فَهْمُ مَقَاصِدِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ وَصَلَاحِيَتُهَا لِكُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ

فَهْمُ مَقَاصِدِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ وَصَلَاحِيَتُهَا لِكُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ

((فَهْمُ مَقَاصِدِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ

وَصَلَاحِيَتُهَا لِكُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.

وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ, وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ .

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

 

((سَعَةُ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَكَمَالُهَا))

فَإِنَّ مِنْ أَظْلَمِ الظُّلْمِ أَنْ تُوصَفَ الْحَسَنَاتُ بِأَنَّهَا سَيِّئَاتٌ، وَمِنْ أَظْلَمِ الظُّلْمِ أَنْ يُوصَفَ الْحُسْنُ وَالْمَلَاحَةُ بِالْقُبْحِ وَالدَّمَامَةِ!!

وَإِنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ -لِأَنَّهُ مِنْ عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ- دِينٌ كَامِلٌ، لَيْسَ فِيهِ نَقْصٌ بِحَالٍ أَبَدًا، أَكْمَلَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَأَتَمَّهُ، وَأَتَمَّ بِهِ النِّعْمَةَ عَلَى عِبَادِهِ، وَجَعَلَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- صَالِحًا مُنَاسِبًا لِكُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ.

وَضَبَطَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهِ نِسَبَ الْأَشْيَاءِ، فَلَا تَجِدُ فِيهِ خَلَلًا أَبَدًا؛ لِأَنَّهُ مِنْ عِنْدَ رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ.

 ((دِينُ الْإِسْلَامِ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ ﷺ أَكْمَلُ الْأَدْيَانِ، وَأَفْضَلُهَا, وَأَعْلَاهَا، وَأَجَلُّهَا.

وَقَدْ حَوَى مِنَ الْمَحَاسِنِ، وَالْكَمَالِ، وَالصَّلَاحِ، وَالرَّحْمَةِ، وَالْعَدْلِ، وَالْحِكْمَةِ مَا يَشْهَدُ للهِ تَعَالَى بِالْكَمَالِ الْمُطْلَقِ، وَسَعَةِ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، وَيَشْهَدُ لِنَبِيِّهِ ﷺ أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ حَقًّا، وَأَنَّهُ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ، الَّذِي لَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:  4].

فَهَذَا الدِّينُ الْإِسْلَامِيُّ أَعْظَمُ بُرْهَانٍ، وَأَجَلُّ شَاهِدٍ للهِ تَعَالَى بِالتَّفَرُّدِ بِالْكَمَالِ الْمُطْلَقِ كُلِّهِ، وَلِنَبِيِّهِ ﷺ بِالرِّسَالَةِ وَالصِّدْقِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ مَحَاسِنَ الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ عَامَّةً فِي جَمِيعِ مَسَائِلِهِ وَدَلَائِلِهِ، وَفِي أُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ، وَفِيمَا دَلَّ عَلَيْهِ مِنْ عُلُومِ الشَّرْعِ وَالْأَحْكَامِ، وَمَا دَلَّ عَلَيْهِ مِنْ عُلُومِ الْكَوْنِ وَالِاجْتِمَاعِ.

دِينُ الْإِسْلَامِ مَبْنِيٌّ عَلَى أُصُولِ الْإِيمَانِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 136].

فَهَذِهِ الْأُصُولُ الْعَظِيمَةُ الَّتِي أَمَرَ اللهُ عِبَادَهُ بِهَا هِيَ الْأُصُولُ الَّتِي اتَّفَقَ عَلَيْهَا الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُرْسَلُونَ، وَهِيَ مُحْتَوِيَةٌ عَلَى أَجَلِّ الْمَعَارِفِ وَالِاعْتِقَادَاتِ؛ مِنَ الْإِيمَانِ بِكُلِّ مَا وَصَفَ اللهُ بِهِ نَفْسَهُ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ، وَعَلَى بَذْلِ الْجُهْدِ فِي سُلُوكِ مَرْضَاتِهِ.

فَدِينٌ أَصْلُهُ الْإِيمَانُ بِاللهِ، وَثَمَرَتُهُ السَّعْيُ فِي كُلِّ مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، وَإِخْلَاصُ ذَلِكَ للهِ، هَلْ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ دِينٌ أَحْسَنَ مِنْهُ، وَأَجَلَّ، وَأَفْضَلَ؟!!

وَدِينٌ أَمَرَ بِالْإِيمَانِ بِكُلِّ مَا أُوتِيهِ الْأَنْبِيَاءُ، وَالتَّصْدِيقِ بِرِسَالَاتِهِمْ، وَالِاعْتِرَافِ بِالْحَقِّ الَّذِي جَاءُوا بِهِ مِنْ عِنْدَ رَبِّهِمْ، وَعَدَمِ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمْ، وَأَنَّهُمْ كُلَّهُمْ رُسُلُ اللهِ الصَّادِقُونَ، وَأُمَنَاؤُهُ الْمُخْلِصُونَ، يَسْتَحِيلُ أَنْ يَتَوَجَّهَ إِلَيْهِ -أَيْ إِلَى هَذَا الدِّينِ الَّذِي أَمَرَ بِهَذَا كُلِّهِ- أَيُّ اعْتِرَاضٍ وَقَدْحٍ.

 فَهُوَ يَأْمُرُ بِكُلِّ حَقٍّ، وَيَعْتَرِفُ بِكُلِّ صِدْقٍ، وَيُقَرِّرُ الْحَقَائِقَ الدِّينِيَّةَ الْمُسْتَنِدَةَ إِلَى وَحْيِ اللهِ لِرُسُلِهِ، وَيَجْرِي مَعَ الْحَقَائِقِ الْعَقْلِيَّةِ الْفِطْرِيَّةِ النَّافِعَةِ.

وَلَا يَرُدُّ حَقًّا بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَلَا يُصَدِّقُ بِكَذِبٍ، وَلَا يَرُوجُ عَلَيْهِ الْبَاطِلُ، فَهُوَ مُهَيْمِنٌ عَلَى سَائِرِ الْأَدْيَانِ، يَأْمُرُ بِمَحَاسِنِ الْأَعْمَالِ، وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَمَصَالِحِ الْعِبَادِ; وَيَحُثُّ عَلَى الْعَدْلِ، وَالْفَضْلِ، وَالرَّحْمَةِ، وَالْخَيْرِ، وَيَزْجُرُ عَنِ الظُّلْمِ، وَالْبَغْيِ، وَمَسَاوِئِ الْأَخْلَاقِ.

مَا مِنْ خَصْلَةِ كَمَالٍ قَرَّرَهَا الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُرْسَلُونَ إِلَّا وَقَرَّرَهَا وَأَثْبَتَهَا،  وَمَا مِنْ مَصْلَحَةٍ دِينِيَّةٍ وَدُنْيَوِيَّةٍ دَعَتْ إِلَيْهَا الشَّرَائِعُ إِلَّا حَثَّ عَلَيْهَا، وَلَا مَفْسَدَةٍ إِلَّا نَهَى عَنْهَا، وَأَمَرَ بِمُجَانَبَتِهَا.

وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ عَقَائِدَ هَذَا الدِّينِ هِيَ الَّتِي تَزْكُو بِهَا الْقُلُوبُ، وَتَصْلُحُ الْأَرْوَاحُ، وَتَتَأَصَّلُ بِهَا مَكَارِمُ الْأَخْلَاقِ، وَمَحَاسِنُ الْأَعْمَالِ)) .

((بَيَانُ جُمْلَةٍ مِنْ مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ))

قَالَ الْعَلَّامَةُ السَّلْمَان -رَحِمَهُ اللهُ- :

إِنَّ مِنْ مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ: الْحَثَّ عَلَى الْمَشُورَةِ، وَالْأَخْذِ بِهَا، مَتَى كَانَتْ صَائِبَةً، مُتَّفِقَةً مَعَ الْعَقْلِ وَالْمَنْطِقِ وَالتَّجْرِبَةِ، قَالَ تَعَالَى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38].

وَمِنْ مَحَاسِنِهِ: أَنَّ أَفْضَلَ النَّاسِ عِنْدَ اللهِ أَكْثَرُهُمْ صَلَاحًا وَتَقْوَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].

وَمِنْ مَحَاسِنِهِ: الْحَثُّ عَلَى الْعِتْقِ، وَتَحْرِيرِ الْأَرِقَّاءِ، وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْمَمْلُوكِ.

وَمِنْ مَحَاسِنِهِ: الْحَثُّ عَلَى الْإِحْسَانِ إِلَى الْجَارِ، وَالضَّيْفِ، وَالْمِسْكِينِ، وَالْيَتِيمِ.

وَمِنْ مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ: أَنَّهُ يَدْعُو إِلَى تَبَادُلِ الْأُلْفَةِ وَالْمَحَبَّةِ، وَالتَّصَافِي وَالتَّعَاوُنِ، قَالَ ﷺ: «الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ، يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا».

وَمِنْ مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ: أَنَّهُ يَذُمُّ النِّزَاعَ وَالْكَرَاهِيَةَ وَالتَّفْرِقَةَ، قَالَ تَعَالَى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103].

وَمِنْ مَحَاسِنِهِ: النَّهْيُ عَنِ النَّمِيمَةِ وَالْغِيبَةِ، وَالْحَسَدِ، وَالتَّجَسُّسِ، وَالْكَذِبِ، وَالْخِيَانَةِ.

وَالْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا.

وَمِنْ مَحَاسِنِهِ: النَّهْيُ عَنِ الظُّلْمِ، وَالْأَمْرُ بِالْعَدْلِ، مَعَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ، قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا} [المائدة: 8].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النحل: 90].

وَمِنْ مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ: الْحَثُّ عَلَى الْعَفُوِ عَنِ الْمُعْتَدِي ، قَالَ تَعَالَى: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا} [النور: 22].

وَقَالَ: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [المؤمنون: 96].

وَقَالَ: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: 237].

وَمِنْ مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ: الدَّعْوَةُ إِلَى الصُّلْحِ بَيْنَ الْأَخَوَيْنِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْهِجْرَانِ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10].

وَقَالَ: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128].

وَمِنْ مَحَاسِنِهِ: النَّهْيُ عَنِ التَّقَاطُعِ وَالتَّدَابُرِ، وَالتَّبَاغُضِ وَالتَّحَاسُدِ، قَالَ ﷺ: «لَا تَقَاطَعُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَحَاسَدُوا».

وَمِنْ مَحَاسِنِهِ: النَّهْيُ عَنْ الِاسْتِهْزَاءِ بِالنَّاسِ، وَذِكْرِ عُيُوبِهِمْ، قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ} [الحجرات: 11] الْآيَةَ.

وَمِنْ مَحَاسِنِهِ: النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ الْإِنْسَانِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَالْخِطْبَةِ عَلَى خِطْبَتِهِ، إِلَّا أَنْ يَأْذَنَ أَوْ يُرَدَّ؛ لِمَا يَنْشَأُ عَنْ ذَلِكَ مِنَ الْعَدَاوَةِ وَالتَّقَاطُعِ.

وَمِنْ مَحَاسِنِهِ: مَشْرُوعِيَّةُ السَّلَامِ عَلَى الْمُسْلِمِ، عَرَفَهُ أَوْ لَمْ يَعْرِفْهُ.

وَمِنْ مَحَاسِنِهِ: الْأَمْرُ بِرَدِّ التَّحِيَّةِ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رَدِّهَا، قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86] الْآيَةَ.

وَمِنْ مَحَاسِنِهِ: الْأَمْرُ بِالتَّثَبُّتِ فِيمَا نَسْمَعُهُ، قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6].

وَقَالَ: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] الآية.

وَمِنْ مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ: النَّهْيُ عَنِ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ، وَفِي ذَلِكَ الْعِنَايَةُ بِالنَّاحِيَةِ الصِّحِّيَّةِ، وَالْوِقَايَةُ مِنَ النَّجَاسَةِ وَالْأَمْرَاضِ -بِإِذْنِ اللهِ-.

*وَمِنْ مَحَاسِنِهِ: النَّهْيُ عَنْ إِيذَاءِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْإِضْرَارِ بِهِمْ، قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب: 58].

وَقَالَ ﷺ: «مَنْ أَكَلَ الثُّومَ، وَالْبَصَلَ، وَالْكُرَّاثَ، فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا؛ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ».

وَمِنْ مَحَاسِنِهِ: النَّهْيُ عَنِ الْأَكْلِ بِالشِّمَالِ، وَالشُّرْبِ بِهَا؛ لِأَنَّهَا لِإِزَالَةِ مَا يُسْتَقْذَرُ، وَلِأَنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ.

وَمِنْ مَحَاسِنِهِ: الْأَمْرُ بِاتِّبَاعِ جَنَازَةِ الْمُسْلِمِ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الدُّعَاءِ وَالتَّرَحُّمِ عَلَيْهِ، وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ، وَجَبْرِ خَوَاطِرِ أَهْلِهِ الْمُؤْمِنِينَ.

وَمِنْ مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ: تَشْمِيتُ الْعَاطِسِ، وَإِبْرَارُ الْمُقْسِم؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّآلُفِ وَالتَّآخِي، وَالدُّعَاءِ لِأَخِيكِ بِالرَّحْمَةِ، وَلِمَا فِي إِبْرَارِ الْقَسَمِ مِنْ جَبْرِ خَاطِرِهِ، وَإِجَابَةِ طَلَبِهِ؛ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ مُخَالَفَةِ الشَّرْعِ.

وَمِنْ مَحَاسِنِهِ: إِجَابَةُ دَعْوَةِ الْمُسْلِمِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ لِعُرْسٍ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا مَا يُخَالِفُ الشَّرِيعَةَ، أَوْ يُخِلُّ بِالْمُرُوءَةِ وَالْإِنْسَانِيَّةِ، كَمَا تَرَاهُ الْيَوْمَ عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ مِنَ الْمَلَاهِي وَالْمُنْكَرَاتِ؛ لِأَنَّ فِي حُضُورِهِ -وَالْحَالَةِ هَذِهِ- تَشْجِيعٌ لِلْفَسَقَةِ وَأَهْلِ الْمُجُونِ، وَإِعَانَةٌ عَلَى نَشْرِ الْمَعَاصِي، وَعَدَمِ الْمُبَالَاةِ فِيهَا.

وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ: أَنَّهُ حَرَّمَ عَلَى الْمُسْلِمِ تَرْوِيعَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ؛ إِمَّا بِإِخْبَارِهِ بِخَبَرٍ يُفْزِعُهُ، أَوْ أَنْ يُشِيرَ إِلَيْهِ بِسِلَاحٍ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.

وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ: أَنَّهُ نَهَى عَنْ تَشَبُّهِ الرِّجِالِ بِالنِّسَاءِ، وَبِالْعَكْسِ؛ بِأَنْ تَتَشَبَّهَ النِّسَاءُ بِالرِّجَالِ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَفَاسِدِ، الَّتِي مِنْهَا التَّخَنُّثُ فِيمَنْ يَتَشَبَّهُ بِهِنَّ؛ فِي مَلَابِسِهِنَّ، وَحَرَكَاتِهِنَّ، وَكَلَامِهِنَّ، كَمَا هُوَ مَوْجُودٌ عِنْدَ بَعْضِ الْمُنْحَلِّينَ وَالْمَغْرُورِينَ!!

وَمِنْ مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ: اتِّقَاءُ مَوَاضِعِ التُّهَمِ وَالرِّيَبِ؛ كَيْ يَصُونَ أَلْسِنَةَ النَّاسِ وَقُلُوبَهُمْ عَنْ سُوءِ الظَّنِّ بِهِ.

وَوَرَدَ أَنَّ صَفِيَّةَ زَوْجُ النَّبِيِّ ﷺ جَاءَتْ تَزُورُهُ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ، فَقَامَ مَعَهَا مُوَدِّعًا، حَتَّى بَلَغَتْ بَابَ الْمَسْجِدِ؛ فَرَآهُ رَجُلَانِ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَسَلَّمَا عَلَيْهِ.

فَقَالَ: «عَلَى رِسْلِكُمَا إِنَّمَا هِيَ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَّيٍّ».

فَقَالَا: سُبْحَانَ اللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، وَكَبُرَ عَلَيْهِمَا!!

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَبْلُغُ مِنَ الْإِنْسَانِ مَبْلَغَ الدَّمِ، وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَيْئًا -أَوْ: قَالَ: شَرًّا-».

فَهَذَا أَشْرَفُ الْخَلْقِ وَأَزْكَاهُمْ، أَبْعَدَ التُّهْمَةَ وَالشَّكَّ عَنْ نَفْسِهِ.

وَقَالَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((مَنْ أَقَامَ نَفْسَهُ مَقَامَ التُّهَمِ، فَلَا يَلُومَنَّ مَنْ أَسَاءَ بِهِ الظَّنَّ)).

فَالْإِسْلَامُ مِنْ مَحَاسِنِهِ: الِابْتِعَادُ عَنْ مَوَاضِعِ التُّهَمِ وَالشُّبُهَاتِ، فَكَيْفَ لَوْ رَأَى مَنْ تَدْخُلُ عَلَى الْخَيَّاطِ، يُفَصِّلُ عَلَى بَدَنِهَا وَحْدَهَا، خَالِيًا بِهَا، أَوْ رَأَى مَنْ تَدْخُلُ عَلَى الْمُصَوِّرِ وَحْدَهَا.

أَوْ رَأَى مَنْ تَرْكَبُ مَعَ مَنْ لَيْسَ مَحْرَمًا لَهَا، أَوْ سَافَرَتْ مُسْلِمَةٌ إِلَى بِلَادِ الْكُفْرِ بِدُونِ مَحْرَمٍ، أَوْ دَخَلَتْ عَلَى الطَّبِيبِ وَحْدَهَا بِاسْمِ الْكَشْفِ الطِّبِّيِّ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، مِمَّا حَدَثَ فِي زَمَنِنَا الَّذِي كَثُرَتْ فِيهِ الْفِتَنُ، وَقَلَّ فِيهِ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَرَدْعُ أَهْلِ الشَّرِّ وَالْفَسَادِ الَّذِينَ قَوِيَتْ شَوْكَتُهُمْ، وَسَانَدَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، عَكْسُ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ؛ مِنَ التَّفَكُّكِ وَالتَّخَاذُلِ وَالْمُصَانَعَاتِ، فَاللهُ الْمُسْتَعَانُ.

 ((مَنْزِلَةُ السُّنَّةِ فِي الْإِسْلَامِ وَحُجِّيَّتُهَا))

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ اللهَ تَعَالَى أَرْسَلَ رَسُولَهُ مُحَمَّدًا ﷺ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ؛ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، وَقَدْ بَلَّغَ النَّبِيُّ ﷺ الرِّسَالَةَ, وَأَدَّى الْأَمَانَةَ، وَجَاهَدَ فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ حَتَّى أَتَاهُ الْيَقِينُ.

وَقَدْ جَاءَ النَّبِيُّ ﷺ بِالْوَحْيَيْنِ -بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ-، وَلَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيْهِ ﷺ الْحَوْضَ.

أَخْرَجَ الْحَاكِمُ فِي ((الْمُسْتَدْرَكِ))  عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((تَرَكْتُ فِيكُمْ شَيْئَيْنِ، لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُمَا: كِتَابَ اللهِ، وَسُنَّتِي، وَلَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ)). وَالْحَدِيثُ صَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((السِّلْسِلَةُ الصَّحِيحَةُ))، وَفِي ((صَحِيحِ الْجَامِعِ)).

وَالسُّنَّةُ حَاكِمَةٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ، لَا يَصِحُّ إِيمَانٌ إِلَّا بِتَحْكِيمِ الرَّسُولِ ﷺ، وَالرِّضَا بِحُكْمِهِ، وَالتَّسْلِيمِ لَهُ، مَعَ انْشِرَاحِ الصَّدْرِ بِهِ.

قَالَ تَعَالَى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء :65].

وَمُخَالَفَةُ السُّنَّةِ شُؤْمٌ حَاضِرٌ فِي الدُّنْيَا، وَعَذَابٌ مُدَّخَرٌ فِي الْآخِرَةِ.

أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ))  مِنْ رِوَايَةِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ أَنَّ رَجُلًا أَكَلَ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ بِشِمَالِهِ، فَقَالَ: ((كُلْ بِيَمِينِكَ)).

قَالَ: لَا أَسْتَطِيعُ.

قَالَ: ((لَا اسْتَطَعْتَ))، مَا مَنَعَهُ إِلَّا الْكِبْرُ.

قَالَ: فَمَا رَفَعَهَا إِلَى فِيهِ)).

يَبُسَتْ يَدُهُ، وَلَمْ يَسْتَطِعْ رَفْعَهَا إِلَى فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ؛ عُقُوبَةً لَهُ.

فَهَذِهِ عُقُوبَةٌ عَاجِلَةٌ.

وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ خَالَفَ سُنَّةَ الرَّسُولِ ﷺ تَكَبُّرًا؛ مُعَرَّضٌ لِلْعُقُوبَةِ فِي الدُّنْيَا.

وَقَالَ اللهُ تَعَالَى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور :63].

وَهَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ لِمَنْ خَالَفَ أَمْرَ الرَّسُولِ ﷺ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ:

الْأَوَّلُ: أَنْ تُصِيبَهُ فِتْنَةٌ فِي قَلْبِهِ؛ فَيَزِيغَ عَنِ الْحَقِّ، وَيَكْفُرَ بَعْدَ الْإِيمَانِ، وَيَفْسَدَ قَلْبُهُ بِزَيْغٍ وَضَلَالٍ، فَلَا يَهْتَدِي لِلْحَقِّ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ أَمْرَ الرَّسُولِ ﷺ، وَهَذِهِ عُقُوبَةٌ أَشَدُّ مِنَ الَّتِي بَعْدَهَا.

الثَّانِي: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}؛ وَالْعَذَابُ الْأَلِيمُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الدُّنْيَا بِالْقَتْلِ، أَوِ الْمَرَضِ، أَوِ الْهَلَاكِ الَّذِي يَحِلُّ بِالْكُفَّارِ الَّذِينَ خَالَفُوا أَمْرَ الرَّسُولِ ﷺ.

وَالْعَذَابُ الثَّانِي يَكُونُ فِي الْآخِرَةِ.

وَلَا مَفَرَّ لِمَنْ خَالَفَ أَمْرَ الرَّسُولِ ﷺ مُتَعَمِّدًا مِنَ الْعُقُوبَتَيْنِ، عُقُوبَةٌ فِي الْقَلْبِ، وَعُقُوبَةٌ فِي الْبَدَنِ أَوْ فِي الْمَالِ؛ إِمَّا بِالْمَوْتِ أَوِ الْهَلَاكِ، أَوْ بِتَلَفِ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ، وَهَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ لِمَنْ خَالَفَ أَمْرَ الرَّسُولِ ﷺ.

*حُجِّيَّةُ السُّنَّةِ وَحِفْظُهَا مِنَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-:

إِنَّ الدِّينَ لَمْ يُعْرَفْ إِلَّا مِنْ قِبَلِ الرَّسُولِ ﷺ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ قَبُولِ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ، وَتَصْدِيقِهِ فِيمَا أَخْبَرَ، وَامْتِثَالِ أَمْرِهِ فِيمَا أَمَرَ، وَاجْتِنَابِ مَا نَهَى عَنْهُ وَزَجَرَ، وَتَحْكِيمُ شَرِيعَتِهِ، وَالرِّضَا بِحُكْمِهِ ﷺ.

وَقَدْ بَيَّنَتِ السُّنَّةُ مُجْمَلَ الْقُرْآنِ، وَفَسَّرَتْ مُشْكِلَهُ، وَقَيَّدَتْ مُطْلَقَهُ، وَخَصَّصَتْ عَامَّهُ، وَشَرَحَتْ مَقَاصِدَهُ.

وَلَا غِنَى عَنِ السُّنَّةِ فِي مَعْرِفَةِ دِينِ اللهِ تَعَالَى، وَطَاعَتِهِ، وَمَعْرِفَةِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَالْعِبَادَةِ بِسَبَبِهَا وَجِنْسِهَا، وَكَمِّهَا وَكَيْفِهَا، وَزَمَانِهَا وَمَكَانِهَا.

قَالَ السُّيُوطِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- : «قَالَ الإِمَامُ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي «الرِّسَالَةِ»، وَنَقَلَهُ عَنهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي «الْمَدْخَل»:

«قَدْ وَضَعَ اللَّهُ رَسُولَهُ ﷺ مِنْ دِينِهِ وَفَرْضِهِ وَكِتَابِهِ الْمَوضِعَ الَّذِي أَبَانَ -جَلَّ ثَنَاؤُهُ- أَنَّهُ جَعَلَهُ عَلَمًا لِدِينِهِ؛ بِمَا افْتَرَضَ مِنْ طَاعَتِهِ وَحَرَّمَ مِنْ مَعْصِيَتِه, وَأَبَانَ مِنْ فَضِيلَتِهِ؛ بِمَا قَرَنَ بَينَ الْإِيمَانِ بِرَسُولِهِ مَعَ الْإِيمَانِ بِهِ، فَقَالَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} [النساء: 171].

وَقَالَ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النور: 62].

فَجَعَلَ كَمَالَ ابْتِدَاءِ الْإِيمَانِ الَّذِي مَا سِوَاهُ تَبَعٌ لَهُ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ، ثمَّ بِرَسُولِهِ مَعَهُ.

قَالَ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: وَفَرَضَ اللَّهُ عَلَى النَّاسِ اتِّبَاعَ وَحْيِهِ، وَاتِّبَاعَ سُنَنِ رَسُولِهِ، فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [آل عمران: 164]، مَعَ آيٍ سِوَاهَا ذَكَرَ فِيهِنَّ الْكِتَابَ وَالْحِكمَةَ.

قَالَ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: فَذَكَرَ اللَّهُ الْكِتَابَ وَهُوَ الْقُرْآن، وَذَكَرَ الْحِكْمَةَ، فَسَمِعْتُ مَنْ أَرْضَى مِنْ أَهلِ الْعِلْمِ بِالْقُرْآنِ يَقُولُ: الْحِكْمَةُ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ».

{يُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ}: وَهُوَ الْوَحْيُ الْمُنَزَّلُ عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ -جَلَّ وَعَلَا- وَحْيًا أَوَّلًا, وَيُعَلِّمُهُمُ {الحِكْمَةَ} وَهِيَ السُّنَّةُ، وَهِيَ الْوَحْيُ الثَّانِي الَّذِي أُوحِيَ إِلَيْهِ ﷺ.

«قَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59].

فَقَالَ بَعضُ أَهلِ الْعِلْم: أُولُوا الْأَمْرِ: أُمَرَاءُ سَرَايَا رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، {فَإِنْ تَنَازَعْتُم}: أَيْ: فَإِنِ اخْتَلَفْتُم فِي شَيْءٍ -وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ- هُمْ وَأُمَرَاؤُهُمُ الَّذِينَ أُمِرُوا بِطَاعَتِهِمْ، {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}: يَعْنِي -وَاللَّهُ أَعْلَمُ- إِلَى مَا قَالَ اللَّهُ وَالرَّسُولُ.

ثمَّ سَاقَ الْكَلَامَ إِلَى أَنْ قَالَ: فَأَعْلَمَهُمْ أَنَّ طَاعَةَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ طَاعَتُهُ، فَقَالَ: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65].

وَاحْتَجَّ -أَيْضًا- فِي فَرْضِ اتِّبَاعِ أَمْرِهِ بِقَولِهِ تَعالَى: {لَّا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضًا ۚ قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا ۚ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63].

وَبِقَولِهِ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر: 7], إِلَى غَيرِهَا مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي دَلَّتَ عَلَى اتِّبَاعِ أَمْرِهِ، وَلُزُومِ طَاعَتِهِ, فَلَا يَسَعُ أَحَدًا رَدُّ أَمرِهِ؛ لِفَرْضِ اللَّهِ طَاعَةَ نَبِيِّهِ ﷺ ».

* لَقَد أَمَرَ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عِبَادَهُ بِاتِّبَاعِ نَبِيِّهِ ﷺ  وَطَاعَتِهِ، وَالْقَصِّ عَلَى أَثَرِهِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا:

قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ ۖ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 32].

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران: 131-132].

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ۖ وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النساء: 80].

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا} [الأحزاب: 36].

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الجن: 23].

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات: 1].

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر: 7].

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].

«وَالآيَاتُ فِي هَذَا الْمَعنَى كَثِيرَةٌ؛ وَكُلُّهَا تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ طَاعَتِهِ ﷺ وَاتِّبَاعِ مَا جَاءَ بِهِ, وَهِيَ كَالأَدِلَّةِ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالتَّمَسُّكِ بِهِ، وَطَاعَةِ أَوَامِرِهِ وَنَواهِيهِ.

وَهُمَا أَصْلَانِ مُتَلَازِمَانِ، مَنْ جَحَدَ وَاحِدًا مِنهُمَا فَقَد جَحَدَ الآخَرَ وَكَذَّبَ بِهِ؛ وَذَلِكَ كُفْرٌ وَضَلَالٌ، وَخُرُوجٌ عَنْ دَائرَةِ الْإِسلَامِ بإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلمِ وَالْإِيمَانِ» .

وَلَا شَكَّ أَنَّ السُّنَّةَ دَاخِلَةٌ فِي الْحِفظِ الَّذِي تَكَفَّلَ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهِ لِشَرِيعَتِهِ وَدِينِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الثَّابِتِ المَقْطُوعِ بِهِ الَّذِي لَا يَسَعُ المُؤمِنَ بِحَالٍ إِنكَارُهُ وَلَا التَّرَدُّدُ فِي ثُبُوتِهِ؛ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَحْيٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَدَلِيلٌ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ.

بَلْ مَا مِنْ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ عُرِفَ أَوْ يُعرَفُ إِلَّا عَنْ طَرِيقِهِمَا، أَوْ عَنْ طَرِيقِ الْأَدِلَّةِ الَّتِي ثَبَتَتْ حُجِّيَّتُهَا بِهِمَا.

فَلَيْسَ بِعَجِيبٍ إِذَا كُنَّا قَدْ وَجَدْنَا اللَّهَ -جَلَّ ثَنَاؤُهُ- قَدْ تَكَفَّلَ بِحِفْظِ الشَّرِيعَةِ كُلِّهَا -كِتَابِهَا وَسُنَّتِهَا- كَمَا يَدُلُّ عَلَيهِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة: 32].

فَنُورُ اللهِ: شَرْعُهُ وَدِينُهُ الَّذِي ارْتَضَاهُ لِلْعِبَادِ وكَلَّفَهُمْ بِهِ، وَضَمَّنَهُ مَصَالَحَهُمْ، وَالَّذِي أَوْحَاهُ إِلَى رَسُولِهِ مِنْ قُرْآنٍ أَوْ غَيْرِهِ؛ لِيَهْتَدُوا بِهِ إِلَى مَا فِيهِ خَيْرُهُمْ وَسَعَادَتُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ.

وَلَقَدْ حَفِظَهَا اللَّهُ تَعَالَى كَمَا حَفِظَ الْقُرْآنَ, فَلَمْ يَذْهَبْ مِنْهَا -وَللَّهِ الْحَمْدُ وَمِنْهُ الْفَضْلُ- شَيْءٌ عَلَى الْأُمَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَستَوْعِبْهَا كُلُّ فَرْدٍ عَلَى حِدَةٍ.

وَمَعلُومٌ أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ تَكَفَّلَ بِحِفْظِ الْمُبَيَّنِ الْمَشرُوحِ، وَلَمْ يَتَكَفَّل بِحِفْظِ الشَّارِحِ الْمُبَيِّنِ؛ لَأَحَالَنَا عَلَى التَّعَبُّدِ بِشَيْءٍ مَعْدُومٍ لَا وُجُودَ لَهُ فِي الْوَاقِع, أَوْ عَلَى الْأَقَلِّ بِشَيْءٍ لَمْ يَصِلْنَا مِنْ طَرِيقٍ مَوثُوقٍ بِهِ, وَلَمْ نَعْرِفْ صَحِيحَهُ مِنْ سَقِيمِهِ, وَلَا الْمَقبُولَ مِنْهُ مِنَ الْمَردُودِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ التَّكلِيفَاتِ فِي الْجُمْلَةِ وَرَدَتْ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ مُجْمَلَةً؛ ثُمَّ تَأْتِي السُّنَّةُ بِتَفَاصِيلِهَا, وَبِبَيَانِ مُجْمَلِهَا, وَبِتَفْسِيرِ وَشَرْحِ مَا أُجْمِلَ فِيهَا, إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ عَلَاقَةِ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ الْعَزِيزِ.

فَلَوْ أَنَّ اللَّهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- حَفِظَ هَذَا الْمُبَيَّنَ -وَهُوَ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ- وَلَمْ يَحْفَظِ الْمُبَيِّنَ -وَهُوَ السُّنَّةُ الشَّرِيفَةُ-؛ لَأَحَالَنَا عِنْدَمَا يَأْمُرُنَا فِي الْمُبَيَّنِ -وَهُوَ الْقُرْآنُ- عَلَى مَا لَا يُوثَقُ بِهِ, أَوْ عَلَى مَا هُوَ مَعْدُومٌ إِنْ لَمْ يَحفَظِ السُّنَّةَ كَمَا حَفِظَ الْقُرْآنَ.

وَهَذَا يَسْتَحِيلُ شَرْعًا وَعَقْلًا!! إِذْ كَيْفَ نَتَعَبَّدُ بِشَيْءٍ وَقَدْ أُزِيلَ مِنَ الْوُجُودِ تَمَامًا أَوْ إِذَا كَانَ وُجُودُهُ وُجُودًا شَكْليًّا فَاقِدًا لِلْقِيمَةِ!!

إِنَّ فِقْدَانَ الشَّارِحِ الْمُبَيِّنِ بِكَامِلِهِ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ فِقْدَانُ أَكْثَرِ الْمُبَيَّنِ الْمَشْرُوحِ؛ لِأَنَّ بَيَانَهُ وَشَرْحَهُ يَكُونُ مُتَوَقِّفًا غَالِبًا عَلَى الشَّارِحِ الْمُبَيِّنِ.

«وَمِنَ الْمَعلُومِ أَنَّهُ لَا نِزَاعَ فِي أَنَّهُ قَد جَاءَ فِي الْكِتَابِ آيَاتٌ تَدُلُّ عَلَى حُجِّيَّةِ السُّنَّة, فَهِيَ -بِهَذَا المَعْنَى- فَرْعٌ عَنْهُ فَرْعِيَّةَ الْمَدْلُولِ عَلَى الدَّالِّ, وَلَكِنَّ هَذَا لَا يَسْتَلْزِمُ تَأَخُّرَهَا عَنْهُ فِي الِاعْتِبَارِ وَالِاحْتِجَاجِ بِهِ، بَلْ يُوجِبُ المُسَاوَاة».

لَا بُدَّ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى السُّنَّةِ؛ لِفَهْمِ عَدِيدٍ مِنَ الْأَحْكَامِ, وَكُلُّ دَارِسٍ لِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ ﷺ -وَلَا سِيَّمَا آيَاتُ الْأَحكَامِ وَأَحَادِيثُ الأَحكَامِ- يُدْرِكُ تَمَامَ الْإِدْرَاك أَنَّ لِلسُّنَّةِ دَوْرًا هَامًّا لَا يُسْتَهَانُ بِهِ فِي بَيَانِ الْأَحكَامِ الْمُجْمَلَةِ فِي الْقُرآنِ الْكَرِيمِ.

هِيَ -أَيْ: السُّنَّةُ- الَّتِي تُقَيِّدُ الْمُطْلَقَ، وَتُخَصِّصُ الْعَامَّ، وَتُبَيِّنُ الْمُجْمَلَ وَتُوَضِّحُ الْمُشْكِلَ.

وَقَد أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بإِقَامَةِ الصَّلَاةِ -وَهِيَ الرُّكْنُ الثَّانِي مِنْ أَركَانِ الإِسْلَام- فَقَالَ تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [البقرة: 43], فَكَيْفَ إِقَامَتُهَا؟

السُّنَّةُ وَحْدَهَا هِيَ الَّتِي تُجِيبُ عَنْ هَذَا السُّؤالِ.

وَكَذَلِكَ وَرَدَ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ الْأَمْرُ بِالزَّكَاةِ إِجمَالًا دُونَ تَفْصِيلٍ وَبَيَانٍ؛ فَقَالَ تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43], وَقَالَ تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141].

وَتَوَلَّتِ السُّنَّةُ بَيَانَ الْأَموَالِ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ, وَبَيَانَ الأَنْصِبَةِ, وَالْمِقدَارِ المَأخُوذِ مِنْ كُلِّ نِصَابٍ, إِلَى آخِرِ الْبَيَانِ الشَّامِلِ لهَذَا الرُّكْنِ الْعَظِيمِ.

كَمَا بَيَّنَتِ السُّنَّةُ مِقْدَارَ صَدَقَةِ الْفِطْرِ وَمُسْتَحِقِّيهَا, وَبَيَّنَتِ السُّنَّةُ أَحْكَامَ الصِّيَامِ، وَسُنَنَهُ، وَمَكْرُوهَاتِهِ، وَمُبْطِلَاتِهِ, وَالْقَضَاءَ وَالْكَفَّارَةَ, وَالرُّخَصَ وَأَهْلَهَا, وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ هَذَا الرُّكْنِ الْعَظِيمِ, وَبَيَّنَتِ السُّنَّةُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَنَاسِكِ، وَالْبِيُوعِ، وَالْحُدُودِ وَغَيرِهَا.

*وَأَمَّا بَيَانُ السُّنَّةِ لِلْقُرْآنِ: فَيَأْتِي عَلَى وُجُوهٍ مُختَلِفَةٍ وَطُرُقٍ مُتَنَوِّعَةٍ؛ فَمِنْ ذَلِكَ: بَيَانُ مُجْمَلِهِ, فَالصَّلَاةُ فِي قَولِهِ تَعَالَى {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} لَفْظٌ مُجْمَلٌ، لَا يُفْهَمُ مِنْهُ مَا كَيْفِيَّةُ الصَّلَاةِ؟ وَمَا أَوْقَاتُهَا؟ وَمَا عَدَدُ رَكَعَاتِهَا؟ وَمَا شُرُوطُهَا؟ وَمَا أَرْكَانُهَا؟

وَقَد بَيَّنَتِ السُّنَّةُ كُلَّ هَذَا بِفِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَبِقَوْلِهِ, فَالْكِتَابُ مُجْمَلٌ وَالسُّنَّةُ مُفَصِّلَةٌ لَهُ؛ كَالْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي بَيَانِ مَا أُجْمِلَ ذِكْرُهُ مِنَ الْأَحْكَامِ, إِمَّا بِحَسَبِ كَيْفِيَّاتِ الْعَمَلِ، أَوْ أَسْبَابِهِ، أَوْ شُرُوطِهِ، أَوْ مَوَانِعِهِ، أَوْ لَوَاحِقِهِ، أَوْ مَا أَشْبَه ذَلِكَ.

فَبَيَانُهَا لِلصَّلَوَاتِ عَلَى اخْتِلَافِهَا؛ فِي مَوَاقِيتِهَا، وَرُكُوعِهَا، وَسُجُودِهَا، وَسَائرِ أَحْكَامِهَا, وَبَيَانُهَا لِلزَّكَاةِ فِي مَقَادِيرِهَا وَأَوْقَاتِهَا، وَنُصُبِ الْأَموَالِ المُزَكَّاةِ.

وَبَيَانُ أَحْكَامِ الصَّوْمِ مِمَّا لَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ, وَكَذَلِكَ أَحْكَامُ الْحَجِّ وَالذَّبَائِحِ, وَالْأَنْكِحَةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا, وَالْبُيُوعُ وَأَحْكَامُهَا, وَالْجِنَايَاتُ مِنَ الْقَصَاصِ وَغَيرِهِ مِمَّا وَقَعَ بَيَانًا لِمَا أُجْمِلَ فِي الْقُرْآنِ, وَهُوَ الَّذِي يَظْهَرُ دُخُولُهُ تَحْتَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44].

فَالَّذِي نُزِّلَ إِلَيْهِمْ: إِنَّمَا يَذْهَبُ إِلَى الْكِتَابِ الْعَزِيزِ الْمُنَزَّلِ عَلَى قَلْبِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ, وَهُنَاكَ مَا يُبَيِّنُهُ، وَهُوَ سُنَّةُ النَّبِيِّ ﷺ، وَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي الذِّكْرِ {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}.

فَالسُّنَّةُ تُبَيِّنُ هَذَا الْمُجْمَلَ وَتُوَضِّحُهُ، وَتُخَصِّصُ الْعَامَّ, وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ أَنْ يَرِثَ الْأَوْلَادُ الْآبَاءَ أَوِ الْأُمَّهَاتِ عَلَى نَحْوِ مَا بَيَّنَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ ۖ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ} [ النساء:11].

فَكَانَ هَذَا الْحُكْمُ عَامًّا فِي كُلِّ أَصْلٍ مَوْرُوثٍ وَكُلِّ وَالِدٍ وَارِثٍ, فَقَصَرَتِ السُّنَّةُ الْأَصْلَ الْمَوْرُوثَ عَلَى غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ بِقَوْلِهِ ﷺ: «لَا نُورَثُ؛ مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ». وَقَدْ أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ.

وَكَذَلِكَ قَصَرَتِ السُّنَّةُ التَّوَارُثَ عَلَى الْمُسْلِمِ دُونَ الْكَافِرِ؛ لِقَوْلِهِ ﷺ: «لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَلَا يَرِثُ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ». وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

*وَالسُّنَّةُ أَيْضًا تُقَيِّدُ مُطْلَقَ الْقُرْآنِ: كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة 28]، فَإِنَّ قَطْعَ الْيَدِ لَمْ يُقَيَّدْ فِي الْآيَةِ لِمَوْضِعٍ خَاصٍّ، وَلَكِنَّ السُّنَّةَ قَيَّدَتْهُ بِكَوْنِهِ مِنَ الرُّسْغِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] يُوجِبُ الطَّوَافَ مُطْلَقًا، وَلَكِنَّ السُّنَّةَ الْفِعْليَّةَ قَيَّدَتْهُ بِالطَّهَارَةِ.

*وَكَذَلِكَ السُّنَّةُ تُبَيِّنُ الْمُشْكِلَ مِنَ الْقُرْآنِ: مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا سَمِعَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَوْلَ النَّبِيِّ ﷺ: «مَنْ حُوسِبَ عُذِّبَ» أَشْكَلَ عَلَيْهَا قَوْلُ اللَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق: 8].

وَنَصُّ الْحَدِيثِ -كَمَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ-، أَنَّ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- زَوْجَ النَّبِيِّ ﷺ كَانَتْ لَا تَسْمَعُ شَيْئًا لَا تَعْرِفُهُ إِلَّا رَاجَعَتْ فِيهِ حَتَّى تَعْرِفَهُ، وَأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «مَنْ حُوسِبَ عُذِّبَ».

قَالَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: «فَقُلْتُ: أَلَيْسَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق: 8].

قَالَتْ: فَقَالَ: «إِنَّمَا ذَلِكِ الْعَرْضُ، وَلَكِنْ مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ هَلَكَ».

فَهَذَا الَّذِي أَشْكَلَ عَلَيْهَا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ -جَلَّ وَعَلَا- في هَذِهِ الآيَةِ تُبيِّنُهُ سُنَّةُ رَسُولِ الله ﷺ.

«وَالْأُمَّةُ مَا زَالَتْ -وَلَنْ تَزَالَ- مُتَّفَقِةً عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ النَّبَوِيَّةَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لَهَا مَقَامٌ مَعْلُومٌ في بَيَانِ الْأَحْكَامِ، وَأَنَّهَا حُجَّةٌ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهَا، وَأَنَّهُ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهَا إِذَا ثَبَتَت، وَلَا يَجُوزُ الحُكْمُ بِالِاجْتِهَادِ وَالرَّأْيِ مَعَ ثُبُوتِهَا، وَأَنَّهَا قَد ثَبَتَتْ بِهَا الْأَحْكَامُ وَلَوْ لَم يَرِد بِالْأَحْكَامِ كِتَابٌ -يَعْنِي: الْكِتَابَ الْعَزِيزَ-.

وَهِيَ بَيَانٌ لِلْقُرْآنِ وَتَفْسِيرٌ لَهُ، وَهِيَ مُفَصِّلَةٌ لِمَا أُجمِلَ فِيهِ.

وَهَذِهِ الْمَعَانِي كُلُّهَا مَحَلُّ إِجْمَاعٍ عِنْدَ مَنْ يُعْتَدُّ بِأَقْوَالِهِم، وَلَا يُعْلَمُ أَحَدٌ شَذَّ عَنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ إِلَّا الزَّنَادِقَةَ وَغُلَاةَ الرَّافِضَةِ الَّذِينَ لَا عِبْرَةَ بِخِلَافِهِمْ، وَلَا يَتَأَثَّرُ الْإِجْمَاعُ بِمُخَالَفَتِهِمْ» .

قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ بَازٍ -رَحِمَهُ اللهُ- : ((وَلَا شَكَّ أَنَّ سُنَّةَ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَحْيٌ مُنَزَّلٌ، فَقَدْ حَفِظَهَا اللهُ تَعَالَى كَمَا حَفِظَ كِتَابَهُ، وَقَيَّضَ اللهُ لَهَا عُلَمَاءَ نُقَّادًا، يَنْفُونَ عَنْهَا تَحْرِيفَ الْمُبْطِلِينَ، وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ، وَيَذُبُّونَ عَنْهَا كُلَّ مَا أَلْصَقَهُ بِهَا الْجَاهِلُونَ وَالْكَذَّابُونَ وَالْمُلْحِدُونَ.

لِأَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَهَا تَفْسِيرًا لِكِتَابِهِ الْكَرِيمِ، وَبَيَانًا لِمَا أُجْمِلَ فِيهِ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَضَمَّنَهَا أَحْكَامًا أُخْرَى، لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهَا الْكِتَابُ الْعَزِيزُ، كَتَفْصِيلِ أَحْكَامِ الرَّضَاعِ، وَبَعْضُ أَحْكَامِ الْمَوَارِيثِ، وَتَحْرِيمِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا, وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ، وَلَمْ تُذْكَرْ فِي كِتَابِ اللهِ الْعَزِيزِ)).

وَفِي بَيَانِ وَحْيِ السُّنَّةِ وَمَنْزِلَتِهَا مِنَ الْقُرْآنِ يَقُولُ الشَّيْخُ مُحَمَّد مُحَمَّد أَبُو زَهْوٍ :

((قَالَ سُبْحَانَهُ:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل :44] .

فَالْمُبَيَّنُ هُوَ الْقُرْآنُ الْمُنَزَّلُ عَلَى رَسُولِ اللهِ بِلَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ، وَالْبَيَانُ هُوَ سُنَّةُ رَسُولِ اللهِ ﷺ الْمُنَزَّلُ عَلَى قَلْبِهِ بِمَعْنَاهُ دُونَ لَفْظِهِ، فَكُلٌّ مِنَ الْبَيَانِ وَالْمُبَيَّنِ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى.

قَالَ تَعَالَى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة :16-19].

وَبَيَانُ الْقُرْآنِ يَكُونُ بِالسُّنَّةِ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللهُ عَلَى نَبِيِّهِ ﷺ، وَلَوْلَا بَيَانُ السُّنَّةِ لِلْقُرْآنِ مَا عَرَفْنَا كَثِيرًا مِنَ الْأَحْكَامِ كَأَعْدَادِ الصَّلَوَاتِ، وَالرَّكَعَاتِ، وَمَقَادِير الزَّكَوَاتِ، وَمَنَاسِكِ الْحَجِّ، وَشَعَائِرِ الْإِسْلَامِ، وَجُلِّ أَحْكَامِ الْمُعَامَلَاتِ وَالْأَحْوَالِ الشَّخْصِيَّةِ مِنْ زَوَاجٍ وَطَلَاقٍ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مُجْمَلٌ فِي الْقُرْآنِ، وَفَصَّلَتْهُ السُّنَّةُ تَفْصِيلًا)).

فاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ تَكَفَّلَ بِحِفْظِ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ، وَكَذَا تَكَفَّلَ بِحِفْظِ سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

فَيَنْبَغِي عَلَيْكُمْ -أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ- أَنْ تَتَمَسَّكُوا بِسُنَّةِ نَبِيِّكُم ﷺ، وَأَنْ تُشَارِكُوا فِي مَعْرِفَةِ الْجُهْدِ الَّذِي بَذَلَهُ حَمَلَةُ مِيرَاثِ النُّبُوَّةِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ تَبِعَهُم بِإِحْسَانٍ؛ فَإِنَّهُ جُهْدٌ لَا نَظِيرَ لَهُ عِنْدَ أُمَّةٍ مِنَ الأُمَمِ.

 ((فَهْمُ مَقَاصِدِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ))

مَقَاصِدُ الشَّرِيعَةِ -كِتَابًا وَسُنَّةً-:

النَّبِيُّ ﷺ بُعِثَ بِأُصُولِ تَشْرِيعٍ جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ عِنْدِ اللَّطِيفِ الْخَبِيرِ {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِير} [الملك: 14]؟!!

بَلَى، يَعْلَمُ.

اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يَعْلَمُ مَا يَصْلُحُ عَلَيْهِ النَّاسُ، وَمَا يُصْلِحُ النَّاسَ، فَشَرَّعَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِحِكْمَتِهِ شَرْعًا حَكِيمًا، لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّطِيفِ الْخَبِيرِ.

جَاءَ النَّبِيُّ ﷺ بِهَذَا الشَّرْعِ الْخَاتَمِ الْحَكِيمِ، لَيْسَ فِيهِ خَلَلٌ، وَلَيْسَتْ بِهِ ثُغْرَةٌ يُمْكِنُ أَنْ يَنْفُذَ إِلَيْهَا أَحَدٌ بِعَقْلٍ أَبَدًا؛ فَيَسْتَدْرِكَ عَلَيْهَا مُسْتَدْرِكٌ بِحَالٍ أَبَدًا؛ لِأَنَّهُ شَرْعٌ تَامٌّ كَامِلٌ، كَمَا قَالَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 4].

وَالْعَلَمَاءُ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ- يَقُولُونَ: مَقَاصِدُ التَّشْرِيعِ ثَلَاثَةٌ، لَا يَخْرُجُ عَنْهَا مَقْصِدٌ مِنْ مَقَاصِدِ التَّشْرِيعِ:

1- الضَّرُورِيَّاتُ.

2- وَالْحَاجِيَّاتُ.

3- وَالتَّحْسِينِيَّاتُ.

فَأَمَّا الضَّرُورِيَّاتُ: فَهِيَ الَّتِي لَا تَسْتَقِيمُ حَيَاةُ النَّاسِ وَلَا آخِرَتُهُمْ إِلَّا بِهَا وَعَلَيْهَا، بِحَيْثُ لَوِ اخْتَلَّ وَاحِدٌ مِنْ تِلْكَ الضَّرُورِيَّاتِ؛ فَسَدَتْ عَلَى النَّاسِ حَيَاتُهُمْ، وَحَصَّلُوا الْخِزْيَ فِيهَا، وَفَسَدَتْ عَلَى النَّاسِ آخِرَتُهُمْ، وَحَصَّلُوا النَّارَ فِيهَا -عِيَاذًا بِاللهِ وَلِيَاذًا بِجَنَابِهِ الرَّحِيمِ-.

ثُمَّ حَصَرَ الْعُلَمَاءُ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ- هَذِهِ الضَّرُورِيَّاتِ فِي ضَرُورِيَّاتٍ خَمْسٍ.. ضَرُورِيَّاتٍ خَمْسٍ تَحْصُرُ هَذِهِ الْأُمُورَ الَّتِي لَا يَسْتَغْنِي عَنْهَا النَّاسُ، لَا فِي دِينٍ وَلَا دُنْيَا، وَهِيَ:

1- الدِّينُ.

2- وَالنَّفْسُ.

3- وَالنَّسْلُ.

4- وَالْمَالُ.

5- وَالْعَقْلُ.

ثُمَّ يُبَيِّنُ لَنَا عُلَمَاؤُنَا -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ- هَذِهِ الْأَشْيَاءَ عَلَى وَجْهِهَا الصِّحِيحِ، فَيَقُولُونَ: إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ يَأْتِي بِمَا يُقِيمُ تِلْكَ الضَّرُورِيَّاتِ، ثُمَّ إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ يَأْخُذُ عَلَى أَيْدِي النَّاسِ؛ أَنْ يُفْسِدُوا شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الضَّرُورِيَّاتِ، فَيَشْرَعُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَرْكَانَ الْإِسْلَامِ.

يَشْرَعُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَنَا الشَّهَادَتَيْنِ، وَالصَّلَاةَ، وَالزَّكَاةَ، وَالْحَجَّ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأَرْكَانِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ أَرْكَانِ الْإِيمَانِ.

فَهَذَا هُوَ الدِّينُ، ثُمَّ يَحْفَظُهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، فَيَشْرَعُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْجِهَادَ؛ لِحِفَاظِهِ، وَيَشْرَعُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ حَدَّ الرِّدَّةِ؛ لِحِفَاظِ الدِّينِ.

وَيَشْرَعُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَنَا حِفْظَ النَّفْسِ، وَيَحُوطُهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِسِيَاجٍ، فَيَجْعَلُ الْقِصَاصَ وَالدِّيَاتِ؛ مِنْ أَجْلِ أَيِّ اعْتِدَاءٍ عَلَى النَّفْسِ.

وَيَشْرَعُ لَنَا رَبُّنَا لِحِفْظِ الضَّرُورِيِّ مِنَ الْمَالِ قَطْعَ الْيَدِ عِنْدَ اسْتِيفَاءِ أَرْكَانِ حَدِّ السَّرِقَةِ، وَيَشْرَعُ لَنَا تَضْمِينَ الْوَلِيِّ عِنْدَمَا يُفْسِدُ غَيْرُ ذِي عَقْلٍ مَالًا مُحْتَرَمًا مَمْلُوكًا مُقَوَّمًا فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

وَيَشْرَعُ لَنَا أَنْ نَحْفَظُ الدِّينَ، وَالنَّسْلَ، وَالْعَقْلَ؛ بِأَنْ يَجْعَلَ حَدَّ الشُّرْبِ قَائِمًا؛ بِحَيْثُ الَّذِي يَغْتَالُ الْعَقْلَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ دُونَهُ سَدٌّ لَا يُنْفَذُ مِنْهُ.

هَذِهِ الضَّرُورَاتُ لَيْسَتْ سَوَاءً، فَلَيْسَ الَّذِي يُفْسِدُ فِي الدِّينِ كَالَّذِي يَعْدُو عَلَى الْأَنْفُسِ، كَالَّذِي يَعْدُو عَلَى الْأَمْوَالِ، كَالَّذِي يَعْدُو عَلَى الْأَعْرَاضِ.

هَذِهِ الضَّرُورَاتُ لَيْسَتْ جُمْلَةً وَاحِدَةً عَلَى سَوَاءٍ، وَهِيَ فِي أَنْفُسِهَا فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا لَيْسَتْ سَوَاءً.

فَفِي ضَرُورَةِ الدِّينِ لَيْسَتِ الشَّهَادَتَانِ كَمَا يَأْتِي دُونَهُمَا بَعْدُ؛ مِنَ الصَّلَاةِ، أَوِ الزَّكَاةِ، أَوِ الْحَجِّ، أَوِ الصَّوْمِ، أَوْ مَا دُونَ ذَلِكَ.

وَلَيْسَتِ الصَّلَاةُ كَالزَّكَاةِ، أَمْرٌ كَانَ مِنْ رَبِّكَ مَقْضِيًّا، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ كُلُّهُ عَلَى سَوَاءٍ فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

*ثُمَّ يَشْرَعُ لَنَا رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- أَمْرَ الْحَاجِيَّاتِ: وَهِيَ الَّتِي إِذَا فَقَدَهَا النَّاسُ؛ أَصَابَهُمْ مِنَ الْمَشَقَّةِ فِي حَيَاتِهِمْ مَا يَجْعَلُ الْحَيَاةَ غَيْرَ يَسِيرَةٍ؛ وَلَكِنْ لَا يَنْهَدِمُ بِفَقْدِهَا حَيَاةٌ.

فَهَذِهِ الْحَاجِيَّاتُ شَرَعَهَا لَنَا رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-.

*ثُمَّ تَأْتِي التَّحْسِينِيَّاتُ بَعْدُ؛ لِكَيْ تَجْعَلَ الْحَيَاةَ رَغْدَةً عَلَى وَتِيرَةٍ سَهْلَةٍ يَسِيرَةٍ مُتَقَبَّلَةٍ عِنْدَ ذَوِي الْفِطَرِ الْمُسْتَقِيمَةِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ فَضْلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

الْحَاصِلُ: أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَعَلَ مَقَاصِدَ التَّشْرِيعِ لَيْسَتْ سَوَاءً؛ حَتَّى فِي الْمَقْصِدِ الْوَاحِدِ -كَالْحَاجِيَّاتِ، أَوِ التَّحْسِينِيَّاتِ؛ بَلْهَ الضَّرُورِيَّاتِ- لَمْ يَجْعَلْهَا رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- عَلَى سَوَاءٍ، وَمَعَ ذَلِكَ؛ فَمَا أَكْثَرَ مَا لَا يَلْتَفِتُ الْخَلْقُ إِلَى مِثْلِ هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ الَّذِي جَعَلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي دِينِهِ الْعَظِيمِ، دِينِ الْإِسْلَامِ الَّذِي مَنَّ عَلَيْنَا رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- بِالِانْتِسَابِ إِلَيْهِ، وَنَسْأَلُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَنْ يَمُنَّ عَلَيْنَا بِأَنْ نَمُوتَ عَلَيْهِ، وَأَنْ نُحْشَرَ عَلَيْهِ، بِرَحْمَتِهِ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.

*مِنَ الْمَقَاصِدِ الْعَظِيمَةِ لِلسُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ: ضَبْطُ الْعَلَاقَاتِ بَيْنَ أَفْرَادِ الْمُجْتَمَعِ:

إِنَّ الْإِنْسَانَ مَدَنِيٌّ بِالطَّبْعِ؛ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَحْيَا وَحْدَهُ، الْإِنْسَانُ مَخْلُوقٌ بِفِطْرَةٍ مَغْرُوزَةٍ فِيهِ، هِيَ أَنَّهُ: لَا يُمْكِنُ أَنْ يَحْيَا وَحْدَهُ، لَا أَنْ يَسْتَغْنِيَ عَنْ إِخْوَانِهِ مِنْ بَنِي الْبَشَرِ.

فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الشَّرْعَ الْأَغَرَّ قَدْ حَدَّدَ الْعَلَاقَاتِ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَأَخِيهِ، وَحَدَّدَ الْعَلَاقَةَ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَمُجْتَمَعِهِ.

فَإِذَا لَمْ يَعْرِفِ الْإِنْسَانُ دِينَ رَبِّهِ؛ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُؤَدِّيَ حَقَّهُ عَلَيْهِ، وَلا يُمْكِنُ أَنْ يَعْرِفَ وَاجِبَهُ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ جَاهِلًا مُتَخَبِّطًا.

وَالنَّبِيُّ ﷺ رَاعَى حُقُوقَ الْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ كَمَا عَلَّمَهُ اللهُ تَعَالَى.

فَفِي الْحَيَاةِ السِّيَاسِيَّةِ: جَعَلَ الشَّرْعُ -كِتَابًا وَسُنَّةً- ﷺ لِلْمَحْكُومِينَ حُقُوقًا؛ فَقَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 58].

إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ -أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ- بِأَدَاءِ الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا، وَيَأْمُرُكُمْ إِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ فِي كُلِّ شُؤُونِهِمْ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ الَّذِي بَيَّنَهُ فِيمَا شَرَعَ، إِنَّ اللهَ نِعْمَ مَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ فِي كُلِّ أَحْوَالِكُمْ، إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا لِأَقْوَالِكُمْ، بَصِيرًا بِأَفْعَالِكُمْ.

وَوَعَدَ اللهُ الْعَادِلِينَ فِي وَلَايَتِهِمْ وَحُكْمِهِمْ بِمَحَبَّتِهِ وَالْجَنَّةِ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة: 42].

إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْعَادِلِينَ فِيمَا وَلُووا وَحَكَمُوا فِيهِ، وَيُثِيبُهُمْ عَلَى عَدْلِهِمْ، وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ؛ لِأَنَّ مَنْ أَحَبَّهُ اللهُ أَكْرَمَهُ وَأَدْخَلَهُ فِي رَحْمَتِهِ.

وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، الرَّجُلُ فِي بيتهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ)).

وَكَذَلِكَ لِلْحَاكِمِ حُقُوقٌ -وَاجِبَةٌ لَهُ، أَوْجَبَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي كِتَابِهِ الْكَرِيمِ، وَعَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ الْأَمِينِ ﷺ- وَاجِبَةٌ، كَمَا تَجِبُ عَلَيْكَ الصَّلَاةُ، وَكَمَا تَجِبُ عَلَيْكَ الزَّكَاةُ، أَوْجَبَهَا اللهُ فِي عُلَاهُ.

فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ: السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ إِلَّا أَنْ يُؤْمَرَ بِمَعْصِيَةٍ، فَإِنْ أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.

وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: دَعَانَا رَسُولُ اللهِ ﷺ فَبَايَعْنَاهُ، فَكَانَ فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا: ((أَنْ بَايَعْنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا، وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا، وَأَثَرَةٍ عَلَيْنَا، وَأَلَّا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ -قَالَ: إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنَ اللهِ فِيهِ بُرْهَانٌ)). أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ.

*وَفِي الْحَيَاةِ الِاقْتِصَادِيَّةِ: أَقَامَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَرَسُولُهُ ﷺ الْعَلَاقَاتِ التِّجَارِيَّةَ مِنْ بَيْعٍ وَشِرَاءٍ، وَمُعَامُلَاتٍ عَلَى الْحَقِّ وَالْعَدْلِ: فَمِنْ كَبائِرِ الإِثْمِ، وَعَظَائِمِ الذُّنُوبِ: تَطْفِيفُ المَكَايِيلِ وَالمَوَازِينِ.

وَالتَّطْفِيفُ: البَخْسُ وَالنَّقْصُ.

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9)} [الرحمن: 7-9].

وَقَالَ ﷺ فِي رِعَايَةِ المَوَازِينِ: «إِذَا وَزَنْتُمْ؛ فَأَرْجِحُوا».

وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- يَمُرُّ بِالبَائِعِ، فَيَقُولُ: «اتَّقِ اللهَ، وَأَوْفِ الكَيْلَ وَالوَزْنَ، فَإِنَّ المُطَفِّفِينَ يُوقَفُونَ، حَتَّى إِنَّ العَرَقَ لَيُلْجِمُهُمْ إِلَى أَنْصَافِ آذَانِهِمْ».

وَكَذَلِكَ حَرَّمَ الشَّارِعُ الِاحْتِكْارَ وَنَهَى عَنْهُ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ الجَشَعِ، وَالطَّمَعِ، وَسُوءِ الخُلُقِ، وَالتَّضْيِيقِ عَلَى النَّاسِ.

رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ مَعْمَرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «مَنِ احْتَكَرَ؛ فَهُوَ خَاطِئٌ». أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ, وَفِي رِوَايَةٍ: «لَا يَحْتَكِرُ إِلَّا خَاطِئٌ».

وَالخَاطِئُ: الآثِمُ، وَالمَعْنَى لا يَجْتَرِئُ عَلَى هَذَا الفِعْلِ الشَّنِيعِ إِلَّا مَنِ اعْتَادَ المَعْصِيَةَ.

وَحَرَّمَ النَّبِيُّ ﷺ الرِّبَا؛ فعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ : «الرِّبَا اثْنَانِ وَسَبْعُونَ بَابًا، أَدْنَاهَا: مِثْلُ إِتْيَانِ الرَّجُلِ أُمَّهُ، وَإِنَّ أَرْبَى الرِّبَا: اسْتِطَالَةُ الرَّجُلِ فِي عِرْضِ أَخِيهِ».

*وَفِي الْحَيَاةِ الْأُسْرِيَّةِ: حَثَّ النَّبِيُّ ﷺ -فِي سُنَّتِهِ الْمُطَهَّرَةِ- عَلَى النِّكَاحِ؛ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْفَوَائِدِ الْجَلِيلَةِ، وَمَا يُدْفَعُ بِهِ مِنَ الْمَفَاسِدِ الْجَسِيمَةِ.

فَقَالَ ﷺ: ((النِّكَاحُ سُنَّتِي فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي)) .

قال: ((تَنَاكَحُوا تَكْثُرُوا؛ فَإِنِّي مُبَاهٍ بِكُمُ الْأُمَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)) .

 ((مَبْنَى الشَّرِيعَةِ  وَقِيَامُ السُّنَّةِ عَلَى التَّيْسِيرِ))

إِنَّ مَدَارَ الشَّرِيعَةِ عَلَى نَفْيِ الْحَرَجِ وَإِثْبَاتِ التَّيْسِيرِ،  قَالَ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْر} [البقرة: 185].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78].

هُوَ اللهُ الَّذِي اخْتَارَكُمْ -أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ- مِنْ دُونِ سَائِرِ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ لِحَمْلِ الرِّسَالَةِ الْخَاتِمَةِ، وَحَمَّلَكُمْ وَظِيفَةَ تَبْلِيغِ الدِّينِ الْخَاتَمِ لِلنَّاسِ أَجْمَعِينَ.

وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ الَّذِي تَعَبَّدَكُمْ بِهِ ضِيقًا لَا مَخْرَجَ لَكُمْ مِمَّا ابْتُلِيتُمْ بِهِ، بَلْ وَسَّعَ عَلَيْكُمْ، فَجَعَلَ التَّوْبَةَ فِي بَعْضٍ مَخْرَجًا، وَالْكَفَّارَةَ فِي بَعْضٍ مَخْرَجًا، وَالْقِصَاصَ كَذَلِكَ.

وَشَرَعَ الْيُسْرَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَسَّعَ دِينَكُمْ تَوْسِعَةَ مِلَّةِ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ.

فَمَدَارُ شَرِيعَةِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- عَلَى نَفْيِ الْحَرَجِ وَرَفْعِهِ؛ لِأَنَّ الشَّرِيعَةَ فِي مُنْتَهَاهَا إِنَّمَا هِيَ جَلْبُ مَنْفَعَةٍ وَدَرْءُ مَفْسَدَةٍ.

وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مَا كَلَّفَ الْإِنْسَانَ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا وَجَعَلَ لَهُ فِيهِ تَيْسِيرًا وَرَفَعَ عَنْهُ فِيهِ الْحَرَجَ.

فَتُشْتَرَطُ -مَثَلًا- الْقُدْرَةُ لِلصِّيَامِ:

فَعَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَى الصِّيامِ كَالْعَجْزِ الدَّائِمِ كَحَالِ كَبِيرِ السِّنِّ, أَوْ الْمَرِيضِ الَّذِي لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ -أَيْ: شِفَاؤُهُ مِنْ مَرَضِهِ- وَالَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ الصَّوْمَ لِكِبَرِهِ: أَطْعَمَ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا.

وَمِثَالٌ آخَرُ: الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ: وَهُوَ مِنَ الرُّخَصِ الَّتِي يُحِبُّ اللهُ تَعَالَى أَنْ تُؤْتَى، وَمِنْ تَسْهِيلَاتِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ السَّمْحَةِ.

فَقَدْ تَوَاتَرَتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ عَلَى ثُبُوتِهِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ مِنْ فِعْلِهِ، وَأَمْرِهِ بِذَلِكَ، وَتَرْخِيصِهِ فِيهِ.

وَمِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَرَوَى نَحْوَهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ الْمُغِيرَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَكَذَلِكَ حَدِيثُ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: ((رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ بَالَ، ثُمَّ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ ، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ نَحْوَهُ فِي ((الصَّحِيحِ))  مِنْ رِوَايَةِ الْمُغِيرَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

فَالشَّارِعُ رَخَّصَ بَعْضَ الرُّخَصِ فِي الْعِبَادَاتِ؛ تَيْسِيرًا عَلَى عِبَادِهِ وَرَحْمَةً بِهِمْ.

وَمِنْ تِلْكَ الرُّخَصِ -أَيْضًا-: إِبَاحَةُ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ -فِي بَعْضِ الْحَالَاتِ الَّتِي يَجِدُ فِيهَا الْمُسْلِمُ الْمَشَقَّةَ كَالسَّفَرِ وَالْمَطَرِ الشَّدِيدِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ-.

أُبِيحَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ صَلَاتَيِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي وَقْتِ إِحْدَاهُمَا، وَبَيْنَ صَلَاتَيِ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ كَذَلِكَ فِي وَقْتِ إِحْدَاهُمَا.

وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ سَمَاحَةِ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَيُسْرِهَا، وَهُوَ فَضْلُ اللهِ تَعَالَى؛ لِئَلَّا يَجْعَلَ عَلَيْنَا فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ .

وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ

الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ هُوَ يَتَوَلَّى الصَالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ, صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَومِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((حَثُّ السُّنَّةِ عَلَى الْعِلْمِ الْمَادِّيِّ وَالْعَمَلِ الْجَادِّ))

فَيَا أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! هَذَا الدِّينُ لَمْ يَكُنْ يَوْمًا قَطُّ كَمَا يَدَّعِي الْمَادِّيُّونَ الْمُلْحِدُونَ سَبَبًا لِتَأَخُّرِ الْبَشَرِ، بَلْ إِنَّ الْبَشَرَ إِنَّمَا يَتَأَخَّرُونَ وَيَتَخَلَّفُونَ إِذَا تَرَكُوا تَعَالِيمَ هَذَا الدِّينِ.

وَتَأَمَّلْ فِيمَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ الْعَرَبِيَّةُ قَبْلَ بَعْثَةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَنُزُولِ الْقُرْآنِ، فَإِنَّهُمْ كَمَا قَالَتِ الْفُرْسُ لَهُمْ: كَانُوا أَكَلَةَ رَأْسٍ، وَكَانَتِ الْحُرُوبُ تَنْشِبُ بَيْنَهُمْ لِأَتْفَهِ الْأَسْبَابِ، وَتَسْتَمِرُّ عُقُودًا طَوِيلَةً، رُبَّمَا زَادَتِ الْحَرْبُ -مَثَلًا- عَلَى أَرْبَعِينَ سَنَةً كَحَرْبِ (داحسَ وَالْغَبْرَاءِ).

لِأَسْبَابٍ تَافِهَةٍ تَظَلُّ الْحُرُوبُ قَائِمَةً بَيْنَهُمْ لِعِدَّةِ أَجْيَالٍ، فَتَفْنَى فِي أَتُّونِهَا وَنَارِهَا تِلْكَ الْأَجْيَالُ عَلَى تَتَابُعِهَا!! وَكَانُوا يَأْكُلُونَ الْمَيْتَةَ، وَكَانَ يَظْلِمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَكَانُوا مُتَخَلِّفِينَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْعُلُومِ الْعَصْرِيَّةِ.

ثُمَّ جَاءَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِهَذَا الدِّينِ، فَحَرَّرَ الْعَقْلَ مِنْ أَوْهَامِهِ، وَحَرَّرَ الْقَلْبَ وَالنَّفْسَ مِنْ أَوْضَارِهِمَا وَأَوْصَارِهِمَا، وَصَارَ الْإِنْسَانُ الْعَرَبِيُّ بَعْدَ ذَلِكَ صَاحِبَ حَضَارَةٍ بِفَضْلِ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ، وَبِتَعْلِيمِ النَّبِيِّ الرَّشِيدِ ﷺ.

حَتَّى بَلَغَتِ الْأُمَّةُ الْعَرَبِيَّةُ الْمُسْلِمَةُ -فِي فَتْرَةٍ وَجِيزَةٍ جِدًّا- الْمَبَالِغَ الَّتِي لَمْ تَبْلُغْهَا أُمَّةٌ مِنْ قَبْلِهَا، وَكَانَ ذَلِكَ مُؤَسَّسًا عَلَى تَعَالِيمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.

فَلَمَّا تَمَسَّكَتِ الْأُمَّةُ الْإِسْلَامِيَّةُ بِتَعَالِيمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ فَاقَتِ الْأُمَمَ كُلَّهَا، وَمَلَكَتِ الْعَالَمَ الْقَدِيمَ أَجْمَعَهُ.

دِينُ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ يَحُضُّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى التَّرَقِّي فِي الْعُلُومِ، وَفِي النَّظَرِ فِي آفَاقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَعَلَى النَّظَرِ فِي الْأَنْفُسِ.

بَلْ وَعَلَى النَّظَرِ فِيمَا تَحْتَ الثَّرَى، وَهُوَ مَا وَصَلَ إِلَيْهِ مَنْ وَصَلَ مِمَّنْ نَظَرُوا فِي أَمْثَالِ هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي حَدَّدَهُ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ، وَهُوَ مَا تَحْتَ الثَّرَى، فَاسْتَخْرَجُوا الْمَعَادِنَ، وَاسْتَخْرَجُوا تِلْكَ الْمَادَّةَ الَّتِي صَارَتْ طَاقَةً لَا يَسْتَغْنِي عَنْهَا الْعَالَمُ الْيَوْمَ.

وَكُلُّ ذَلِكَ أَشَارَ إِلَيْهِ الْقُرْآنُ إِشَارَةً مُجْمَلَةً {وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} [طه: 6].

فَالْمُسْلِمُونَ لَمَّا أَخَذُوا بِتَعَالِيمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ تَقَدَّمُوا حَتَّى مَلَكُوا الْعَالَمَ الْقَدِيمَ كُلَّهُ.

النَّبِيُّ بَيَّنَ فِي سُنَّتِهِ الْمُطَهَّرَةِ  ﷺ أَنَّ: ((مَنْهُومَانِ لَا يَشْبَعَانِ: طَالِبُ عِلْمٍ, وَطَالِبُ مَالٍ)).

وَهَذِهِ الْأُمَّةُ عَقَدَتْ رَجَاءَهَا عَلَى رَبِّهَا؛ بِأَخْذِ شَبَابِهَا بِأَسْبَابِ الْقُوَّةِ تَحْصِيلًا وَإِعْمَالًا لَهَا فِي كَوْنِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ لِتَعُودَ لِلْأُمَّةِ رِيَادَتُهَا, وَلِيَعُودَ لِلْأُمَّةِ سَبْقُهَا بِفَضْلِ رَبِّهَا, لِأَنَّ الضَّعِيفَ الْعَاجِزَ يُؤَثَّرُ فِيهِ وَلَا يُؤَثِّرُ, وَيَتَأَثَّرُ وَلَا يُؤَثِّرُ, لِأَنَّ الضَّعِيفَ الْعَاجِزَ يَكُونُ الطَّمَعُ فِيهِ قَائِمًا, وَلِأَنَّ الشَّرَّ مَتَى مَا وَجَدَ الْحَقَّ مُتَهَاوِنًا؛ عَدَا عَلَيْهِ بجُنْدِهِ وَرَجِلِهِ وَخَيْلِهِ, وَحَاوَلَ أَنْ يَئِدَهُ فِي مَهْدِهِ, وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.

إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَمَرَنَا بِإِعْدَادِ مَا نَسْتَطِيعُ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ -أَمَرَنَا رَبُّ الْعَالَمِينَ-, وَالْأَمْرُ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ مَتَى مَا أَتَى مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ صَارِفَةٍ عَنِ الْوُجُوبِ فَهُوَ عَلَى أَصْلِهِ لِلْوُجُوبِ؛ فَهُوَ إِذًا أَمْرٌ وَاجِبٌ حَتْمٌ إِذَا مَا فَرَّطَتْ فِيهِ الْأُمَّةُ عَاقَبَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي الدُّنْيَا بِذُلٍّ، وَخَسْفٍ، وَمَهَانَةٍ، وَإِحْبَاطٍ, وَعَاقَبَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي الْآخِرَةِ جَزَاءً وِفَاقًا لِمَا فَرَّطَتْ فِيهِ مِنْ حَمْلِ الْأَمَانَةِ وَالْأَخْذِ بِتَنْفِيذِ الْأَمْرِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.

*حَثُّ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ عَلَى الْعَمَلِ الْجَادِّ:

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الْإِسْلَامَ يَدْعُو الْمُؤْمِنِينَ بِهِ إِلَى الْعَمَلِ، وَيَحُثُّهُمْ عَلَى السَّعْيِ وَالتَّكَسُّبِ، فَهُوَ دِينٌ يُؤَكِّدُ عَلَى الْحَرَكَةِ وَالْحَيَوِيَّةِ، وَيَذُمُّ الْكَسَلَ وَالْخُمُولَ وَالِاتِّكَالِيَّةَ؛ إِذْ لَا مَكَانَ فِيهِ لِلِاسْتِرْخَاءِ وَالْبَطَالَةِ، وَالِاعْتِمَادِ عَلَى الْآخَرِينَ وَاسْتِجْدَائِهِمْ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُمْ.

فَالْإِسْلَامُ دِينُ عِبَادَةٍ وَعَمَلٍ، يَحُثُّ الْجَمِيعَ عَلَى الْإِنْتَاجِ وَالْإِبْدَاعِ، وَيَهِيبُ بِفِئَاتِ الْمُجْتَمَعِ كَافَّةً أَنْ تَنْهَضَ وَتَعْمَلَ بِإِتْقَانٍ، وَيَقُومُ كُلٌّ بِدَوْرِهِ الَّذِي أَقَامَهُ اللهُ فِيهِ؛ لِنَفْعِ الْأُمَّةِ وَإِفَادَتِهَا.

وَلَمْ يُحَدِّدِ الْإِسْلَامُ الْعَمَلَ فِي شَهْرٍ دُونَ آخَرَ، بَلْ حَثَّ عَلَيْهِ فِي الشُّهُورِ وَالْأَيَّامِ كُلِّهَا.

وَلَنَا فِي رَسُولِ اللهِ ﷺ وَفِي صَحَابَتِهِ الْكِرَامِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- أَعْظَمُ قُدْوَةٍ، وَخَيْرُ أُسْوَةٍ، كَانَتْ حَيَاتُهُمْ كُلُّهَا جِدًّا وَاجْتِهَادًا، وَعَمَلًا وَحَيَوِيَّةً وَنَشَاطًا.

النَّبِيُّ ﷺ حَثَّ فِي سُنَّتِهِ الشَّرِيفَةِ عَلَى الْعَمَلِ، وَإِعْمَارِ الْأَرْضِ إِلَى آخِرِ لَحْظَةٍ فِي الْحَيَاةِ: فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، قَالَ «إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَلَّا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا». وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ.

وَ«فَسِيلَةٌ»: هِيَ النَّخْلَةُ الصَّغِيرَةُ.

هَذَا فِيهِ مُبَالَغَةٌ فِي الْحَثِّ عَلَى غَرْسِ الْأَشْجَارِ وَحَفْرِ الْأَنْهَارِ؛ لِتَبْقَى هَذِهِ الدَّارُ عَامِرَةً إِلَى آخِرِ أَمَدِهَا الْمَحْدُودِ الْمَعْلُومِ عِنْدَ خَالِقِهَا.

فَكَمَا غَرَسَ لَكَ غَيْرُكَ؛ فَانْتَفَعْتَ بِهِ، فَاغْرِسْ أَنْتَ لِمَنْ يَجِيءُ بَعْدَكَ؛ لِيَنْتَفِعَ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا صُبَابَةٌ، وَذَلِكَ بِهَذَا الْقَصْدِ لَا يُنَافِي الزُّهْدَ وَالتَّقَلُّلَ مِنَ الدُّنْيَا.

فِي هَذَا الْحَدِيثِ: التَّرْغِيبُ الْعَظِيمُ عَلَى اغْتِنَامِ آخِرِ فُرْصَةٍ مِنَ الْحَيَاةِ فِي سَبِيلِ زَرْعِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَيُجْرَى لَهُ أَجْرُهُ وَتُكْتَبُ لَهُ صَدَقَتُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالْحَثُّ عَلَى الطَّاعَةِ إِلَى آخِرِ لَحْظَةٍ مِنَ الْحَيَاةِ.

 ((رَدُّ الِاعْتِدَاءِ عَلَى السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ))

لِمَاذَا يَطْعَنُ مَنْ يَطْعَنُ فِي سُنَّةِ النَّبِيِّ ﷺ؟

إِنَّ كُلَّ مَا تَسْمَعُهُ مِنَ الطَّعْنِ فِي سُنَّةِ النَّبِيِّ ﷺ, وَكُلُّ مَا تَسْمَعُهُ مِنَ الطَّعْنِ فِي الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- وَالسَّلَفِ مِنَ الْأَئِمَّةِ إِلَى عَصْرِنَا هَذَا, كُلُّ هَذَا لَيْسَ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ جَدِيدٍ؛ وَإِنَّمَا هِيَ رِمَمٌ لِأَجْسَادٍ جَيَّفَتْ فِي قُبُورِهَا!!

فَجَاءَ أَقْوَامٌ لَا يَقَعُونَ إِلَّا عَلَى الْقَذَرِ كَالذُّبَاب؛ فَاسْتَخْرَجُوا تِلْكَ الرِّمَمَ، وَأَرَادُوا أَنْ يَنْفُخُوا فِيهَا -بِزَعْمِهِمْ- الْحَيَاةَ مِنْ جَدِيدٍ، وَهَيهَاتَ هَيهَات!!

وَمَا مِنْ شُبْهَةٍ يُرَدِّدُهَا هَؤُلَاءِ إِلَّا وَقَدْ رَدَّ عَلَيْهَا الْعُلَمَاءُ مِنْ قَدِيمٍ, فَإِنَّهُمْ لَمْ يَأتُوا بِشَيْءٍ سِوَى جِدَّةِ الْعَرْضِ؛ لِأَنَّهُم يَتَكَلَّمُونَ الْآنَ لِلْعَامَّةِ.

وَهَذِهِ الْأُمُورُ التِي مَرَّتْ مِنَ الشُّبُهَاتِ وَالرَّدِ عَلَيهَا كَانَتْ مَحصُورَةً فِي نِطَاقِهَا, وَلِذَلِكَ يَسْأَلُ السَّائِلُ بِحَقٍّ:

لِمَاذَا تُعْرَضُ هَذِهِ الشُّبُهَاتُ عَلَى الْعَامَّةِ؟!!

لِمَاذَا يَتَعَرَّضُ الشَّعْبُ لِلطَّعْنِ فِي عَقِيدَتِه، وَفِي مُسَلَّمَاتِهِ، وَفِي مُسْتَقَرَّاتِهِ الْعَقَدِيَّةِ وَالْعِلْمِيَّةِ وَالْعِبَادِيَّةِ؟!!

وَلِمَاذَا يُطْلَقُ هَؤُلَاءِ عَلَى تُرَاثِ الْأُمَّةِ الْمَرْحُومَةِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُزَيِّفُوهُ، وَأَنْ يَطْعَنُوا فِيهِ؛ لِكَيْ يُحَوِّلُوا الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ لَا يَستَطِيعُونَ الرَّدَّ عَلَى الشُّبْهَةِ بِاللِّسَانِ؛ إِلَى الرَّدِّ عَلَيْهَا بِالسِّلَاحِ وَالدِّمَاءِ؟!! لِمَاذَا؟!!

لِمَاذَا يُحَوِّلُونَ الشَّعْبَ الْمُسْلِمَ إِلَى شَعْبٍ مُتَطَرِّفٍ؟!!

لِأَنَّهُمْ يُهَاجِمُونَ ثَوابِتَهُ، وَيَعْتَدُونَ عَلَى عَقِيدَتِهِ بِغَيرِ مَا اسْتِحْقَاقٍ!!

فَأُقْسِمُ بِالَّذِي رَفَعَ السَّمَاءَ بِلَا عَمَدٍ!! إِنَّ التُّرَاثَ الَّذِي يُهَاجِمُونَهُ؛ لَا يَستَطِيعُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ أَنْ يَقْرَأَ مِنْهُ صَفْحَةً مِنْ غَيْرِ مَا عِدَّةِ عَشَرَاتٍ مِنَ الْأَخْطَاءِ!!

وَأَتَحَدَّاهُمْ!! وَسَآتِي بِصَفحَةٍ مَشْكُولَةٍ -قَدْ ضُبِطَتْ بِالشَّكْلِ-, وَأَتَحَدَّاهُمْ فِي مَلَإٍ عَلَنِيٍّ تَشْهَدُهُ الدُّنْيَا؛ أَنْ يَقْرَأَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ صَفْحَةً وَاحِدَةً مِنَ التُّرَاثِ الَّذِي يُهَاجِمُونَهُ هَؤُلَاءِ!!

مَنْ هَؤُلَاءِ؟!!

هَؤُلَاءِ كَالذُّبَابِ لَيْسَتْ لَهُمْ قِيمَةٌ!!

يَعْتَدُونَ عَلَى مُسَلَّمَاتِ الْأُمَّةِ، وَعَلَى عَقِيدَتِهَا؛ فَيَتَطَرَّفُ أَصْحَابُ الْغَيْرَةِ وَالْحَمَاسَةِ مِنْ هَذَا الشَّبَابِ الْمُسْلِمِ, الَّذِي يَجِدُ هَذَا الِاعْتِدَاءَ الصَّارِخَ عَلَى عَقِيدَتِهِ، وَتُرَاثِهِ، وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ، وَأَصْحَابِ رَسُولِهِ ﷺ، وَعَلَى الْأَئمَّةِ؛ بِبِذَاءَةٍ، وَحَقَارَةٍ مِنْ أَقْوَامٍ لَا قِيمَةَ لَهُمْ، وَلَا وَزْنَ!!

وَمَعْلُومٌ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ فِي الدُّنيَا كُلِّهَا أَنَّ مَنْ تَصَدَّى لِنَقْدِ عِلْمٍ مِنَ الْعُلُومِ؛ يَنْبَغِي أَنْ يَمْتَلِكَ أَدَواتِ النَّقْدِ, وَأَنْ يَحُوزَ تِلْكَ الْأَدَوَاتِ حِيَازَةً صَحِيحَةً؛ فَإِذَا كَانَ هَؤُلَاءِ لَا يَسْتَطِيعُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ أَنْ يُعْرِبَ جُمْلَةً وَاضِحَةً فِي إِعْرَابِهَا، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَفْهَمَهَا!!

مَاذَا يَفْهَمُ هَؤُلَاءِ فِي لُغَةِ التُّرَاثِ الَّذِي يَنْقُدُونَهُ -بَلْ هُمْ لَا يَنْقُدُونَهُ؛ هُمْ يَنْسِفُونَهُ؟!!

*سَلُوا عُلَمَاءَ أَهْلِ السُّنَّةِ عَنْ مَعَانِي أَحَادِيثِ النَّبِيِّ ﷺ!

عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: ((إِنَّ الْعُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ؛ إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ)).

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَقَوْلُهُ ﷺ: ((إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ)): هَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْمَنَاقِبِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ؛ فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ خَيْرُ خَلْقِ اللهِ، فَوَرَثَتُهُمْ خَيْرُ الْخَلْقِ بَعْدَهُمْ، وَلَمَّا كَانَ كُلُّ مَوْرُوثٍ يَنْتَقِلُ مِيرَاثُهُ إِلَى وَرَثَتِهِ، إِذْ هُمُ الَّذِينَ يَقُومُونَ مَقَامَهُ مِنْ بَعْدِهِ، لَمْ يَكُنْ بَعْدَ الرُّسُلِ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُمْ فِي تَبْلِيغِ مَا أُرْسِلُوا بِهِ إِلَّا الْعُلَمَاءُ، كَانُوا أَحَقَّ النَّاسِ بِمِيرَاثِهِمْ.

وَفِي هَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُمْ أَقْرَبُ النَّاسِ إِلَيْهِ؛ فَإِنَّ الْمِيرَاثَ إِنَّمَا يَكُونُ لِأَقْرَبِ النَّاسِ إِلَى الْمَوْرُوثِ، وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ ثَابِتٌ فِي مِيرَاثِ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ، فَكَذَلِكَ هُوَ فِي مِيرَاثِ النُّبُوَّةِ، وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ.

وَفِيهِ -أَيْضًا- إِرْشَادٌ وَأَمْرٌ لِلْأُمَّةِ بِطَاعَتِهِمْ، وَاحْتِرَامِهِمْ، وَتَعْزِيرِهِمْ، وَتَوْقِيرِهِمْ، وَإِجْلَالِهِمْ؛ فَإِنَّهُمْ وَرَثَةُ مَنْ هَذِهِ بَعْضُ حُقُوقِهِمْ عَلَى الْأُمَّةِ، وَخُلَفَاؤُهُمْ فِيهِمْ.

وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ مَحَبَّتَهُمْ مِنَ الدِّينِ، وَبُغْضَهُمْ مُنَافٍ لِلدِّينِ، كَمَا هُوَ ثَابِتٌ لِمَوْرُوثِهِمْ.

وَكَذَلِكَ مُعَادَاتُهُمْ وَمُحَارَبَتُهُمْ، مُعَادَاةٌ وَمُحَارَبَةٌ للهِ كَمَا هُوَ فِي مَوْرُوثِهِمْ.

فَالْعَجَبُ مِمَّنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ جَاهِلٌ ثُمَّ يَصْبِرُ عَلَى جَهْلِهِ، وَالْجَهْلُ أَشَدُّ فَتْكًا مِنَ السَّرَطَانِ بِالْبَدَنِ، وَهُوَ لَوْ عَلِمَ بِجَسَدِهِ عِلَّة مَا صَبِرَ وَلَا لَحْظَةً، وَإِنَّمَا يَبْحَثُ عَنِ الشِّفَاءِ!!

وَأَمَّا الْجَهْلُ.. وَالْجَهْلُ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ دَاءٌ كَمَا أَخْبَرَ الرَّسُولُ ﷺ: ((أَلَا إِنَّ شِفَاءَ الْعِيِّ السُّؤُالُ)).

وَالْعِيُّ هَاهُنَا: الْجَهْلُ، فَجَعَلَهُ دَاءً، وَجَعَلَ سُؤَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ دَوَاءً.

فَالْعَجَبُ مِمَّنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ جَاهِلٌ وَيَصْبِرُ عَلَى جَهْلِهِ، وَلَا يَطْلُبُ الْعِلْمَ الَّذِي يُصَحِّحُ بِهِ عَقِيدَتَهُ، وَيُصَحِّحُ بِهِ عِبَادَتَهُ، وَيُصَحِّحُ بِهِ مُعَامَلَتَهُ.

فَعَيْبٌ كَبِيرٌ عَلَى مَنْ آتَاهُ اللهُ تَعَالَى عَقْلًا أَنْ يَرْضَى بِالْجَهْلِ صِفَةً، وَبِالْجَاهِلِينَ أَوْلِيَاءَ وَرُفَقَاءَ، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَنْسَلِخَ مِنْ تِلْكَ الْحَالِ، وَأَنْ يَتَّقِيَ اللهَ رَبَّهُ، وَأَنْ يُقْبِلَ عَلَى مَجَالِسِ الْعِلْمِ، وَأَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْعِلْمَ:

الْعِلْمَ قَالَ اللهُ.. قَالَ رَسُولُهُ.. قَالَ الصَّحَابَةُ.. لَيْسَ بِالتَّمْوِيهِ

مَا الْعِلْمُ نَصْبَكَ لِلْخِلَافِ سَفَاهَةً بَيْنَ الرَّسُولِ وَبَيْنَ قَوْلِ فَقِيهِ

فَيُقْبِلُ عَلَى تَعَلُّمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَيَفْهَمُهُمَا بِفَهْمِ الصَّحَابَةِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ، فَفِي ذَلِكَ النَّجَاةُ، وَفِي ذَلِكَ السَّعَادَةُ، وَفِي ذَلِكَ الْخُرُوجُ مِنَ اللَّعْنَةِ، وَإِلَّا فَإِنَّ اللَّعْنَةَ نَازِلَةٌ بِسَاحَتِهِ، شَامِلَةٌ لَهُ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ، مَلْعُونٌ مَا فِيهَا، إِلَّا ذِكْرَ اللهِ، وَمَا وَالَاهُ، وَعَالِمًا وَمُتَعَلِّمًا».

 ((اسْتِيعَابُ السُّنَّةِ الْمُسْتَجَدَّاتِ فِي كُلِّ الْعُصُورِ))

*دِينُ اللهِ ثَابِتٌ لَا يَتَغَيَّرُ؛ بِعَقِيدَتِهِ، وَعِبَادَتِهِ، وَمُعَامَلَاتِهِ:

قَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: ((لَا يُصْلِحُ آخِرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا مَا أَصْلَحَ أَوَّلَهَا، وَقَدْ أَصْلَحَ أَوَّلَهَا الْإِيمَانُ وَالْيَقِينُ)) .

هَذِهِ الْأُمَّةُ إِذَا أَرَادَتْ الِاجْتِمَاعَ، وَأَرَادَتِ الْقُوَّةَ، وَأَرَادَتْ الِائْتِلَافَ؛ فَإِنَّهُ لَا يُصْلِحُهَا إِلَّا مَا أَصْلَحَ أَوَّلَهَا، وَالَّذِي أَصْلَحَ أَوَّلَهَا هُوَ: التَّوْحِيدُ.

لَا يُصْلِحُ آخِرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا التَّوْحِيدُ، وَالِاجْتِمَاعُ عَلَى كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ، الِاجْتِمَاعُ عَلَى كَلِمَةِ: ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ)).

فَالَّذِي يَجْمَعُ الْأُمَّةَ: الْعَقِيدَةُ الصَّحِيحَةُ، وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ، قَالَ تَعَالَى: { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ} [التوبة: 33].

وَالْهُدَى: الْعِلْمُ النَّافِعُ، وَدِينُ الْحَقِّ: الْعَمَلُ الصَّالِحُ.

فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَجْتَمِعَ هَذِهِ الْأُمَّةُ إِلَّا بِالْعِلْمِ النَّافِعِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَأَسَاسُ ذَلِكَ: التَّوْحِيدُ، وَإِفْرَادُ اللهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بِالْعِبَادَةِ.

*دِينُنَا -كِتَابًا وَسُنَّةً- مُسْتَوْعِبٌ لِكُلِّ الْمُسْتَجَدَّاتِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ:

عِبَادَ اللهِ! النَّبِيُّ ﷺ أَرْسَلَهُ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِكُلِّ مَا يَنْفَعُنَا؛ يَأْمُرُنَا بِهِ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا وَأُمُورِ الدِّينِ.

وَأَرْسَلَهُ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مُحَذِّرًا وَمُنْذِرًا مِنَ اتِّبَاعِ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ, وَمِنَ اتِّخَاذِ سُبُلِ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ مَنْهَجًا وَطَرِيقًا وَسَبِيلًا.

وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ كُلَّ شَيْءٍ مِمَّا فِيهِ سَعَادَةُ الْعَبْدِ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا وَمِنْ أُمُورِ الْآخِرَةِ.

فَقَدْ قِيلَ لِسَلْمَانَ -قَالَ لَهُ حَبْرٌ يَهُودِيٌّ-: عَلَمَّكُمْ نَبِيُّكُمْ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى الْخِرَاءَةَ -يَعْنِي: حَتَّى كَيْفَ يَقْضِي الْإِنْسَانُ حَاجَتَهُ-؟!!

قَالَ: ((نَعَمْ, أَمَرَنَا النَّبِيُّ ﷺ أَلَّا نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ وَلَا نَسْتَدْبِرَهَا -يَعْنِي: عِنْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ-, وَأَلَّا نَسْتَجْمِرَ بِعَظْمٍ، وَلَا بِرَجِيعٍ)) .

فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ كَيْفَ يَقْضِي الإِنْسَانُ حَاجَتَه, أَفَيُبَيِّنُ هَذَا وَيَتْرُكُ مَا هُوَ فَوْقَهُ مِنْ أُمُورِ الِاعْتِقَادِ، وَمِنْ أُمُورِ الْعِبَادَةِ، وَمِنْ أُمُورِ الْمُعَامَلَةِ، وَمِنْ أُمُورِ الْأَخْلَاقِ وَالسُّلُوكِ؟!!

هَذَا مِمَّا لَا يَقْبَلُهُ عَقْلٌ!!

فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ كُلَّ شَيْءٍ مِمَّا يَنْفَعُنَا فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ, وَكُلَّمَا اسْتَكْثَرَ الْمَرْءُ مِنْ مَعْرِفَةِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ؛ زَادَ فَلَاحُهُ وَقَلَّ طَلَاحُهُ, وَازْدَادَ خَيْرُهُ وَانْتَفَى شَرُّهُ.

وَهَذَا كَمَا يَكُونُ كَذَلِكَ؛ فَعَكْسُهُ عَلَى عَكْسِهِ وَضِدِّهِ!!

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! كُلُّ مَا يَجِدُّ وَيَسْتَجِدُّ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ حَالٍ أَوْ أَمْرٍ لَا بُدَّ أَنْ تَجِدَ لَهُ حِكْمَةً فِي كِتَابِ اللهِ وَفِي سُنَّةِ الرَّسُولِ ﷺ.

الْمُجْتَهِدُونَ يَسْتَنْبِطُونَ مِنَ النُّصُوصِ الَّتِي هِيَ مَحْفُوظَةً مَعْصُومَةً، يَسْتَنْبِطُونَ الْأَحْكَامَ لِمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ حُكْمٌ فِي الْكِتَابِ وَلَا فِي السُّنَّةِ بِالطَّرَائِقِ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ.

 ((إِنَّ هَذِهِ الشَّرِيعَةَ جَاءَتْ بِإِصْلَاحِ الدِّينِ وَإِصْلَاحِ الدُّنْيَا، وَالْجَمْعِ بَيْنَ مَصْلَحَةِ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ.

وَهَذَا الْأَصْلُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْهُ شَيْءٌ كَثِيرٌ، يَحُثُّ اللهُ وَرَسُولُهُ عَلَى الْقِيَامِ بِالْأَمْرَيْنِ، وَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُمِدٌّ لِلْآخَرِ وَمُعِينٌ عَلَيْهِ; وَاللهُ تَعَالَى خَلَقَ الْخَلْقَ؛ لِعِبَادَتِهِ، وَالْقِيَامِ بِحُقُوقِهِ، وَأَدَرَّ عَلَيْهِمُ الْأَرْزَاقَ، وَنَوَّعَ لَهُمْ أَسْبَابَ الرِّزْقِ، وُطُرُقَ الْمَعِيشَةِ؛ لِيَسْتَعِينُوا بِذَلِكَ عَلَى عِبَادَتِهِ، وَلِيَكُونَ ذَلِكَ قِيَامًا لِدَاخِلِيَّتِهِمْ وَخَارِجِيَّتِهِمْ.

وَلَمْ يَأْمُرْ بِتَغْذِيَةِ الرُّوحِ وَحْدَهَا وَإِهْمَالِ الْجَسَدِ; كَمَا أَنَّهُ نَهَى عَنْ الِاشْتِغَالِ بِاللَّذَّاتِ وَالشَّهَوَاتِ، وَتَقْوِيَةِ مَصَالِحِ الْقَلْبِ وَالرُّوحِ.

إِنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ الْعِلْمَ وَالدِّينَ وَالْوِلَايَةَ وَالْحُكْمَ مُتَآزِرَاتٌ مُتَعَاضِدَاتٌ.  فَالْعِلْمُ وَالدِّينُ يُقَوِّمُ الْوِلَايَاتِ، وَتَنْبَنِي عَلَيْهِ السُّلْطَةُ وَالْأَحْكَامُ، وَالْوِلَايَاتُ كُلُّهَا مُقَيَّدَةٌ بِالْعِلْمِ وَالدِّينِ الَّذِي هُوَ الْحِكْمَةُ، وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، وَهُوَ الصَّلَاحُ وَالْفَلَاحُ وَالنَّجَاحُ، فَحَيْثُ كَانَ الدِّينُ وَالسُّلْطَةُ مُقْتَرِنَيْنِ مُتَسَاعِدَيْنِ؛ فَإِنَّ الْأُمُورَ تَصْلُحُ، وَالْأَحْوَالَ تَسْتَقِيمُ.

وَحَيْثُ فُصِلَ أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخِرِ؛ اخْتَلَّ النِّظَامُ، وَفُقِدَ الصَّلَاحُ وَالْإِصْلَاحُ، وَوَقَعَتِ الْفُرْقَةُ، وَتَبَاعَدَتِ الْقُلُوبُ، وَأَخَذَ أَمْرُ النَّاسِ فِي الِانْحِطَاطِ.

يُؤَيِّدُ هَذَا: أَنَّ الْعُلُومَ مَهْمَا اتَّسَعَتْ، وَالْمَعَارِفَ مَهْمَا تَنَوَعَّتْ، وَالِاخْتِرَاعَاتِ مَهْمَا عَظُمَتْ وَكَثُرَتْ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَرِدْ مِنْهَا شَيْءٌ يُنَافِي مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ، وَلَا يُنَاقِضُ مَا جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ.

فَالشَّرْعُ لَا يَأْتِي بِمَا تُحِيلُهُ الْعُقُولُ، وَإِنَّمَا يَأْتِي بِمَا تَشْهَدُ الْعُقُولُ الصَّحِيحَةُ بِحُسْنِهِ أَوْ بِمَا لَا يَهْتَدِي الْعَقْلُ إِلَى مَعْرِفَتِهِ جُمْلَةً أَوْ تَفْصِيلًا.

وَهَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِثَالًا آخَرَ، وَهُوَ: أَنَّ الشَّرْعَ لَا يَأْتِي بِمَا تُحِيلُهُ الْعُقُولُ، وَلَا بِمَا يَنْقُضُهُ الْعِلْمُ الصَّحِيحُ.

وَهَذَا مِنْ أَكْبَرِ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّ مَا عِنْدَ اللهِ مُحْكَمٌ ثَابِتٌ، صَالِحٌ لِكُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ.

وَهَذِهِ الْجُمَلُ الْمُخْتَصَرَةُ تُعْرَفُ عَلَى وَجْهِ التَّفْصِيلِ بِالتَّتَبُّعِ وَالِاسْتِقْرَاءِ لِجَمِيعِ الْحَوَادِثِ الْكَوْنِيَّةِ وَحَوَادِثِ عُلُومِ الِاجْتِمَاعِ، وَتَطْبِيقِ ذَلِكَ إِذَا كَانَ مِنَ الْحَقَائِقِ الصَّحِيحَةِ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ الشَّرْعُ، وَبِذَلِكَ يُعْرَفُ أَنَّهُ تِبْيَانٌ لِكُلِّ شَيْءٍ، وَأَنَّهُ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا.

دِينُ الْإِسْلَامِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْعَقَائِدِ الصَّحِيحَةِ النَّافِعَةِ، وَعَلَى الْأَخْلَاقِ الْكَرِيمَةِ الْمُهَذِّبَةِ لِلْأَرْوَاحِ وَالْعُقُولِ، وَعَلَى الْأَعْمَالِ الْمُصْلِحَةِ لِلْأَحْوَالِ، وَعَلَى الْبَرَاهِينِ فِي أُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ.

وَعَلَى نَبْذِ الْوَثَنِيَّاتِ وَالتَّعَلُّقِ بِالْمَخْلُوقِينَ وَالْمَخْلُوقَاتِ، وَعَلَى إِخْلَاصِ الدِّينِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَعَلَى نَبْذِ الْخُرَافَاتِ وَالْخُزَعْبَلَاتِ الْمُنَافِيَةِ لِلْحِسِّ وَالْعَقْلِ الْمُحَيِّرَةِ لِلْفِكْرِ، وَعَلَى الصَّلَاحِ الْمُطْلَقِ.

وَعَلَى دَفْعِ كُلِّ شَرٍّ وَفَسَادٍ، وَعَلَى الْعَدْلِ وَرَفْعِ الظُّلْمِ بِكُلِّ طَرِيقٍ، وَعَلَى الْحَثِّ عَلَى الرُّقِيِّ لِأَنْوَاعِ الْكَمَالَاتِ» .

((فَارِقٌ بَيْنَ الْفَهْمِ الصَّحِيحِ لِلدِّينِ وَتَجْدِيدِ الدِّينِ!!))

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الَّذِينَ يَدْعُونَ إِلَى التَّجدِيدِ يَفْهَمُونَ -فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ- تَجْدِيدَ الْخِطَابِ الدِّينِيِّ عَلَى أَنَّهُ تَجدِيدُ الدِّينِ!!

يَفْهَمُونَ تَجدِيدَ الْخِطَابِ عَلَى أَنَّهُ تَجْدِيدُ دِينِ اللَّهِ رَبِّ العَالمِين، فَهَذا لَا يُنَاسِبُ الْعَصْرَ!! وَهَذَا لَا يَتَّسِقُ مَعَ الذَّوْقِ!! وَهَذَا لَا يُوَافِقُ الْعَقْلَ!! وَهَذَا وَهَذَا...إِلَى غَيرِ ذَلِكَ مِنْ هَذِهِ التُّرُّهَاتِ، وَهَلْ هَذَا دِينٌ؟!!

إِنَّ الدِّينَ أَنْ تَدِينَ، وَمَا أُخِذَ الدِّينُ إِلَّا مِنْ أَنْ تَدِينَ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، بِمَعْنَى: أَنْ تَكُونَ خَاضِعًا للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ، وَالَّذِي يُرَاجِعُ بَعْدَ ذَلِكَ فِيمَا جَاءَ عَنِ اللَّهِ وَثَبَتَ عَنْ رَسُولِهِ؛ إِنَّمَا يُرَاجِعُ إِيمَانَ الْقِمَّةِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا شَهِدَ أَنَّهُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؛ فَقَدْ آمَنَ بِكُلِّ وَحْيٍ أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَى رَسُولِهِ، فَإِذَا رَاجَعَ بِعَقْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ؛ فَإِنَّمَا يُرَاجِعُ إِيمَانَ الْقِمَّةِ، وَيُرَاجِعُ مَا قَدْ أَثْبَتَهُ قَبْلُ وَقَرَّرَهُ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ الدِّينَ هُوَ دِينُ اللَّهِ رَبِّ الْعَالمِينَ، وَأَنَّ حِكمَتَهُ فِيمَا نَزَّلَهُ عَلَى نَبِيِّهِ ﷺ وَفِيمَا خَلَقَهُ.

حِكْمَتُهُ فِي شَرْعِهِ وَقَدَرِهِ ثَابِتَةٌ ظَاهِرَةٌ لَائِحَةٌ، قَدْ لَا نَفْهَمُهَا، يَفْهَمُهَا غَيرُنَا، وَقَدْ لَا يَفْهَمُهَا غَيرُنَا كَمَا لَا نَفْهَمُهَا، وَلَكِنَّهَا تَظَلُّ قَائِمَةً؛ لِأَنَّ الدِّينَ لَا يَأْتِي بِمَا تُحِيلُهُ الْعُقُولُ، وَلَكِنْ يَأْتِي بِمَا تَحَارُ فِيهِ الْعُقُولُ، وَإِلَّا مَا كَانَ دِينًا، إِنَّهُ دِينُ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، يَدِينُ بِهِ عِبَادُهُ فِي أَرْضِهِ، فَالدِّينُ دِينُهُ، وَالْخَلْقُ عَبِيدُهُ، وَلَيْسَ لَهُم أَنْ يُرَاجِعُوهُ.

وَالْوَاحِدُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْحَمْقَى الْمُغَفَّلِينَ الَّذِينَ يَعْتَرِضُونَ عَلَى سُنَنِ النَّبِيِّ الأَمِينِ ﷺ، بَلْ يَعْتَرِضُونَ أَحْيَانًا عَلَى آيَاتِ الذِّكْرِ الْحَكِيمِ، فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأَنَّ لِلذَّكرِ مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَيَيْن، فَهُمْ يَعْتَرِضُونَ عَلَى ذَلِكَ وَيَقُولُونَ: هَذَا كَانَ فِي الْقَدِيمِ، وَأَمَّا فِي هَذَا الْعَصْرِ الْحَاضِرِ فَلَا بُدَّ مِنَ الْمُسَاوَاةِ!!

وَيَقُولُونَ: نُؤمِنُ بِالْآيَةِ مَعَ ذَلِكَ!! أَيُّ إِيمَانٍ؟!!

إِلَى غَيرِ ذَلِك مِمَّا يَنْظُرُونَ بِهِ فِي كِتَابِ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ مِنَ الْعَجْزِ الْقَبِيحِ، وَعَدَمِ امْتِلَاكِ الْأَدَوَاتِ الْبَحْثِيَّةِ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ تُمْتَلَكَ مِنْ أَجْلِ النَّظَرِ فِي كِتَابِ اللَّهِ الْعَزِيزِ.

هَؤُلَاءِ يَتَكَلَّمُونَ فِي سُنَنِ النَّبِيِّ ﷺ بِمَا يُضْحِكُ الثَّكْلَى، هَؤُلَاءِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمَجَانِينِ، أُطْلِقُوا مِنَ الْبِيمَارِسْتَانِ، ثُمَّ أُقْعِدُوا مَقَاعِدَ يُسْمِعُونَ فِيهَا الدُّنْيَا، فَهُمْ يَهْذُونَ بِهَذَيَانٍ لَا يُعْرَفُ.

وَالنَّاسُ يَحْتَاجُونَ إِلَى التَّسْلِيَةِ، وَلَكِنَّهَا تَسْلِيَةٌ مُدَمِّرَةٌ؛ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ خَطَّافَةٌ، وَلِأَنَّ الْقُلُوبَ ضَعِيفَةٌ، وَرُبَّمَا تَسَلَّلَتْ شُبْهَةٌ إِلَى الْقَلْبِ فَاسْتَحْوَذَتْ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّ النَّاسَ لَا يُدرِكُونَ؛ لِأَنَّهُ حِيلَ بَيْنَهُم وَبَيْنَ عُلَمَائِهِمْ، وَهُمُ السَّدُّ الْمَانِعُ دُونَ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ وَالْخُزَعْبَلَاتِ، هَؤُلَاءِ لَا يَأْتُونَ بِجَدِيدٍ.

وَعَلَى أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالْحَقِّ؛ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَثِقُوا فِي سُنَّةِ نَبِيِّهِمُ الْأَمِينِ وُثُوقًا طَبْعِيًّا فِطْرِيًّا بِمَا أَنَّهُمْ آمَنُوا بِأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَأَنَّهُ لَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، وَأَنَّ شَرْعَهُ صَالِحٌ لِكُلِّ زَمَانٍ وَمَكَان؛ بَلْ كُلُّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ صَالِحٌ لِشَرْعِ اللَّهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ لِأَنَّ الدِّينَ لَا يَتَنَزَّلُ وَإِنَّمَا يَرْتَفِعُ إِلَيْهِ النَّاسُ، إِنَّمَا جَاءَ لِيَرْفَعَ النَّاسَ عَمَّا هُمْ فِيهِ وَتَدَنَّوْا إِلَيْهِ؛ {قُلْ تَعَالَوْا} [الأنعام: 151]: ارْتَفِعُوا إِلَى الطُّهْرِ وَالسُّمُوِّ، اخْرُجُوا مِنَ الْقَذَارَاتِ وَالْحَمَاقَاتِ وَالْمَوْرُوثَاتِ الْبَائِدَةِ إِلَى صَرِيحِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.

فَعَلَيْنَا -أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ- أَنْ نَتَّقِيَ اللَّهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَأَنْ نَجْتَهِدَ فِي مَعْرِفَةِ دِينِنَا مَعْرِفَةً صَحِيحَةً؛ لِيُسَلِّمَ اللَّهُ رَبُّ العَالمِينَ لَنَا دِينَنَا، وَإِيمَانَنَا، وَعَقِيدَتَنَا، وَتَبَعًا يُسَلِّمُ لَنَا وَطَنَنَا؛ لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَسْلَم لَنَا دِينُنَا، وَهُوَ أَوَّلُ مَا يُعْقَدُ عَلَيهِ الْخِنْصَرُ فِي جَمْعِ الْمَجْمُوعِ الْبَشَرِيِّ، فَإِنَّ أَيَّ جَمَاعَةٍ إِنَّمَا تَكُونُ مَجْمُوعَةً عَلَى دِينٍ -أَيِّ دِين-؛ عَلَى وَطَنٍ وَأَرْضٍ، عَلَى مَوْرُوثٍ وَتَارِيخٍ؛ تَضْمَنُ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ الْبَقَاءِ.

فَإِذَا كَانَت مُعْتَمِدَةً عَلَى دِينِ الْحَقِّ، الَّذِي لَا دِينَ حَقٌّ سِوَاهُ، وَإِذَا كَانَت رَاجِعَةً إِلَى تُرَاثٍ عَظِيمٍ، بَلْ لَا يُقَالُ لَهُ تُرَاثٌ؛ لِأَنَّ التُّراثَ إِنَّمَا يُؤْخَذُ عَنِ الْمَيِّتِين.

وَهَذِهِ أُمَّةٌ حَيَّةٌ نَابِضَةٌ بِالْحَيَاةِ، وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ ضَعْفُهَا الْآنَ؛ فَسَتَقُومُ مِنْ كَبْوتِهَا -بِإِذْنِ اللَّهِ -جَلَّ وَعَلَا--، وَلَكِنَّ الزَّمَانَ عِنْدَ اللَّهِ لَا يُقَدَّرُ بِهِذِهِ السِّنِينَ الَّتِي يُعْطِيهَا لِلْكَائِنِ الْإِنْسَانِيِّ.

الزَّمَانُ عِندَ اللَّهِ مُمْتَدٌّ مَبسُوطٌ، إِنْ لَمْ نَرَهُ فَسَيَكُونُ، وَأَنَا عَلَى يَقِينٍ مِنهُ كَمَا أَنِّي عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَنِّي مَوْجُودٌ، يَنْصُرُ اللَّهُ الدِّينَ، وَيَنْصُرُ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ، وَيَخْذُلُ الظَّالِمِينَ، وَيُخْزِي الْكَافِرِينَ، وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

 ((دِينٌ كَامِلٌ لِجَمِيعِ أَهْلِ الْأَرْضِ فِي جَمِيعِ أَزْمِنَتِهِمْ))

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! لَقَدْ حَفِظَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ هَذَا الدِّينَ.

هَذَا دِينٌ كَامِلٌ..

هَذَا دِينٌ مَحْفُوظٌ..

هَذَا دِينٌ لِجَمِيعِ أَهْلِ الْأَرْضِ، فِي جَمِيعِ أَزْمِنَتِهِمْ مِنْ بَعْدِ بَعْثَةِ الرَّسُولِ ﷺ إِلَى أَنْ يَرِثَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْأَرْضَ وَمَا وَمَنْ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، وَلَا وَحْيَ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ بَعْدِ كِتَابِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

هَذَا هُوَ دِينُ اللهِ.. وَحْيُهُ.. هُوَ الَّذِي حَفِظَهُ، وَأَمَّا مَا أَوْحَاهُ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ فَقَدِ اسْتَحْفَظَ عَلَيْهِ عُلَمَاؤُهُمْ مِنْ أَحْبَارِهِمْ وَرُهْبَانِهِمْ؛ فَبَدَّلُوا وَغَيَّرُوا، وَنَقَصُوا وَزَادُوا، وَقَدَّمُوا وَأَخَّرُوا، وَصَحَّفُوا وَحَرَّفُوا حَتَّى صَارَ الدِّينُ مُحَرَّفًا.

وَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَهُوَ مُسْتَعْصٍ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ دِينُ اللهِ الْمَحْفُوظُ.

هَذَا الدِّينُ الْعَظِيمُ الَّذِي هُوَ دِينُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ هُوَ دِينُ الْفِطْرَةِ.

فَمَهْمَا أَتَى الْفِطْرَةَ مِنْ أَمْرٍ وَكَانَتْ مُسْتَقِيمَةً لَا الْتِوَاءَ فِيهَا، وَلَا غَبَشَ يَعْتَرِيهَا؛ فَإِنَّهَا تَسْتَقِيمُ مَعَ مَا جَاءَ مِنَ الْوَحْيِ الْمَعْصُومِ، وَلَكِنْ قَدْ يُصِيبُ الْفِطْرَةَ شَيْءٌ.

فَهَذَا الدِّينُ الْعَظِيمُ بِمَبَادِئِهِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ صَالِحٌ لِأَنْ يَأْخُذَ بِهِ كُلُّ إِنْسَانٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَعَلَى مَرِّ الْعُصُورِ..

وَبِهِ تَتَحَقَّقُ لِلْبَشَرِيَّةِ جَمْعَاءَ السَّعَادَةُ وَالْفَلَاحُ فِي مَعَاشِهَا وَمَعَادِهَا..

وَلَا يُمْكِنُ لِقَائِلٍ مُنْصِفٍ عَاقِلٍ أَنْ يَقُولَ سِوَى ذَلِكَ؛ فَإِنْ تَجَاوَزَ وَقَالَ؛ فَإِنَّ النَّقْصَ وَالْعَيْبَ فِيهِ وَفِي مُجْتَمَعِهِ؛ إِمَّا ذَاتًا، وَإِمَّا فَهْمًا، وَإِمَّا إِدْرَاكًا!!

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! إِنَّ مُحَمَّدًا ﷺ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، أَرْسَلَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِدِينٍ كَامِلٍ، وَإِصْلَاحٍ شَامِلٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.

وَاللهُ سُبْحَانَهُ هُوَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ، عَلِمَ مَا يُصْلِحُ الْعِبَادَ فِي وَقْتِ النَّبِيِّ ﷺ وَبَعْدَ وَقْتِهِ؛ فَبَعَثَهُ بِدِينٍ يُصْلِحُ النَّاسَ فِي وَقْتِ النَّبِيِّ ﷺ وَبَعْدَ وَقْتِهِ إِلَى أَنْ يَأْذَنَ اللهُ بِخَرَابِ هَذَا الْعَالَمِ.

فَدِينُنَا -وَللهِ الْحَمْدُ- كَفِيلٌ بِتَنْظِيمِ الْحَيَاةِ السَّعِيدَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.

 

المصدر:فَهْمُ مَقَاصِدِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ وَصَلَاحِيَتُهَا لِكُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  كيف تعرف الخارجي؟
  حُبُّ اللهِ وَرَسُولِهِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالِادِّعَاءِ
  اسْتِقْبَالُ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ بِالْوَفَاءِ بِالْحُقُوقِ وَتَحَرِّي الْحَلَالِ
  سُنَنُ العِيدِ وَآدَابُهُ
  مَرَاحِلُ وَسِمَاتُ بِنَاءِ الشَّخْصِيَّةِ فِي السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ
  الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ وَأَثَرُهُ فِي زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَتَرْسِيخِ الْقِيَمِ الْأَخْلَاقِيَّةِ
  بِرُّ الْأُمِّ سَبِيلُ الْبَرَكَةِ فِي الدُّنْيَا وَالرَّحْمَةِ فِي الْآخِرَةِ
  نِدَاءَاتُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ لِلْمُؤْمِنِينَ
  الْأَسْبَابُ الظَّاهِرَةُ وَالْبَاطِنَةُ لِرَفْعِ الْبَلَاءِ وَوُجُوبُ طَاعَةِ وَلِيِّ الْأَمْرِ
  الصِّحَّةُ الْإِنْجَابِيَّةُ بَيْنَ حَقِّ الْوَالِدَيْنِ وَحَقِّ الطِّفْلِ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان