَرَ -تَعَالَى- أَنَّ أَهْلَ الرَّأْيِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَصْحَابَ الْكَلِمَةِ النَّافِذَةِ تَرَاوَدُوا فِي شَأْنِ الْجِهَادِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنْ يَطْلُبُوا مِنْ نَبِيِّهِمْ أَنْ يُعَيِّنَ لَهُمْ مَلِكًا; لِيَنْقَطِعَ النِّزَاعُ بِتَعْيِينِهِ، وَتَحْصُلَ الطَّاعَةُ التَّامَّةُ، وَلَا يَبْقَى لِقَائِلٍ مَقَالٌ.

وَأَنَّ نَبِيَّهُمْ خَشِيَ أَنْ يَكُونَ طَلَبُهُمْ هَذَا مُجَرَّدَ كَلَامٍ لَا فِعْلَ مَعَهُ، فَأَجَابُوا نَبِيَّهُمْ بِالْعَزْمِ الْجَازِمِ، وَأَنَّهُمُ الْتَزَمُوا ذَلِكَ الْتِزَامًا تَامًّا، وَأَنَّ الْقِتَالَ مُتَعَيِّنٌ عَلَيْهِمْ، حَيْثُ كَانَ وَسِيلَةً لِاسْتِرْجَاعِ دِيَارِهِمْ وَرُجُوعِهِمْ إِلَى مَقَرِّهِمْ وَوَطَنِهِمْ.

وَقَدْ نَسَبَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- الدُّورَ وَالْأَوْطَانَ إِلَى أَهْلِهَا وَأَصْحَابِهَا؛ فَقَالَ تَعَالَى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ} [الحشر: 8]؛ فَنَسَبَ الدِّيَارَ إِلَى مُلَّاكِهَا.

وَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج: 40]؛ فَنَسَبَ الدِّيَارَ إِلَى أَهْلِهَا.

وَلَوْ قَنِعَ النَّاسُ بِأَرْزَاقِهِمْ قَنَاعَتَهُمْ بِأَوْطَانِهِمْ مَا اشْتَكَى عَبْدٌ الرِّزْقَ؛ فَإِنَّ النَّاسَ بِأَوْطَانِهِمْ أَقْنَعُ مِنْهُمْ بِأَرْزَاقِهِمْ, فَتَرَى الْأَعْرَابَ تَسْتَوْخِمُ الرِّيفَ وَالْحَضَرَ وَتَحِنُّ إِلَى الْبَلَدِ الْجَدْبِ وَالْمَحَلِّ الْقَفْرِ وَالْحَجَرِ الصَّلْدِ, وَتَرَى الْحَضَرِيَّ يُولَدُ بِأَرْضِ وَبَاءٍ وَمَوَتَانٍ وَقِلَّةِ خِصْبٍ؛ فَإِذَا وَقَعَ بِبِلَادٍ أَرْيَفَ مِنْ بِلَادِهِ, وَجَنَابٍ أَخْصَبَ مِنْ جَنَابِهِ, وَاسْتَفَادَ غِنًى؛ حَنَّ إِلَى وَطَنِهِ وَمُسْتَقَرِّهِ, وَقَدْ قَالُوا فِي ذَلِكَ: الْكَرِيمُ يَحِنُّ إِلَى جَنَابِهِ كَمَا يَحِنُّ الْأَسَدُ إِلَى غَابِهِ.

وَقَدْ دَعَا بِلَالٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَلَى الَّذِينَ أَخْرَجُوا الْمُسْلِمِينَ مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَرْضِهِمْ أَنْ يُخْرِجَهُمُ اللهُ -تَعَالَى- مِنْ رَحْمَتِهِ كَمَا أَخْرَجُوهُمْ, وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ ذَلِكَ؛ بَلْ دَعَا رَبَّهُ -تَعَالَى- أَنْ يُحَبِّبَ إِلَيْهِمُ الْمَدِينَةَ كَمَا حَبَّبَ إِلَيْهِمْ وَطَنَهُمْ أَوْ أَشَدَّ.

فَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ))، عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَتْ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ ﷺ الْمَدِينَةَ وَعَكَ أَبُو بَكْرٍ وَبِلَالٌ, فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذَا أَخَذَتْهُ الْحُمَّى يَقُولُ:

كُلُّ امْرِئٍ مُصَبَّحٌ فِي أَهْلِهِ=وَالْمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شَرَاكِ نَعْلِهِ

وَكَانَ بِلَالٌ إِذَا أَقْلَعَ عَنْهُ الْحُمَّى يَرْفَعُ عَقِيرَتَهُ وَيَقُولُ:

أَلَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً=بِوَادٍ وَحَوْلِي إِذْخِرٌ وَجَلِيلُ

وَهَلْ أَرِدَنْ يَوْمًا مِيَاهَ مَجَنَّةٍ=وَهَلْ يَبْدُوَنْ لِي شَامَةٌ وَطَفِيلُ

وَالْإِذْخِرُ: نَوْعٌ مِنَ الْحَشِيشِ, وَالْجَلِيلُ: نَوْعٌ مِنَ النَّبَاتِ, وَمِيَاهُ مَجَنَّةٍ: مَاءٌ عِنْدَ عُكَاظٍ قَرِيبًا مِنْ مَكَّةَ, وَشَامَةٌ وَطَفِيلُ: جَبَلَانِ عَلَى نَحْوِ ثَلَاثِينَ مِيلًا مِنْ مَكَّةَ.

قَالَتْ عَائِشَةُ: وَقَالَ -أَيْ: بِلَالٌ-: ((اللَّهُمَّ الْعَنْ شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَعُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ، كَمَا أَخْرَجُونَا مِنْ دِيَارِنَا)).

وَاللَّعْنُ: الطَّرْدُ مِنَ الرَّحْمَةِ وَالْإِبْعَادُ.

فَدَعَا أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ رَحْمَتِهِ مَنْ أَخْرَجَهُ مِنْ أَرْضِهِ, وَأَنْ يُبْعِدَ اللهُ مَنْ أَبْعَدَهُ عَنْ وَطَنِهِ.

ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ)).

وَمِنْ ذَلِكَ -أَيْضًا-: شَفَقَتُهُ ﷺ مِنْ إِخْرَاجِهِ مِنْ أَرْضِهِ وَوَطَنِهِ؛ فَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ))، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ لَمَّا أَخْبَرَ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلٍ بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ الْوَحْيِ, وَعَلِمَ وَرَقَةُ أَنَّهُ النَّبِيُّ الْمُنْتَظَرُ, قَالَ لَهُ وَرَقَةُ: ((لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ)).

فَقَالَ: ((أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟)).

قَالَ: ((نَعَمْ؛ لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ)).

وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي ((الْمُسْنَدِ))، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ فِي ((الْمُسْتَدْرَكِ))، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْحَمْرَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ ﷺ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِمَكَّةَ يَقُولُ: ((وَاللهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللهِ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللهِ إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَلَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ)). وَالْحَدِيثُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

وَعِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ: ((وَأَحَبُّ أَرْضِ اللهِ إِليَّ)). وَهَذِهِ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((بِسْمِ اللهِ تُرْبَةُ أَرْضِنَا، بِرِيقَةِ بَعْضِنَا، يُشْفَى سَقِيمُنَا بِإِذْنِ رَبِّنَا)).

فَبِسْمِ اللهِ رَبِّنَا بِرِيقَةِ بَعْضِنَا, بِتُرْبَةِ أَرْضِنَا يُشْفَى مَرِيضُنَا.

((وَمَعْنَى الْحَدِيثِ: أَنَّهُ يَأْخُذُ مِنْ رِيقِ نَفْسِهِ عَلَى أُصْبُعِهِ السَّبَّابَةِ ثُمَّ يَضَعُهَا عَلَى التُّرَابِ فَيَعْلَقُ بِهَا مِنَ التُّرَابِ شَيْءٌ، ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِ عَلَى الْمَوْضِعِ الْجَرِيحِ أَوِ الْعَلِيلِ, وَيَقُولُ هَذَا الْكَلَامَ فِي حَالِ الْمَسْحِ.

وَخَصَّهُ بَعْضُهُمْ بِرِيقِ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَتُرْبَةِ الْمَدِينَةِ)). قَالَهُ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-.

وَالْأَصَحُّ: الْعُمُومُ، وَالشِّفَاءُ مِنَ اللهِ -تَعَالَى- يَجْعَلُهُ فِيمَا يَشَاءُ مِنَ الْأَسْبَابِ.

وَقَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر: 8].

فَمَعَ مَا لِلْأَنْصَارِ مِنْ عَظِيمِ الرُّتْبَةِ وَجَلِيلِ الْمَنْزِلَةِ قَدَّمَ اللهُ الْمُهَاجِرِينَ وَفَضَّلَهُمْ, وَقَدْ وَقَعَ عَلَيْهِمْ مَا لَمْ يَقَعْ مِثْلُهُ عَلَى الْأَنْصَارِ, وَهُوَ مُغَادَرَةُ الْوَطَنِ وَالدِّيَارِ, وَمُفَارَقَةُ الْمَحْبُوبَاتِ وَالْمَأْلُوفَاتِ وَالْأَحِبَّاءِ وَالْخِلَّانِ؛ رَغْبَةً فِي اللهِ، وَنُصْرَةً لِدِينِ اللهِ، وَمَحَبَّةً لِرَسُولِ اللهِ ﷺ.

قَالَ ابْنُ عُثَيْمِينَ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي بَيَانِ وَجْهِ تَفْضِيلِ الْمُهَاجِرِينَ عَلَى الْأَنْصَارِ: ((وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُهَاجِرِينَ جَمَعُوا بَيْنَ الْهِجْرَةِ وَالنُّصْرَةِ)).

وَقَدْ ذَكَرَ اللهُ -تَعَالَى- النَّفْيَ مِنَ الْأَرْضِ فِي عُقُوبَةِ الْمُحَارِبِينَ للهِ وَرَسُولِهِ, الَّذِينَ بَارَزُوهُ بِالْعَدَاوَةِ وَأَفْسَدُوا فِي الْأَرْضِ بِالْكُفْرِ وَالْقَتْلِ وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ وَإِخَافَةِ السُّبُلِ.

فَذَكَرَ أَنَّ مِنْ عُقُوبَتِهِمْ؛ أَنْ يُطْرَدُوا مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ بِحَيْثُ لَا يَتَمَكَّنُونَ مِنَ الْقَرَارِ فِي مَوْضِعٍ, وَالتَّغْرِيبُ عَنِ الْأَوْطَانِ نَوْعٌ مِنَ الْعُقُوبَةِ, كَمَا يُفْعَلُ بِالزَّانِي الْبِكْرِ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ۚ ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33].

وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ -تَعَالَى- مَا قَضَى عَلَى بَنِي النَّضِيرِ مِنَ الْخُرُوجِ مِنَ الْوَطَنِ وَالتَّحَوُّلِ عَنْهُ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ الْعَذَابِ قَضَاهُ عَلَيْهِمْ وَقَدَّرَهُ بِقَدَرِهِ الَّذِي لَا يُبَدَّلُ وَلَا يُغَيَّرُ, وَلَوْلَا هَذَا الْجَلَاءُ لَكَانَ لَهُمْ شَأْنٌ آخَرُ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا وَنَكَالِهَا، وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ.

قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْلَا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ} [الحشر: 2].

وَقَالَ -تَعَالَى- عَنْ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۖ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا} [مريم: 49].

قَالَ الْعَلَّامَةُ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((لَمَّا كَانَتْ مُفَارَقَةُ الْإِنْسَانِ وَطَنَهُ وَمَأْلَفَهُ وَأَهْلَهُ وَقَوْمَهُ مِنْ أَشَقِّ شَيْءٍ عَلَى النَّفْسِ لِأُمُورٍ كَثِيرَةٍ مَعْرُوفَةٍ، وَمِنْهَا انْفِرَادُهُ عَمَّنْ يَتَعَزَّزُ بِهِمْ وَيَتَكَثَّرُ، وَكَانَ مَنْ تَرَكَ شَيْئًا للهِ عَوَّضَهُ اللهُ خَيْرًا مِنْهُ، وَاعْتَزَلَ إِبْرَاهِيمُ قَوْمَهُ، قَالَ اللهُ -تَعَالَى- فِي حَقِّهِ: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۖ وَكُلًّا} مِنْ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ {جَعَلْنَا نَبِيًّا}؛ فَحَصَلَ لَهُ هِبَةُ هَؤُلَاءِ الصَّالِحِينَ الْمُرْسَلِينَ إِلَى النَّاسِ، الَّذِينَ خَصَّهُمُ اللهُ بِوَحْيِهِ، وَاخْتَارَهُمْ لِرِسَالَتِهِ، وَاصْطَفَاهُمْ مِنَ الْعَالَمِينَ)).

فَعَوَّضَ اللهُ الْخَلِيلَ إِبْرَاهِيمَ ﷺ هَذَا الْخَيْرَ الْعَمِيمَ عَنْ مُفَارَقَةِ قَوْمِهِ, وَاعْتِزَالِهِ إِيَّاهُمْ بِكُفْرِهِمْ وَشِرْكِهِمْ.

وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) ذِكْرُ وِفَادَةِ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: أَتَيْنَا إِلَى النَّبِيِّ ﷺ وَنَحْنُ شَبَبَةٌ مُتَقَارِبُونَ, فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ لَيْلَةً, وَكَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ رَحِيمًا رَفِيقًا, فَلَمَّا ظَنَّ أَنَّا قَدِ اشْتَهَيْنَا أَهْلَنَا أَوْ قَدِ اشْتَقْنَا سَأَلَنَا عَمَّنْ تَرَكْنَا بَعْدَنَا؛ فَأَخْبَرْنَاهُ، قَالَ: ((ارْجِعُوا إِلَى أَهْلِيكُمْ فَأَقِيمُوا فِيهِمْ, وَعَلِّمُوهُمْ, وَمُرُوهُمْ)).

وَالشَّبَبَةُ: الشَّبَابُ, جَمْعُ شَابٍّ, مُتَقَارِبُونَ؛ أَيْ فِي السِّنِّ.

فَرَاعَى رَسُولُ اللهِ ﷺ اشْتِيَاقَهُمْ إِلَى أَهْلِيهِمْ وَأَرَاضِيهِمْ، كَمَا قَالَ مَالِكٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((فَلَمَّا رَآنَا قَدِ اشْتَقْنَا إِلَى أَهْلِنَا))؛ فَأَذِنَ لَهُمْ بِالْعَوْدَةِ إِلَى أَهْلِهِمْ.

وَقَدْ جَعَلَ اللهُ التَّغْرِيبَ عَنِ الْأَوْطَانِ عُقُوبَةً وَزَجْرًا فِي كَبِيرَةٍ مِنْ كَبَائِرِ الْإِثْمِ وَهِيَ الزِّنَى؛ فَفِي ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ)): عَنْ عُبَادَةِ بْنِ الصَّامِتِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((خُذُوا عَنِّي, خُذُوا عَنِّي, قَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلًا, الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَنَفْيُ سَنَةٍ)).

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((فَإِنَّ انْتِقَالَهُ عَنْ وَطَنِهِ مِمَّا يُضْعِفُ هِمَّتَهُ وَبَدَنَهُ, وَيُعْلَمُ أَنَّهُ مُعَاقَبٌ)).

وَقَدْ أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي ((الشُّعَبِ)), وَالْمَقْدِسِيُّ فِي ((الْمُخْتَارَةِ)) بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ فِي حَقِّ مَكَّةَ عِنْدَ هِجْرَتِهِ مِنْهَا: ((مَا أَطْيَبَكِ مِنْ بَلْدَةٍ وَأَحَبَّكِ إِلَيَّ, وَلَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ أَخْرَجُونِي مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

وَقَدْ دَعَا النَّبِيُّ ﷺ رَبَّهُ أَنْ يَرْزُقَهُ حُبَّ الْمَدِينَةِ لَمَّا انْتَقَلَ إِلَيْهَا؛ فَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ)).

وَحَيْثُ أَنَّ حُبَّ الْوَطَنِ غَرِيزَةٌ فِي الْإِنْسَانِ؛ فَقَدْ دَعَا النَّبِيُّ ﷺ رَبَّهُ أَنْ يَرْزُقَهُ حُبَّ الْمَدِينَةِ لَمَّا انْتَقَلَ إِلَيْهَا كَمَا فِي الْحَدِيثِ.

وَمِنْ حَنِينِ الْإِنْسَانِ إِلَى بَلَدِهِ أَنَّهُ إِذَا غَابَ عَنْهَا وَقَدِمَ عَلَيْهِ شَخْصٌ مِنْهَا سَأَلَهُ عَنْهَا يَتَلَمَّسُ أَخْبَارَهَا, وَهَذَا كَلِيمُ اللهِ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- حَنَّ إِلَى وَطَنِهِ بَعْدَ أَنْ خَرَجَ مِنْهُ مُجْبَرًا, قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا قَضَىٰ مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} [القصص: 29].

قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي ((أَحْكَامِ الْقُرْآنِ)): ((قَالَ عُلَمَاؤُنَا: لَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ طَلَبَ الرُّجُوعَ إِلَى أَهْلِهِ وَحَنَّ إِلَى وَطَنِهِ, وَفِي الرُّجُوعِ إِلَى الْأَوْطَانِ تُقْتَحَمُ الْأَغْرَارُ، وَتُرْكَبُ الْأَخْطَارُ، وَتُعَلَّلُ الْخَوَاطِرُ، وَيَقُولُ: لَمَّا طَالَتِ الْمُدَّةُ لَعَلَّهُ قَدْ نُسِيَتِ التُّهْمَةُ وَبَلِيَتِ الْقِصَّةُ)).

وَهَذِهِ الْمَعَانِي الْكَبِيرَةُ تُوجَدُ دَاخِلَنَا, وَتَظْهَرُ أَقْوَى مَا تَكُونُ فِي صُوَرٍ..

الصُّورَةُ الْأُولَى: إِذَا سَافَرَ الْإِنْسَانُ مِنَّا؛ فَإِنَّنَا مَهْمَا ذَهَبْنَا إِلَى أَرْضٍ هِيَ أَجْمَلُ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ أَغْنَى مِنْ أَرْضِنَا، فَإِنَّ مَشَاعِرَ الْحُبِّ لِلْوَطَنِ يَنْفَدُ صَبْرُهَا عَنِ الْكِتْمَانِ, فَتَبُوحُ بِالْحَنِينِ إِلَى الْوَطَنِ, وَالتَّشَوُّقِ إِلَيْهِ فِي عِبَارَاتٍ يَتْلُوهَا الْإِنْسَانُ أَوْ دُمُوعٍ تَذْرِفُهَا الْعَيْنَانِ, وَهَذَا مِنْ عَلَامَةِ كَمَالِ الْعَقْلِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-: ((مِنْ أَمَارَةِ الْعَاقِلِ: بِرُّهُ بِإِخْوَانِهِ، وَحَنِينُهُ إِلَى أَوْطَانِهِ، وَمُدَارَاتُهُ لِأَهْلِ زَمَانِهِ)).

قَالَ أَعْرَابِيٌّ يَتَشَوَّقُ إِلَى وَطَنِهِ:

ذَكَرْتُ بِلَادِي فَاسْتَهَلَّتْ مَدَامِعِي=بِشَوْقِي إِلَى عَهْدِ الصِّبَا الْمُتَقَادِمِ

حَنَنْتُ إِلَى أَرْضٍ بِهَا اخْضَرَّ شَارِبِي=وَحُلَّتْ بِهَا عَنِّي عُقُودُ التَّمَائِمِ

وَالتَّمَائِمُ: جَمْعُ تَمِيمَةٍ؛ وَهِيَ خَرَزَاتٌ كَانَتِ الْعَرَبُ تُعَلِّقُهَا عَلَى صِبْيَانِهَا يَتَّقُونَ بِهَا الْعَيْنَ -فِي زَعْمِهِمْ- فَأَبْطَلَهَا الْإِسْلَامُ, فَهَذَا يَذْكُرُ مَا كَانَ.

أَخَذَ ابْنُ الرُّومِيِّ هَذَا الْبَيْتَ فَقَالَ:

بَلَدٌ صَحِبْتُ بِهِ الشَّبِيبَةَ وَالصِّبَا=وَلَبِسْتُ فِيهِ الْعَيْشَ وَهْوَ جَدِيدُ

فَإِذَا تَمَثَّلَ فِي الضَّمِيرِ رَأَيْتُهُ=وَعَلَيْهِ أَفْنَانُ الشَّبَابِ تَمِيدُ

فَتَأَمَّلْ أَحْكَامًا شَرْعِيَّةً عَلَّلَهَا الْعُلَمَاءُ -رَحِمَهُمُ اللهُ- لِكَوْنِهَا شُرِعَتْ لِأَجْلِ مَا فِي مُفَارَقَةِ الْوَطَنِ مِنَ الشِّدَّةِ عَلَى النَّفْسِ.

فَالتَّعْزِيرُ -مَثَلًا- قَدْ يَكُونُ بِالنَّفْيِ عَنِ الْوَطَنِ، قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَالنَّفْسُ تَحِنُّ إِلَى الْوَطَنِ إِلَّا إِذَا اعْتَقَدَ تَحْرِيمَ الْمُقَامِ بِهِ, أَوْ أَنَّهُ مَضَرَّةٌ دُنْيَوِيَّةٌ)).

وَأَيْضًا ذَكَرُوا فِي بَابِ الْإِكْرَاهِ: ((أَنَّ مَنْ خُوِّفَ بِالنَّفْيِ عَنِ الْبَلَدِ فَذَلِكَ إِكْرَاهٌ؛ لِأَنَّ مُفَارَقَةَ الْوَطَنِ شَدِيدَةٌ)). ذَكَرَ ذَلِكَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-.

وَفِي حَدِّ الْحِرَابَةِ؛ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ إِلَى أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [المائدة: 33]؛ أَيْ: يُخْرَجُونَ مِنْ وَطَنِهِمْ وَعَشِيرَتِهِمْ.

قَالَ: يَكْفِيهِ مُفَارَقَةُ الْوَطَنِ وَالْعَشِيرَةِ خِذْلَانًا وَذِلَّةً؛ فَكُلُّ مَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ التَّعْزِيرُ بِتَرْكِ وَطَنِهِ, أَوْ وَقَعَ عَلَيْهِ الْإِكْرَاهُ بِتَرْكِ وَطَنِهِ؛ كُلُّ هَؤُلَاءِ يَتَمَنَّوْنَ الرُّجُوعَ إِلَى الْوَطَنِ.

فَالَّذِي يَخْرُجُ مِنَ الْوَطَنِ سَوَاءٌ كَانَ لِسَفَرٍ بِاخْتِيَارِهِ أَوْ خَرَجَ مُرْغَمًا؛ فَإِنَّهُ يَتَمَنَّى الرُّجُوعَ إِلَيْهِ, وَيَتَأَلَّمُ بِالْبُعْدِ عَنْهُ, فَفِي حَالِ الْخُرُوجِ بِأَيِّ صِفَةٍ مِنَ الصِّفَاتِ يَثُورُ التَّعَلُّقُ الْعَاطِفِيُّ بِالْبَلَدِ؛ وَهَذَا أَمْرٌ مُشَاهَدٌ, أَمْرٌ يَعْرِفُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا مِنْ نَفْسِهِ وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَأْكِيدٍ.

وَالصُّورَةُ الْأُخْرَى الَّتِي تَظْهَرُ أَقْوَى مَا تَكُونُ لِأَنَّهَا مُسْتَقِرَّةٌ دَاخِلَنَا: أَنَّهُ إِذَا مُسَّتْ بَلَدُكَ بِسُوءٍ صَغِيرًا كَانَ هَذَا السُّوءُ أَوْ كَبِيرًا -مَثَلًا إِذَا سَبَّهَا أَحَدٌ-؛ تَحَرَّكَتْ فِيكَ مَشَاعِرُ الْحُبِّ فَدَافَعْتَ عَنْهَا.

وَإِذَا وَقَعَ عَلَيْهَا احْتِلَالٌ أَوْ عَبَثَ بِأَمْنِهَا مُفْسِدٌ؛ فَهُنَا تَتَفَجَّرُ جَمِيعُ الْمَشَاعِرِ الْكَامِنَةِ فِيكَ، فَلَا تَرَى نَفْسَكَ الْغَالِيَةَ إِلَّا بِأَرْخَصِ عُهُودِهَا، تَجُودُ بِهَا, تَحْمِلُهَا عَلَى رَاحَتَيْكَ لَعَلَّ وَطَنَكَ الْإِسْلَامِيَّ لَا يُصَابُ بِأَذًى, وَلَا يَغْصِبُهُ مُغْتَصِبٌ؛ وَفِي هَذَا يَقُولُ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190]

وَهَذَا أَمْرٌ مَضَى عَلَيْهِ النَّاسُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا.

وَفِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ يَقُولُ ابْنُ قَيْسٍ الرُّقَيَّاتِ فِي مَدْحِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ أَوْ مَدْحِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-:

إِنَّ الْبِلَادَ سِوَى بِلَادِكَ=ضَاقَ عَرْضُ فَضَائِهَا

فَاجْمَعْ بَنِيَّ إِلَى بَنِيكَ=فَأَنْتَ خَيْرُ رِعَائِهَا

نُشْهِدْكَ مِنَّا مَشْهَدًا=ضَنْكًا عَلَى أَعْدَائِهَا

نَحْنُ الْفَوَارِسُ مِنْ قُرَيْشٍ=يَوْمَ جِدِّ لِقَائِهَا

فَانْظُرْ إِلَى التَّضْحِيَةِ الْعَظِيمَةِ بِبَذْلِ النَّفْسِ وَالْأَوْلَادِ فِي سَبِيلِ الدِّفَاعِ عَنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ.

فَهَذِهِ بَعْضُ الصُّوَرِ الَّتِي تَظْهَرُ مِنْ خِلَالِهَا مَشَاعِرُ الْحُبِّ لِلْوَطَنِ فِي صِدْقٍ وَوُضُوحٍ وَجَلَاءٍ، وَهُنَاكَ صُوَرٌ كَثِيرَةٌ كُلُّهَا تَشْهَدُ بِأَنَّ حُبَّ الْوَطَنِ مِنَ الْإِيمَانِ.

((الْإِسْلَامُ دِينٌ كَرَّمَ الْإِنْسَانَ))

عِبَادَ اللهِ! لَمْ يَحْظَ الْإِنْسَانُ أَنَّى كَانَ جِنْسُهُ أَوْ مَكَانُهُ أَوْ مَكَانَتُهُ، أَوْ زَمَانُ عَيْشِهِ بِمَنْزِلَةٍ أَرْفَعَ مِنْ تِلْكَ الَّتِي يَنَالُهَا فِي ظِلَالِ الدِّينِ الْحَنِيفِ، دِينِ رَبِّنَا، دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.

وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِأَنَّ الْإِسْلَامَ دِينٌ عَالَمِيٌّ، وَرَسُولَهُ ﷺ أُرْسِلَ لِلْعَالَمِينَ كَافَّةً، وَلَمْ يَكُنْ كَإِخْوَانِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ -عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- الَّذِينَ أُرْسِلُوا لِأَقْوَامِهِمْ خَاصَّةً.

وَحِينَ يُوَازِنُ أَيُّ بَاحِثٍ مُنْصِفٍ مَبَادِئَ حُقُوقِ الْإِنْسَانِ الَّتِي حَوَاهَا «الْإِعْلَانُ الْعَالَمِيُّ لِحُقُوقِ الْإِنْسَانِ».. حَيِنَ يُوَازِنُ بَيْنَ هَذِهِ وَحُقُوقِ الْإِنْسَانِ فِي الْإِسْلَامِ، يَلْحَظُ التَّمَيُّزَ الْوَاضِحَ الَّذِي سَبَقَ بِهِ الْإِسْلَامُ، مَا تَفَتَّقَتْ عَنْهُ أَفْكَارُ الْبَشَرِ فِي مَبَادِئِ حُقُوقِهِمْ؛ مِنْ حَيْثُ الشُّمُولُ وَالسَّعَةُ وَالْعُمْقُ، وَمُرَاعَاةُ حَاجَاتِ الْإِنْسَانِ الْحَقِيقِيَّةِ الَّتِي تُحَقِّقُ لَهُ الْمَنَافِعَ، وَتَدْفَعُ عَنْهُ الْمَضَارَّ.

وَيَتَّضِحُ مِنَ الدِّرَاسَةِ الْمَوْضُوعِيَّةِ الْمُتَجَرِّدَةِ عَنِ الْأَهْوَاءِ أَنَّهُ: «لَيْسَ هُنَاكَ دِينٌ مِنَ الْأَدْيَانِ أَوْ شَرِيعَةٌ مِنَ الشَّرَائِعِ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَفَاضَتْ فِي تَقْرِيرِ هَذِهِ الْحُقُوقِ، وَتَفْصِيلِهَا وَتَبْيِينِهَا، وَإِظْهَارِهَا فِي صُورَةٍ صَادِقَةٍ مِثْلَمَا فَعَلَ الْإِسْلَامُ الْعَظِيمُ».

أَصْنَافُ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ فِي دِيَارِ الإِسْلَامِ:

*الصِّنْفُ الأَوَّلُ: هُمُ المُوَاطِنُونَ مِنْ غَيرِ المُسْلِمِينَ: جَاءَ فِي كِتَابِ الْخَلِيفَةِ الرَّاشِدِ الصِّدِّيقِ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لِأَهْلِ نَجْرَانَ: «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.. هَذَا مَا كَتَبَ بِهِ عَبْدُ اللهِ أَبُو بَكْرٍ خَلِيفَةُ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ رَسُولِ اللهِ ﷺ لِأَهْلِ نَجْرَانَ.

أَجَارَهُمْ بِجِوَارِ اللَّهِ، وَذِمَّةِ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَلَى أَنْفُسِهِمْ, وَأَرْضِهِمْ, وَمِلَّتِهِمْ, وَأَمْوَالِهِمْ, وَحَاشِيَتِهِمْ, وَعِبَادَتِهِمْ, وَغَائِبِهِمْ, وَشَاهِدِهِمْ, وَأَسَاقِفَتِهِمْ, وَرُهْبَانِهِمْ, وَبِيَعِهِمْ, وَكُلِّ مَا تَحْتَ أَيْدِيهِمْ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ، لا يَخْسَرُونَ وَلا يُعْسِرُونَ» .

وَكَذَلِكَ مَا جَاءَ فِي وَصِيَّةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- حِينَ وَفَاتِهِ لِلْخَلِيفَةِ مِنْ بَعْدِهِ، كَمَا أَخْرَجَ ذَلِكَ البُخَارِيُّ فِي «الصَّحِيحِ فِي كِتَابِ الْمَنَاقِبِ» : «وَأُوصِيهِ -يَعْنِي بِذَلِكَ: الْخَلِيفَةَ مِنْ بَعْدِه- بِذِمَّةِ اللَّهِ، وَذِمَّةِ رَسُولِهِ ﷺ أَنْ يُوَفِّيَ لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ، وَأَنْ يُقَاتَلَ مِنْ وَرَائِهِمْ، وَلا يُكَلَّفُوا إلا طَاقَتَهِمْ».

*وَأَمَّا الصِّنْفُ الثَّانِي مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ فِي دِيَارِ الْإِسْلَامِ وَبِلَادِهِ: فَهُم المُسْتَأْمَنُونَ:

وَهُمْ غَيْرُ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْوَافِدِينَ إِلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ؛ لِعَمَلٍ أَوْ نَحْوِهِ؛ حَيْثُ يُعَرِّفُهُمُ الْفُقَهَاءُ الْمُسْلِمُونَ بِـ(الْمُسْتَأْمَنِينَ).

وَلِهَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ حُقُوقٌ عَامَّةٌ، وَلِكُلِّ صِنْفٍ مِنْهُمَا حُقُوقٌ خَاصَّةٌ.

فَأَمَّا الْحُقُوقُ الْعَامَّةُ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ: لَمْ تَقْتَصِرِ الشَّرِيعَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ عَلَى إِسْبَاغِ الْحُقُوقِ عَلَى أَهْلِهَا الْمُؤْمِنِينَ بِالْإِسْلَامِ، بَلْ إِنَّ مِمَّا يُمَيِّزُ الشَّرِيعَةَ عَنْ غَيْرِهَا أَنَّهَا قَدْ أَشْرَكَتْ غَيْرَ الْمُسْلِمِينَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْحُقُوقِ الْعَامَّةِ، وَهُوَ مَا لَمْ يَنَلْهُ الْإِنْسَانُ فِي دِينٍ آخَرَ، وَلَا فِي نُظُمٍ أُخْرَى.

وَالْحُقُوقُ الْعَامَّةُ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ كَثِيرَةٌ؛ مِنْهَا:

*حَقُّهُمْ فِي حِفْظِ كَرَامَتِهِمُ الْإِنْسَانِيَّةِ.

*وَحَقُّهُمْ فِي مُعْتَقَدِهِمْ.

*وَحَقُّهُمْ فِي الْتِزَامِ شَرْعِهِمْ.

*وَحَقُّهُمْ فِي حِفْظِ دِمَائِهِمْ.

*وَحَقُّهُمْ فِي حِفْظِ أَمْوَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ.

*وَحَقُّهُمْ فِي الْحِمَايَةِ مِنَ الِاعْتِدَاءِ.

*وَحَقُّهُمْ فِي الْمُعَامَلَةِ الْحَسَنَةِ.

*وَحَقُّهُمْ فِي التَّكَافُلِ الِاجْتِمَاعِيِّ.

وَكُلُّ ذَلِكَ دَلَّتْ عَلَيْهِ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَتَرْجَمَهُ عَمَلِيًّا مَا كَانَ مِنْ صَنِيعِ الْخُلَفَاءِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِمَّنْ الْتَزَمَ دِينَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَسَارَ عَلَى نَهْجِ سُنَّةِ نَبِيِّهِ ﷺ.

فَمَا أَبْشَعَ وَأَعْظَمَ جَرِيمَةَ مَنْ تَجَرَّأَ عَلَى حُرُمَاتِ اللهِ، وَظَلَمَ عِبَادَهُ، وَأَخَافَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُقِيمِينَ بَيْنَهُمْ!!

 فَوْيَلٌ لَهُ! ثُمَّ وَيْلٌ لَهُ مِنْ عَذَابِ اللهِ -تَعَالَى-، وَنِقْمَتِهِ، وَمِنْ دَعْوَةٍ تُحِيطُ بِهِ! وَنَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَكْشِفَ سِتْرَهُ، وَأَنْ يَفْضَحَ أَمْرَهُ.

إِنَّ النَّفْسَ الْمَعْصُومَةَ فِي حُكْمِ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ هِيَ: كُلُّ مُسْلِمٍ، وَكُلُّ مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَمَانٌ.

فَهَذِهِ مَعْصُومَةٌ بِالْإِيمَانِ، وَهَذِهِ مَعْصُومَةٌ بِالْأَمَانِ، قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النِّسَاء: 93].

وَقَالَ -سُبْحَانَهُ- فِي حَقِّ الذِّمِّيِّ فِي حُكْمِ قَتْلِ الْخَطَأِ، لَا فِي حُكْمِ قَتْلِهِ عَمْدًا: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النِّسَاء: 92].

فَإِذَا كَانَ الذِّميُّ الَّذِي لَهُ أَمَانٌ إِذَا قُتِلَ خَطَأً فِيهِ الدِّيَّةُ وَالْكَفَّارَةُ، فَكَيْفَ إِذَا قُتِلَ عَمْدًا؟!!

إِنَّ الْجَرِيمَةَ تَكُونُ أَعْظَمَ، وَإِنَّ الْإِثْمَ يَكُونُ أَكْبَرَ.

وَقَدْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺكَمَا فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي «الصَّحِيحِ»: «مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ».

فَلَا يَجُوزُ التَّعرُّضُ لِمُسْتَأْمَنٍ بِأَذًى، فَضْلًا عَنْ قَتْلِهِ، وَهَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ لِمَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا وَمُسْتَأْمَنًا، وَهُوَ كَبِيرَةٌ مِنَ الْكَبَائِرِ الْمُتَوَعَّدُ عَلَيْهَا بِعَدَمِ دُخُولِ الْقَاتِلِ الْجَنَّةَ.

قَتْلُ الْمُعَاهَدِ وَالْمُسْتَأمَنِ حَرَامٌ؛ فَقَدْ وَرَدَ الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ فِي ذَلِكَ، فَعِنْدَ البُخَارِيِّ فِي «الصَّحِيحِ» مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «مَنْ قَتَلَ نَفْسًا مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا». أَوْرَدَهُ البُخَارِيُّ هَكَذَا «فِي كِتَابِ الْجِزْيَةِ: بَابُ: إِثْمِ مَنْ قَتَلَ ذِمِّيًّا بِغَيْرِ جُرْمٍ» ، وَأَوْرَدَهُ فِي «كِتَابِ الدِّيَاتِ فِي بَابِ: إِثْمِ مَنْ قَتَلَ ذِمِّيًّا بِغَيْرِ جُرْمٍ»  وَلَفْظُهُ: «مَنْ قَتَلَ نَفْسًا مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا».

وَأَمَّا قَتْلُ الْمُعَاهَدِ خَطَأً، فَقَدْ أَوْجَبَ اللهُ تَعَالَى فِيهِ الدِّيَةَ وَالْكَفَّارَةَ، قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللّهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 92].

((وَثِيقَةُ تَنْظِيمِ الْعَلَاقَاتِ مَعَ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمَدِينَةِ))

لَمَّا اسْتَقَرَّ النَّبِيُّ ﷺ بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ شَرَعَ فِي تَنْظِيمِ أُمُورِ الْمُجْتَمَعِ وَبِنَاءِ مُؤَسَّسَاتِهِ الْإِدَارِيَّةِ وَالْعِلْمِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ الَّتِي تَضْمَنُ لَهُ الْأَمْنَ وَالِاسْتِقْرَارَ دَاخِلِيًّا وَخَارِجِيًّا.

وَشَرَعَ رَسُولُ اللهِ ﷺ مُنْذُ دُخُولِهِ الْمَدِينَةَ فِي تَثْبِيتِ دَعَائِمِ الدَّوْلَةِ الْجَدِيدَةِ عَلَى قَوَاعِدَ مَتِينَةٍ وَأُسُسٍ رَاسِخَةٍ؛ فَكَانَتْ أُولَى خُطُوَاتِهِ الْمُبَارَكَةِ الِاهْتِمَامَ بِبِنَاءِ دَعَائِمِ الْأُمَّةِ كَبِنَاءِ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ بِالْمَدِينَةِ، وَالْمُؤَاخَاةِ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ عَلَى الْحُبِّ فِي اللهِ، وَإِصْدَارِ الْوَثِيقَةِ الَّتِي يُنَظِّمُ بِهَا الْعَلَاقَاتِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَمُشْرِكِي الْمَدِينَةِ، وَإِعْدَادِ جَيْشٍ لِحِمَايَةِ الدَّوْلَةِ وَالسَّعْيِ لِتَحْقِيقِ أَهْدَافِهَا، وَالْعَمَلِ عَلَى حَلِّ مَشَاكِلِ الْمُجْتَمَعِ الْجَدِيدِ، وَتَرْبِيَتِهِ عَلَى الْمَنْهَجِ الرَّبَّانِيِّ فِي شُئُونِ الْحَيَاةِ كَافَّةً.

إِنَّ أَوَّلَ عَمَلٍ عَمِلَهُ النَّبِيُّ ﷺ بَعْدَ الْهِجْرَةِ هُوَ بِنَاءُ الْمَسْجِدِ، وَالْعَمَلُ الثَّانِي هُوَ الْمُؤَاخَاةُ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ.

((الْعَمَلُ الثَّالِثُ الَّذِي قَامَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ فِي الْمَدِينَةِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ هُوَ ((كِتَابَةُ الصَّحِيفَةِ)).

أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ))  بِسَنَدِهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((كَتَبَ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى كُلِّ بَطْنٍ عُقُولَهُ)).

(الْبَطْنُ): هُوَ مَا دُونَ الْقَبِيلَةِ وَفَوْقَ الْفَخِذِ، أَيْ كَتَبَ عَلَيْهِمْ مَا تَغْرَمُهُ الْعَاقِلَةُ مِنَ الدِّيَاتِ، فَبَيَّنَ مَا عَلَى كُلِّ قَوْمٍ مِنْهَا، وَيُجْمَعُ عَلَى أَبْطُنٍ وَبُطُونٍ.

(الْعُقُولُ): هِيَ الدِّيَاتُ وَاحِدُهَا عَقْلٌ، وَأَصْلُهُ أَنَّ الْقَاتِلَ كَانَ إِذَا قَتَلَ قَتِيلًا جَمَعَ الدِّيَةَ مِنَ الْإِبِلِ فَعَقَلَهَا بِفِنَاءِ أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ؛ أَيْ شَدَّهَا فِي عُقُلِهَا؛ لِيُسْلِمَهَا إِلَيْهِمْ وَيَقْبِضُوهَا مِنْهُ؛ فَسُمِّيَتِ الدِّيَةُ عَقْلًا بِالْمَصْدَرِ.

الصَّحِيفَةُ كَانَ فِيهَا بُنُودٌ مِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُسْلِمِينَ، فَبُنُودُ الصَّحِيفَةِ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمُسْلِمِينَ: ((بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هَذَا كِتَابٌ مِنْ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ ﷺ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ مِنْ قُرَيْشٍ وَالْمَدِينَةِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ فَلَحِقَ بِهِمْ وَجَاهَدَ مَعَهُمْ:

1- أَنَّهُمْ أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ دُونِ النَّاسِ.

2- الْمُهَاجِرُونَ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى رِبَاعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ بَيْنَهُمْ -عَلَى رِبَاعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ بَيْنَهُمْ: أَيْ: عَلَى شَأْنِهِمْ وَعَادَاتِهِمْ مِنْ أَحْكَامِ الدِّيَاتِ وَالدِّمَاءِ الَّتِي كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، يُؤَدُّونَهَا كَمَا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ- وَهُمْ يَفْدُونَ عَانِيَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَكُلُّ طَائِفَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ -أَيْ كُلُّ فَخِذٍ مِنَ الْأَنْصَارِ- عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمُ الْأُولَى.

3- أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَتْرُكُونَ مُفْرَحًا بَيْنَهُمْ أَنْ يُعْطُوهُ بِالْمَعْرُوفِ فِي فِدَاءٍ أَوْ عَقْلٍ.

(الْمُفْرَحُ): الْمُثْقَلُ بِالدَّيْنِ وَالْكَثِيرُ الْعِيَالِ، فَمِنَ الْبُنُودِ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَتْرُكُونَ مُفْرَحًا بَيْنَهُمْ أَنْ يُعْطُوهُ بِالْمَعْرُوفِ فِي فِدَاءٍ أَوْ عَقْلٍ.

4- وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ عَلَى مَنْ بَغَى مِنْهُمْ أَوِ ابْتَغَى دَسِيعَةَ ظُلْمٍ.

(الدَّسْعُ): هُوَ الدَّفْعُ، وَالدَّسِيعَةُ: الْعَطِيَّةُ، وَمَعْنَى ابْتَغَى دَسِيعَةَ ظُلْمٍ؛ أَيْ: طَلَبَ دَفْعًا عَلَى سَبِيلِ الظُّلْمِ فَأَضَافَهُ إِلَيْهِ، وَهِيَ إِضَافَةٌ بِمَعْنَى مِنْ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالدَّسِيعَةِ الْعَطِيَّةُ؛ أَيِ ابْتَغَى مِنْهُمْ أَنْ يَدْفَعُوا إِلَيْهِ عَطِيَّةً عَلَى وَجْهِ ظُلْمِهِمْ؛ أَيْ كَوْنِهِمْ ظَالِمِينَ، أَوْ أَضَافَهَا إِلَى ظُلْمِهِ لِأَنَّهُ سَبَبُ دَفْعِهِمْ لَهَا.

أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ عَلَى مَنْ بَغَى مِنْهُمْ أَوِ ابْتَغَى دَسِيعَةَ ظُلْمٍ أَوْ إِثْمٍ أَوْ عُدْوَانٍ أَوْ فَسَادٍ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَإَنَّ أَيْدِيَهُمْ عَلَيْهِ جَمِيعًا وَلَوْ كَانَ وَلَدَ أَحَدِهِمْ.

5- أَنَّ ذِمَّةَ اللهِ وَاحِدَةٌ يُجِيرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَدْنَاهُمْ..

يُجِيرُ عَلَيْهِمْ أَدْنَاهُمْ: أَيْ إِذَا أَجَارَ وَاحِدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ حُرٌّ أَوْ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ وَاحِدًا مِنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْكُفَّارِ وَخَفَرَهُمْ وَأَمَّنَهُمْ، جَازَ ذَلِكَ عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، لَا يُنْتَقَضُ عَلَيْهِ جِوَارُهُ وَأَمَانُهُ.

أَنَّ ذِمَّةَ اللهِ وَاحِدَةٌ يُجِيرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَدْنَاهُمْ. وَهَذَا قَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي ((الْمُسْنَدِ))  بِسَنَدٍ حَسَنٍ.

6- الْمُؤْمِنُونَ بَعْضُهُمْ مَوَالِي بَعْضٍ دُونَ النَّاسِ.

7- وَمَنْ تَبِعَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ يَهُودَ فَإِنَّهُ لَهُ النُّصْرَةُ وَالْأُسْوَةُ غَيْرَ مَظْلُومِينَ وَلَا مُتَنَاصِرِينَ عَلَيْهِمْ.

8- وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يُبِيءُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ بِمَا نَالَ دِمَاءَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ.

(يُبِيءُ)؛ الْبَوَاءُ: السَّوَاءُ، وَفُلَانٌ بَوَاءُ فُلَانٍ؛ أَيْ: كُفْؤُهُ إِنْ قُتِلَ بِهِ.

فَالْمُؤْمِنُونَ يُبِيءُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ بِمَا نَالَ دِمَاءَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَمَنِ اعْتَبَطَ مُؤْمِنًا قَتْلًا عَنْ بَيِّنَةٍ فَإِنَّهُ قَوَدٌ بِهِ إِلَّا أَنْ يَرْضَى وَلِيُّ الْمَقْتُولِ.

9- مَنِ اعْتَبَطَ مُؤْمِنًا قَتْلًا فَإِنَّهُ قَوَدٌ بِهِ -أَيْ: قَتَلَهُ بِلَا جِنَايَةٍ كَانَتْ مِنْهُ وَلَا جَرِيرَةٍ تُوجِبُ قَتْلَهُ، فَإِنَّ الْقَاتِلَ يُقَادُ بِهِ وَيُقْتَلُ، وَالْقَوَدُ: الْقِصَاصُ-.

10- وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ كَافَّةً، وَلَا يَحِلُّ لَهُمْ إِلَّا قِيَامٌ عَلَيْهِ.

فَهَذِهِ الْبُنُودُ مِنَ الصَّحِيفَةِ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمُسْلِمِينَ.

وَأَمَّا بُنُودُ الصَّحِيفَةِ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمُشْرِكِينَ:

1- فَلَا يُجِيرُ مُشْرِكٌ مَالًا لِقُرَيْشٍ وَلَا نَفْسًا، وَلَا يَحُولُ دُونَهُ عَلَى مُؤْمِنٍ.

2- وَلَا تُجَارُ قُرَيْشٌ وَلَا مَنْ نَصَرَهَا.

3- وَلِقُرَيْشٍ وَحُلَفَائِهَا حَقُّ الصُّلْحِ إِذَا طَلَبُوهُ إِلَّا مَنْ حَارَبَ مِنْهُمُ الْإِسْلَامَ.

((وَيُلَاحَظُ أَنَّ الرَّسُولَ ﷺ فِي هَذِهِ الْمُعَاهَدَةِ أَشَارَ إِلَى الْعَدَاوَةِ الْقَائِمَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَمُشْرِكِي قُرَيْشٍ، وَأَعْلَنَ رَفْضَهُ الْحَاسِمَ لِمُوَالَاتِهِمْ وَحَرَّمَ إِسْدَاءَ أَيِّ عَوْنٍ لَهُمْ، وَهَلْ يُنْتَظَرُ إِلَّا هَذَا الْمَوْقِفُ مِنْ قَوْمٍ لَا تَزَالُ جُرُوحُهُمْ تَقْطُرُ دَمًا لِبَغْيِ قُرَيْشٍ وَأَحْلَافِهَا عَلَيْهِمْ؟!!)).

وَأَمَّا بُنُودُ الصَّحِيفَةِ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْيَهُودِ:

1- فَيُنْفِقُ الْيَهُودُ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ مَا دَامُوا مُحَارِبِينَ.

2- وَيَهُودُ بَنِي عَوْفٍ أُمَّةٌ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، لِلْيَهُودِ دِينُهُمْ وَلِلْمُسْلِمِينَ دِينُهُمْ مَوَالِيهِمْ وَأَنْفُسُهُمْ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ وَأَثِمَ فَإِنَّهُ لَا يُهْلِكُ إِلَّا مِنْ نَفْسِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ.

وَكَانَ فِي الصَّحِيفَةِ بُنُودٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْقَوَاعِدِ الْعَامَّةِ:

1- الْمَدِينَةُ حَرَامٌ جَوْفُهَا لِأَهْلِ هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، وَإِنَّ الْجَارَ كَالنَّفْسِ غَيْرَ مُضَارٍّ وَلَا آثِمٍ، وَإِنَّهُ لَا تُجَارُ حُرْمَةٌ إِلَّا بِإِذْنِ أَهْلِهَا.

2- مَا كَانَ بَيْنَ أَهْلِ هَذِهِ الصَّحِيفَةِ مِنْ حَدَثٍ -وَهُوَ الْأَمْرُ الْحَادِثُ الْمُنْكَرُ الَّذِي لَيْسَ بِمُعْتَادٍ وَلَا مَعْرُوفٍ- مَا كَانَ بَيْنَ أَهْلِ هَذِهِ الصَّحِيفَةِ مِنْ حَدَثٍ أَوِ اشْتِجَارٍ -أَيِ اخْتِلَافٍ- يُخَافُ فَسَادُهُ فَإِنَّ مَرَدَّهُ إِلَى اللهِ -تَعَالَى- وَإِلَى مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

3- وَأَنَّ بَيْنَهُمْ -أَيْ: أَهْلِ هَذِهِ الصَّحِيفَةِ- النَّصْرَ عَلَى مَنْ دَهِمَ الْمَدِينَةَ -أَيْ غَشِيَهَا-.

4- وَمَنْ خَرَجَ آمِنٌ، وَمَنْ قَعَدَ آمِنٌ بِالْمَدِينَةِ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ وَأَثِمَ، وَإِنَّ اللهَ جَارٌ لِمَنْ بَرَّ وَاتَّقَى، وَمُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ ﷺ)) .

بِهَذِهِ الْحِكْمَةِ أَرْسَى رَسُولُ اللهِ ﷺ قَوَاعِدَ مُجْتَمَعٍ جَدِيدٍ، وَكَانَتْ هَذِهِ الظَّاهِرَةُ أَثَرًا لِلْمَعَانِي الَّتِي كَانَ يَتَمَتَّعُ بِهَا أُولَئِكَ الْأَمْجَادُ بِفَضْلِ صُحْبَةِ النَّبِيِّ ﷺ.

وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَتَعَهَّدُهُمْ بِالتَّعْلِيمِ وَالتَّرْبِيَةِ وَتَزْكِيَةِ النُّفُوسِ وَالْحَثِّ عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَيُؤَدِّبُهُمْ بِآدَابِ الْوُدِّ وَالْإِخَاءِ وَالْمَجْدِ وَالشَّرَفِ وَالْعِبَادَةِ وَالطَّاعَةِ.

وَبِجَانِبِ هَذَا كَانَ ﷺ يَحُثُّ حَثًّا شَدِيدًا عَلَى الِاسْتِعْفَافِ عَنِ الْمَسْأَلَةِ وَيَذْكُرُ فَضَائِلَ الصَّبْرِ وَالْقَنَاعَةِ.

وَكَانَ يَعُدُّ الْمَسْأَلَةَ كُدُوحًا أَوْ خُدُوشًا أَوْ خُمُوشًا فِي وَجْهِ السَّائِلِ، اللَّهُمَّ إِلَّا إِذَا كَانَ مُضْطَرًّا.

(الْكُدُوحُ): الْخُدُوشُ، وَكُلُّ أَثَرٍ مِنْ خَدْشٍ أَوْ عَضٍّ فَهُوَ كَدْحٌ.

أَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي ((الْمُسْنَدِ))  بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((الْمَسْأَلَةُ كُدُوحٌ فِي وَجْهِ صَاحِبِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ)).

وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((لَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَسْأَلُ النَّاسَ حَتَّى يَأْتِيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ))، وَالْمُزْعَةُ -بِضَمِّ الْمِيمِ-: أَيِ الْقِطْعَةُ.

فَكَانَ يَعُدُّ الْمَسْأَلَةَ كُدُوحًا أَوْ خُدُوشًا أَوْ خُمُوشًا فِي وَجْهِ السَّائِلِ، اللَّهُمَّ إِلَّا إِذَا كَانَ مُضْطَرًّا، اللَّهُمَّ إِلَّا إِذَا كَانَ مُضْطَرًّا، كَمَا كَانَ ﷺ يُحَدِّثُهُمْ بِمَا فِي الْعِبَادَاتِ مِنَ الْفَضَائِلِ وَالْأَجْرِ وَالثَّوَابِ عِنْدَ اللهِ.

وَكَانَ ﷺ يَرْبِطُهُمْ بِالْوَحْيِ النَّازِلِ عَلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ رَبْطًا مُوثَقًا يَقْرَأُهُ عَلَيْهِمْ، وَيَقْرَأُونَهُ، لِتَكُونَ هَذِهِ الدِّرَاسَةُ إِشْعَارًا بِمَا عَلَيْهِمْ مِنْ حُقُوقِ الدَّعْوَةِ وَتَبِعَاتِ الرِّسَالَةِ، فَضْلًا عَنْ ضَرُورَةِ الْفَهْمِ وَالتَّدَبُّرِ.

وَهَكَذَا رَفَعَ رَسُولُ اللهِ ﷺ مَعْنَوِيَّاتِ وَمَوَاهِبَ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، وَزَوَّدَهُمْ بِأَعْلَى الْقِيَمِ وَالْمُثُلِ، حَتَّى صَارُوا صُورَةً لِأَعْلَى قِمَّةٍ مِنَ الْكَمَالِ عُرِفَتْ فِي تَارِيخِ الْبَشَرِ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ.

ثُمَّ إِنَّ هَذَا الرَّسُولَ الْقَائِدَ الْأَعْظَمَ ﷺ كَانَ يَتَمَتَّعُ مِنَ الصِّفَاتِ الْمَعْنَوِيَّةِ وَالظَّاهِرَةِ، وَمِنَ الْكَمَالَاتِ وَالْمَوَاهِبِ وَالْأَمْجَادِ وَالْفَضَائِلِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَمَحَاسِنِ الْأَعْمَالِ، كَانَ يَتَمَتَّعُ ﷺ مِنْ ذَلِكَ بِمَا جَعَلَهُ مَهْوَى الْأَفْئِدَةِ، وَجَعَلَهُ تَتَفَانَى عَلَيْهِ النُّفُوسُ، فَمَا يَتَكَلَّمُ بِكَلِمَةٍ إِلَّا وَيُبَادِرُ أَصْحَابُهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- إِلَى امْتِثَالِهِ، وَمَا يَأْتِي بِرُشْدٍ وَتَوْجِيهٍ إِلَّا وَيَتَسَابَقُونَ إِلَى التَّحَلِّي بِهِ.

وَبِمِثْلِ هَذَا اسْتَطَاعَ الرَّسُولُ ﷺ أَنْ يَبْنِيَ فِي الْمَدِينَةِ مُجْتَمَعًا جَدِيدًا، أَرْوَعَ وَأَشْرَفَ مُجْتَمَعٍ عَرَفَهُ التَّارِيخُ، وَأَنْ يَضَعَ لِمَشَاكِلِ هَذَا الْمُجْتَمَعِ حَلًّا تَتَنَفَّسُ لَهُ الْإِنْسَانِيَّةُ الصُّعَدَاءَ -تَنَفُّسُ الصُّعَدَاءِ: هُوَ النَّفَسُ إِلَى فَوْقَ مَمْدُودًا، وَقِيلَ: هُوَ النَّفَسُ بِتَوَجُّعٍ- تَتَنَفَّسُ لَهُ الْإِنْسَانِيَّةُ الصُّعَدَاءَ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ تَعِبَتْ فِي غَيَاهِبِ الزَّمَانِ وَدَيَاجِيرِ الظُّلُمَاتِ» .

((لَقَدْ نَظَّمَ النَّبِيُّ ﷺ الْعَلَاقَاتِ بَيْنَ سُكَّانِ الْمَدِينَةِ، وَكَتَبَ فِي ذَلِكَ كِتَابًا أَوْرَدَتْهُ الْمَصَادِرُ التَّارِيخِيَّةُ، وَاسْتَهْدَفَ الْكِتَابُ أَوِ الصَّحِيفَةُ تَوْضِيحَ الْتِزَامَاتِ جَمِيعِ الْأَطْرَافِ دَاخِلَ الْمَدِينَةِ وَتَحْدِيدَ الْحُقُوقِ وَالْوَاجِبَاتِ، وَقَدْ سُمِّيَتْ فِي الْمَصَادِرِ الْقَدِيمَةِ بِـ(الْكِتَابِ أَوِ الصَّحِيفَةِ)، وَأَطْلَقَتِ الْأَبْحَاثُ الْحَدِيثَةُ عَلَيْهَا لَفْظَةَ الدُّسْتُورِ أَوِ الْوَثِيقَةِ.

لَقَدِ احْتَجَّ بِالْوَثِيقَةِ الْفُقَهَاءُ وَبَنَوْا عَلَيْهَا أَحْكَامَهُمْ، كَمَا أَنَّ بَعْضَهَا وَرَدَ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ وَسُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَابْنِ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيِّ.

ثُمَّ إِنَّ التَّشَابُهَ الْكَبِيرَ بَيْنَ أُسْلُوبِ الْوَثِيقَةِ وَأَسَالِيبِ كُتُبِ النَّبِيِّ ﷺ الْأُخْرَى يُعْطِيهَا تَوْثِيقًا آخَرَ)) .

بِمَا أَنَّ هَذِهِ الْأَسَانِيدَ كُلَّهَا صَالِحَةٌ لِلِاعْتِبَارِ بِانْفِرَادِهَا، وَبِمَا أَنَّ كُلَّهَا تُعَاضِدُ بَعْضُهَا بَعْضًا، لِذَلِكَ جَازَ الْقَوْلُ إِنَّ رِوَايَةَ صَحِيفَةِ الْمَدِينَةِ وَصَلَتْ إِلَى دَرَجَةِ الْحَسَنِ لِغَيْرِهِ.

وَالْخُلَاصَةُ أَنَّ جَمِيعَ فِقْرَاتِ الصَّحِيفَةِ لَهَا شَوَاهِدُ مِنْ صَحِيحِ السُّنَّةِ وَمِنَ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ.

أَمَّا مَا جَاءَ مِنَ الصَّحِيفَةِ عَنِ الصُّلْحِ مَعَ الْيَهُودِ وَالْمُشْرِكِينَ بِغَيْرِ الْجِزْيَةِ فَهُوَ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ الْجِزْيَةِ: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]، وَكَانَ ذَلِكَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ، وَمِنَ الْمَعْرُوفِ أَنَّ سُورَةَ التَّوْبَةِ مِنْ أَوَاخِرِ مَا نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ كَمَا قَالَ الْبُخَارِيُّ.

تَضَمَّنَتِ الصَّحِيفَةُ مَبَادِئَ عَامَّةً دَرَجَتْ دَسَاتِيرُ الدُّوَلِ الْحَدِيثَةِ عَلَى وَضْعِهَا فِيهَا، وَفِي طَلِيعَةِ هَذِهِ الْمَبَادِئِ تَحْدِيدُ مَفْهُومِ الْأُمَّةِ، فَالْأُمَّةُ فِي الصَّحِيفَةِ تَضُمُّ الْمُسْلِمِينَ جَمِيعًا مُهَاجِرِيهِمْ وَأَنْصَارَهُمْ وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِمَّنْ لَحِقَ بِهِمْ وَجَاهَدَ مَعَهُمْ، أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ دُونِ النَّاسِ، وَهَذَا شَيْءٌ جَدِيدٌ كُلَّ الْجِدَّةِ فِي تَارِيخِ الْحَيَاةِ السِّيَاسِيَّةِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ؛ إِذْ نَقَلَ الرَّسُولُ ﷺ قَوْمَهُ مِنْ شِعَارِ الْقَبِيلَةِ وَالتَّبَعِيَّةِ لَهَا إِلَى شِعَارِ الْأُمَّةِ الَّتِي تَضُمُّ كُلَّ مَنِ اعْتَنَقَ الْإِسْلَامَ، فَلَقَدْ قَالَتِ الصَّحِيفَةُ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ.

وَقَدْ جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ؛ فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92].

وَبَيَّنَ اللهُ تَعَالَى وَسَطِيَّةَ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [البقرة: 143].

وَوَضَّحَ -تَعَالَى- أَنَّهَا بِكَوْنِهَا أُمَّةً إِيجَابِيَّةً فَهِيَ لَا تَقِفُ مَوْقِفَ الْمُتَفَرِّجِ مِنْ قَضَايَا عَصْرِهَا، بَلْ تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَتَدْعُو إِلَى الْفَضَائِلِ وَتُحَذِّرُ مِنَ الرَّذَائِلِ: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 110].

وَبِهَذَا الِاسْمِ الَّذِي أُطْلِقَ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنْ أَهْلِ يَثْرِبَ انْدَمَجَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى اخْتِلَافِ قَبَائِلِهِمْ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّتِي تَرْتَبِطُ بَيْنَهَا بِرَابِطَةِ الْإِسْلَامِ، فَهُمْ يَتَكَافَلُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَيَنْصُرُونَ الْمَظْلُومَ عَلَى الظَّالِمِ، وَهُمْ يَرْعَوْنَ حُقُوقَ الْقَرَابَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالْجِوَارِ.

انْصَهَرَتْ طَائِفَتَا الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ فِي جَمَاعَةِ الْأَنْصَارِ، ثُمَّ انْصَهَرَ الْأَنْصَارُ وَالْمُهَاجِرُونَ حَتَّى أَصْبَحُوا أُمَّةً وَاحِدَةً، تَرْبِطُ أَفْرَادَهَا رَابِطَةُ الْعَقِيدَةِ وَلَيْسَ الدَّمُ، فَيَتَّحِدُ شُعُورُهُمْ، وَتَتَّحِدُ أَفْكَارُهُمْ، وَتَتَّحِدُ قِبْلَتُهُمْ وَوِجْهَتُهُمْ وَوَلَاؤُهُمْ لِلَّهِ وَلَيْسَ لِلْقَبِيلَةِ، وَاحْتِكَامُهُمْ لِلشَّرْعِ وَلَيْسَ لِلْعُرْفِ، وَهُمْ يَتَمَايَزُونَ بِذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى بَقِيَّةِ النَّاسِ مِنْ دُونِ النَّاسِ، فَهَذِهِ الرَّوَابِطُ تَقْتَصِرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَلَا تَشْمَلُ غَيْرَهُمْ مِنَ الْيَهُودِ وَالْحُلَفَاءِ.

وَلَا شَكَّ أَنَّ تَمْيِيزَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى هَذَا النَّحْوِ كَانَ أَمْرًا مَقْصُودًا يَسْتَهْدِفُ زِيَادَةَ تَمَاسُكِ الْمُسْلِمِينَ وَزِيَادَةَ اعْتِزَازِهِمْ بِذَاتِهِمْ، يَتَّضِحُ ذَلِكَ فِي تَمْيِيزِ الْأُمَّةِ بِالْقِبْلَةِ وَفِي اتِّجَاهِهَا إِلَى الْكَعْبَةِ بَعْدَ أَنِ اتَّجَهَتْ سِتَّةَ عَشَرَ أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ.

وَقَدْ مَضَى النَّبِيُّ ﷺ يُمَيِّزُ أَتْبَاعَهُ عَمَّنْ سِوَاهُمْ فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ، وَيُوَضِّحُ لَهُمْ أَنَّهُ يَقْصِدُ بِذَلِكَ مُخَالَفَةَ الْيَهُودِ؛ مِنْ ذَلِكَ: أَنَّ الْيَهُودَ لَا يُصَلُّونَ بِالْخِفَافِ، فَأَذِنَ النَّبِيُّ ﷺ لِأَصْحَابِهِ أَنْ يُصَلُّوا بِالْخُفِّ.

الْيَهُودُ لَا تَصْبُغُ الشَّيْبَ، فَصَبَغَ الْمُسْلِمُونَ شَيْبَ رَؤُوسِهِمْ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ.

الْيَهُودُ تَصُومُ عَاشُورَاءَ، النَّبِيُّ ﷺ يَصُومُهُ -أَيْضًا-، ثُمَّ اعْتَزَمَ أَوَاخِرَ حَيَاتِهِ أَنْ يَصُومَ تَاسُوعَاءَ مَعَ عَاشُورَاءَ مُخَالَفَةً لِلْيَهُودِ.

ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ وَضَعَ لِلْمُسْلِمِينَ مَبْدَأَ مُخَالَفَةِ غَيْرِهِمْ وَالتَّمَيُّزِ عَلَيْهِمْ؛ فَقَالَ: ((مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ)) ، وَقَالَ: ((لَا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ)) ، وَالْأَحَادِيثُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.

اعْتَبَرَتِ الصَّحِيفَةُ -صَحِيفَةُ الْمَدِينَةِ- الْيَهُودَ جُزْءًا مِنْ مُوَاطِنِي الدَّوْلَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَعُنْصُرًا مِنْ عَنَاصِرِهَا؛ لِذَلِكَ قِيلَ فِي الصَّحِيفَةِ: مَنْ تَبِعَنَا مِنْ يَهُودَ فَإِنَّ لَهُ النَّصْرَ وَالْأُسْوَةَ غَيْرَ مَظْلُومِينَ وَلَا مُتَنَاصَرٍ عَلَيْهِمْ.. كَمَا فِي الْمَادَّةِ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ.

ثُمَّ زَادَ هَذَا الْحُكْمَ إِيضَاحًا كَمَا فِي الْمَادَّةِ الْخَامِسَةِ وَالْعِشْرِينَ وَمَا يَلِيهَا؛ حَيْثُ نَصَّ فِيهَا صَرَاحَةً عَلَى أَنَّ يَهُودَ بَنِي عَوْفٍ أُمَّةٌ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ.

فَبِهَذَا نَرَى أَنَّ الْإِسْلَامَ اعْتَبَرَ أَهْلَ الْكِتَابِ الَّذِينَ يَعِيشُونَ فِي أَرْجَائِهِ مُوَاطِنِينَ، وَأَنَّهُمْ أُمَّةٌ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ مَا دَامُوا قَائِمِينَ بِالْوَاجِبَاتِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَيْهِمْ.

وَجَعَلَتِ الصَّحِيفَةُ الْفَصْلَ فِي كُلِّ الْأُمُورِ بِالْمَدِينَةِ عَائِدًا إِلَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- وَإِلَى رَسُولِهِ ﷺ؛ فَقَدْ نَصَّتْ عَلَى مَرْجِعِ فَضِّ الْخِلَافِ كَمَا فِي الْمَادَّةِ الثَّالِثَةِ وَالْعِشْرِينَ، فِيهَا: وَأَنَّكُمْ مَهْمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ مَرَدَّهُ إِلَى اللهِ وَإِلَى مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ ﷺ.. وَالْمَغْزَى مِنْ ذَلِكَ وَاضِحٌ، وَهُوَ تَأْكِيدُ سُلْطَةٍ عُلْيَا دِينِيَّةٍ تُهَيْمِنُ عَلَى الْمَدِينَةِ وَتَفْصِلُ فِي الْخِلَافَاتِ مَنْعًا لِقِيَامِ اضْطِرَابَاتٍ فِي الدَّاخِلِ مِنْ جَرَّاءِ تَعَدُّدِ السُّلُطَاتِ، وَفِي الْوَقْتِ نَفْسِهِ تَأْكِيدٌ ضِمْنِيٌّ بِرِئَاسَةِ الرَّسُولِ ﷺ وَبِكَوْنِهِ عَلَى رَأْسِ الدَّوْلَةِ ﷺ.

بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ، وَعَقْدِ الْمُؤَاخَاةِ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَبِكِتَابَةِ الْوَثِيقَةِ مَعَ الْيَهُودِ.. يَكُونُ الرَّسُولُ ﷺ قَدْ أَرْسَى قَوَاعِدَ الدَّوْلَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ عَلَى أُسُسٍ مَتِينَةٍ.

((مَاذَا لَوْ قَامَتْ ثَوْرَةٌ فِي مِصْر؟!!))

الْأَحْدَاثُ الْجَارِيَةُ فِي مِصْرَ هَذِهِ الْأَيَّامَ وَالدَّعَوَاتُ الْمَحْمُومَةُ لِلتَّظَاهُرِ وَالثَّوْرَةِ تَفْرِضُ سُؤَالًا مُلِحًّا يَتَطَلَّبُ إِجَابَةً شَافِيَةً.

وَالسُّؤَالُ هُوَ: مَاذَا لَوْ قَامَتْ ثَوْرَةٌ فِي مِصْرَ؟!!

وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ مِنْ وَجْهَيْنِ؛ مُجْمَلٍ وَمُفَصَّلٍ:

فَأَمَّا الْجَوَابُ الْمُجْمَلُ فَهُوَ:

لَوْ قَامَتْ ثَوْرَةٌ فِي مِصْرَ فَقِيَامُهَا سُقُوطُ مِصْرَ، وَخَرَابُ تُرَاثِهَا، وَضَيَاعُ مَاضِيهَا، وَدَمَارُ حَاضِرِهَا وَمُسْتَقْبَلِهَا، وَتَشَتُّتُ أَبْنَائِهَا بَيْنَ الْأُمَمِ، وَمُعَانَاتُهُمْ مِنَ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ.

فَقِيَامُ الثَّوْرَةِ فِي مِصْرَ يَعْنِي الْحَرْبَ الْأَهْلِيَّةَ بَيْنَ أَبْنَائِهَا.

وَالَّذِينَ يَدْعُونَ إِلَى الْخُرُوجِ وَالثَّوْرَةِ لَنْ يَخْرُجُوا مِنْ أَجْلِ الشَّعْبِ الْمِصْرِيِّ، وَلَكِنْ سَيَخْرُجُونَ مِنْ أَجْلِ إِسْقَاطِ الدَّوْلَةِ الْمِصْرِيَّةِ نَفْسِهَا.

وَأَمَّا الْجَوَابُ الْمُفَصَّلُ فَمِنْ وُجُوهٍ:

الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: الدَّاعُونَ إِلَى الثَّوْرَةِ وَالتَّظَاهُرِ وَالْفَوْضَى فِي مِصْرَ إِمَّا جُهَّالٌ مَخْدُوعُونَ مُغَرَّرٌ بِهِمْ، لَا يَنْظُرُونَ فِي عَوَاقِبِ الْأُمُورِ، وَيَسْعَوْنَ جَادِّينَ لِخَرَابِ بَلَدِهِمْ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، وَإِمَّا خَوَنَةٌ مَأْجُورُونَ يَعْلَمُونَ مَا يَفْعَلُونَ، وَيَدْرُونَ مَا يُرِيدُونَ، وَهَؤُلَاءِ يَسْعَوْنَ لِغَايَةٍ بِعَيْنِهَا لَا يَرَوْنَ غَيْرَهَا.

وَالْجُهَّالُ وَالْمَخْدُوعُونَ هُمْ حَطَبُ نِيرَانِ كُلِّ ثَوْرَةٍ، وَهُمُ الْخِرَافُ الْبَائِسَةُ الَّتِي تُسَاقُ إِلَى مَذَابِحِهَا، وَلَا تَتَحَصَّلُ عَلَى شَيْءٍ.

وَالْخَوَنَةُ الْمَأْجُورُونَ خَارِجَ مِصْرَ وَدَاخِلَهَا يُمَنُّونَ أَنْفُسَهُمْ بِالسُّلْطَةِ وَالْجَاهِ وَالْمَالِ، وَإِذَا تَمَكَّنُوا سَامُوا الْمَخْدُوعِينَ سُوءَ الْعَذَابِ، وَإِذَا لَمْ يَتَمَكَّنُوا فَهُمْ فِي مَأْمَنٍ يَتَمَتَّعُونَ، فَهُمْ أَصْحَابُ الْغَنِيمَةِ فِي حَالَيِ النَّجَاحِ وَالْفَشَلِ.

الوَجْهُ الثَّانِي: مِصْرُ فِي سَنَةِ عِشْرِينَ وَاثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ (٢٠٢٢م) غَيْرُهَا فِي سَنَةِ عِشْرِينَ وَإِحْدَى عَشْرَةَ (٢٠١١م)، وَأَوْضَاعُهَا الْآنَ غَيْرُ أَوْضَاعِهَا إِذْ ذَاكَ، وَأَغْلَبِيَّةُ الْمِصْرِيِّينَ انْتَبَهُوا، وَوَعَوْا دَرْسَ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ يَنَايِرَ، وَتَيَقَّنُوا أَنَّ بَلَدَهُمْ مُسْتَهْدَفٌ مُتَآمَرٌ عَلَيْهِ، وَأَنَّ الثَّوْرَةَ وَسِيلَةٌ قَذِرَةٌ لِإِسْقَاطِ بَلَدِهِمْ وَضَيَاعِهِ، وَأَدْرَكَ الْمِصْرِيُّونَ أَنَّ الثَّوْرَاتِ لَا تَأْتِي إِلَّا بِالشَّرِّ وَالْخَرَابِ.

وَهَذِهِ الْأَغْلَبِيَّةُ الْفَاهِمَةُ الْوَاعِيَةُ مِنَ الْمِصْرِيِّينَ لَنْ تَسْمَحَ -إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى- مَرَّةً أُخْرَى لَا لِلْمَخْدُوعِينَ وَلَا لِلْمُتَآمِرِينَ أَصْحَابِ الْأَغْرَاضِ.. لَنْ تَسْمَحَ لَهُمْ بِالْعَبَثِ مَرَّةً أُخْرَى بِحَاضِرِ الْبَلَدِ وَمُسْتَقْبَلِهِ.

وَسَيُؤَدِّي هَذَا حَتْمًا إِلَى الْحَرْبِ الْأَهْلِيَّةِ بَيْنَ أَبْنَاءِ الْبَلَدِ الْوَاحِدِ، وَمَا يُعْقِبُ ذَلِكَ مِنَ الْخَرَابِ وَالضَّيَاعِ وَالدَّمَارِ.

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: قِيَامُ الثَّوْرَةِ فِي مِصْرَ يَعْنِي ضَيَاعَ النِّيلِ ضَيَاعًا أَبَدِيًّا، وَسَيُتَاحُ لِأَصْحَابِ الْأَغْرَاضِ فِي مَاءِ النِّيلِ الْفُرْصَةُ كَامِلَةً؛ لِتَكْمِيلِ مَا بَدَأُوهُ، وَإِنْهَاءِ مَا شَرَعُوا فِيهِ؛ وَذَلِكَ لِانْشِغَالِ الْإِدَارَةِ وَالْجَيْشِ بِأَحْوَالِ الْأَمْنِ الدَّاخِلِيِّ، وَضَبْطِ الْأُمُورِ فِي الدَّاخِلِ مِمَّا يُسْفِرُ عَنْ نَتَائِجَ أَسْوَأَ بِكَثِيرٍ مِمَّا كَانَ فِي الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِمَّا يَنْتُجُ عَنْهُ -وَهُوَ: الْوَجْهُ الرَّابِعُ-: شُحُّ الْمِيَاهِ؛ بَلْ نُدْرَتُهَا، مِمَّا يُؤَدِّي إِلَى التَّصَحُّرِ، وَفِقْدَانِ أَكْبَرِ رُقْعَةٍ مِنَ الْأَرَاضِي الزِّرَاعِيَّةِ الْمُنْتِجَةِ، وَارْتِفَاعِ أَسْعَارِ الْمُنْتَجَاتِ ارْتِفَاعًا جُنُونِيًّا.

الْوَجْهُ الْخَامِسُ: انْشِغَالُ الْإِدَارَةِ وَالْجَيْشِ يَنْتُجُ عَنْهُ -أَيْضًا-: ضَعْفُ الرَّقَابَةِ عَلَى الْحُدُودِ الْجَنُوبِيَّةِ مِمَّا يُتِيحُ الْفُرْصَةَ كَامِلَةً لِتِجَارَةِ السِّلَاحِ، وَتَسَلُّلِ الْعَنَاصِرِ الْخَطِرَةِ إِلَى دَاخِلِ الْبِلَادِ، وَيُمَهِّدُ لِضَيَاعِ أَجْزَاءٍ مِنْ تُرَابِ هَذَا الْوَطَنِ فِي الْجَنُوبِ.

الوَجْهُ السَّادِسُ: يُؤَدِّيِ انْشِغَالُ الْإِدَارَةِ وَالْجَيْشِ بِالدَّاخِلِ إِلَى إِعْطَاءِ الْفُرْصَةِ كَامِلَةً لِانْتِهَاكِ الْحُدُودِ الْغَرْبِيَّةِ بِتَهْرِيبِ السِّلَاحِ وَإِغْرَاقِ مِصْرَ بِهِ، وَإِدْخَالِ الْمُخَدِّرَاتِ كَالطُّوفَانِ؛ مِمَّا يَكْفِي لِتَدْمِيرِ أَجْيَالٍ مِنْ أَبْنَاءِ هَذَا الْوَطَنِ، مَعَ تَهْدِيدٍ خَطِيرٍ لِأَمْنِ مِصْرَ مِنْ جِهَةِ الْغَرْبِ.

الْوَجْهُ السَّابِعُ: انْشِغَالُ الْإِدَارَةِ وَالْجَيْشِ بِالدَّاخِلِ سَيُؤَدِّي إِلَى انْتِهَاكِ الْحُدُودِ الشَّمَالِيَّةِ الشَّرْقِيَّةِ، وَسَتَكُونُ الْفُرْصَةُ سَانِحَةً تَمَامًا لِضَيَاعِ سَيْنَاءَ بِأَكْمَلِهَا، وَخُرُوجِهَا مِنْ حَيِّزِ السَّيْطَرَةِ، وَقَدْ يُعَادُ احْتِلَالُهَا بِحُجَّةِ عَدَمِ سَيْطَرَةِ مِصْرَ عَلَيْهَا، مَعَ تَهْرِيبِ السِّلَاحِ وَالْمُخَدِّرَاتِ مِنْ خِلَالِهَا.

الْوَجْهُ الثَّامِنُ: ضَيَاعُ حِصَّةِ مِصْرَ مِنَ الْغَازِ فِي الْمُتَوَسِّطِ، وَاسْتِيلَاءُ الطَّامِعِينَ فِيهَا عَلَيْهَا، وَخَسَارَةُ مِصْرَ مَا يَنْتُجُ مِنْ ذَلِكَ مِنْ دَخْلٍ، مِمَّا يَزِيدُ الفَقْرَ فَقْرًا وَالْمُعَانَاةَ مُعَانَاةً.

الْوَجْهُ الْعَاشِرُ: بِسَبَبِ أَزْمَةِ الْقَمْحِ الْعَالَمِيَّةِ النَّاتِجَةِ مِنَ الْحَرْبِ الْأُوكْرَانِيَّةِ وَتَدَاعِيَاتِهَا لَنْ يَجِدَ الثَّائِرُونَ أَنْفُسُهُمْ لُقْمَةَ الْعَيْشِ، وَكَيْفَ يَتَحَصَّلُ النَّاسُ فِي الْفَوْضَى وَالِاضْطِرَابِ وَالثَّوْرَةِ عَلَى مَا لَا يَتَحَصَّلُونَ عَلَيْهِ فِي الْأَمْنِ وَالِاسْتِقْرَارِ إِلَّا بِشِقِّ النَّفْسِ؟!!

إِنَّهُ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ.

الْوَجْهُ الْحَادِيَ عَشَرَ: تَنْفِيذُ أَجِنْدَةِ الرَّاعِي الرَّسْمِيِّ لِلثَّوْرَةِ، وَهُوَ الْيَسَارُ الْأَمْرِيكِيُّ الَّذِي يَتَزَعَّمُهُ الْحِزْبُ الدِّيمُقْرَاطِيُّ الْحَاكِمُ هُنَاكَ، وَالَّذِي جَاءَ لِيُتَمِّمَ مَا نَقَصَ مِمَّا صَنَعَ سَلَفُهُ (أُوبَامَا) وَ(هِيلَارِي كِلِينْتُونْ) مِنْ تَخْرِيبٍ لِلْعَالَمِ، وَنَشْرٍ لِلْفَوْضَى الْخَلَّاقَةِ، وَتَفْتِيتٍ لِلْمُجْتَمَعَاتِ، وَنَشْرٍ لِلشُّذُوذِ وَالْإِلْحَادِ.

وَالَّذِي يَسْعَى الْيَسَارُ إِلَى نَشْرِهِ فِي الْعَالَمِ هُوَ:

-إِبَاحَةُ الشُّذُوذِ، وَنَشْرُ الْمِثْلِيَّةِ.

-وَإِطْلَاقُ الْغَرَائِزِ، وَانْعِتَاقُ الشَّهَوَاتِ.

-وَإِبَاحَةُ الْإِجْهَاضِ وَالْمُخَدِّرَاتِ.

-وَإِبَاحَةُ الْعَلَاقَاتِ الْمُحَرَّمَةِ خَارِجَ نِطَاقِ الْأُسْرَةِ.

-وَنَسْفُ مُؤَسَّسَةِ الْأُسْرَةِ مِنَ الْأَسَاسِ.

-وَنَشْرُ الْإِلْحَادِ.

-وَدَعْمُ التَّطَرُّفِ وَالشُّذُوذِ فِي الْمُعْتَقَدَاتِ.

-وَهَدْمُ الْأَدْيَانِ -وَفِي مِصْرَ خَاصَّةً-؛ فَسَيَكُونُ هَذَا -وَهُوَ: الْوَجْهُ الثَّانِيَ عَشَرَ-: بِالزَّحْفِ وَالْهُجُومِ بِقُوَّةٍ عَلَى الْمُؤَسَّسَةِ الدِّينِيَّةِ الرَّسْمِيَّةِ فِي مِصْرَ فِي مُحَاوَلَةٍ مُسْتَمِيتَةٍ لِلْيَسَارِ لِمَحْوِ الْمُؤَسَّسَةِ الْأَزْهَرِيَّةِ مِنَ الْوُجُودِ، وَالْقَضَاءِ عَلَى التَّعْلِيمِ الدِّينِيِّ فِي مِصْرَ بِحُجَّةِ الْقَضَاءِ عَلَى ثُنَائِيَّةِ التَّعْلِيمِ.

وَا أَسَفَاهُ!! سَتَكُونُ حَرْبُ الْيَسَارِ عَلَى الْأَزْهَرِ شَدِيدَةً وَقَاسِيَةً وَمُدَمِّرَةً، وَإِنْ لَمْ تَقْتُلْ فَسَتَجْرَحُ جِرَاحًا بَالِغَاتٍ لَا بُرْءَ مِنْهَا!

الْوَجْهُ الثَّالِثَ عَشَرَ: لَوْ قَامَتْ ثَوْرَةٌ فَسَتُغَيِّرُ دُسْتُورَ الْبِلَادِ؛ لِتَمْحُوَ مِنْهُ كُلَّ مَا لَهُ صِلَةٌ بِالدِّينِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْقِيَمِ وَالِانْتِمَاءِ، وَلِتُعْطِيَ الْحُرِّيَّةَ لِكُلِّ شُذُوذٍ فِكْرِيٍّ، وَانْحِرَافٍ عَقَدِيٍّ، وَخَلَلٍ سُلُوكِيٍّ، مَعَ النَّصِّ عَلَى إِحْكَامِ الْقَبْضَةِ عَلَى كُلِّ مَنْ تُسَوِّلُ لَهُ نَفْسُهُ الِاعْتِرَاضَ؛ فَضْلًا عَنِ الْمُقَاوَمَةِ.

الْوَجْهُ الرَّابِعَ عَشَرَ: تَفَجُّرُ بَرَاكِينِ الْحِقْدِ فِي كَثِيرٍ مِنَ النُّفُوسِ، وَانْطِلَاقُ طَاقَاتِ الْغَضَبِ لِلتَّشَفِّي وَالِانْتِقَامِ، بِالْقَتْلِ وَالتَّعْذِيبِ، وَسَلْبِ الْأَمْوَالِ، وَنَهْبِ الْمُمْتَلَكَاتِ، وَهَتْكِ الْأَعْرَاضِ.

الْوَجْهُ الْخَامِسَ عَشَرَ: اسْتِيلَاءُ طَوَائِفَ شَاذَّةٍ فِي عَقِيدَتِهَا وَفِكْرِهَا وَانْتِمَائِهَا وَسُلُوكِهَا وَأَخْلَاقِهَا عَلَى مَنَافِذِ التَّحَكُّمِ فِي الْحَيَاةِ الْمِصْرِيَّةِ؛ دِينِيَّةً، وَفِكْرِيَّةً، وَثَقَافِيَّةً؛ لِنَشْرِ مَبَادِئِ اليَسَارِيِّينَ الْجُدُدِ، وَمُحَارَبَةِ الْأَدْيَانِ وَالْقِيَمِ، وَتَدْمِيرِ الدِّينِ وَالأَخْلَاقِ وَالْمُثُلِ.

الْوَجْهُ السَّادِسَ عَشَرَ: إِعَادَةُ الْمُحَاوَلَةِ الْفَاشِلَةِ وَالدَّعْوَةِ الْفَاجِرَةِ الَّتِي كَانَتْ فِي الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ لِتَفْكِيكِ الْجَيْشِ الْمِصْرِيِّ البَاسِلِ وَتَفْتِيتِهِ؛ لِكَيْ لَا يَبْقَى فِي مِصْرَ مَنْ يَسْتَطِيعُ الْمُوَاجَهَةَ، وَيَمْلِكُ الْقُدْرَةَ -بِفَضْلِ اللَّهِ وَحَوْلِهِ وقُوَّتِه- عَلَى إِحْبَاطِ مُخَطَّطَاتِ أَهْلِ الشَّرِّ وَالْفَسَادِ.

وَنِيَّةُ الدَّاعِينَ إِلَى الثَّوْرَةِ تِجَاهَ الْجَيْشِ الْمِصْرِيِّ مُعْلَنَةٌ، لَا يُخْفُونَهَا، وَلَا يَسْتَحْيُونَ مِنْ إِعْلَانِهَا.

الْوَجْهُ السَّابِعَ عَشَرَ: انْهِيَارُ مَا تَبَقَّى مِنَ الْمَنْظُومَةِ الْأَخْلَاقِيَّةِ الَّتِي خَرَّبَتْهَا أَحْدَاثُ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ وَمَا تَبِعَهَا، وَإِتْمَامُ إِفْسَادِ الْجِيلِ؛ لِيَتَحَوَّلَ وَجْهُ مِصْرَ إِلَى وَجْهٍ يَسَارِيٍّ قَبِيحٍ مُنَفِّرٍ لَا يَعْرِفُ دِينًا وَلَا حَيَاءً وَلَا اسْتِحْيَاءً.

الْوَجْهُ الثَّامِنَ عَشَرَ: تَدْمِيرُ تَارِيخِ مِصْرَ، وَنَهْبُ تُرَاثِهَا، وَقَدْ وَقَعَ نَمُوذَجٌ مُصَغَّرٌ مِنْ ذَلِكَ فِي اقْتِحَامِ الْمَجْمَعِ الْعِلْمِيِّ الْمِصْرِيِّ، وَالنَّمُوذَجُ الْمُكَبَّرُ مَا وَقَعَ فِي الْعِرَاقِ أَثْنَاءَ وَبَعْدَ الْغَزْوِ الهَمَجِيِّ الْأَمْرِيكِيِّ.

فَلَوْ قَامَتْ ثَوْرَةٌ فِي مِصْرَ فَسَيَكُونُ مِنْ نَتَائِجِهَا الْحَتْمِيَّةِ: نَهْبُ تُرَاثِ مِصْرَ الْحَضَارِيُّ، وَتَهْرِيبُهُ، وَتَدْمِيرُ بَاقِيهِ.

وَقَدْ وَقَعَتِ الْفَوْضَى فِي رُبُوعِ مِصْرَ كُلِّهَا بِسَبَبِ أَحْدَاثِ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ يَنَايِر، وَقُتِلَ مَنْ قُتِلَ، وَخُطِفَ مِنَ النِّسَاءِ مَنْ خُطِفَ، وَتَمَزَّقَ الشَّعْبُ الْمِصْرِيُّ بِاخْتِلَافِ فِئَاتِهِ؛ سَوَاءٌ كَانُوا دُعَاةً دِينِيِّينَ، أَوْ سِيَاسِيِّينَ حِزْبِيِّينَ، وَتَفَرَّقَ أَحِبَّاءُ الثَّوْرَةِ وَأَحِبَّاءُ السِّيَاسَةِ، وَبَقِيَ الصِّرَاعُ عَلَى السُّلْطَةِ، وَتَمَّ الِاعْتِدَاءُ عَلَى مَبْنَى مَجْلِسِ الْوُزَرَاءِ، وَأُحْرِقَ الْمَجْمَعُ الْعِلْمِيُّ التَّارِيخِيُّ بِيَدِ شَابٍّ أَهْوَجَ ضَعِيفِ الْعَقْلِ فَاسِدِ الدِّينِ.

وَكَانَ ذَلِكَ يَوْمًا حَزِينًا فِي تَارِيخِ مِصْرَ؛ حَيْثُ إِنَّ الْمَجْمَعَ الْعِلْمِيَّ يَجْمَعُ تُرَاثَ مِصْرَ وَمَوَاثِيقَهَا التَّارِيخِيَّةَ.

وَقَدْ عَبَّرَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالْمُفَكِّرِينَ عَنْ شِدَّةِ حُزْنِهِمْ لِذَلِكَ، وَشَبَّهُوا هَذَا الْحَرِيقَ بِإِحْرَاقِ التَّتَارِ لِمَكْتَبَةِ بَغْدَادَ الْإِسْلَامِيَّةِ الْكُبْرَى.

وَقَدْ دَعَا ذَلِكَ الْمُفَكِّرَ وَالْبَاحِثَ الْعَالَمِيَّ (جَاك دِيبُون) أَنْ يُصَرِّحَ أَيَّامَهَا لِقَنَاةِ (سِي إِن إِن) (CNN) قَائِلًا: ((لَمْ أَرَ شَعْبًا غَبِيًّا وَهَمَجِيًّا مِثْلَ الشَّعْبِ الْمِصْرِيِّ، يَحْرِقُونَ تُرَاثَهُمْ وَتَارِيخَهُمْ، يَحْرِقُونَ الْمَجْمَعَ الْعِلْمِيَّ الْعَالَمِيَّ، وَيَرْقُصُونَ بِجَانِبِهِ، وَيُهِينُونَ جَيْشَهُمْ، وَهَذَا الْجَيْشُ يَحْتَرِمُهُ قَادَةُ جُيُوشِ الْعَالَمِ لِقُوَّتِهِ، وَالطَّرِيفُ جِدًّا أَنَّهُمْ مُتَأَكِّدُونَ أَنَّهَا مُؤَامَرَةٌ عَلَى بَلَدِهِمْ لِتَقْسِيمِه، وَرَغْمُ هَذَا مِنَ الْمُمْكِنِ أَنْ تَدْفَعَ لِبَعْضِ الْفَتَيَاتِ أَوِ الشَّبَابِ أَوِ الْإِعْلَامِيِّينَ أَلْفَ يُورُو، وَتَطْلُبَ مِنْهُ فِعْلَ أَيِّ شَيْءٍ لِتَدْمِيرِ تَارِيخِ هَذَا الْبَلَدِ الْغَنِيِّ بِتَارِيخِهِ، سَيَفْعَلُ ذَلِكَ دُونَ أَيِّ تَفْكِيرٍ.

بِالرَّغْمِ أَنَّ الَّذِي لَا يَعْرِفُهُ الْكَثِيرُونَ عَنْ هَذَا الْبَلَدِ أَنَّ الْإِعْلَامِيِّينَ الْمَشَاهِيرَ هُنَاكَ يَمْلِكُونَ مَلَايِينَ الدُّولَارَاتِ، وَلَا يُسَاعِدُونَ -مَثَلًا- أَيَّ مُسْتَشْفَى لِلْفُقَرَاءِ، وَعِنْدَ حُدُوثِ حَرْبٍ فِي مِصْرَ هَؤُلَاءِ الْمَشَاهِيرُ سَيُغَادِرُونَ بَلَدَهُمْ.

قَالَ: وَهَذِهِ حَقِيقَةٌ أُحِبُّ أَنْ أَعْتَرِفَ بِهَا؛ بِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ دُوَلِ الْعَالَمِ -وَمِنْهَا دُوَلٌ عَرَبِيَّةٌ وَأَمِرِيكَا- يَحْسُدُونَ هَذِهِ الدَّوْلَةَ -يَعْنِي: مِصْرَ-؛ لِأَنَّهَا دَوْلَةٌ قَدِيمَةٌ وَعَتِيقَةٌ، وَتَارِيخُهَا قَدِيمٌ، بِمَعْنَى: لَهُمْ أُصُولٌ وَجُذُورٌ كَدَوْلَةِ الْعِرَاقِ.

يَقُولُ جَاك دِيبُون: وَمُعْظَمُ الشَّعْبِ الْمِصْرِيِّ لَا يَهْتَمُّونَ -يَعْنِي: لَمَّا وَقَعَتْ أَحْدَاثُ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ يَنَايِر، وَمَا أَعْقَبَهَا مِنَ الْفَوْضَى وَالِانْفِلَاتِ-، مُعْظَمُ الشَّعْبِ المِصْرِيِّ لَا يَهْتَمُّونَ، يَذْهَبُونَ لِلْجَامِعَاتِ وَالْمَدَارِسِ، وَيَذْهَبُونَ لِلْعَمَلِ، وَيَذْهَبُونَ لِلسُّوقِ لِشِرَاءِ الطَّعَامِ، وَكَأَنَّ شَيْئًا لَمْ يَحْدُثْ، وَيَتْرُكُونَ قِلَّةً مِنَ الْغَوْغَاءِ وَالْمُتَخَلِّفينَ وَاللُّصُوصِ وَالْبَلْطَجِيَّةِ.. يَتْرُكُونَهُمْ يَهْدِمُونَ وَيُسْقِطُونَ دَوْلَتَهُمْ؛ بَلْ وَالْأَغْرَبُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَنَّ بَعْضَ قَنَوَاتِهِمُ الْفَضَائِيَّةِ وَقَنَاةَ التِّلِيفِزْيُونِ الْمِصْرِيِّ تُؤَيِّدُ كُلَّ هَذَا.

ثُمَّ سَأَلَ (جَاكْ دِيبُون) الْمُذِيعَةَ: أَلَيْسَ هَذَا بِشَعْبٍ أَحْمَقَ؟!!

نَشَرَتْ (جَرِيدَةُ الْوَفْدِ) هَذَا التَّصْرِيحَ فِي الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ دِيسَمْبِر سَنَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ وَأَلْفَيْنِ (28 / 12 / 2011م).

وَأَقُولُ رَدًّا وَإِجَابَةً عَنْ هَذَا السُّؤَالِ: أَلَيْسَ هَذَا بشَعْبٍ أَحْمَقَ؟!!

أَقُولُ: لَا، لَيْسَ بِشَعْبٍ أَحْمَقَ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُ خُدِعَ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى فِي الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ، وَلَنْ يُخْدَعَ مَرَّةً أُخْرَى -إِنْ شَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمينَ-.

الْوَجْهُ التَّاسِعَ عَشَرَ: تُؤَدِّي الْمُظَاهَرَاتُ وَالِاضْطِرَابَاتُ -فَضْلًا عَنِ الْفَوْضَى وَالثَّوْرَاتِ- إِلَى هُرُوبِ الِاسْتِثْمَارِ الْأَجْنَبِيِّ، وَتَوَقُّفِ الِاسْتِثْمَارِ الْمَحَلِّيِّ، وَتَوَقُّفِ الْمَشْرُوعَاتِ وَالْمَصَانِعِ عَنِ الْعَمَلِ وَالْإِنْتَاجِ، وَهَذَا يُؤَدِّي إِلَى بَطَالَةِ كَثِيرٍ مِنَ الْعَامِلِينَ وَالْمُوَظَّفِينَ، وَتَوَقُّفِ رَوَاتِبِهِمْ أَوْ نَقْصِهَا، وَكَسَادِ كَثِيرٍ مِنَ التِّجَارَاتِ وَالتَّعَامُلَاتِ، مَعَ ازْدِهَارِ السُّوقِ السَّوْدَاءِ، وَاحْتِكَارِ السِّلَعِ، وَزِيَادَةِ التَّضَخُّمِ، وَفُحْشِ الْغَلَاءِ.

الْوَجْهُ الْعِشْرُونَ: الدَّعْوَةُ إِلَى الْمُظَاهَرَاتِ وَالثَّوْرَةِ تَضَعُ الْأَجْهِزَةَ الْمَعْنِيَّةَ وَالدَّوْلَةَ فِي حَالَةِ تَأَهُّبٍ وَاسْتِعْدَادٍ قُصْوَى، وَهَذَا يُكَلِّفُ الْبَلَدَ تَكْلِفَةً كَبِيرَةً جِدًّا، وَيَشْغَلُ هَذِهِ الْأَجْهِزَةَ عَنْ مُهِمَّتِهَا فِي ضَبْطِ الْأُمُورِ، وَحِفْظِ الْأَمْنِ، وَخِدْمَةِ الْمُوَاطِنِ وَالْوَطَنِ.

فَهَذِهِ حَرْبُ اسْتِنْزَافٍ قَذِرَةٍ، وَتَبْدِيدٌ لِلطَّاقَاتِ، وَإِهْدَارٌ لِلْأَمْوَالِ -أَمْوَالِ الشَّعْبِ- وَالثَّرْوَاتِ.

الْوَجْهُ الْحَادِي وَالْعِشْرونَ: مِنْ أَخْطَرِ نَتَائِجِ قِيَامِ الْمُظَاهَرَاتِ وَالثَّوْرَةِ فِي مِصْرَ: تَخْرِيبُ مُؤْتَمَرِ الْمَنَاخِ، وَهَذَا الْمُؤْتَمَرُ يَحْضُرُهُ مَا يَزِيدُ عَلَى مِائَةٍ وَخَمْسِينَ مَلِكًا وَرَئِيسًا، فَالْعَالَمُ كُلُّهُ حَاضِرٌ فِيهِ، وَالتَّغْطِيَةُ الْإِعْلَامِيَّةُ لِلْمُؤْتَمَرِ كَثِيفَةٌ ضَخْمَةٌ؛ مِنْهَا مَا هُوَ مُبْغِضٌ وَعَدُوٌّ يُكَبِّرُ الصَّغِيرَ وَيَخْتَلِقُ الْأَكَاذِيبَ بِغَرَضِ إِفْشَالِ الْمُؤْتَمَرِ، وَإِظْهَارِ أَنَّ مِصْرَ غَيْرُ آمِنَةٍ لِلِاسْتِثْمَارِ وَالتَّنْمِيَةِ، وَهَذَا يُضِيعُ عَلَى الشَّعْبِ الْمِصْرِيِّ فُرْصَةً عَظِيمَةً جِدًّا بِنَجَاحِ مُؤْتَمَرِ الْمَنَاخِ، وَإِمْضَاءِ عُقُودٍ بِمِئَاتِ الْمِلْيَارَاتِ -لَوْ يَسَّرَ اللَّهُ تَعَالَى إِمْضَاءَهَا وَنَفَاذَهَا-؛ وَحِينَئِذٍ -إِذَا يَسَّرَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ- تَقِلُّ مُعَانَاةُ الشَّعْبِ تَمَامًا؛ بَلْ رُبَّمَا ذَهَبَتْ -بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ-؛ لِأَنَّ مِصْرَ بِشَهَادَةِ أَعْدَائِهَا سَتَكُونُ -إِنْ شَاءَ اللَّهُ- مَرْكَزَ الْعَالَمِ لِلطَّاقَةِ الْمُتَجَدِّدَةِ، وَهَذَا مُتَوَقِّفٌ عَلَى نَجَاحِ هَذَا المُؤْتَمَرِ -بِقَدَرِ اللَّهِ تَعَالَى-.

وَمِنْ هُنَا نَعْلَمُ يَقِينًا أَنَّ أَعْدَاءَ مِصْرَ فِي الدَّاخِلِ وَالخَارِجِ يَسْتَمِيتُونَ لِإِفْشَالِ مُؤْتَمَرِ الْمَنَاخِ، وَلِأَجْلِ هَذِهِ الغَايَةِ تَمَّ اخْتِيَارُ الْيَوْمِ الَّذِي يَدْعُونَ لِلتَّظَاهُرِ وَالثَّوْرَةِ فِيهِ؛ لِكَيْ يُظْهِرُوا لِلْعَالَمِ كُلِّهِ أَنَّ مِصْرَ بَلَدٌ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ وَلَا آمِنٍ، وَلَا حُقُوقَ لِلْإِنْسَانِ فِيهِ، وَعَلَيْهِ فَلَنْ يَتِمَّ أَيُّ اسْتِثْمَارٍ فِيهِ.

لَوْ كَانَ فِي الدَّاعِينَ إِلَى التَّظَاهُرِ وَالثَّوْرَةِ ذَرَّةٌ مِنْ مَحَبَّةٍ لِلشَّعْبِ الْمِصْرِيِّ، وَانْتِمَاءٍ لِهَذَا البَلَدِ وَحِرْصٍ عَلَيْهِ، وَسَعْيٍ لِرِفْعَتِهِ وَرَفَاهِيَتِهِ؛ لَدَعَوْا إِلَى ضِدِّ مَا يَدْعُونَ إِلَيْهِ، ولَأَخَذُوا بِكُلِّ وَسِيلَةٍ وَسَبَبٍ يُؤَدِّي لِتَحْصِيلِ الْخَيْرِ لِهَذَا الْبَلَدِ؛ وَلَكِنَّهَا الْخِيَانَةُ وَالْعَمَالَةُ وَالْفَسَادُ.

أَيُّهَا الشَّعْبُ الطَّيِّبُ! احْذَرْ أَعْدَاءَكَ، وَأَعْدَى أَعْدَائِكَ مِنْ بَنِي جِلْدَتِكَ، وَالنَّاطِقِينَ زُورًا بِلِسَانِكَ، وَالمُعَبِّرِينَ بِالْكَذِبِ عَنْ آمَالِكَ.

إِنَّ الرَّجَاءَ فِي اللَّهِ لَا يَنْقَطِعُ أَنْ يَرْزُقَ اللَّهُ -جَلَّ وَعَلَا- أَبْنَاءَ مِصْرَ هَذِهِ الْمَرَّةَ الْبَصِيرَةَ لِإِدْرَاكِ أَهْدَافِ أَعْدَائِهِمْ، وَتَفْوِيتِ الْفُرْصَةِ عَلَيْهِمْ لِكَيْ لَا يَضُرُّوا بِمَصَالِحِ بَلَدِهِمْ وَمُسْتَقْبَلِه.

وَأَمَّا الَّذِينَ يُحَرِّكُونَ الْمَأْجُورِينَ وَالْخَوَنَةَ مِنْ أَعْدَاءِ مِصْرَ خَارِجَهَا وَدَاخِلَهَا، وَأَمَّا الْيَسَارِيُّونَ الَّذِينَ لَا دِينَ لَهُمْ؛ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ -جَلَّ وَعَلَا- فِي كِتَابِهِ العَزِيزِ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ ۗ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال: 36].

أَيُّهَا الشَّعْبُ الطَّيِّبُ! احْذَرْ ثُمَّ احْذَرْ، وَاتَّقِ اللَّهَ فِي مُسْتَقْبَلِ الْأَبْنَاءِ وَالْحَفَدَةِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ وَحْدَهُ.

 

أَسْأَلُ اَللَّهَ -تَعَالَى- بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْمُثْلَى أَنْ يَحْفَظَ مِصْرَ وَأَهْلَهَا، وَأَنْ يَقِيَهَا شَرَّ كُلٍّ ذِي شَرٍّ، وَأَنْ يَحْفَظَهَا مِنْ كُلٍّ ذِي شَرٍّ وَشَرِّهِ، إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

المصدر:الدِّينُ وَالْوَطَنُ مَعًا.. بِنَاءٌ لَا هَدْمَ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ وَمَنْهَجُهُ فِي عِمَارَةِ الْكَوْنِ
  الْإِسْرَاءُ وَالْمِعْرَاجُ وَآيَاتُ اللهِ الْكُبْرَى
  بِدع شهر رجب
  عيد الفطر لعام 1436هـ .. خوارج العصر
  «محمد أسد» وحقيقة الإسلام
  الرد على الملحدين:تحديد الصلة بين المدنية الحديثة والإسلام، وبيان أن العلم الحديث قرآني في موضوعه
  الرد على الملحدين:مقدمة عن الإلحاد والأسباب التي دعت إلى انتشاره في العصر الحديث
  مَفْهُومُ الشَّهَادَةِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالِادِّعَاءِ
  ثورة الغلابة أم ثورة الديابة؟!
  الْوَفَاءُ بِالْعُقُودِ وَالْعُهُودِ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان